أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حازم كمال الدين - النظام المتكرّش















المزيد.....


النظام المتكرّش


حازم كمال الدين
مسرحي، روائي، مترجم، صحافي

(Hazim Kamaledin)


الحوار المتمدن-العدد: 954 - 2004 / 9 / 12 - 10:55
المحور: الادب والفن
    


النظام المتكرّش
والثقافات المتعددة
حازم كمال الدين
ترجمة: أحمد الركابي
مراجعة: صلاح حسن


أنا حازم كمال الدين!
أنا رجل مسرح!
غالبا ما يتم تقديمي في بلجيكا على أني (مسرحي متعدد الثقافات من العراق). بيد أنني لست كذلك. أنا (مسرحي بلجيكي متعدد الثقافات من أصل عراقي)! في سياق هذا النص سيتضح للقاريء أن المفهوم الثاني مختلف عن (مسرحي متعدد الثقافات من العراق).
إذا ما ألقيت نظرة على مشروعي المسرحي منذ قدومي إلى بلجيكا عام 1987، لابد لي من التأكيد على أن الفضل في طبيعة اعتباري (مسرحي متعدد الثقافات) يعود إلى صدام حسين ونظامه الذي اضطرني لمغادرة العراق.

لولا جهود السيد صدام حسين في اقتلاعي من أرض العراق لبقيت ربما في بغداد مسرحيا عاديا ذا ثقافة أحادية، أو لأصبحت مسرحيا متعدد الثقافات في بيروت، وربما مسرحيا أحاديا في دمشق. كيفما قلبت الأمر فإن اعتباري (مسرحي متعدد الثقافات) هو اعتبار تم توصيفي به في الغرب. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعلني اعتقد أن التعددية الثقافية (multicultural) هي اختراع غربي، أو مفهوم غربي، أو على الأصح آلية عمل غربية.

هذا الاستنتاج الخاص بجوهر المرجعيات الغربية لمفهوم التعددية الثقافية توصلت إليه في بلجيكا، عبر التصادم اليومي مع الثقافة الغربية. وما أزال حتى الآن أتعلم القليل كل يوم: من سوء فهم إلى آخر، ومن عدم تفهم إلى آخر.

تم طرح التعددية الثقافية في بلجيكا (كفتح ثقافي مهم) في عام 1994 عندما قدمت الحلقة الدراسية العالمية الشهيرة (مدينة الثقافات City of cultures) في مسرح بيجار (لامونيه). كان بيتر سالرز قد جاء يبشرنا بأفكاره حول التعددية الثقافية وبحضور الجيل البلجيكي الأول من دعاتها.
أنتم تعرفون من أعني، وتعرفون أسماء من أعنيهم كما أعرفها أنا. ما الذي حدث لأسماء مثقفين من أمثال خيرت أوب سومر؟ أين ذهبوا يا ترى؟ ما الذي حلّ بهم؟ أظن أنهم مازالوا يروجون بنشاط للتعددية الثقافية ويدافعون عنها.

يا للغرابة!

فمنذ عام 1998 لم أر واحدا من أولئك المثقفين في واحد من عروضنا التي أطلقوا عليها بأنفسهم مصطلح (المتعددة ثقافيا). المرة الأخيرة التي حضر فيها دراماتورغ مهرجان الفنون العالمي في بروكسيل لمشاهدة عملنا المتعدد الثقافات كما أتذكّر كانت عام 1995!
هل ثمة خطأ في أعمالنا؟
تساءلت مع نفسي كل هذه الأعوام.
هل أعمالنا شرقية أكثر مما ينبغي؟ استشراقية أقل مما يجب بالنسبة لمدينة ثقافات القرن الواحد والعشرين ؟ أم إنها ليست غربية بما فيه الكفاية لعاصمة الثقافة الأوربية عام 1993 التي أعيش فيها والتي يقترع ثلث سكانها تقريبا وبطريقة ديمقراطية لصالح اليمين الفاشي المتطرف؟

هل ثمة مؤاخذة على أعمالي لأنها لا تستجيب للنهج الغربي المخبأ خلف الكواليس، النهج السري الغربي للثقافة البلجيكية المتعددة الأصول، النهج الذي وضعه آخرون لكي يحكموني دون أن يأخذوا رأيي؟ النهج الذي ورسخه ويحرسه جمع محدود تتم عملية الحفاظ على سرية هويته، وهوجمع من البيض الغربيين: مشرعي التعدد الثقافي؟
من حقي الحصول على أجوبة لهذه التساؤلات كمسرحي متعدد الثقافات، ومن واجبي طرح هذه الأسئلة: واجبي تجاه نفسي والآخرين.

كثيرا ما أتساءل:
ماذا يعني حقا أن تكون متعدد الثقافات في بلد غربي؟ ما هي التضحيات الواجب تقديمها كي يتم الاعتراف بك كفنان متعدد الثقافات؟ من يحدد المعايير والمقاييس والقوانين التي لابد للفنان ـ الذي هو أنا في هذه الحالة ـ أن يراعيها لكي يصبح من حقه المساهمة بشكل فعال في الحياة الثقافية كفنان متعدد الثقافات؟
أنا أعرف من يحدد هذه المعايير والمقاييس والقوانين. أنا أعرف أسماءهم. أعرف أنهم جميعا بيض غربيين. وأعرف أنهم ليسوا سوى حفنة صغيرة، ومتأكد أنني لم أحصل على شرف الترحيب بأي منهم في واحد من أعمالي ذات التعددية الثقافية...

لقد ذكرت قبل قليل أن التعددية الثقافية هي معطى واختراع غربي.. لا بل أكثر من ذلك: التعددية الثقافية هي معضلة غربية حولتها مجموعة محدودة العدد إلى دوغمائية غربية من نوع جديد.

لكن ماذا يعني هذا بالضبط؟ ما الذي يقصدونه حقا حين يتحدثون عن التعددية الثقافية، عن المسرح المتعدد الثقافات أو الفن المتعدد الثقافات؟

لقد تركت الموسيقى السوداء منذ سنوات طويلة تأثيراتها على الموسيقى الغربية المهيمنة وساهمت بشكل نوعي في تغيير الثقافة الموسيقية الغربية. كما ساهمت الموسيقى الكوبية والأمريكية الجنوبية بعض الشيء في إضفاء صبغة ثقافية متعددة على الإنتاج الموسيقي الغربي. منذ ازدهار الرواية الأمريكية الجنوبية ـ وإذا كنتم لا تصدقوني إسألوا ناي بول أو وول كوت ـ أصبح الكتاب غير الغربيين هم المفضلين من قبل القاريء الغربي برغم كونهم ينحدرون من بلدان تسود فيها الأمية. الأمر ذاته ينطبق على عالم السينما الترفيهية، حيث تحظى الأفلام الآسيوية على شعبية هائلة مثل الأفلام الإيرانية، الصينية والكردية. في مجال الأساليب والأنواع الفنية الأخرى تصادفنا نفس الحالة.

ثمة من يدّعي أن الموسيقى العالمية اليوم والأدب المتعدد ثقافيا، و.. و.. و.. باختصار الثقافة ذات المرجعيات اللا غربية بإمكانها هكذا وبعصا سحرية أن تصبح شعبية جدا لأن الحضارة الغربية تمرّ بحالة من الإنهاك والسبات. وهناك رأي آخر تقول فيه مجموعة أخرى إن الحضارة الغربية انغمست بشكل كبير ببحوث معرفة الذات وغاصت في شتى الطروحات النظرية مما أدى بالإبداعية والخيال الغربي إلى أن يعيشا في حالة احتضار. هل ثمة اعتقاد أن التعددية الثقافية جاءت لتنقذ الحضارة الغربية من ضيق التنفّس وتنفخ فيها روحا جديدة؟ هل التعددية الثقافية هي عملية شبيهة بنقل الدم غرضها إعادة دفق الحياة في شرايين الثقافة الغربية؟

إنه تساؤل لابدّ لي كمسرحي متعدد الثقافات أن أطرحه.. إنني أرغب بالحصول على إجابة عن هذا السؤال. فالفرق سيكون كبيرا في علاقتي مع الغرب لو عرفت أنني وعملي المسرحي المتعدد الثقافات نستخدم لغاية إنقاذ الحضارة الغربية أو إيقاظها من غيبوبتها.

هل كان للموسيقى البرازيلية الأمريكية الجنوبية والموسيقى السوداء أن تكون بهذا المستوى من الشعبية الآن لولا جهود الرواد الغربيين البيض من أمثال ديفيد بايرن؟ هل كانت الموسيقى السوداء المحبوبة جدا في الغرب لتحظى بنفس الشعبية والاهتمام كما هو حالها اليوم لو أنها جاءت إلى الغرب مباشرة من أفريقيا دون أن تمرّ بتشذيب المدن الغربية والأمريكية الكبرى؟ هل كان الغرب سيتعرف على موسيقى الراي والشعبي والأشكال الأخرى من موسيقى شمال أفريقيا لو لم تبذل جهود (الخبراء) الغربيين الذين قاموا بالترويج لهذه الموسيقى آخذين بنظر الاعتبار تزايد المشاهدين (المستهلكين) الأجانب في سوق الموسيقى في المدن الغربية؟ هل كان كبار الكتاب من أمريكا الجنوبية وأفريقيا سيتمكنون من تحقيق مثل هذا النجاح والشعبية والمبيعات لولا جهود دور النشر والنقاد الغربيين في باريس، برشلونة أو لندن لتسويق هذه البضائع؟ بصيغة أخرى: هل ثمة علاقة بين ظاهرة التعددية الثقافية وبلدان وشعوب الجنوب؟ أم هل ثمة لموضة التعددية الثقافية ارتباط على وجه الخصوص ـ أو بشكل حاسم ـ بحاجات وتطلعات الناس في الشمال؟ ألا يوجد ترويج وتنظيم لهذه التقليعة عن طريق مجموعة من (الوسطاء) الأذكياء ومسئولي البرامج الثقافية والمسوّقين؟ كم هي أفريقية الموسيقى الأفريقية التي نسمعها اليوم؟ ألم تخضع للتجميل، للتشذيب، للصقل بحيث يسهل استخدامها في المراقص الغربية والمهرجانات والحفلات؟ إلى أي مدى هم شرقيين أو استشراقيين أولئك الكتاب العرب القاطنين في باريس؟ ما مدى أصالة كتاب أمريكا الجنوبية الساكنين في برشلونة، مدريد أو ميامي؟ ما الذي تبقّى من شرقية صانعي الأفلام الآسيوية المعاصرين والذين استبدلوا بوليود بهوليود؟ إنه لأمر واضح أن الغرب شبق ومتعطش للتأثيرات القادمة من الجنوب والشرق وانه يمتصها ويستوعبها، يدجّنها ويجعلها مقبولة للأذن، للعين، للعاطفة وللعقل الغربي.

هل هذا هو ميكانيزم العمل الحقيقي؟
هل التعددية الثقافية جزء من عملية امتصاص غربي جديدة؟ جزء من استعمار كولونيالي غربي جديد؟

لابد لي كمسرحي متعدد الثقافات ان أتسائل. كمسرحي متعدد الثقافات لدي رغبة عارمة في الحصول على إجابة. إذ سيكون الفرق كبير في تعاملي مع الغرب إذا ما عرفت أن مسرحي المتعدد الثقافات أصبح قابلا للحياة لأنني سمحت بتهذيبه، بتجميله، باستيعابه، بإعادة تشكيله وبأقلمته مراعاة للعين والأذن والعقل والعاطفة الغربية، وليس لأنه مسرح قائم بذاته.

لقد قلت سابقا: أعتقد أن التعددية الثقافية والنزوع للتعدد الثقافي هي مفاهيم غربية، أماني غربية، ميكانيزم غربي. أعني أنها اكتشاف غربي يتلائم تماما مع أماني الطبقة المثقفة البيضاء وعقد الشعور بالذنب التي ترزح تحتها بحكم خلفياتها المسيحية.

نعم هذا ما أعتقده...

ولهذا أتساءل مرة أخرى: ما الذي يشدّ الغرب الى (التعددية الثقافية)؟ ما هو الهدف منها ولأي غايات تستخدم؟ هل التعددية الثقافية خدمة لإعادة الروح إلى الثقافة الغربية، لإضفاء أجنحة شرقية، أجنبية غير معقمة، غير مصقولة، غير مجملة، نيئة، بدائية أو حتى وحشية استشراقية اكزوتيكية؟ نعم. أعتقد ذلك. بيد أن هذا جانب من (الحكاية). ثمة سؤال آخر: هل أن غاية التعددية الثقافية إثارة أسئلة تتعلق بجوهر وأسس الثقافة الغربية ووضع علامات استفهام غير خاضعة لهيمنة الثقافة الغربية.. بدائل فنية غير غربية إلى جانب الأشكال الغربية المهيمنة على الألوان، الأصوات، الجمل، الحركة وحتى تقنيات التهجي.

لا...

من الواضح إن الأمر ليس كذلك لأنه لو كانت التعددية الثقافية كذلك لكانت شكّلت مصدر خطر ماحق على بنيان الثقافة الغربية ذاتها وهددّت طبيعة التفكير الغربي وزعزعته. ولكن انظروا: الثقافة الغربية في حالة استرخاء وليس لديها أي خوف من الإرهاب الثقافي القادم في الوقت الذي أستطيع أن أؤكد فيه أن الثقافة الغربية ليست لها نوايا انتحارية.

من الغريب أن يتم دائما الربط بين (التعددية الثقافية) والمشاكل السوسيو ـ ثقافية. الموسيقى المتعددة الثقافات في الولايات المتحدة مرتبطة تماما باشكاليات الشباب في الأحياء الفقيرة. المسرح المتعدد الثقافات في المملكة المتحدة له علاقة ارتباط لا تنفصم بمشاكل الأجانب والهجرة في المدن الصناعية. الموسيقى العالمية والمسرح المتعدد الثقافات في بلجيكا يقترنان دائما بموضوعة الأقليات، ومحاربة العنصرية. إن التعدد الثقافي أو التعددية الثقافية كما تلاحظ يتم ربطهما دائما بموضوعة الأقليات، بالتوتر الاجتماعي وبالعنصرية من قبل من هو مضاد للعنصرية أو من تتقاطع أهدافه مع هذه الموضوعة.

هل تلعب التعددية الثقافية والمسرح متعدد الثقافات فعلا دورا يساهم في تخفيف أو معالجة المشاكل الاجتماعية؟ هل مسرحي جزء من وسيلة علاج اجتماعي؟ هل هو جزء من خطة كبيرة لتطهير بلجيكا من العنصرية وإلغاء الآخر؟ هل هو جزء من مشروع سياسي شامل تتبناه الحكومة البلجيكية لتحقيق خططها الخاصة بإشكاليات الجيل الثالث من المهاجرين الذين لا يتمتعون حتى الآن بحق التصويت، أي حق المواطنة؟

هي تساؤلات لابد أن اطرحها كمسرحي متعدد الثقافات. أسئلة لابد أن أبحث عن إجابات لها. فالفرق سيكون كبيرا جدا في تعاملي مع الغرب إدا ما تبيّن لي أن عملي الفني يتم استخدامه كواجهة لمضمون سياسي اعرض واشمل في دولة تفكيرها عنصري بشكل معلن. والفرق كبير أيضا حينما أعرف أن عملي الفني المستقل لا يتم الاعتراف به وادراجه في الساحة الثقافية إلا بعد دراسة مقدار ما يعكس من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بالأجانب.

اذا كان الامر كذلك فأن السلطة الفلامانية (من فلاندرن الجزء البلجيكي الناطق بالهولندية) التي تدعمني ماديا تتوقع الكثير ـ بل وأكثر من الكثير ـ مني. لا احد يتوقع من السيد لوك برسيفال أن يركز في عمله على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للطبقة العاملة البلجيكية. لا احد يتوقع من السيد لوك يوستن أن يسمح للاخرين باستخدامه ذريعة لتبرير عدم تمتع الافارقة، الامريكيين الجنوبيين، المغاربة، الاتراك بحق التصويت في (فلاندرن). لا احد يتوقع من المسرحيين البلجيكيين أن يركزوا جهودهم على بحث المشاكل الاجتماعية والاقتصادية أيا كانت طبيعتها. لماذا يتحتم علي أنا إذن كمسرحي متعدد الثقافات أن أضع نفسي في موضع الفنان وفي موضع المصلح الاجتماعي ـ الاقتصادي؟

عندما وصلت الى بلجيكا عام 1987 التقيت بصديقي ومواطني ابراهيم سلمان الذي يسكن هولندا منذ 1980 وكان قد أنهى منذ سنوات دراساته العليا وظهر كممثل في إنتاجات تلفزيونية مختلفة وأصبحت له فرقته المسرحية الخاصة، الأمر الذي تطلب منه سبعة اعوام. بينما تم الاعتراف في بلجيكا بفرقتي رسميا لأول مرة عام 2000! لقد تطلّب ذلك مني ثلاثة عشر عاما (حصلت فيها لأكثر من مرة على دعم غير دوري توجّب عليّ من خلاله أن أثبت كل مرة نجاح أعمالي وتفوقها على أعمال زملاء المهنة البجليك!!). فرقة DNA المسرحية المتعددة الثقافات كان قد مضى على الاعتراف رسميا بها في هولندا أكثر من خمسة عشر عاما.

كثيرا ما يتم التساؤل عن طبيعة عملي المسرحي كفنان بلجيكي متعدد الثقافات من العراق حاصل على اعتراف رسمي ودعم مادي دوري من وزارة الثقافة البلجيكية. وما زال مدراء المسارح ومقرري برامجها يقيّمون عملي وفقا لضوابط غربية ويختبرونه وفقا (لإدراك غربي)، يتوقعون من عملي أن يكون قابلا للتلقي لدى الجمهور الغربي.

ينبغي أن يكون عملي قابل للقراءة الأوربية. يجب أن لا يكون عملا (مستغلقا)، يجب أن تكون لدى الجمهور ـ الجمهور الغربي ـ القدرة على هضمه واستيعابه بسهولة. وقالوا لي أن سيكون من المفيد جدا أن أنتج أعمالي في واحد من دور المسارح الكبرى الراسخة كبيت المسرح Toneelhuis الذي هو واحد من أكبر المسارح الأوربية، أو قصر المسرح Het paleis أو المسرح الملكي KVS. لأن هذه المؤسسات كما قيل لي مهتمة جدا بمشكلة التعددية الثقافية، بالإضافة إلى أن خزائن الأموال تنتظرني هناك (عملية شراء؟).. كان بانتظاري ما يشبه (المستقبل الزاهر). ومع ذلك اخبرني دراماتورغ (بيت المسرح) السيد خي يوستن بأن جهود مسرحه تنصب حاليا (آنذاك) على تدعيم جودة المسرح الفلاماني. وقد قال خي يوستن أن ثمة ضحالة وفقر في المناخ المسرحي الفلاماني يجب أن يجد له حل وهو بمثابة أولوية الأمر الذي يتطلب الكثير من العمل لإنجاز ذلك. وأكد يوستن على أن مؤسسته تريد أن تعنى أولا بإدخال تغييرات كبيرة على العمل المسرحي الفلاماني وبعد ذلك سنرى! (ثقافتنا القومية أولا! أو تذكّر معي يا سيدي القاريء الشعار العنصري الشهير للحزب الفاشي البلجيكي: شعبنا أولا!) ليست لدي الرغبة هنا على التأكيد بأن هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم ذات يوم حتى عناء الحضور لأحد أعمالنا، ولكن لدي رغبة في القول أن هذه التبريرات يسهل عليك كمسرحي متعدد الثقافات أن تصطدم بها كل يوم.

من ناحية أخرى.. يقول الكثيرون أن مسرحنا (المتعدد الثقافات) يفتقد الوشائج الكافية التي تربطه مع الكودات والأعراف الدراماتورغية الغربية المهيمنة، أي الكودات (الفلامانية البيضاء). يقول البعض أن عملنا مستغلق، أن عملنا لا يشكل دافعا حقيقيا للشباب المغاربة (الصايعين) في أحياء الأجانب، وهم يآخذوننا لأننا لا نقدم (حلولا) لهؤلاء العاطلين عن العمل وهم يآخذونني لأن شخصا مثلي (مختلف واكزوتيكي) لا يمنحهم السعادة المنتظرة!

بعد سنين طويلة من العمل خارج الحياة الثقافية الرسمية وعلى أرصفة نصف مظلمة انتزعت فرقتي المسرحية الاعتراف من قبل الحكومة الفلامانية وتقرّر لها دعم مادي ثابت. الفضل يعود للسيد بيرت آنسيو وزير الثقافة آنذاك القريب جدا من الحزب الاشتراكي. لقد منحني السيد آنسيو الفرصة في انتاج أعمالي المسرحية وتقديمها لجمهور تزداد مساحته بشكل تدريجي.

لأعوام وأعوام عملت صحراء 93 تحت ظروف صعبة: في صالونات بيوت، في مكاتب، قاعات صغيرة، مقاهي وحتى في بيتي الشخصي. لكن أعداد جمهورنا المسرحي تزايدت باضطراد عبر السنوات وتنوعت مشارب الجمهور باستمرار. نحن نشكل الآن حضورا فاعلا كممثلين وصانعي مسرح بسبب الاقبال المتزايد للجمهور على مسرحنا. وهذه بالمناسبة هي ما نعتقد أنها الطريقة السليمة في العمل....

لكن توجد طبقة مزعجة تحتل المكان بين صانعي القرار في أعلى السلم وجمهورنا المتزايد والمتنوع باستمرار في أدنى السلم. طبقة يمكن تشبيهها بالطبقة الدهنية تعمل على تعتيم المعلومات التي يجب أن يعرفها صانعي القرار عن أعمالنا المسرحية وعلاقتها بالمشاهد. انها طبقة يعشعش فيها مجموعة من الخبراء المتعددي الثقافات، المستشاريين، واضعي البرامج، الوسطاء والمسؤولين عن (التسهيلات) اللازمة. انهم يقومون بالتحليل، بالتفكير، بالمراجعة، بتقديم النصائح وباطلاق الاحكام، يحافظون على بقاء هذه الفرقة المسرحية ويقررون إلغاء حق تلك الفرقة في الاستمرار بممارسة العمل المسرحي. إن طبقة الشحم السميكة هذه تعمل على تقديم عدد محدود من الفرق المسرحية والمبدعين الى صانعي القرار السياسي بحيث لا يطال الدعم المادي والمساهمات المادية إلا ذلك العدد المحدود. في هذه الأجواء الرصينة التي تستمتع بها طبقة الشحم يتجمّع أناس يعرف أحدهم الآخر جيدا، يشكّلون آراء حول الفنان الفلاني والفلاني ويشوّهون فلانا وفلان، وهم أنفسهم الذين يكوّنون الأحكام ويعلنون الادانات. من تلك الطبقة الدهنية الدخيلة على العملية الثقافية تنطلق اصوات تتهامس بالنميمة: (جمهورنا لم يبلغ مرحلة الاستعداد بعد للتعامل مع مسرحك المتعدد الثقافات يا سيد فلان) أو (جمهورنا لا يحب أعمالك المسرحية المتعددة الثقافات يا سيد علان) أو (أن نبرمج عملك المسرحي المتعدد الثقافات في هذا الموسم الثقافي في مسرحنا يعد مجازفة حاليا) وهذا كله بعد ثلاثين عاما من التعددية الثقافية الفعلية في الشارع. ومن تلك الطبقة الشحمية تأتيك النصائح والحلول (ماذا تعتقدون يا سيد فلان لو استخدمتم على المسرح ممثلين زنوج حقا؟) أو (نعتقد أن عليكم يا سيد علان البحث عن وشائج تربطكم مع نشاط المؤسسات السوسيوثقافية في الحي الذي تعيشون فيه) أو (نود تقديم عملكم للجنة من الأجانب المعنيين بدراسة مدى صلاحية عملكم ومعرفة كم هو مجدي عملكم على الصعيد الاجتماعي). يتم داخل الطبقة الدهنية اتخاذ قرارات بشكل سري يحدد بقائك من عدمه. في ثنايا إلية الخروف تلك يتم وضع شروط ومتطلبات العمل الجيد، تتم إعادة صياغة الشروط والرجوع إليها.

وفي طيات تلك الطبقة الخفية على الناس تعمل مجموعة صغيرة من (المختصين) على تحديد ما يجب أن يشاهده جمهورهم ـ وأقول جمهورهم ـ لأنهم يتحكمون بهذا الجمهور حقا ولأنهم المصدر الوحيد الذي يقدم الثقافة للجمهور ولأنهم من خلال ذلك قادرين أن يفعلوا به ما يشاءون. وكذلك تقرر تلك المجموعة الصغيرة من متعددي الثقافات والتي سمّت نفسها بنفسها، تقرر ما يشاهده (جمهورها) في (قاعات الأوركسترا) من كونسرتات موسيقية وما تقدم من أعمال مسرحية في (صالاتها) المسرحية وأي نوع من الرقص المعاصر يقدم في صالات الرقص وأي نوع من التعددية الثقافية يصلح لجمهورها وبالتالي (لبرنامجها). وأنا أعني توصيف (قاعاتهم) (صالاتهم المسرحية) (برامجهم) لأنهم وبسبب مواقعهم المهيمنة يمتلكون سلطة قرار ما ينبغي أن يراه المشاهد. إنهم وحدهم من يعرف ما يريده الجمهور وما يمكن تسويقه، وحدهم من يعرف ما هو الشكل الصحيح للتعددية الثقافية، ما هو جيد للجمهور وما هو غير جيد، وهم وحدهم من يفهم ما يحتاجه الأجانب. إنهم، وحدهم وأول الناس وآخر الناس من عرف ويعرف مفهوم ومضمون التعددية الثقافية الحقة!

الطبقة الدهنية هذه هي مستوى رفيع من البيروقراطية الديمقراطية النقية المرتكزة على سلطة حقيقية غير مرئية على ديمقراطية العلاقات الشللية التي لا يمكن لنا نحن الأجانب أن نفهمها كائنا من نكون: فنانين، مهاجرين، عمال.. الخ. فنحن منحدرين من بلدان ذات أنظمة دكتاتورية، ومن ممالك ما قبل التاريخ، ولأننا بالطبع أغبياء وعنيدون وغير قادرين على التعلم. لأننا نرفض التدجين. نرفض أن نندمج في إلية الخروف الشحمية حيث تقبع شرائع وغطرسة الغرب.



#حازم_كمال_الدين (هاشتاغ)       Hazim_Kamaledin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العائلة المقدسة الرقيّم الثاني
- العائلة المقدسة الرقيّم الأول
- العائلة المقدسة - الرقيّم الثالث - الأحـلام


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حازم كمال الدين - النظام المتكرّش