كان يتخبط في أفكاره ويداعب تأملاته حينما استوقفه خبر نشرته إحدى الصحف العربية الصادرة في لندن تحت عنوان زوجان بريطانيان يتقاسمان حق حضانة ثلاثة جرذان . وقفة تستحق التأمل والتفكير لمن يضمد جراحه الطفيفة بأعمق واكبـر منها ألما وبعـد أن قرر زمن التلاعب بالسلطة ومقدرات الإنسان ، ضـرورة استمرار النزيف وتوسيـع التقيـح لأسباب لا ضرورة لحصرها . جاء في الخبر من ( يأخذ حضانة الحيوانات إذا تطلق الزوجين ؟). هذا السؤال ثار بوجه زوجين بريطانيين شابين انفصـلا بعد زيجة عاميـن فراحـا يخففان ألم الفراق بتسوية حقوق حضانة ثلاثة من الجرذان التي كانت تعيش في كنف عش الزوجين . وبعيدا عـن الضجيج ومطرقة المحاكم والمؤسسات غيـر المعنية ، قرر الزوجان فيونا را يس وقرينه تونـي بنسون اقتسام المتاع فيما بينهما مناصفة حسب الأعراف الجارية إلا انهما توقفا عند الحيوانات الصغيرة التي كان أحدها مصاباً بالعمى. قرر الاثنـان رعايـة الجرذ المرقط الأعمى وصديقتيه بنيتي اللون المسميتين تدلعاَ الفتيات ، الاتفاق النهائي إن الفئران الثلاثة ستعيش بهدوء مع الاثنيـن ، أسبوعا مـع المطلق وأسبوعا مـع المطلقة . الأسبوع الأول ستقضيه الجرذان في جنوب يوركشاير ، وبعد ذلك ستتوجه ولربما بالطائرة إلى دونك استر شمال إنكلترا لقضاء الأسبوع مع بنسون. وتقول المطلقة فيونا انهم مثل الأطفال - ما اجمل الفئران ، إلى هذا الحد والخبر ينتهي.لربما لا يتعدى الخبرحدودالتسلية أو طرفة الموسم لكثرة من الناس أو مكسب لا يستهان به لجمعيات الرفق بالحيوان في أوربا والكويت( تبرع أميـر الكويت بعد انتهاء حرب الخليج الثانية بمليون دولار لدعـم حديقـة الحيوانات فـي لندن ، بـدلاَ مـن أطفال السـودان أو الصومال أو المغرب ! أو أطفال الحجارة في فلسطين ! ؟ ويا مهزلة العروبة وشعاراتها القومية !؟ )
الا ان له وقعاً اخر على مشاعر واحاسيس ذاك الذي وقع ضحية الدهر بيوميه ، فجعله يتمنى ان يحمل افكار تلك المرأة المطلقة عندما ترجمت مشاعرها انهم مثل الاطفال - ما اجمل الفئران على ان يجري تعديلا طفيفا على تلك المعادلة الحيوانية-الانسانية وان يعيد صياغتها بالشكل الذي ينسجم مع الواقع المبتذل انهم مثل الفئران - ما اجمل الأطفال ، عله يصل إلى طريق حضانة طفلـه الذي هـو مـن نتاج حرب الخليج الأولى ، بأقل ألما ومأساة مما يحمله ( رغم جراحاته المزمنة ، نتيجة صراعاته مع الطبيعة ومكوناتها ! ) منذ إحدى عشرة عاماً ونيف ، أعوام من الصراع المرير مع المحاكم والمؤسسات الاجتماعية-الإنسانية !! ألام التي نقهت من أمراض الظروف السلبية بالشرق وتسربت إلى كيانها إيجابية الحضارة المتمدنة بالغرب. تلك ألام التي سارعت، وبعـد أن وضعت الحـرب أوزارها ، الـى تشكيل جبهة للتحالف للحصول على شرعية التحرر ! اكثر من الاوربيات . كيف لاتستجيب تلك المؤسسات لها طالمـا ان جسـد المرأة الشرقية مرغوب بـه ، كالبترول العربي فـي الغرب، والادهى من ذلك سارعت الجمعية النسائية السويدية الى وضع الطفل الذي لم يتجاوز الربيع الثالث حينذاك تحت الاقامة الجبرية في احـد اماكنها السرية المنتشرة في ارجاء السويد ، بذريعة ارهابية الاب ، لم لا والاب من بلاد الشرق موطن الارهاب !!؟ وكأجـراء وقائـي لحماية الامومة اولا !! والطفولة ثانياً من الاختطاف المضاد ، متغافلين مع سبق الاصرار ، عـن المضاعفات النفسية والجسدية والحسية على شخصية ذلك الطفل الشرقي وسلوكيته المستقبلية ، ناهيك عن الجوانب الانسانية وحرمانه من العطف الابوي الذي تـفتقد اليـه جمهرة واسعة من اطفـال السويد ، ولربما هي موضوعة لا تدخل ضمن اختصاصاتهم المتعددة . كيف لا ووسائل الاعلام المرئية والمقروئة تطالع جمهورها بحكايات وحكايات اغرب من حكايات الف ليلة وليلة عن الممارسات الجنسية ما بين الاباء والبنين ، متجاوزين ابسـط القيـم واخلاقيات العصور ماقبل المشاعية ومثل ذاك العجوز الذي جاوز العقد السابع ، عندما القت الجهات القضائية التايلاندية القبض عليـه وهو متلبس بجريمة جنسية بشعة مع طفل لم يتجاوز 14 عاماً ، يصح ان يكون حفيدا له !! الى جانب العديد من الفضائح والممارسات في عصر سبقت التكنولوجيا علوم الاخلاق الاجتماعية .
وهي سلوكية أشار العالم النفساني ( فرويـد ) إليها في تفسيره للدينامية الشخصية ( ذلك التفسير الذي يمكننا فهم احتياج بعض الناس إلى الأعراب عـن التعصب بغيـة التعويض عن النقائص التي يعانونها .انهم يكشفون عن نزعة كامنة في كل إنسان ، لكنها بلغت عندهم حدها الأقصى ، وهـي الميل إلى التخفيف من حدة خيبتهم بالأعراب عنها . كثيرا ما يساور الناس شعورا بحاجة نفسية إلى إيجاد مثيل لكبش الفداء ) .
رغـم ذلك فان الحرب لم تنلهم ، ولم يتذوقوا قسوتها وبشاعتها وملفاتهم الشخصية تخلو من طلبيات اللجوء بحثاً عن ماوئ او ملجاً لمتابعة مسيرة الزمن. العلة لا تكمن هنا ولا في تلك المؤسسات المتحكمة بمصير اللاجئ فهذه من شؤونهم الخاصة طالما هم أحرار وأسياد فـي بلدانهم ويتمتعون بالحصانة الشخصية ، بل تكمن في ذلك الزمن الذي اختلط فيه الصحو بالاغفاء ، زمن كان ( اللاجئ ) يملك وطنا دون ان يكون حراً فيه .
ليست هناك الآم اكثر وقعا من اللجوء ، والاقسى ان يكون طالب اللجوء محملا بجراح صراع الاضداد. أن يكون الإنسان لاجئاً مفاده انك فقدت الكثير من الصفات الذي كنت تتمتع بها على ارض بلادك بما فيها صفات الابوة . حاول أن يجمع شتات أفكاره المتداخلة ليسترجع بالذاكرة إلى ذلك الزمن الرديء حينما اتخـذت الشرعية الدولية قـرارها الشفهي باطـلاق العنان للمـدافع واسلحة الدمار ، احتفاءً بموت الانسان في حرب البترول الاولى ، حينها حمـلت ( الام !) سلاحها لتقارع الظلام بعد أن تركت سعادتها !!؟ في بيروت !؟ ولربما !؟ في صوفيا !؟ أو كوبنهاغن قبل أن تطلق الرصاصة الأولى في ارض كردستان العراق . التقاها في تلك الجبهة بعد أن امتـزجت مفاهيم الطبيعة والديالكتيك المثالية !!؟ مع بعضها واقسما على مواصلة المسيرة والى ما بعد حرب ( النضال الثوري ) حينذاك لـم يدرك انه سيتحول ثانية وقوداً لحرب اخرى ( اكثر نضالاً ) ستدور رحاها هذه المرة على ارض اللجوء ، بعد ان يحرم مـن وسـائل الدفاع عن النفس مثلما حرم اطفال العراق من الغذاء والدواء بفضل الشرعية الاممية وتحت انظار الضمير المتمدن !!؟ .
تطلع إلى الأوراق المتراكمة أمامه من ملف القضية ، حـاول أن يتذكر كم من مرة أعاد قراءتها وترجم مفرداتها عله يهتدي إلى خطأ مطبعي ليكشف به عن الحقيقة المغتالة ، إلا انه عجـز تماما . كان القرار الذي بعثه رجل القضاء الأوربي قبل إحدى عشرة عاماً ونيف واضحا عن إسقاط حق الأبوة وحق حضانة الطفل ( المتهم ) مثلما اسقط عنه حق المواطنة في بلاده قبل ذلك بأعوام . مـرة أخرى حاول أن يستجمع قـواه لاستيعاب ما جاء في حيثيات القرار ( استناداً إلى القوانين المعمول بها في دول السلام والحرية ، قررت المحكمة ( الفلانية ) وبغياب الشهود إسقاط الحقوق المدنية عن المقاتلين من دول الشرق الذين فقدوا وثائقهم الزوجية في ارض المعركة ) . بعد أن ذيــل القــرار بإيضــاح خجـــــــــول ( تدل وقائع القضية على أن الزوجين من اصل شرقي ، كانا قد ساهما وقاتلا على ارض كردستان العراق ضمن جبهة المعارضة لعقد من الزمن ، إلا أن إهمال الزوج أدى إلى تلف الوثائق التي تثبت قدسية العائلة في خضم لهيب الحرب ، رغـم إن السفارة السويدية في انقره تحملت مسؤولية نقل العائـلة إلى منطقة أمنه فـي السويد .!!؟
اشتـد به الضيق اثر انحصار قلبه وتجمع بضع القطرات كان يخشى سقوطها منذ أمد بعيد ، إلا أنها كانت الأقوى واكثر عطفا على صاحبها فأستسلم لها لشدة حبه وتعلقه بطفله الذي يمثل حصيلة لمسيرة حياة شاقة وقاسية . تذكر ذلك اليوم حينما فتح الطفل البريء ( المتهم ) عينيه ليتعرف على الحيـاة من الغابات والجبال والحيوانات البرية والبشرية بنوعيها الأليفة والمتوحشة وعلى الغربان العسكرية ذات الألوان العراقية والتركية والإيرانية . كان الطفل فرحته الكبرى ومأساته في عين الوقت ، لابد من توفير الوقاية والحماية الكافيتين ليستمتع بالحياة حتى وان لم تكن حياة الطفولة البريئة في مثل تلك الأجواء . في كل غارة جوية يحمل روحه على اكفه ليقدمها لطفله ، ليتسلى عليها كأي لعبة مـن لعب الأطفال ، وكـل سحابة تحوم حول المنطقة يحول جسده إلى قناع للحيلولة بين شبح الموت وجسد ذلك المخلوق الصغير .
عندما اشتد غيظ النظام على مسيرة الثوار ، اثر إعلان وقف لعبة الحرب بين الكبار ، حمل طفله وغادر حدود الدول ليستقر في ارض جند رمة الأتراك ، ولتبدأ مسيرة أخرى من الذل والإهانة والحط من كرامة الانسان ، كـان لابد من التكييف لاستقبال الآم المخيمات واللجوء ، خاصة والأفق السياسي لم يكن يبشر سوى بالمزيد من الظلام والمزيد من الدمار والآم .
فهد محمود / آب 2002
السويد