أحمد الشحماني
الحوار المتمدن-العدد: 3169 - 2010 / 10 / 29 - 15:39
المحور:
الادب والفن
مثلما تتخبط الروح ليلاً وهي تطلق العنان لسماءها الحالمه بأمتطاء حصان السفر من محطة الى آخرى ومن مدينة الى آخرى . . تتسلل كالضوء بين هذا المكان وذاك المكان, تزور صديقا قديما أو تحاور شخصا غريبا, تتقمص شخصية ما وتدور هائمة في افلاك كثيره. . . الليل مسكنها فهي تتأبط الليل ملاذا لها لتسافر وترحل حيث تشاء. .
للذكريات دائما نكهةٌ خاصة وطعمٌ خاص ولغةٌ خاصة . . .
الطفولة لها مساحتها من الذكريات التي تبقى عالقة في مخيلة الأنسان والتي نادرا ما يطمسها النسيان او تسحقها جيوش الزمن الغاصبة لتستبدلها بمساحة أخرى من اللاشعور . . فترة الشباب هي الأخرى تكون صاخبة بكم هائل من الذكريات الجميلة أو المؤلمة والتي ربما تتقاطع مع الطفولة أو ربما تكمل مشوار ذكريات الطفولة ولكن بوجود فاصل زماني وأحيانا فاصل مكاني - المنطقة السكنية وملاعب الطفولة - المدرسة - الأصدقاء - التحولات السايكولوجية والبايلوجية التي تطرأ على نفسية وجسم الأنسان - العلاقات العاطفية - الشد والجذب - الألتصاق والنفور - المسؤولية الجديدة التي تدحرج حجرا ثقيلا وتضعه في طريق الأنسان – وفاة عزيز أو رحيل صديق او انقلاب مفاجيء في النمط الحياتي اليومي - مأساة – مشاكل – هموم . . .
بعد فترة الشباب يبدأ المرء بحالة من التباطي والتباكي واطلاق الحسرات والتنهيدات على اطلال الطفولة والشباب بحالة شعورية او لا شعورية – يبدأ بأستذكار شريط طويل وساخن من الذكريات لمراحل متعددة ولوجوه وأشخاص كثيره, هذا الشريط يمثل يوتيوب انترنيت الذاكرة والذكريات - فمرة يرى المرء نفسه امام كاميرا الذكريات القديمة بأعطاء الذاكرة منشطات قوية لتسافر به على حصان سريع يأخذه الى مساحات وفضاءات زمن الطفولة ليسترجع الذكريات ويقوم بعملية افلاش باك للماضي البعيد والقريب, كيف كان يلعب, مع من, واين هم - وكيف غادروا اروقة الطفولة! – وبتجرد وعفوية يبتسم او ربما يبكي – ثم يطلق العنان لحصانه السريع من على منصة مسرح الأحداث وبضغط زر يوتيوب انترنيت الذاكرة المخزون في حالة اللاشعور نراه ينتقل الى مساحات أخرى متعديا فترة الطفولة ومتجها الى مرحلة الشباب ليقف مثلا عند طابور مرحلة الدراسة الثانوية ليتذكر زملاء واصدقاء التقط معهم مجموعة صور وسجل معهم برغة او بدون رغبة سجلا من الذكريات, احدهم تمرض وترك الدراسة, وأخر انتقل الى جوار ربه بسبب مرض عضال وآخر تطوع في الجيش بسبب حالة الفقر التي اجبرته الى اتخاذ هكذا قرار أو ربما بسبب اخفاقه في الدراسه وسقوطه في فخ العسكرية, وآخر اكمل مشواره الدراسي ليصنع مستقبلا يحلم به الكثير, وآخر سافر وما عاد له اثرا يُذكر – أما صاحب يوتيوب انترنيت الذكريات فيبدأ يطلق الزفرات والدمع الساخن يغمرُ وجنتيه – ثملٌ بذكرياته!! . . .
المشهد الأول:
صادفتُ رجلاً كهلاً تبدو عليه ملامح الأغتراب والتشرد والضياع في بلاد المنافي, الحزن والقهر يكبلان روحه وزفرات آهاته تتصاعد مع دخان سجائره المحترق, يكادُ الشيب يحاصره من كل الجهات ولوعة الزمن وفراق الأحبة ترسم خطوطا عريضه لعلامات استفهام تيقظ فيه دمعة الحنين وعطر الألم . . .!
سألته: هل لك من ذكريات بعد هذا العمر الطويل في أحضان الغربة؟ . . . تبسم! , ثم بكى . . !! أستحضرَ شريطه الأنترنيتي لطفولة مفقودة يتمتها سنوات المجهول . . توقف – قال لي معذرةً لا استطيع استحضار يوتيوب انترنيت مرحلة الشباب لأنها تلاشت في محطات الغربة وأنطفأت كل الشموع!
تنهدَ, أعتصرَ الماً, ثم بكى . . بعدها قالَ بصوت خافت: من يستطيع ان يساعدني على فك طلاسم عذاباتي؟! . . تركتُ أولادي الصغار وزوجتي الشابة المفعمة بالحلم والطموح . . تركتهم وهربت ابحث عن ذاتي, تركتهم وعطش وجفاف السنوات ما زال يلاحقُ خطواتي! رحلتي كانت طويلة ومضنية, الحرب, الدمار, الخوف, الحصار, الكبت, هذه الكلمات كانت أشبه بأخطبوط يطاردني وكنت أحسها بمثابة طبول تقرع عند مسامعي ليل نهار وتنذرُ بالشئم . . قررتُ الهرب . . لا أعرف الى اين ولكني قررت وكان قرارا صعباً للغاية . . كل ما اذكره اني هربت . . كيف هربت لا أتذكر!, أحيانا أشعر بأن بطارية الذاكرة بحاجة الى شحن كهربائي لكي تستعيد طاقتها ونشاطها. . نعم تذكرتُ أو لعلها الذاكره البطيئة الميتة بدأت تشتعل في داخلي . . كان هروبي الى الشمال ومن ثم الى تركيا مرورا باليونان وايطاليا ثم المانيا وأخيرا الدنمارك . . . كنت أظن رحلتي الى بلاد أوربا ستكون بمثابة سفينة النجاة ومحطة الخلاص النهائي لعذاباتي وآلامي وجراحات الزمن ولكنها كانت قيود واوجاع معطره بالدموع والحنين رغم استنشاقي لنسيم الحرية في مجتمعات متفتحة لا تعرف معنى العذاب والظلم والأضطهاد لأن هذه المصطلحات قد غادرت مجتمعات أوربا منذ سنين بعيدة, أنها امراضنا الخبيثة التي نتعكز عليها صباحا ومساء, أمراضنا التي لا نعرف كيف نستأصلها علما ان بعض الأمراض تشفي أمراضا كما يقال.
لا اريد ان اطيل عليك السرد فالأحداث مثل بنات الدهر ترسل طوفانها علينا كل يوم لتغرقنا بالويل والفاجعة . . حاولتُ بعد ذلك ان أتصل بزوجتي واولادي ولكن الأمور لم تجري كما يرام بل سارت بشكل معاكس لتوقعاتي واحلامي, لم تستطع زوجتي الألتحاق بيّ, وبعد فترة اقل من ستة اشهر تمرضت زوجتي وتوفاها الله وهي تنتظر بلهفة زورق الزمن ليوصلها بي مع الأولاد – تركتْ زوجتي وصيتها . . "أيها المغادر موانيء القلب أبقى هناك ومت هناك فأنا سأموت في بلادي المزروعة بطحالب الموت ولكني حتما سأراك . . . !", تركت لي هذه الوصية مع اولادي الصغار ورحلت مثلما ترحل النوارس الى شواطيء بعيدة بدون استئذان. . الاولاد كبروا قليلا ثم كبروا قليلا ثم اخذ كل منهم طريقه في بلاد الله . .
هذا كل ما لديّ الأن من خزين لذاكره في يوتيوب انترنيت الحياة . .
المشهد الثاني:
تحدثت معي وكأنها طفلة ذات الثماني سنوات رغم تجاوزها العقد الرابع من العمر . .
بدأت بالنقر على يوتيوب انترنيت الذاكره لتتذكر كل المراحل الزمنية المهمة في حياتها ابتداءا بمرحلة الدراسة الابتدائية التي وصفتها بحلاوة الطفولة وتلمذة العقل وهدوء البال, المرحلة التي تشعرني بأن طفولتي كانت ورقة بيضاء بزهوها ومرحها وطقوسها البريئة – مازلت أتذكر مرحلة الطفولة . . اتخيلها تقف عند عتبة الباب كقطة وديعة تموء, أتخيلها وكأنها الأمس القريب رغم اغتيال الزمن برصاص الأيام سنابلُ قمحَ سنواتنا الجميلة المُحَملة بحبات الأمل والتفائل ورغم تغير الوان وجوهنا وذبول أزهار العمر الأ انني ما زلت اتذكر تلك المرحلة الصاخبة بنشوى المرح وصفاء البال. .
توقفت لبرهة ثم عاودت النقر على زر انترنيت يوتيوب الذكريات لتستحضرَ بعض من ذكريات الماضي المقيد بظفائر الوجع والحنين . . قالت: بعدما أتجهَ زورق العمر بأتجاه فضاءات مرحلة الدراسة الجامعية التي خطفت مني هدوئي ومرحي وجعلتني أنتهي الى ما انا عليه من توقف لنشاط هواجس القلب وامنيات العمر المذبوحة في محراب الوهم - نعم هكذا توقف زورقي بعيداً عن شواطيء وموانيء القلب واحلام الفتيات المراهقات لأجد نفسي كالفأر في مصيدة الزواج وحصاد الاطفال مع شخص قُدّر لي أن يكون زوجي . . .
وبينما هي تغلي وتستحضر شريطها الممتع الموجع . . تذكرت كل صديقاتها وبنات حارتها, تذكرت مرحلة المراهقة وكيف خذلها الزمن مع فارس احلامها الذي لم تجني منه ثمار الحب والعشق رغم تمردها على قرارات الأم القاسية بحقها ورغم تجاوزها الخطوط الحمراء في اندفاعها العاطفي المشحون بالتمرد والمجازفة – إلا ان ذلك الفارس الذي خفق له قلبها وسلمته راية مشاعرها وعواطفها لم يصمد طويلا في معركة الحب والغرام – في نهاية المطاف خذلها والتحق بموكب غرام آخر مع فتاة آخرى ليتركها قلبا معذبا كسيرا أشبه بقطعة معدنية جوفاء. .
"معذرةً الذكريات تجرحني" . . أضافت قائلة . . . نعم هكذا أنا تلك الفتاة التي لم تُجدي نفعا معي كل الخطوط الحمراء التي تجاوزتها . . صفعتني أمي على وجهي وبصق بوجهي ابي . . كان ذلك قبل خمسةً عشر عاما تقريبا . . اذكر صفعة امي لحد هذه اللحظة – لقد اسرعوا بعد ذلك بزواجي من ابن خالتي الذي لا تجمعني معه اية عاطفة او مشاعر ولكنه امر لابد منه ضمن سلسلة التقاليد والأعراف العائلية في المجتمع . .
المشهد الثالث:
حدثني من خلال الهاتف وقال لي: . . . من أينَ ابتدأ معك, من أي نافذة, من أي لوحة, من أي مكان؟ . . . كل أيامي ذكريات, صمتي ذكريات, شجوني ذكريات, بكائي ذكريات وحتى تمردي ذكريات! . . أنا ذلك المخلوق من ذكريات وحنين ولوعة ودموع . . كيف اغلق الباب بوجه الذكريات واساطيل الحنين تغزوني كل لحظة وتنبش في داخلي رماد الزمن المحترق فاتأبط عواصف من ذكريات!. . . ولكن أجمل تلك الذكريات التي تطاردني اينما اكون واين ما وجهت وجهي هي تلك الذكريات المغموسة بمشاعر الشوق واللهفة المتشحة بخضاب الشجن والتي تشاطرني فيها الروح دموع الحنين لأنسانة لا أعرف كيف أصفها وأي الكلمات ستسمح لي بوصفها . . انها أمرأة تبدو لي وكأنها قديسة سماوية بطيبتها وعنفوانها وصبرها وتحملها عذابات السنين . . ربما أنسى كل الوجوه المتزاحمة في دفاتر ذكرياتي ولكن لا يمكن لي ابدا ان أنسى تلك المشاهد والذكريات البريئة مع تلك الأنسانة الطيبة. . . ! لعل أمتع واجمل تلك المشاهد التي مازالت تنقش في ذاكرتي عطر تجلياتها وطقوسها هو ذلك المشهد الاسطوري الذي يقف خالداً متأرجحاً في فضاءات الذاكرة لا تصدأه سنوات الزمن الحبلى بالنسيان . . أنه المشهد المثير الذي يحمل في طياته فضاءات عبق الشتاء البارد, عندما كان الشتاء فعلا بارداً في تلك السنوات الخوالي البريئة . . كنت أراها وما زلتُ أراها حتى هذه اللحظة رغم تباعد الأحداث وتباين المسافات ورغم فجيعة الزمن التي تكبلنا بالأحزان والفراق وتحني ظهورنا بكم هائل من العذاب والألم . . كنت أراها تتصارع مع الزمن القاسي ولكنها لم تنحني كأنها الجبال الشمم, كانت تعدُّ لنا في ذلك الليل الشتائي الممطر البارد موقدا من حطب ليغمرنا بالدفء, دفء المكان ودفء المحبة والحنان, كان الليل طويلا ومظلما, وكان الموقد جميلا ودافئا . . كنا نجلس نحن ابناء البيت الواحد سوية وكأننا عصافير فوق غصن شجرة ربيعية ننتظر بلهفتنا المعهودة ما تهيئه لنا تلك الأم الفاضلة ما تيسر من طعام بسيط في البيت . . . المكان كان باردا, ولكنه دافيء وجميل لأن دعاء الأم الطيبة بجمال روحها وطهارة نفسها وهي تسبح بأسماء الله الحسنى يجعله اكثر دفئا وراحة وأمان . . .
لم يكن لدينا في ذلك الوقت تلفاز أو وسائل تسلية أخرى ولكن مرح العائلة وهدوء البال وصفاء النفس كان اجمل واحلى واروع من كل وسائل التسلية وتقنياتها الحديثة . . مازلت أراها بوجهها الملائكي, بصوتها, بلهفتها, بصبرها وهي تجلس معنا, بجنبنا وتقص علينا بعض الحكايات الشعبية بنكهة بسيطه تضفي عليها ادوات المتعة والبهجة والسرور . . كان الليل الشتائي الممطر طويلا مثل ليل أمرؤ القيس الطويل ولكنه سرعان ما ينتهي ويتلاشى ويخمد الجميع الى النوم بأثر مغناطيسية القصص الجميلة ومباركة الأم الطيبة . . . !
#أحمد_الشحماني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟