|
الرومانسية المضادة في جمهورية إبراهيم الخياط
عباس لطيف
الحوار المتمدن-العدد: 3173 - 2010 / 11 / 2 - 18:25
المحور:
الادب والفن
يتمركز الخطاب الشعري في مجموعة الشاعر إبراهيم الخياط الموسومة «جمهورية البرتقال» حول نسق من التوليفات التعبيرية والأسلوبية بغية تعميق الحس الإنساني الشفيف الذي يؤطر مجمل النصوص التي تضمها المجموعة الصادرة عن دار الشؤون الثقافية وبالتعاون مع الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين. ومنذ الاستهلال الافتتاحي لكل قصيدة يضعك الشاعر إزاء بنية شعرية نابضة بثراء لغوي وصوري يحمل الكثير من حساسية المفردة وشحنتها الرومانسية وما أن تتوغل في التفاصيل المستترة والظاهرة حتى تكتشف الاشتغال المضاد لهذه الرومانسية، ويبدو الأمر في مسعاه التعبيري كنوع من الفخ التمويهي لاستقطاب المتلقي ووضعه إزاء صدمة شعورية من خلال حشد من المشاكسة وتعرية الواقع التراجيدي ومرموزاته المؤسية والتي تكشف عن أشكال الاستلاب والوجع والاغتراب والخيبة التي تفرزها الحروب والمنعطفات البغيضة والظرفية الوجودية الكالحة التي تحاصر الذات الإنسانية. لكن إبراهيم الخياط في هذه المجموعة المتميزة، والتجربة التي تغرد بحق خارج المألوف والسائد، لــــم يكتف بالحشد التعبيري للمضمون بل كان مندفعـــاً بدقة محسوبة للاشتغال على أكثر من مستوى مابيـــن الرؤية الفانتازية والسخرية الشفيفة والتسجيليـــة والرومانسية المضادة والموجعة، وعلى الرغم من أن الزخم السياسي بكل مدلولاته كان احد مهيمنات الأداء الشعري لكن الميزة المؤثرة بأنه تجاوز الخطاب التعبـــــوي والشعاراتــــي والمباشرة التي تفسد الطاقة التعبيــــرية فلجأ إلى تفجير المكمون الصوري والرمزي والإيحائي للمفردة الشعرية إلى أقصى اندفاع، يقول في قصيدة «يا امرأة الوجع الحلو»: (تقد قميصي ـ كل ليلة ـ من الجهات أربعها ولا أقول: "ربي السجن أحب إليّ....") وفي قصيدة أخرى يختزل الوجع بهذه الصورة: (وفي كل الغزوات أدور، أدور، أدور عشرون عاما وأنا أدور عشرون عاما وأنا أهاجر عشرون عاما وأنا انكفئ عشرون عاما وأنـــا أمـوت بالتقــــسيط المريح) ومجمل القصائد وهي تتصدى لتجسيد الخيبة والانكسار ومســــــاءلة الوعي الحاد الذي يتقاطع مع الأداء الرومانســـــــي للاشتغال الشعري، وهذه إحدى تجليات اللعبة المرسومة بدقة وحرفية عالية. وربما تحيلك النصوص في تناغمها وإيقاعها السيكولوجي ـ الداخلي إلى متوالية ممتدة من البوح المقطع... بوح مجلل برماد الواقع وغبار الأحزان، يقول في قصيدة «قلبي»: (قلبي، أو هذا الجحيم الذي قرأته الافياء القائظة من عهد إبراهيم وتمنته الرمضاء الربذية تابوتها الصحراوي ـ وفي ارتجافة اللعاب الباكر ـ عشقته النساء الملوثات بثلج المواعيد الرتيبة، والغرام قلبي أول الكاظمين ومسح الختام) ويمكن لأية مداخلة استقرائية أن تكشف الكثير من الهاجس التوليفي والتعبيري في تضاعيـــف هذه المجموعة التي خلت تماما من أية جمهورية أو برتـــقال، وظل الفخ العنواني المؤثر والمنتقى يلعب لعبته في استيلاد طاقة وقدر من الجذب الموشى، ويــــدلل ذلك علــــى وعي في توظيف حســـــاسية العنـــــوان بوصفــــــه البنية المشفرة لاستكشاف المديــــات الأفقية والعمودية للنص، وبوصفه «ثريا النص، على حد تعبير جاك دريدا». وفي نطاق التوق إلى الأمكنة، لم تحفل القصائد إلا بالعراق ومدينة بعقوبة والتي وصفها الشاعر في قصيدة حملت اسمها بأنها «الثكلى الطروب»، فكان العراق مختزلاً بأجواء هذه المدينة المدشنة بالجراح والوجع والرماد التاريخي وكأن الشاعر يضع القناع الشعري لهذه المدينة وقد تحولت إلى دال مثل ايثاكا وجيكور ومدن الشعراء الوجودية الأخرى. ولعل الظاهرة التي تستدعي المساءلة النقدية والتي تتعلق بتقنية الاستهلال وبراعته، والمزاوجة بين النسق السردي والشعري في مجمل النصوص، فبداية كل النصوص قائمة على لحظة تأسيس قصصي كما تصف «سوزان لوهافر» في كتابها «الاعتراف بالقصة القصيرة» بأن البداية «نقطة ذات صدمة وجودية عظمى»، ففي قصيدة «كاسب كار» يكون هذا الاستهلال: (إنه قاب قتلين أو أدنى فحقّ عليه القول بعد أن فرهت أحلامه ونحت به عن جزيل افتقاره) وفي قصيدة «الضيوم» يكون هذا الاستهلال: (ذات حرب غفوتَ تحت شرفة الحدود فاندلقت قربة أحلامك على الوسادة الترابية) وفي قصيدة «آه» نجد براعة الاستهلال: (صغيرة آخر الليل تشيب صحيحة على أخطائها توزعني فتبتدئ الخطيئة دورتها وهذا الوطن الملتاع المتوطن بين جمّ التسابيح يتمرجح بآهة خفيضة) وحتى الاستخدام الاستبدالي للفعل «يتأرجح» كان يمتلك شرعية التوظيف، وكثير من قصائد المجموعة تحفل بهذا الاستخدام ومعاملة الفعل وكأنه اسم مثل (اللايخافون) في قصيدة «زينب» و(اللايؤوب) في قصيـــــدة «بعقوبة» و(اليغطون) في قصيدة «على حائـــــط حنـــــا السكران» وغيرها من مواضـــــع الاستــــشهاد لهذا الاستخدام الدقيق والغريب. ومن الضرورة التوكيد على أن النزعة البصرية للنصوص جعلتـــــــها تحلق في معادلات وتنويعات صورية أنقذتهــــــــا من الانزلاق إلى السائدية والتـــــــــداولية، ووضعتها في مكانة العلامة الفارقة لمجموعة شعرية متفردة وشفيفة تحقق التلذذ الجمالي منقـــــــوعاً بكل ضروب وأفانين الأسى، لتكتشف في النهاية أن الشاعر لم يكن يغنــــــــــي بل ينزف من أقصى القلب إلى الذاكرة.
#عباس_لطيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|