|
العالم الجديد بين طوبا الأمس وواقع اليوم: الصين-عالم
أحمد الحارثي
الحوار المتمدن-العدد: 3164 - 2010 / 10 / 24 - 19:54
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
العالم الجديد بين طوبا الأمس وواقع اليوم(*) (الصين-عالم) أحمد الحارثي شهد العالم في منتصف عقد الستينيات موجات قوية وعنيفة من الاحتجاج والرفض، استهدفت بالأساس مناهضة الرأسمالية في عهدها الإمبريالي المزدهر، وتفكيك العلاقات الاجتماعية السائدة، وتحرير الإنسان من القيود المتنوعة والمركبة التي تكبله في مختلف مناحي حياته الفردية والجماعية. تميزت تلك الموجات الجديدة من الاحتجاج ببعدها الكوني -الذي انصهرت فيه خصوصياتها المحلية؛ وشموليتها وتنوعها، حيث اخترقت كافة حقول وأشكال الممارسة الاجتماعية؛ ثم وضوح وتماسك الرؤى السياسية والمنظومات الفكرية والمرجعيات الإيديولوجية التي وجهتها تحت التأثير القوي للفكر الماركسي. لا يعود هذا الافتتان بالماركسية فقط إلى طبيعتها المناهضة لكل أنواع الاستغلال الطبقي وغير الطبقي، وطموحها إلى إرساء دعائم نظام سياسي واقتصادي واجتماعي بديل، قوامه العدالة والمساواة والحرية؛ مثلما لا يمكن اختزاله في طوبا العالم الجديد أو الإنسان الجديد وحسب؛ بل يرجع جوهريا إلى كونها فلسفة حياة ومنظومة قيم ومنهجية في التحليل، كونية وحداثية بامتياز.
هذه الحركية الاجتماعية الكونية لم تدم حميتها طويلا، وانطفأ لهيبها فجأة مثلما اشتعل؛ لكن فعلها كان عميقا وهيكليا. لم تكن نتائجها السياسية المباشرة في مستوى الطموحات التي حملتها، وتبخرت طوبا العالم الجديد الذي كانت تحلم به، واصطدمت الثورة العنيفة بواقع عنيد جعلها بعيدة الاحتمال والمنال. ومع ذلك ظل تأثيرها الثقافي والفكري والرمزي قويا، واستمرت في الزمن، من جيل لآخر. خمدت نيران التجربة، ووقعت ارتدادات وتراجعات على كافة المستويات -وبخاصة على مستوى المرجعية الإيديولوجية التي اندثرت جاذبيتها-، ثم اختلفت وتنوعت المسارات والمصائر الجماعية والفردية للجيل المؤسس، لكن روح الممانعة والحلم بغد أفضل والوعي بضرورة التغيير لم ولن يخمد جمرهم، مهما تطورت الأمور وخفتت أضواء مشعل الحرية والعدالة الاجتماعية. أدى زعماء التمرد على الأوضاع ثمنا غاليا، سواء في غياهب السجون أو في المنفى الاضطراري، أو في المعاناة اليومية من شراسة القمع والاضطهاد داخل وخارج ساحة المعارك. انزوى جزء من رموزه ورواده إلى الخلف، أو لقي عزاءه في الحقل الثقافي والنضال الحقوقي والبيئي...؛ واندمجت أقلية في المؤسسات وتمكنت من اختراقها واحتلال أعلى مستويات مراكز القرار السياسية. تاه البعض الآخر قبل أن ينخرط في موجة مناهضة العولمة والحركات الاحتجاجية الجديدة المتنامية حاليا؛ في حين تقوقع الجمهور العريض في مواقعه الاجتماعية ولزم الصمت والانتظار. لكن، رغم قلتها، استمرت نخبة من المفكرين والمثقفين والسياسيين في حمل لواء والعمل على تجدد الفكر الماركسي والعقيدة الاشتراكية، أي الانتماء إلى اليسار والمساهمة في تحديثه وتطويره.
شهدت المرحلة التاريخية الممتدة من عقد الستينيات إلى اليوم تحولات كبيرة، كونية ونوعية، شملت مختلف أبعاد الحياة البشرية. خفت إشعاع الإيديولوجيات الثورية ذات المنبع الماركسي، وسطع نجم إيديولوجيات مغايرة غارقة في التقليد والمحافظة أو ذات طابع ثقافوي وعرقي أو بيئي. تراجع فضاء الاقتصاد المنتج تاركا مقاليد الهيمنة بين أيدي الاقتصاد الافتراضي. بزغ عهد التكنولوجيات الجديدة للمعلومة والتواصل، واكتمل معه زمن السرعة وتحدي المسافات. زالت الثنائية القطبية وأضحى العالم تحت هيمنة القطب الواحد. وأفرزت صيرورة العولمة تحديات بشرية جديدة، ليس في مستطاع المنظومات الفكرية والسياسية والمعيارية السائدة مواجهتها. وراء ضجيج الأحداث التي تؤثث المشهد الدولي راهنا، ينمو في أحضان الحضارة الكونية، في محيطها القريب، جنين العالم الجديد القادم؛ عالم توحي به الارتجاجات التي تتمخض من عمق الواقع، والرعشة الدفينة التي تنتاب الغرب من احتمال أفول حضارته الشائخة وانتقال مركز الكون إلى الشرق وبزوغ عهد الحضارة الآسيوية. مصير هذا الأفق المحتمل، سوف تحدده درجة الممانعة الداخلية وقدرات التأثير على موازين القوى في معترك الصراع الدولي. لكن لا يجب الاستهانة بقوة الاقتصاد-عالم (1) الذي تقوده الولايات المتحدة بالإمكانيات الهائلة التي تتوفر عليها، كما ونوعا، في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والعلمية والثقافية.
1. العالم الشائخ أو شيخوخة عالم الحداثة الأصلي
بالأمس، طغت طوبا الثورة العنيفة والمسلحة الهادفة إلى إحداث تغيير جذري للقضاء على النظام الرأسمالي وإرساء دعائم عالم بديل، عالم الاشتراكية والشيوعية. في واقع اليوم، تلوح في الأفق معالم عالم جديد، يتجسد نموذجه الأولي في الصين الشعبية، قد يتغذى بثورات هادئة ومنزوعة السلاح ويقود إلى إضعاف مراكز الهيمنة الرأسمالية التقليدية. رغم الأزمات التي تخنقها بين فينة وأخرى، والتي كادت تعصف بها أحيانا، استطاعت فعلا الرأسمالية العالمية في المركز أن تتطور كي تبلغ أوج مجدها في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الفوارق تفاقمت بين مركز ومحيط النظام الرأسمالي __________________ (*) هذه الدراسة مقتطف من كتاب سيصدر قريبا بالفرنسية. أطروحتها المركزية كانت في البدء عبارة عن تفكير حدسي -مبعثر أحيانا وموجود بين السطور أحيانا أخرى-، راودنا منذ سنوات خلت. وتمت صياغتها بكيفية أكثر انسجاما ووعيا في سنة 2007. أنظر المقال الصادر في العدد 37/38 من مجلة "نوافذ" المخصص لموضوع: "اليسار الثقافي أو ثقافة الاحتجاج والرفض في المغرب السبعيني"، ماي 2008. (1) أنظر فيما يخص هذا المفهوم: - Fernand Braudel, Civilisation matérielle, économie et capitalisme, Armand Colin, Paris, 1979, T 3. - Immanuel Wallerstein, Le capitalisme historique, La Découverte, Paris, 1985 (1ère Edition). العالمي. مع التحولات الكبرى التي يشهدها العالم في زمن العولمة، انبثقت من صلب هذا المحيط المتخلف كوكبة من البلدان التي عرفت كيف تستفيد من المتاح بشريا لتقوية اقتصادياتها؛ وقد تتمكن في المستقبل من اللحاق بدول المركز، بل تجاوزها. ما يحدث اليوم في الصين الشعبية، التي لا زالت تصنف نفسها ضمن الدول النامية، يدل على تحول نوعي، منبعه ليس مركز الرأسمالية العالمية، بل (شبه) محيطها. ويعود الفضل في ذلك إلى التحديث الذي يطال الاشتراكية ذات الخصوصية الصينية.
انتصبت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى عالمية في القرن العشرين، مقتفية آثار المسار التاريخي للحضارة الغربية التي عمر إشعاعها طويلا، مكنها من غمر الكون بأكمله واستعمار مناطق شاسعة منه على امتداد ثلاثة قرون.
1.1. الانطلاقة أو "النهضة الأولى" بدأت في سنة 1492 مع اكتشاف الجنوفي كريستوف كلومب لأمريكا، في تزامن مع سقوط إمارة غرناطة، وبزوغ الاستعمار الإسباني والبرتغالي(2). مفهوم "العالم الجديد" الذي انبثق في هذه اللحظة التاريخية، لا يمكن اختزال معناه في البعد الفضائي، أو الجغرافي ("الاكتشاف")؛ إنه يتعداه ويحمل معه دلالات تاريخية وحضارية، تجسدت في منظومة القيم والأفكار والابتكارات التقنية والعلمية المستحدثة، الخ. في قلب التغيرات التي حدثت في مجالات الاقتصاد والتقنية والسياسة والاجتماع والثقافة، وطالت بتفاوت وسائل وعلاقات الإنتاج، يجب التشديد على التطور الحاسم الذي حصل في ميدان الحربية: السلاح الناري والمدفعية، المشاة (تراجع الخيالة)، الأسطول البحري... إنه عصر ازدهار الرأسمالية التجارية وانتعاش الإمبراطوريات؛ عصر التنافس الشرس من أجل السيطرة على الطرق البحرية، بحثا عن ممر نحو البلدان الهندية، بلدان التوابل الكريمة(3)، وعن استغلال الثروات في ما وراء البحار؛ عصر بداية أفول محور التجارة البعيدة، وانتقال مركز الحضارة إلى شمال بحيرة المتوسط.
مباشرة بعد اكتشاف القارة الجديدة، توالت الرحلات البحرية الاستكشافية وأفضى بعضها إلى إرساء منشآت عابرة أو مستمرة، على امتداد القرن XVI. في بداية القرن الموالي، شرعت أنجلتيرا وفرنسا في إقامة أولى مستعمراتهما، التي تم توسيعها تدريجيا لتشمل مساحات شاسعة ممتدة من السواحل الشمال-أمريكية إلى عمق المناطق المحاذية لها، في حين توطد تواجد إسبانيا والبرتغال في جنوب القارة؛ كانت هناك أيضا مستعمرات صغيرة تابعة لكل من هولندا والسويد وروسيا... نشبت إذاك حروب متعددة: ضد الشعوب الأصلية (حروب الإبادة)، وبين القوات الغازية ذاتها (حروب الإمبراطوريات)، ثم بين هذه الأخيرة والمستوطنين ذوي الأصول الأوروبية (حروب الاستقلال). أودت حروب الإبادة وانتشار الأوبئة المستوردة إلى انهيار عدد السكان الأصليين (Amérindiens) من 84 مليون نسمة في بداية القرن XVI، إلى 12 مليون في مطلع القرن الموالي، ما أدى إلى نقص حاد في اليد العاملة، تم تعويضه نسبيا باللجوء إلى تجارة الرقيق.
بدأت التجارة الغربية للرقيق في سنة 1441 مع إسبانيا والبرتغال، وكانت محصورة في اتجاه شبه الجزيرة الإيبيرية. لكن تاريخ ظهورها الحقيقي يمتزج بتاريخ التجارة المثلثية التي انطلقت في سنة 1513 مع وصول الدفعة الأولى من المعتقلين السود الأفارقة إلى كوبا، سنتين فقط بعد مجيء الاستعمار الإسباني. نمت تدريجيا مع تناسل مزارع المنتوجات الاستوائية وصعود الطلب على اليد العاملة، وبلغت أوج ازدهارها عندما تكسر الاحتكار الهولندي باجتياح أنجلتيرا وفرنسا السواحل الأفريقية في سنة 674(4)، إثر انحطاط العهد الإمبراطوري الاستعماري في البرتغال، ثم في إسبانيا. كان مثلث خطوط الملاحة التجارية الأطلسية يربط بين أوروبا وأفرقيا وأمريكا؛ ويرتكز على حمل وتسويق البضائع الأوروبية في اتجاه القارة السمراء (الأسلحة النارية، الخمور، قضبان الحديد، أصداف، سبائك الرصاص والجاجة، الحلي...)، مقابل شراء الرقيق من أفريقيا وشحنه نحو أمريكا لبيعه، ثم استعمال قيمة البيع لاقتناء المنتوجات الاستوائية (سكر، قهوة، قطن، كاكاو...) الموجهة إلى الأسواق الأوروبية. كانت هناك بعض جيوب التجارة الداخلية للرقيق في وسط أفريقيا؛ وعلى طول الشواطئ الشرقية للقارة كانت تتواجد مراكز التجارة الشرقية للسود، الموجهة نحو الشرق ونحو شرق الشمال الإفريقي. أما مراكز التجارة الغربية لهذه البضاعة الخصوصية فقد كانت تتمحور حول السواحل الغربية لأفريقيا الوسطى. خلال الحقبة الممتدة من 1519 إلى 1867، بلغ عدد السود المعتقلين في اتجاه أمريكا من طرف الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية حوالي 11 مليون، سوقت منهم البرتغال 5 مليون (46 %) في البرازيل، وبريطانيا 3 مليون (28 %)، وفرنسا 1,5 مليون (13%)، وإسبانيا نصف مليون (5 %)، والولايات المتحدة حوالي 280.000 (2,5 %). وصل معدل نسبة الوفيات وسط السود المعتقلين إلى 12% بسبب ما تعرضوا له من معاملة شنيعة، وقساوة وجبروت الربابنة، والشروط الغير إنسانية للرحلات.(5) معظم تجارة الرقيق (90 %) نظم بعد سنة 1672 مع بداية المنعطف الكبير الذي أحدثته حركة الملاحة التجارية البريطانية الفرنسية، وبعد نهاية القرن الذهبي لإسبانيا (1550-1650) وأفول البرتغال (1580-1640). __________________________ (2) احتلت إسبانيا جزر الكناري ما بين 1491 و1497، ثم مليلية سنة 1497. (3) كان الهدف الأصلي لكريستوف كلومب، والعديد ممن قادوا الرحلات البحرية الاستكشافية بعده، البحث عن ممر نحو "الأهناد" (les Indes). من هنا جاءت التسمية التي أعطيت للسكان الأصليين الذين واجهوا الوافدين الجدد وهي "الهنود" ثم "الهنود الحمر"، الخ. (4) سنة 1672 نظمت بريطانيا الشركة الملكية الإفريقية، وسنة 1973 خلقت فرنسا شركة السنغال. (5) أنظر: - Thomas Hugh, La Traite des Noirs, Ed. Robert Lafont, Paris 2006.
ازدهرت الإمبراطورية البريطانية -التي لا تغرب فيها الشمس- بفضل قوة أساطيلها البحرية التي مكنتها من التحكم في طرق الملاحة التجارية وتوسيع نفوذها ما وراء البحار، في أمريكا وآسيا وأفريقيا. عززت عظمتها كأول قوة عالمية على امتداد القرن التاسع عشر، رغم التنافس الحاد الذي ظل قائما بينها وبين كوكبة من الدول الكبرى، خاصة فرنسا التي كانت تلاحقها في العظمة، ثم ألمانيا وروسيا القيصرية، ونسبيا بلجيكا وهولندا واليابان... وباتت، في مطلع القرن الموالي، تبسط سيطرتها على ربع ساكنة العالم (500 مليون نسمة) وربع الأراضي البارزة على سطح المعمورة، رغم صغر جيشها مقارنة مع عظمتها. ثم بدأت تضمحل تدريجيا مع صعود القوى المنافسة لها، وفي مقدمتها ألمانيا، متبوعة بفرنسا، وفيما بعد الولايات المتحدة الأمريكية؛ واستسلمت في الأخير لتترك مكانها للغير.في فترة وجيزة من بداية القرن العشرين، أصبحت ألمانيا أول قوة اقتصادية في العالم، غير أن نفوذها تراجع بسرعة بعد الحرب العالمية الأولى؛ لينبعث من جديد قبل الحرب العالمية الثانية التي أودت إلى القضاء نهائيا على طموحاتها النازية. ما بين الحربين، سطع نجم الولايات المتحدة، وتوطدت شوكة الثورة البلشفية.
2.1. من الواضح أن بلدان أمريكا هي حديثة العهد بالتاريخ: نهاية العصر الوسيط وبداية الاستعمار المباشر. نهضت على أنقاض الحضارات ما قبل الكولومبية المنقرضة تحت نيران الغزاة الأوروبيين المسلحين بعتاد الاكتشافات التقنية والإنجازات الكبرى التي تحققت في منعطف تاريخي نوعي: انتقال مركز صنع التاريخ إلى أوروبا، وميلاد الرأسمالية التجارية (المركنتيلية). استغل المعمرون بجشاعة الخيرات الهائلة المتوفرة، فوق وتحت الأرض، في عالم جديد بكر، خصب وجذاب، شاسع وغني بثرواته وطاقاته. الأهم هنا هو تبيان العلامات الفارقة لنماذج التطور التي عرفتها المجتمعات الأمريكية، في شمال وفي جنوب القارة. بلا شك، كانت المستوطنات الأوروبية في أمريكا تحمل في جوفها إرهاصات وروح النهضة الغربية، وتستند على حصيلة الاكتشافات التقنية والعلمية وغيرها من الإنجازات والأنساق التنظيمية الجديدة. إلا أن تصريف هذا الإرث على أرض الواقع الجديد تم بشكل مشوه ومفكك وهجين؛ حسب خصوصية التجربة التاريخية للموطن الأصلي للغزاة، وحسب حجم ودرجة الممانعة لدى الشعوب المحلية والسود المعتقلين من أفريقيا. قبل عهد الاستقلال، وبعده بقليل، ظل تاريخ بلدان أمريكا محكوما في المجمل بطبيعة وأشكال الصراع ذاته الذي تحكم في مصير الإمبراطوريات الاستعمارية، بتفاوت طبعا في الزمن والمكان، باستثناء ربما الاستغلال المباشر للرقيق -في المزارع والمنازل-، الذي كان العمل به منحصرا في المستعمرات والاتجار فيه حكرا على القوى الاستعمارية. خارج الدائرة التقليدية لإنتاج فائض القيمة (نسبة الربح)، أي على هامش العلاقة بين الرأسمال والعمل، كان يتم، هنا وهناك، جني الزائد الاقتصادي المنبثق عن الريع الإقطاعي والاسترقاق والاحتكار التجاري، وتوظيفه في عجلة التراكم البدائي للرأسمال. ضمن الفروق الدقيقة بين التطور الذي حصل، خاصة بعد الاستقلال، في شمال القارة، وبين نظيره في جنوبها، ثمة خصوصية الإمبراطوريات الغازية ومشروعها المجتمعي. الإشكالية المطروحة هنا تحيل إلى درجة تغلغل فكر النهضة، ونوعية الثورة ضد الإقطاع، وسعة الثورة الصناعية في كل إمبراطورية على حدة؛ وقد تكشف هذه العناصر عن مفارقات التاريخ. فإيطاليا مثلا هي الموطن الأصلي للنهضة الأوروبية، وأول بلد تعرف على الرأسمالية التجارية، لكنها آخر من استلهم جوهر النظام الرأسمالي: التراكم بالارتكاز على العلاقة الأجرية؛ وبناء الدولة-الوطن. لأنها لم تحسم جذريا مع نسق الإمارات الذي ظلت بقاياه حية تفعل في النسيج السياسي وتحول دون تماسك واستقرار الدولة الموحدة. ونفس الإعاقة حجزت التحول في إسبانيا والبرتغال، جراء الارتهان بالمركنتيلية والاعتماد على النهب واكتناز الثروات والريع والمضاربة، واجترار بقايا الإقطاع. أما بريطانيا، ووراءها فرنسا وألمانيا، فقد استوعبت مبكرا روح النهضة، وأسست الدولة الوطنية على قاعدة الليبرالية والسوق الرأسمالية.
دون التقليل من أهمية الثروات والطاقات الإنتاجية الهائلة المتوفرة لديها، وكذا الثورة العظيمة التي قامت بها، يتمثل العامل الجوهري الذي حكم خصوصية التحول في الولايات المتحدة الأمريكية، وبدرجة أقل في كندا، في طبيعتها كمستعمرات استيطانية سابقة لبريطانيا، مهد الثورة الصناعية، وأكبر دولة في العالم آنئذ.(6) ميزة الثورة الأمريكية هي أنها كانت مسلحة ومركبة الأبعاد. إنها حرب التحرير الوطنية (1775-1783) الأولى في التاريخ الحديث؛ وحرب تحررية (1812-1815) طردت المحتل البريطاني والإمبراطوريات التقليدية من شمال القارة؛ ثم حرب أهلية (1815-1861) فريدة من نوعها، قامت مقام الثورة على الإقطاع رغم أنها كانت شكليا ضد الاسترقاق، مستلهمة بذلك روح فكر الأنوار. من ناحية أخرى، رافقتها حروب توسعية شرسة، ضد السكان الأصليين الذين أبيدوا وطردوا من أراضيهم (7)، وضد المكسيك (1846-1848) التي انتزع منها ثلث ترابها، وكذا الهجوم أو الاندفاع نحو الذهب وغزو الغرب (1849). هكذا، زيادة على شراء لويزيانا الغربية من نابليون بثمن 15 مليون دولار سنة 1803، وألاسكا من الروس بثمن 7,2 مليون في سنة 1867، امتد التوسع ليشمل المناطق الشاسعة في الشمال الغربي، والجنوب الغربي (فلوريدا)، والجنوب الشرقي (تكساس)، التي كانت تقع على التوالي تحت نفوذ بريطانيا وإسبانيا والمكسيك. أما حادثة الحرب ضد إسبانيا (1898) فقد أدت إلى استقلال كوبا، وإلى إحكام سيطرة الولايات المتحدة على الكراييب والبحر الهادئ عبر احتلالها للفيليبين وبورتوريكو وجزيرة غوام. ____________________ (6) نفس الأمر ينطبق إلى حد ما على أفريقيا الجنوبية وإسرائيل... (7) طرد في سنة 1826 حوالي 70.000 "هندي" نحو غرب الميسيسيبي، وقتل 4.000 شيروكي.
. 3.1. رغم انعزاليتها التقليدية، اتجاه أوروبا على وجه الخصوص، ما برحت الولايات المتحدة تفرض مهابتها وتقوي مكانتها على الساحة الدولية(8). تأتت لها فرصة ذهبية لبسط هيمنتها في عهد الإمبريالية الجديدة، عندما تعمق التناقض والصراع بين الإمبراطوريات التي فجرت الحرب العالمية الأولى (1914-1918). اضطرت إلى دخول الحرب في أبريل 1917 لما نفذت ألمانيا قرارها القاضي بشن حرب غائصة غير محدودة ضد الملاحة؛ وقلبت ميزان القوى لصالح الحلفاء. في أكتوبر 1917، قامت الثورة البلشفية وانسحبت روسيا من الحرب بعد المفاوضات من أجل السلام التي أطلقها لينين وأودت إلى الهدنة.(9) قبل أن تلقي الحرب أوزارها، كانت الولايات المتحدة قد خططت لما بعدها في البرنامج الذي قدمه الرئيس ولسون في خطابه أمام الكونغرس الأمريكي يوم 8 يناير 1918، والذي تم إدماج جزء هام منه في معاهدة فرساي الموقعة في 28 يونيو 1919. يتضمن هذا البرنامج أربع عشرة نقطة، أهمها: وضع حد للدبلوماسية السرية، حرية الملاحة التجارية وإزالة الحواجز الاقتصادية، تخفيض التسلح، تحديد جغرافيا سياسية جديدة في أوروبا، تحميل ألمانيا المسؤولية التامة عن خسائر الحرب، خلق مؤسسة دولية لتفادي الحروب (عصبة الأمم).
خلفت هذه الحرب الشرسة -التي شارك فيها أكثر من 60 مليون جندي- حوالي 9 مليون قتيل و8 مليون معطوب، وكارثة اقتصادية وعمرانية. وأحدثت تقلبات عميقة في الخريطة الجغرافية/السياسية، غيرت مجرى القرن العشرين؛ إذ أدت إلى انمحاء الإمبراطورية الألمانية وانهيار الإمبراطوريات النمساوية-المجرية والروسية والعثمانية.(10) رغم الصعوبات، نجحت الجهود المبذولة من أجل إعادة البناء الاقتصادي في فتح مرحلة من النماء والرخاء امتدت إلى حدود انفجار أزمة 1929 في سوق البورصة بنيويورك، التي هزت اقتصاديات العالم. لمواجهة الكوارث الناجمة عن هذه الأزمة الكبرى، اقترح الرئيس الأمريكي روزفلت، الذي انتخب في سنة 1932، سياسة اقتصادية جديدة (New Deal) تركز على الاستثمارات العمومية (الأشغال الكبرى) من أجل تحقيق النماء والتشغيل الكامل، وتضع أسس الدولة الراعية (Welfare State). إننا إزاء تدشين وتعميم السياسة "الكينيزية" التي سادت إلى حدود أزمة السبعينيات حيث سيتزاوج الركود بالتضخم (Stagflation).
طبقت الجمهورية الاشتراكية الفيدرالية السوفييتية لروسيا "شيوعية الحرب" (1918-1921) بتأميم الصناعة والتجارة، والتخطيط، والتموين. فشل التجربة دفع لينين إلى تنفيذ "السياسة الاقتصادية الجديدة" (NEP) في الاتحاد السوفييتي الذي تأسس بعد انتصار البلاشفة في 22 دجنبر 1922. استهدفت هذه السياسة، التي لم تدم طويلا (1921-1929)، تحرير الاقتصاد نسبيا للنهوض به والقضاء على المجاعة التي حصدت أرواح 5 مليون شخص، وشرعنة حق الملكية الخاصة المحدودة لجلب دعم الفلاحين للثورة، الخ. إلا أنه تم التخلي عنها عمليا مع وفاة لينين في 1924، وأقبرت بنجاح ستالين في حسم الصراع من أجل السلطة لصالحه، ووضع المخطط الخماسي الأول (1928/1932) الذي قعد خيار الصناعات الثقيلة. وإذ أدى التصدير الإجباري للقمح وتقلص الإنتاجية إلى مجاعة 1932/1933، فإن إنتاج الفحم الحجري تضاعف، وإنتاج الفولاذ تثلث. على الصعيد السياسي، تمكن ستالين من فرض التسلط وإرساء نظام شمولي بلغ أوجه مع التصفية الكبرى لمعارضيه (1936-1940)، التي أعدم خلالها حوالي 680 ألف شخص. في ميدان السياسة الخارجية اتجه الاتحاد السوفييتي نحو تعزيز مده التوسعي ببرم الاتفاق الجرماني السوفييتي (23 غشت 1939)، الذي نص في ملحق سري على تقسيم شرق بولونيا ولطونيا وإستونيا وفنلندا وأوكرانيا/ملدوفيا (Bessarabie) لضمها إلى السوفييت؛ وغرب بولونيا ورومانيا وليتوانيا لإلحاقها بألمانيا. في 1940 خلقت بالفعل أربع جمهوريات سوفييتية: إستونيا وليطونيا وليتوانيا وملدوفيا، فضلا عن توسيع روسيا البيضاء وأوكرانيا غربا بضم الأراضي التي نزعت من بولونيا. هكذا استعاد الاتحاد السوفييتي تراب الإمبراطورية الروسية، باستثناء بولونيا وفنلندا، وأضحى يغطي سدس الأراضي البارزة في المعمورة، بمساحة تغطي 22,4مليون كلم2.
برزت النازية كإيديولوجيا وبرنامج في ألمانيا سنة 1920 مع تأسيس "الحزب العمالي الألماني"، الذي سمي "الحزب الوطني-الاشتراكي للعمال الألمان". بعد الانقلاب الفاشل لسنة 1926، صدر كتاب "كفاحي" الذي ألفه هيتلر في السجن. لما ولج هيتلر المستشارية في 30 يناير 1933، منع الأحزاب وفرض الحزب الوحيد في 14 يوليوز 1933. أما الفاشية فقد أحكمت سيطرتها على إيطاليا منذ تسلم موسولوني الحكم من الملك فيكتور إمانويل الثالث في 28 أكتوبر 922، إثر مسيرة "الأقمصة السوداء" الذين لم يكن يتجاوز عددهم 26.000 شخص.
على قاعدة مجموع هذه الوقائع، احتد الصراع الرامي إلى إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للعالم، مؤديا إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية (سبتمبر 1939/سبتمبر 1945). أودت هذه الحرب إلى القضاء النهائي على العدو واستسلامه؛ وبسط المنتصر -الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة- سيطرته على الكون بأكمله. فتحت مرحلة تاريخية _________________ (8) في موضوع الحروب الحديثة وهيمنة الولايات المتحدة، أنظر: - Raymond Aron, Paix et guerres entre les nations, Calman-Levy, Paris, 1963. - Raymond Aron, République impériale. Les Etats-Unis dans le monde (1945-1972), Calman-Levy, Paris, 1973 (9) في 2 نونبر 1917، تم الإعلان عن وعد بلفور. إنه عبارة عن رسالة مفتوحة تتضمن ثلاث فقرات فقط، وجهها باسم المملكة المتحدة وزير الخارجية اللورد أرثور جامز بلفور (Arthur James Balfour) إلى اللورد ولتر روتشيلد (Lionel Walter Rothschild) الذي كان يمثل الفيدرالية الصهيونية في بريطانيا، يعلن فيها عن ّالتعاطف مع الطموحات الصهيونية" واعتزام الحكومة البريطانية زرع "موطن للشعب اليهودي في فلسطين، واستعمالها لكل مجهوداتها لتسهيل تحقيق هذا الهدف." وقد تم تحرير هذه الرسالة/الوعد بتواطؤ رئيس الفيدرالية الصهيونية آنئذ فايزمان (Chaim Weizmann) الذي سيصبح رئيس دولة الكيان الإسرائيلي التي خلقت بتاريخ 14 ماي 1948. (10) انتقل عدد الدول من 53 سنة 1914 إلى حوالي 63 بعد سنة 1925.
نوعية وكثيفة، تعنون "الثنائية القطبية" أو "الحرب الباردة" (1946-1991)، وتم التعجيل برحيل الاستعمار من آسيا والعالم العربي وأفريقيا. نشبت الحرب العالمية الكبرى على خلفية نزاعات إقليمية: حرب إسبانيا (18/7/1936)، وحرب الصين (7/7/1937)، ثم حرب بولونيا (1/9/1939). كانت أسبابها متعددة، أهمها الأحقاد التي ولدتها الحرب العالمية الأولى، سياسات التسلح المتبعة للخروج من أزمة 1929، الطموحات التوسعية والعنصرية، رغبة ألمانيا النازية في استرجاع "مجالها الحيوي" وبسط سيطرتها على أوروبا. خلفت هذه الحرب، التي جندت 100 مليون مقاتل و61 دولة، ضحايا في الأرواح تعدادهم 62 مليون شخص أغلبهم مدنيون، وخسائر مادية جسيمة. باستثناء التحالف بين ألمانيا واليابان وإيطاليا، الذي توج بالتوقيع على الميثاق الثلاثي في 27 سبتمبر 1940، والوفاق بين بريطانيا وفرنسا، لم يكن اصطفاف الأعداء واضحا وثابتا؛ بل ظل غامضا ومتحركا حسب المصالح الآنية أو البعيدة للأطراف المتصارعة. احتلت ألمانيا النازية بولونيا، وشنت حربا خاطفة في ربيع عام 1940 على كل من الدنمارك والنرويج وهولندا وبلجيكا واللوكسمبورغ؛ وألحقت في يونيو الهزيمة بفرنسا التي انهار جيشها بسرعة، إلى حد جعل بريطانيا تسحب بصعوبة 300.000 جندي تحت الحصار في مدينة دانكيرك. صيف عام 1941، بعد فقدانها الأمل في النيل من بريطانيا التي صمدت بفضل قوة أسطولها الحربي البحري أمام القصف الجوي الكثيف لمدنها، هاجمت ألمانيا فجأة الاتحاد السوفييتي -رغم عهد عدم الاعتداء المبرم بين البلدين- الذي وجد نفسه في معسكر الحلفاء. لكن الجيش الألماني سوف يقع مرة أخرى في مستنقع الأوحال والثلوج والبرد حيث سيوقف زحفه في الشتاء القارس على مقرية من موسكو، ويظل محصورا أمام أبواب لينينغراد التي خضعت لحصار دام 30 شهرا مخلفا وراءه مقتل 700.000 شخص ضحية الجوع. كان الاتحاد السوفييتي قد نجح في الحفاظ على قوته وبنيته الصناعية (10 ملايين من العمال وآلاف المصانع) بنقلها في نظام تام إلى شرق الأورال، قبل أن تخطط القيادة العسكرية استراتيجية الحرب: استدراج الجيش النازي وتعطيل زحفه وإنهاكه قبل الاحتكاك به. هكذا، رفض ستالين مغادرة موسكو بيد ما كان الجيش النازي على مقربة من الكريملين بعشرين كيلومتر؛ وواجه الجيش الأحمر العدو بمقاومة باسلة وروح وطنية عالية في معارك شرسة وحرب حامية الوطيس، ليذيقه طعم الهزيمة.
بحكم انبعاث عقيدتها الانعزالية من جديد في عهد روزفلت، ظلت الولايات المتحدة قرابة ثلاث سنوات خارج ساحة الحرب، واكتفت بتقديم الدعم المادي واللوجستيكي والعسكري للحلفاء. إلا أنها أرغمت على دخول الحرب في 7 دجنبر 1941 إثر الهجوم المفاجئ لليابان على قاعدتها البحرية "بيرل هربور" (Pearl Harbor) في شبه جزيرة هاواي وسط المحيط الهادئ. خلف هذا الهجوم على الأسطول الأمريكي في الميناء وضواحيه 2403 قتيل بينهم 68 مدني، وخسائر مادية كبيرة.(11) مباشرة بعد هذا الهجوم، احتلت اليابان الفيليبين والهند الشرقية التابعة لهولندا ثم سنغفورة.
ساهمت الولايات المتحدة نسبيا في تغيير مجرى الحرب والحسم في مخرجها. إذ لولا التضحيات العظيمة والصمود المجيد للاتحاد السوفييتي على الجبهة الشرقية لكان مصير التاريخ والعالم مغايرا تماما لما هو عليه اليوم. فالجيش الأحمر تحمل لوحده مجهود الحرب ضد النازية لمدة طويلة، ظل خلالها ستالين ينادي دون جدوى الحلفاء بفتح الجبهة الغربية. بعد تردد كبير، ودون النزول عند طلب الاتحاد السوفييتي بتخفيف حدة الضغط عليه في الجبهة الشرقية، اختار روزفلت وتشرشل جنوب المتوسط لإنزال القوى الحليفة في المغرب والجزائر (8/11/1942). ولم يتم فتح الجبهة الثانية إلا في 6 يونيو 1944 بالإنزال التاريخي على شواطئ النورمندي، الذي جندت له 4126 سفينة. والحال أن الجيش الأحمر كان قد ألحق هزيمة نكراء بالألمان في لينينغراد أرغمتهم على الاستسلام يوم 30 يناير 1943، واعتقل 91.000 جندي ألماني منهم الماريشال باولوس (Paulus). ثم تقدم نحو الغرب لتحرير كييف (نونبر 1943) ولينينغراد (يناير 1944)، واستعاد روسيا البيضاء (يونيو 1944)، وصولا إلى باب فرسوفيا؛ واضعا بذلك 85% من الجنود الألمان خارج المعركة. تحررت باريس المتمردة يوم 25 غشت 1944. المنتصر الكبير حقا ضد هيتلر هو ستالين؛ لكن الاتحاد السوفييتي دفع الثمن غاليا مقابل هذا الانتصار، إذ تكبد خسائر ضخمة في الأرواح تجاوزت 26 مليون قتيل(11)، وأضرار مادية عظيمة بلغ حجمها ضعف مبلغ الاستثمارات في كل من المخطط الأول والثاني لسنوات الثلاثينيات. دخل السوفييت برلين في 30 أبريل 1945، وفي نفس اليوم وضع هتلر حدا لحياته. وألقت الحرب أوزارها بعد أن قصفت الولايات المتحدة هيروشيما ونكازاكي بالقنبلة الذرية يومي 6 و9 غشت 1945.(13) ______________________ (11) إذ دمرت بالكامل 4 بوارج حربية زيادة على 4 أخرى خاسرة، 3 مدمرات (destroyers)، 3 طرادات (croiseurs)، و188 طائرة إضافة إلى 150 أخرى معطوبة. بالنسبة لليابان، كانت الخسائر كالتالي: 64 قتيل، 29 طائرة و5 غواصات صغيرة. (12) حسب التقديرات السوفييتية. وتتحدث بعض التقديرات الأخرى عن 30 مليون فقيد. ثمة تضارب كبير بين التقديرات حول الخسائر البشرية للحرب، يستدعي وضع عامل موازنة. حسب أغلبية المصادر الغربية، كان عدد الخسائر البشرية الكلية متبوع بعدد العساكر (بين قوسين) على التوالي هكذا في البلدان التالية. الاتحاد السوفييتي: 21 مليون (13,6 مليون)؛ الصين: 20 مليون (4 مليون)؛ ألمانيا: 7 مليون (3,25 مليون)؛ اليابان: 2 مليون (300.000)؛ الولايات المتحدة الأمريكية: 418.500 (416.800)؛ فرنسا: 541.000 (238.000)؛ بولونيا: 5,82 مليون (320.000 ... (13) فيما يخص الأحداث الكبرى وسياقها التاريخي خلال القرن الماضي، أنظر مثلا: - Serge Bernstein, Pierre Mitza (dir.), Histoire du XX ème siècle, (2 vol.), Hatier, Paris, 1996 et 1998.
2. طوبا العالم الجديد: الثورة الفاشلة الطوبا هي تصوير مثال أعلى، تصور واقع مثالي وخالص، حلم عالم الكمال الذي لا تشوبه عيوب، والرغبة في تحقيقه. لكن ارتباط المثل بالواقع والحلم بالفعل يطرح معضلة.
تمتد جذور الخيالية إلى عهد الفلسفة الإغريقية القديمة، إذ تجلت في المدينة الفاضلة التي رسم معالمها أفلاطون.(14) ثم اكتست فيما بعد لبوسا دينية متنوعة على امتداد قرون من الزمن؛ كي تنبعث بشكل مغاير وخصوصي، أكثر جلاء ونسقية، في التاريخ الحديث. البداية كانت مع طوماس مور (1478-1535)، بعد انطلاق عصر النهضة وبروز الآثار الفاسدة للرأسمالية وهي قيد التشكل، في مرحلة التراكم البدائي. ووجب انتظار القرن التاسع عشر كي تبلغ الطوباوية أوج ازدهارها مع نمو الفكر الاشتراكي وتنوع مشاريعه الكبرى، لكنها سوف تتراجع تحت سلاح النقد اللاذع الذي وجهه صوبها ماركس(15)، وأمام بديل الاشتراكية العلمية الماركسية. انتشرت الفلسفة الطوباوية والفوضوية بفضل مفكرين مرموقين أمثال سان سيمون (1760-1835)، روبير آون (1771-1837)، شارل فوريي (1772-1837)، بيير جوزف برودون (1809-1885) وغيرهم كثير. يتلخص النموذج العملي للاشتراكية المنشودة من طرف هؤلاء في خلق كمونات قروية وتعاونيات صناعية عبر مختلف أنحاء العالم، قوامها الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج وغياب التبادل السلعي والعملة، وذلك ليس خارج النظام الرأسمالي بل داخله. تتنوع النماذج الطوباوية حسب المشاريع المقترحة، إذ نجد المجتمع المثالي المكون من بضع عشرات المدن تدبر بنفس الطريقة وتتاجر حصرا مع الخارج لجني الاحتياطي اللازم من الذهب لتمويل الحرب (مان)؛ والمصنع النموذجي الذي تسيره التعاونية والنقابات (آون)؛ و"الفلانسطير" الذي هو عبارة عن جمعية كبيرة يعيش فيها العمال جماعيا أو فندق تعاوني يتسع لـ 400 عائلة أو 2000 شخص على مساحة 400 هكتار من الغلة والورود (فوريي)؛ والاتحادية ذاتية التسيير (برودون)؛ الخ.
من صلب مختلف التصورات الاشتراكية والشيوعية، وفي قلب الجدل الفكري والصراع الاجتماعي والسياسي، استطاعت الماركسية أن تشق طريق الاشتراكية العلمية وتصوغ المشروع الثوري الكبير للتغيير. هدفه الإطاحة بالنظام الرأسمالي في معقله؛ أداته الحزب الشيوعي المنظم، حزب البروليتاريا؛ وسيلته العنف الثوري؛ بعده أممي.
عكس ما كان يتوقعه ماركس، اندلعت الثورة ضد الرأسمالية خارج أوطانها الأصلية، في بلد شبه إقطاعي: روسيا القيصرية. إذ تمكن البلاشفة من التحكم في مجرى ثورة أكتوبر 1917، وتحقيق أول تجسيد واقعي لطوبا الاشتراكية، وديكتاتورية البروليتاريا. شكلت الطبقة العاملة بالفعل الركيزة الأساس التي اعتمدت عليها الثورة البلشفية، وكانت طبقة الفلاحين حليفة لها. كما كان يقول لينين(16)، مهمة الثورة في روسيا هي الإطاحة بالمعقل الرجعي الأكثر قوة في أوروبا وآسيا، وجعل البروليتاريا الروسية طليعة البروليتاريا العالمية. غير أن ما آلت إليه الثورة البلشفية بعد وفاة قائدها لينين، كشف مفاسد الحكم الشمولي وتوجهاته التحريفية، ومساوئ الصرامة والتشدد في تنفيذ المخططات الخماسية الثلاثة الأولى. والحال أن لينين اقتنع مبكرا بضرورة التدرج في عملية بناء الاشتراكية، والقبول بنوع من التسوية التاريخية مع الفلاحين ونظام الملكية الخاصة.
مع بداية الحرب الباردة، ذهب زمن "الاشتراكية في بلد وحيد"؛ إذ فضلا عن تصدير النظام الاشتراكي إلى بلدان أوروبا الشرقية، قامت الثورة الصينية في 1948. تكمن خصوصية هذه الثورة في ارتكازها على قاعدة اجتماعية قروية بالأساس، وما زال إلى حد الآن الحزب الشيوعي الصيني يحافظ على المصالح الحيوية لطبقة الفلاحين. على الصعيد الإيديولوجي، انتعشت الماركسية اللينينية وتوسع مجال تأثيرها العالمي بفضل الماوية التي كان لها وقع خاص في انبعاث القروية الجديدة والتقاليد التشييعية (الجماعية) خلال مرحلة الستينيات والسبعينيات. وكان الاتحاد السوفييتي والستالينية عرضة للانتقادات الشديدة على المستوى السياسي (الشمولية) والإيديولوجي (التحريفية)؛ وظل نموذجه الاقتصادي محط نقد قوي (رأسمالية الدولة، الرأسمالية الاحتكارية للدولة...). في المقابل، أصبح نموذج الجمهورية الشعبية الصينية في ظل الماوية أكثر إغراء، خاصة على الصعيدين السياسي والإيديولوجي.
1.2. كانت حرب كوريا (1950-1953) أول مواجهة بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي؛ وجاءت نتيجة الإعلان المتلازم في صيف 1948 عن الجمهوريتين الكوريتين: الأولى في الجنوب (سيول)، موالية للغرب؛ والثانية في الشمال (بيوغ يانغ)، يدعمها الشرق. اشتعلت الحرب يوم 25 يونيو عندما تجاوز جيش كوريا الشعبية الخط الثامن والثلاثين الفاصل بين الدولتين، ليصل ثلاثة أيام بعد ذلك إلى سيول. على إثر هذا الهجوم المفاجئ والخاطف، استدعى الرئيس الأمريكي هاري ترومان مجلس الأمن الأممي -مستغلا غياب الاتحاد السوفييتي-؛ وتم تعيين الجنرال دوغلاس ماك أرثور (Douglas Mc Arthur) قائدا للعساكر الأمريكية والأممية الوافدة إلى المنطقة لمساندة فيالق كوريا الجنوبية. في حين اكتفى الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية بدعم غير رسمي لجيش كوريا الشمالية. غيرت الهجمة المضادة التي نظمها الجنرال أرثور مجرى الحرب، وأدت ليس إلى استعادة سيول في بداية الخريف وحسب، بل إلى احتلال معظم أراضي ________________ (14) أنظر: - Platon, La république, Flammarion, Paris, 1966. (15) أنظر على وجه الخصوص: - Karl Marx, Misère de la philosophie, Editions sociales, Paris, 1972. (16) أنظر: مجلة "نوافذ"، العدد 16 (يونيو 2002)، المخصص لكتاب لينين "ما العمل؟ في ذكراه المائة.
الشمال، حتى تخوم الحدود الصينية. إلا أن الدعم الذي قدمته العناصر المتطوعة الصينية، ذات الخبرة والقدرات القتالية العالية، كان له دور حاسم في صد هذا الهجوم وإكراه العدو إلى التراجع، ثم إسقاط سيول من جديد في بداية عام 1951. أمام هذا المنعطف الخطير، بدأ التخوف من الانزلاق نحو إشعال فتيل حرب عالمية ثالثة، خاصة وأن الجنرال أرثور -الذي أعاد بعض التوازن للمعارك- كان يريد توسيع دائرة النزاع ليطال الصين الشعبية، ولو تطلب ذلك استعمال السلاح النووي! رفض الرئيس ترومان هذا التوجه وجرد الجنرال من وظائفه. واستقر الوضع الترابي للكوريتين في النهاية على ما كان عليه تقريبا قبل اندلاع الحرب. توزع عدد القتلى في الحرب الهندية الصينية الأولى كما يلي: 629 ألف جندي أممي، 54.246 أمريكي؛ مليون كوري جنوبي؛ 2 مليون كوري شمالي وصيني.
تندرج حرب الفييتنام (1959-1974) ضمن صيرورة تاريخية متميزة، تحكم فيها العامل الدولي ربما أكثر من الوطني. ترجع أسباب هذه الحرب إلى مخلفات تدخل اليابان لجلاء القوات الفرنسية الذي أودى إلى استقلال البلد، وحرب الهند الصينية الأولى (1946-1954) التي اختتمت باندحار الاستعمار الفرنسي، وانتشار المد الشيوعي الذي أثار حفيظة الولايات المتحدة في ظل الحرب الباردة. إنها إذن حرب استعمارية أريد لها أن تتحول إلى حرب أهلية، وحرب تحرير وطنية، وثورة ضد الرجعية المحلية. في 9 مارس 1945، قامت اليابان بهجمة عسكرية خاطفة على فرنسا وطردتها من الهند الصينية في اليوم الموالي، ثم أعلنت مباشرة استقلال البلد، محتفظة بالإمبراطور باو داي (Bao Daï). نتج عن هذا التحول المفاجئ فراغ في الحكم وسباق محموم من أجل السلطة؛ وحدثت ثورة غشت 1945 التي قام بها الفييت مينه (Viet Minh) وتوجت باعتزال باو داي وتأسيس الجمهورية الديمقراطية الفييتنامية من طرف هو شي مينه (Hô Chi Minh) في هانوي بتاريخ 2 شتنبر 1945. بعد نهاية الحرب العالمية، حاولت فرنسا استعادة سيطرتها على الهند الصينية، وقصفت ميناء هايفونغ يوم 23 نونبر 1946، شمال شرق البلاد. انفجر في وجهها إذ ذاك تمرد عام قاده الفييت مينه، تحول إلى حرب عصابات، ثم إلى حرب نظامية بين جيشين لما دخلت على الخط الصين الشعبية والولايات المتحدة. أنهيت حرب الهند الصينية بعد هزيمة فرنسا في معركة دين بين فو (Diên Biên Phu) الشهيرة (13 مارس-8 ماي 1954) التي أرغمتها على طلب الهدنة. واغتنمت فرنسا الهدنة لتسحب جنودها من الشمال، كي تكلف -بضغط أمريكي- الإمبراطور باو داي بخلق دولة في سايغون، وتعين في يوليوز 1954 نغو دينه دييم (Ngô Dinh Dièm) رئيسا للحكومة. في 20 غشت 1954 أبرمت اتفاقيات جنيف التي فصلت بين شمال الفييتنام وجنوبه بالخط العرضي السبعة عشر. ثم ما لبث دييم أن نحى باو باستفتاء مغشوش، ليعلن قيام الجمهورية الفييتنامية يوم 24 أكتوبر 1955، ويضعها تحت السيطرة العسكرية الكاملة للولايات المتحدة. هكذا تحولت الفييتنام إلى أحد المواقع الاستراتيجية الساخنة للحرب الباردة؛ وما كاد التقسيم يستقر نسبيا خلال فترة وجيزة من الهدنة حتى أدى إلى استئناف النزاع، وإلى التدخل المباشر للولايات المتحدة التي أدرجت حرب الفييتنام ضمن منطق الحرب الباردة ونظرية كبح المد الشيوعي. ففي نهاية 1956 أدغل من جديد الفييت مينه في الجنوب؛ واستولوا في بداية سنة 1959 على العديد من الأسلحة، زيادة على العتاد الذي يصلهم عبر منعرجات درب هو شي مينه. في نفس هذه السنة عززت الولايات المتحدة تواجدها العسكري بقواعد وبعثات عسكرية جديدة. هكذا نشبت حرب الصين الهندية الثانية واشتدت نيرانها بسرعة. مع نهاية 1960 ولدت الجبهة الوطنية للتحرير(17). وخلق الجيش الأمريكي قيادته العسكرية في سايغون (فبراير 1962)، وكثف القصف الجوي وعمليات التمشيط، قبل أن يخوض الحرب البرية في الشمال (1964) الذي أسقط عليه في غضون 38 أشهر نصف مليون طن من القنابل بما فيها النابالم، ثم في الجنوب (1965). ودخلت الحرب في منعطف حاسم خلال السنوات الثلاث الموالية. انخرط الجيش الأمريكي لأول مرة في "مثلث الحديد" (Triangle de Fer) شمال غرب سايغون في مطلع عام 1967. سنة بعد ذلك، أطلق الجنرال جياب هجوم "طيت" (Têt) الذي استهدف 105 مدينة في الجنوب، وحقق نجاحا سياسيا ومعنويا رغم فشله العسكري. خلال هذه السنة بالذات كان الجيش الأمريكي يتكبد 100 قتيل في الأسبوع. هذا وقد لعب اليسار الجديد والحركات الاحتجاجية العالمية دورا كبيرا في التنديد بهذه الحرب الشرسة وغير العادلة، وكذا وسائل الإعلام الحديثة(18). في عام 1969، بدأت الولايات المتحدة تنهج سياسة التخلص البطيء من الحرب، كي تسحب جنودها من ساحة المعارك في صيف 1972. أثناء ذلك، نظم الجيش الشعبي الفييتنامي الهجوم العام الذي توج بسقوط سايغون(19) يوم 30 أبريل 1975 وإعادة توحيد البلاد في 2 يوليوز 1976 تحت لواء الجمهورية الاشتراكية للفييتنام. لقي حتفه في هذه الحرب مليون من المقاتلين الشيوعيين و4 مليون من المدنيين؛ مقابل 255 ألف من العساكر و430 ألف مدني لدى كوريا الجنوبية، زيادة على 58.217 جندي وحوالي 303 ألف من الجرحى لدى الولايات المتحدة. وخسرت هذه الأخيرة 3.719 طائرة وقرابة 5.000 طائرة مروحية.(20)
2.2. بدأت نهاية العهد الكولونيالي مع الظهور الرسمي لقطب ثالث في مؤتمر باندونغ (Bandung) الذي انعقد في ربيع سنة 1955: إنه "العالم الثلث".(21) الفضل في نجاح أشغال المؤتمر يعود إلى الحنكة الدبلوماسية _______________________ (17) اشتهرت بتسمية "الفييت كونغ" (Viêt Cong) التي أذاعها خصومها. لمواجهة نظام دييم الديكتاتوري بالسلاح. (18) حرب الفييتنام هي أول حرب متلفزة. (19) ستسمى مدينة هو شي مينه. (20) أنظر فيما يتعلق بحرب الفييتنام: - Hannah Arendt, Du mensonge à la violence, Calman-Levy, Paris, 2003. أنظر أيضا: - Ho Chi Minh, Action et révolution(1920-1967), UGE, 10/18, Paris, 1968. (21) أنظر: - Catherine Coquery-Vidrovitch (dir.), Connaissance du Tiers-Monde, UGE, 10/18, Paris, 1978. - Jean Lacouture, Bandung ou la fin de l’ère coloniale, in Le Monde Diplomatique, avril 2005, Paris
للوزير الأول الصيني شو أنلاي (Zhou Enlai)، الزعيم الحقيقي لهذا الحدث التاريخي، لأنه استطاع لم شمل ورص صفوف الزعماء المشاركين وتفادي أي انزلاق نحو الاصطدام مع القوى العظمى، وخاصة الولايات المتحدة. نتج عن هذا المؤتمر، الذي شاركت فيه 29 دولة و30 حركة تحرر وطنية، تغيير ملموس لموازين القوى الدولية، وتصاعد نفوذ الصين. وفي سبتمبر 1961، تأسست في بلغراد منظمة سياسية دولية تنشد الحيادية.
شهد الاقتصاد العالمي خلال المرحلة الممتدة من الخمسينيات إلى حدود السبعينيات ازدهارا لا مثيل له في السابق، بفضل التقدم التقني والصناعات الرائدة. تطور تصدير وتدويل الرأسمال على نطاق واسع عبر الشركات العملاقة، وهيمن المال على الصناعة، وخضع العمل إلى تقسيم دولي جديد وإلى تنظيم أكثر إنتاجية داخل المصانع. كان النموذج الاقتصادي المعتمد يرتكز بالأساس على تشجيع الطلب الداخلي والحماية الاجتماعية في ظل الدولة الراعية، وانتشرت القيم الاستهلاكية والاستلاب الثقافي والفردانية. بموازاة ذلك، تركزت الثروة في يد الأقلية، وتفاقمت الهوة بين الأغنياء والفقراء، وبين الشمال المشبع بالثراء والجنوب المثخن بالتخلف والمجاعة والأمراض. على المستوى السياسي، ظلت أجواء الحرب الباردة طاغية، وارتفع عدد النزاعات الدولتية المسلحة، واحتد الصراع من أجل السلطة، وذلك في معظم بلدان العالم.
في منتصف الستينيات، انطلقت فجأة حركات الاحتجاج والرفض من الولايات المتحدة لتجتاح العالم بأسره. كانت جامعة بيركلي أول مسرح للتمرد الطلابي المندد بحرب الفييتنام والعنصرية والمنبهر بالنموذج الغفاري لحرب العصابات. وطرأ تحول مثير وسط حركة السود، إذ تجاوزت استراتيجية العصيان المدني لتعانق الكفاح المسلح ضمن خط سياسي راديكالي. تجسد ذلك في تجربة "مالكوم X" لما غادر حركة "السود المسلمون" في 1964 ووعظ العنف الثوري ليتم اغتياله في السنة الموالية؛ وبشكل منظم لدى "حزب الفهود السود" ذو التوجه الماركسي اللينيني (الماوية) الذي تأسس سنة 1966 واستطاع في وقت قصير خلق جناحه العسكري وقيادة تيار "سلطة السود". وعلى إثر اغتيال مارتن لوثر كينغ في أبريل 1968، هزت الانتفاضات والفتن معظم المدن الأمريكية، وتدخل الجيش لقمعها بشراسة، مخلفا وراءه عشرات القتلى وآلاف الجرحى والمعتقلين. مثلت سنة 1968 ذروة عقد مضطرب من الاحتجاجات، كان له تأثير شديد على الولايات المتحدة جعلها تعيش فترة من الضياع والحيرة.
انتشرت بسرعة حركة الاحتجاج والرفض في أوروبا الغربية، وانصهرت في دينامية اجتماعية واحدة، فجرتها "أممية طلابية" ثائرة وانخرطت فيها الحركة العمالية ذات الدور الاستراتيجي. في فرنسا، زعزعت أحداث ماي 1968 أركان الحكم الدوغولي وخلقت حالة ثورية بامتياز؛ يوم 20 ماي، بلغ عدد المتظاهرين في الإضراب العام الذي نظمته النقابات الكبرى ما بين ثمانية وعشرة مليون، وشلت الأنشطة في مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية. في نفس الشهر وقعت أحداث مماثلة في ألمانيا الفيدرالية وإيطاليا وإسبانيا...، ثم في اليابان. وخلال سنة 1969 تأسس "الجيش الأحمر" في اليابان و"الألوية الحمراء" في إيطاليا، ثم "جناح الجيش الأحمر" (Rote Armee Fraktion) في ألمانيا سنة 1970.(22)
فشلت الثورة العنيفة الموعودة لأنها كانت بعيدة الاحتمال. تبخرت الأحلام واندثرت طوبا العالم الجديد المثالي، عالم الاشتراكية الحقيقية. الأسباب متعددة: عدم توفر الشرط التاريخي بكل معانيه، المذاهب الدغمائية العمياء، غياب نظرية ملموسة ومشروع مجتمعي واضح، تهافت النخب الثورية، الفوضوية في الفكر والممارسة، الخ. مع ذلك، بقي الفكر الماركسي حيا ومعاصرا، في ارتباط وثيق بالواقع؛ يغذي وتتغذى من الممارسة الاجتماعية. وهاهو اليوم لهيب الثورة يشتعل من جديد، رويدا رويدا؛ قد يولد جانبيا العنف، وقد يحدث التغيير بدون سلاح. لأن الشرط التاريخي لنهوض العالم الجديد متوفر الآن أكثر من السابق. يتجلى ذلك على وجه الخصوص في التحول الذي يقع في الصين.
3. العالم الجديد الواقعي: الصين-عالم
قبل انتصار الليبرالية الجديدة، دخلت الصين مرحلة جديدة من تطورها مع عهد الإصلاحات الكبرى. بعد وفاة ماو تسيتونغ (1893-1976)، وضع شو انلاي اللبنة الأولى لهذه الإصلاحات التي قادها وقام بإنجازها دنغ كسياوبينغ. إننا إزاء حقبة الاستيقاظ والإصلاح الاقتصادي العميق؛ انطلقت مع اتخاذ قرار بناء اشتراكية ذات خصوصية صينية، عمادها التجديد والتفتح والتقدم الاقتصادي، ودبلوماسية جديدة: مناهضة الهيمنة، حماية السلم العالمي وإنعاش التقدم البشري. في عام 1978 قرر الرئيس الصيني الجديد إدخال الإصلاح بإعطاء الأولوية للعالم القروي حيث يقطن 80% من الصينيين. بهدف تحفيز الفلاحين وإشراكهم في جني ثمار النمو، رفع ثمن شراء التسليمات الزراعية الإجبارية وثمن الفوائض بـنسبة 20 % و50 % على التوالي، وخفضت أسعار المواد الصناعية الموجهة إلى البوادي بنسبة تتراوح بين 10 و15 % في سنة 1979. صدر في نفس السنة قانون الشركات المختلطة، يسمح للرأسمال الأجنبي بالمساهمة في حدود 49%. وفي عام 1984، حرض كسياوبينغ الصينيين على الاغتناء قائلا لهم: "اغتنوا"، وسن سياسة تصديرية. وقصد جلب الاستثمارات الخارجية، أشرف على إنشاء "المناطق الاقتصادية الخاصة"(23) واعتمد سياسة "بلد واحد بنظامين". بعد النجاح الكبير الذي حققته التجارب الإصلاحية الأولى، تم في عام 1992 تدشين الموجة الثانية من الإصلاحات في إطار نفس الاستراتيجية، وظهر رسميا مفهوم "اقتصاد السوق الاشتراكي". ___________________ (22) أنظر: اليسار الثقافي أو ثقافة الاحتجاج والرفض في المغرب السبعيني، مجلة "نوافذ"، مرجع سابق. (23) سنة 1980 أحدثت أربع مناطق اقتصادية خاصة في الساحل (3 في Guangdong وواحدة في Fujian)، امتدت لتطال 14 مدينة ساحلية سنة 1984، و3 جهات شاطئية في العام الموالي، ثم شملت جميع المدن الساحلية؛ وفي سنة 1992 تم تعميم ذلك على معظم المدن في الأقاليم والموانئ النهرية والمدن الحدودية.وأضحت الصين منفتحة بالكامل على العالم.
لم تكن هذه الإصلاحات بالهينة أو العابرة، ناتج الصدف والتقلبات المحلية والدولية؛ بل هي سلسلة برامج مندمجة، مدروسة بعناية فائقة، مرسومة بتفاصيلها سلفا، وخاضعة لخطة استراتيجية شاملة وواقعية. اتسمت السياسة الاقتصادية الصينية باليقظة والحذر والتدرجية والفعالية؛ إذ تم بلوغ الأهداف المركزية المسطرة قبل الأجل المحدد لها باستعمال نفس الوسائل المرصودة.(24)
بعد وفاته يوم 19/2/1997، خلف كسياوبينغ وراءه حصيلة جد إيجابية من الإنجازات الكبرى.(25) ترك بالفعل شرق البلاد أكثر تقدما من غربها، لكنه جعل الصين الشعبية تحتل مكانة متقدمة بين الأمم العظمى. فقد ارتقى حجم الناتج الداخلي الخام من 147,3 مليار دولار أمريكي في 1978 إلى 307,2 مليار في 1988، ثم إلى 1.019,5 مليار في 1998؛ أي تصاعد على التوالي بنسبة 108,5 % و231,87 %. تباعا لنفس السنوات، ارتفع الادخار المنزلي الخام من 55 مليار دولار إلى 113 مليار (105,45 %) ثم إلى 422 مليار (273,45 %)؛ وقفز الاستثمار من 44 مليار إلى 97 (684 %) ثم إلى 345 مليار (255,67 %). انتقل معدل نسبة مساهمة الصين في النمو الاقتصادي العالمي من 11,8 % خلال الخماسية (1985-1989) إلى 23,1% في الخماسية الموالية؛ واليوم تفوق هذه النسبة الثلث، متجاوزة نسب الولايات المتحدة وأوروبا واليابان مجتمعة. تحتل الصين حاليا (2007) المرتبة الثالثة في الاقتصاد العالمي بناتج داخلي خام قدره 3.500 مليار دولار، وراء الولايات المتحدة (13.800 مليار) واليابان (4.400 مليار). حسب المكتب الوطني للإحصائيات الصيني، بلغت قيمة الناتج الداخلي الخام سنة 2008 حوالي 30.067 مليار يوان رنمنبي ( 4.422 مليار دولار تقريبا). العديد من التقديرات الاقتصادية ترتقب أن تغدو الصين أول قوة اقتصادية في العالم خلال العشر سنوات القادمة.(26)
في فترة وجيزة من الزمن، شهدت إذن الصين الشعبية طفرة عميقة في تاريخها، مكنتها من تحقيق الانتقال الهادئ والمتحكم فيه، واعتناق نموذج خاص من التنمية قوامه المعايرة الفطنة لفضائل الاقتصاد المركزي المخطط ومنافع السوق. هكذا إذن استطاع هذا البلد العريق في القدم، المتعدد الإثنيات والموحد، اختصار المسافات التاريخية الطويلة واستيعاب روح العصر وهضم قرون من الحداثة الغربية بسرعة فائقة. ويلزم التشديد في هذا السياق على الدور المهم الذي نهضت به الجالية الصينية في المهجر.
من الآن فصاعدا، يجب التفاعل مع التحول الكبير الذي يحدث في الصين، لكونها تساهم بقوة في تغيير ملامح العالم وفتحه على آفاق جديدة، وتمتلك كل المؤهلات للقيام بدور ريادي في العالم، على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، والأمنية، والثقافية.
بصدد التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية، أحدثت ثورة 1948 قطيعة مع الرأسمالية، وتم اعتناق الاشتراكية على الطريقة السوفييتية: إلغاء الملكية الخاصة وإرساء الجماعية والمركزية والتأميم والتخطيط. مع تراكم عيوب التجربة ونتائجها السلبية، اختارت قيادة الحزب الشيوعي الصيني نهج "اشتراكية ذات خصوصيات صينية"، هدفها المركزي تحديث الاقتصاد والمجتمع؛ وأدخلت إصلاحات جريئة على امتداد ثلاثة عقود. يختزل مفهوم "اقتصاد السوق الاشتراكي" الذي تبناه الحزب في مطلع عقد التسعينيات، النموذج الاقتصادي الصيني الراهن؛ المستند أساسا على الملكية المشتركة والتخطيط، أي على الدولة التي تبقى متحكمة في مصير وسائل الإنتاج: الأرض، الرأسمال وقوة العمل. ويعول معا على الاستفادة الحذرة والمحروسة من مزايا السوق. بدل الاستمرار في الانغلاق والتشبث الأعمى بوهم إقامة اشتراكية كاملة الأوصاف ومتشددة -طوباوية في آخر المطاف-، رجحت الصين كفة السياسة الواقعية والعملية، بهدف تحديث الاشتراكية. نجحت في استلهام روح العصر واحتضان إرهاصاته الكونية؛ والتزمت الحيطة، والاختبارية، والتدرجية في تطبيق الإصلاحات المصيرية. مارست إذن خيار التفتح على العالم واستثمار ما هو متاح للبشرية جمعاء، دون السقوط تحت رحمة السوق الرأسمالي والليبرالية المتوحشة والاستلاب الثقافي (تشيئة البضاعة). بل تمكنت إلى حد الآن من تدجين كلية العلائق الاجتماعية "الدخيلة" والتحكم فيها. فالدولة الصينية تسيطر على الاقتصاد الوطني الذي يرتكز في قسطه الأوفر على القطاع العام (الشركات العمومية، التعاونيات الفلاحية والعمالية). تمتلك لوحدها النظام المالي والمؤسسات البنكية الكبرى، وكذا وسائل الإنتاج، والمرافق الاقتصادية الاستراتيجية؛ وتفرض نظام أثمنة مزدوج (عام وخاص)؛ الخ. أبان هذا النموذج الاقتصادي عن فاعليته، وبرهن على نجاحه وتفوقه. إنه البديل الكوني المحتمل، المخرج الأكثر حظا في إحداث التغيير وتقرير مصائر اقتصاديات العالم.
أما بشأن طبيعة الدولة ومذهبها الإيديولوجي، فكما هو منصوص عليه صراحة في دستور 1982، لم يتم التنكر للأصول: ثورة 1911 المسماة "كسينهاي" (Xinhai) التي قادها "سن يات-سين" (Sun Yat-sen) وأطاحت بالملكية الإقطاعية وأرست جمهورية الصين؛ ثم ثورة الديمقراطية الجديدة في 1949 التي قام بها الحزب الشيوعي تحت قيادة ماوو _________________________________ (24) أنظر فيما يخص الصين: - Chongguo Cai, Chne :L’envers de la puissance, Edit. Mango, Paris, 2005. (25) أنظر: - Françoise Lemoine, L’économie chinoise, La Découverte, Paris, 2003. (26) المنابع الإحصائية: - Bureau national des statistiques (BNS), Beijing. - Banque Mondiale, Washington DC. - FMI, Perspectives de l’économie mondiale, 2008, Washington DC. - OCDE, 2007, Paris. - Angus Maddison, L’économie mondiale, une perspective millénaire, Etude du Centre de développement, Edit. OCDE, Paris, 2001.
تسي تونغ وأنشأت جمهورية الصين الشعبية. لم يقع التخلي عن العقيدة الاشتراكية -الماركسية اللينينية-، ولا عن "ديكتاتورية البروليتاريا". وما فتئت أجهزة الدولة تمارس "المركزية الديمقراطية"، تحت قيادة الحزب الشيوعي الذي تحول إلى جبهة مفتوحة أمام باقي القوى الديمقراطية، ضمنها الأحزاب الصغيرة المشروعة القائمة. في حين يمنح التقسيم الإداري المعتمد صلاحيات وسلطات واسعة للأقاليم (22 إقليم حيث يقطن مليار من الساكنة) والجهات الخمس المستقلة (ما يفوق 100 مليون نسمة) والبلديات الأربع (ما يقارب 100 مليون نسمة)، فضلا عن الجهتين الإداريتين الخاصتين (10 ملايين نسمة تقريبا). بموجب اتفاق 1990، تم فصل الحزب عن مكاتب الدولة، باستثناء الجهاز الحكومي؛ ولا يمكن اليوم لأي عنصر من التنفيذي، على المستوى الوطني، أن يكون في نفس الآن كاتبا للحزب. الأهم الذي يجب التشديد عليه بقوة هنا، أن الصين ولجت منذ مدة عهدا سياسيا جديدا وواعدا، يعكسه اختفاء ظاهرة كاريزما الزعامة والقائد الواحد، وبزوغ عصر القيادة الجماعية. فباستثناء الزعيم ماوو تسي تونغ، يكاد الجمهور يجهل ألقاب الرؤساء ورؤساء الحكومة الذين تعاقبوا على حكم الصين الشعبية. سبق أن أعلن الحزب الشيوعي عن رغبته في تأسيس جبهة سياسية عريضة ومفتوحة على القوى الديمقراطية، تضطلع بدور ريادي في قيادة الدولة والمجتمع، وتسهر على تسيير وتدبير الشأن العام. ويتأكد تدريجيا أن نموذج القيادة الجماعية الواحدة هو من صميم الحداثة السياسية في عالم الآن والمستقبل، تمليه التحولات الكونية والمحلية. إنه يمثل لحظة تجاوز. إذ شاخ النموذج السياسي السائد في الدول الغربية والمنحصر في الثنائية والتناوب على السلطة السياسية بين قطبين: يمين حقيقي يهيمن إيديولوجيا ويفرض الليبرالية برنامجا سياسيا، ويسار مفترض يتنكر لهويته ويسهل أكثر تطبيق نفس البرنامج. وولى بدون رجعة عهد الديكتاتوريات العسكرية والمدنية في الدول المتخلفة حيث يسود التسلط الفردي والاستبداد الشرقي والنيوباتريمونيالية، وكل يلتصق بهذه الظواهر من طقوس قداسية وشخصانية وتقليدانية سياسية.
في غياب وعي جنيني أو فكر استباقي بقدوم هذا النموذج الجديد، نعثر في لا شعور حفنة ضئيلة من الحكام الغربيين على نوع من الحدس بضرورة تجاوز معيقات النسق السياسي التقليدي وإيجاد بدائل له. بدأت بعض الوجوه الباهتة لهذا الحس تشرئب خلف تجارب سياسية حديثة العهد، مثل ما حدث مؤسساتيا في ألمانيا مع حكومة المستشارة أنجيلا ميركز الائتلافية، وبشكل انتقائي في فرنسا مع الرئيس ساركوزي الذي أدمج في الحكومة عناصر محسوبة على قوى مغايرة في وسط اليسار والهجرة، ثم ما يقع حاليا في الولايات المتحدة مع انتخاب الرئيس أوباما بأغلبية ساحقة وكيفية تشكيله للفريق الحكومي. وثمة تجارب مماثلة ناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية.
عماد النموذج السياسي الكوني المستقبلي -الذي يكتمل الآن في الصين- يتجسد إذن في القيادة الجماعية والحزب الوحيد المنفتح على مختلف مكونات وتعبيرات المجتمع في كليته. يستمد خصاله الحميدة من قدرته الفائقة على تثبيت الأمن والاستقرار داخل المجتمع، والدفاع عن الصالح العام، ووضع المسألة الاجتماعية في صلب اهتماماته، وحظر تسلط الأقلية، واعتماد نظام التمثيلية النسبية، وتعميم أنساق التشريك والإشراك، وضمان انصهار الكل في كيان بشري موحد ومتنوع الألوان. في الجانب الأمني، تنشد الصين السلم والأمن وفض النزاعات بالحوار والتفاوض ومقاومة السباق نحو التسلح. تؤكد أن عقيدتها واستراتيجياتها العسكرية هي بالأساس دفاعية، وأنها لا تطمح لأية هيمنة أو توسعية، وتلتزم بعدم استعمال السلاح النووي، وحتى في حالة نشوب حرب مباشرة ضدها فإنها لن تكون سباقة في استعماله. يتأيد هذا التوجه بوضوح عبر سياسة الدفاع الوطني والسياسة الخارجية للصين. فميزانية الدفاع لم تتجاوز 30 مليار دولار سنة 2005، أي 1,4 % من الناتج الداخلي الخام؛ والمطالبة بالتعددية القطبية لم تتوقف منذ نهاية الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم. لأنها بلد لا حربي منذ القدم، اختارت أيضا الصين الشعبية أسلوب المفاوضات والمرونة عوض المواجهة العسكرية لاسترجاع أراضيها المغتصبة، وقبلت رسم الحدود على قاعدة إرث وليس محو "قرن الخزي" باستعادة الرقعة الجغرافية للإمبراطورية (27). زد على ذلك أن جوارها يتكون من 14 دولة على امتداد أطول حدود في العالم (20.000 كلم)، حولتها تدريجا من حدود مسلحة ومغلقة إلى حدود مفتوحة (التعاون الثنائي). ذلك أن الصين في أمس الحاجة إلى الاستقرار الاجتماعي والسلم العالمي، لأنها تعي جيدا خطورة الحرب على مشروعها المجتمعي ومسيرتها الموفقة نحو الرقي والتألق. فأية مواجهة عسكرية في مجالها الحيوي سوف تنسف كل ما حققته ثورتها من إنجازات عظمى، بمجهود شاق وتضحيات كبيرة. قاست الصين كثيرا نار الاحتلال الأجنبي على امتداد مسارها التاريخي الطويل، سلاحها الوحيد قدرتها الدائمة على استيعاب الفاتحين الجدد وتذوبهم في كيانها الموحد وصهرهم في حضارتها العريقة والغنية. في المقابل، لم تستسلم لإغراء التوسعية واحتلال أراضي الغير. لكنها أدركت مبكرا أن تلك الطاقة الاستيعابية للآخر، للعنصر الدخيل، لم تعد مجدية في الأزمنة الحديثة، وأن مفتاح الحضارة الكونية هو القدرة على التملك التاريخي، الروحي والمادي، للحداثة الكونية، وهضم قيمها ومقوماتها الأساسية.
بخصوص البعد الثقافي، حققت الصين التجاوز التاريخي اللازم لولوج العصر الحديث بالقطع مع التراث التقليدي والفكر الإقطاعي، واستوعبت بسرعة قيم الحداثة الكونية، بفضل الفكر الجمهوري وعبر بوابة الماركسية. وفيما بعد استعادت عصارة ما في التراث المحلي من مخزون ثقافي وروحي إيجابي. انطلقت معركة الحسم مع التقليد والثقافة البالية ____________________ (27) أنظر: - Michel Foucher, Fronts et frontières, Fayard, Paris, 1991.
قبل قيام الثورة على الإقطاع وتأسيس الجمهورية (1911)، واستمرت فيما بعد. استهدفت بالأساس نقد "كنفسيوس"(28) واجتثاث ثقافة الخنوع والطاعة التي يشيعها، والقضاء على النظام الإمبراطوري الإقطاعي لسلالة "تشينغ" (Qing). استؤنفت الحرب على الكنفسيوسية، معقل ورمز التقليد منذ القدم، مع حركة 4 مارس 1919 التي انبثق منها الحزب الشيوعي الصيني؛ واشتعلت نيرانها مجددا مع الثورة الثقافية. ولزم انتظار بداية عقد الثمانينيات حتى يتسنى السماح لفكر كونفوسيوس بالانبعاث والظهور في المجال العمومي، عبر تنظيم منتديات وتأسيس مراكز للبحث والدراسة حول هذا الفيلسوف الداعية، في أفق تجديد التراث الثقافي والاحتفاظ بما هو حي فيه وملائم للعصر. إجمالا، بحكم المجال الثقافي الواسع الذي تخترقه والذي يشمل أيضا اليابان والعديد من دول شرق آسيا، فإن الكنفسيوسية –والثقافة الآسيوية والشرقية عموما- سوف تغني لا محالة لثقافة الكونية في العالم الجديد وتضفي عليها بعض الخصوصية. من المهم في هذا المقام الوقوف عند البعد الروحاني في الصين، الذي يجعل منها موطن ما بعد الحداثة. فيما يتعلق بالمسألة الدينية بالتحديد، يتجاوز النموذج الصيني اللائكية الغربية التقليدية المجسدة في فصل الدين عن الدولة؛ إذ ينزع عن هذه كل صفة روحية من شأنها أن تجعلها تنحاز إلى أحد الديانات. وراء القيم الجمهورية، تحتل هنا العقيدة المجتمعية مكانة متميزة. فنسبة التدين في الصين لا تتجاوز 7% (100 مليون نسمة)، وهذا الواقع يفتح المجال الواسع للتباري والاجتهاد في إطار الشرعية الديمقراطية الجديدة. من جانب آخر، تولي الصين أهمية بالغة للخصوصيات التاريخية والثقافية المحلية، وفي قلبها المسألة اللغوية. فلا يمكن للغرب إلا أن يخطف للصين التقدم الذي أنجزته في هذا الميدان، ويحسدها عليه؛ إذ تتمتع مختلف الجهات والمناطق والأقاليم الصينية بجرعة كبيرة من الحكم أو التسيير الذاتي. لكن الدستور يحرم كل نزعة انفصالية أو ادعاء سمو إثنية معينة على الباقي، ويضمن التمثيلية النسبية للكل في مختلف الهيئات والمؤسسات والتنظيمات المحلية والوطنية، ويحفظ انصهار هذا الكل في كيان واحد وموحد عمره خمسة آلاف السنين. تعيش الصين مرحلة تاريخية انتقالية وتركيبية، خصوصيتها المزج بين الاشتراكية الواقعية (الاقتصاد المخطط) واقتصاد السوق، وأفقها إعادة بناء النظام الاشتراكي على أسس مادية أكثر صلابة وممانعة وأكثر ليونة وملاءمة مع متطلبات العصر والتحولات الكونية. سحر العهد الجديد يحكمه قانون نفي النفي والتجاوز، لا يقفل التاريخ ولا يجسد العقل المطلق، ويحمل معه ألوان الاشتراكية المفتوحة على العالم وعلى المستقبل. فأوروبا أسست عظمتها ومجدها على قدرتها إبان عصر النهضة على استيعاب المعارف والعلوم الغيرية، التي ولدت في أحضان الحضارة الإسلامية، كي تتجاوزها؛ وهذا ما تفعله الصين مع الحضارة الغربية. 4. على سبيل الختم
بدا من اللازم استرجاع والوقوف عند بعض المحطات الدالة في المسار التاريخي الطويل الذي قطعه عالم الحداثة الغربية، لأن الحديث عن قدوم العالم الجديد لا يستقيم خارج جدلية التاريخ. ولا مناص من استخلاص دروس الماضي واستيعاب متطلبات العصر والانخراط الفاعل في التاريخ واستشراف آفاقه المستقبلية.
لم تتوقف الأورومركزية عن جعل أوروبا محور التاريخ، الحديث والقديم، واحتقار الحضارات والمجتمعات غير الأوروبية. هذه النظرة الدونية للآخر تأفل اليوم، أمام تراجع الحداثة الغربية الأوروبية التي تعاني من خراب ثقافي لا مثيل له في السابق، في مقابل نهوض المجتمعات والثقافات المغايرة، التي ظلت مهمشة طيلة قرون. لكنه حتى في لحظة احتضارها، لا تزال مفاعيل هذه النزعة تحتوي على طاقات مدمرة. والحقيقة أن مركز التاريخ في القرن العشرين انتقل إلى الولايات المتحدة في صراعها مع الاتحاد السوفييتي، ولم تكن أوروبا سوى ساحة معارك، مسرح الأحداث، مجرد مرافق للقوة العظمى الأولى في العالم، قبل وبعد الحرب الباردة. وتجلى ذلك بوضوح أكثر في الحرب العالمية الثانية، إذ، باستثناء ألمانيا النازية طبعا، كان فعل دول أوروبا الغربية في مجرى التاريخ جد هامشي، وبقي تابعا، ثانويا. ليس من الغريب مثلا أن نجد فرنسا هي البلد الوحيد في المنطقة تقريبا الذي طغت فيه وتضخمت إلى أقصى الحدود الشوفينية وإيديولوجيا التحرر الوطني التي أصبحت برنامجا سياسيا مع الدوغولية. ونجدها حاليا في مقدمة القوى الغربية التي تعادي ما يحدث في الصين وتجند وسائل الإعلام وبعض الرموز الفكرية والثقافية لزرع السموم في الرأي العام المحلي والدولي بهدف قطع الطريق أمام هذا البلد، وخلق مناخ حربي ضده. ففي الوقت الذي نشهد فيه تعاظم الآثار المفسدة للرأسمالية الجديدة، حيث تسود الانتهازية والمضاربات المالية والاقتصاد الكازينو والفوارق الاجتماعية الصارخة والفقر المدقع، وفي اللحظة التاريخية ذاتها التي تلفظ العولمة المتوحشة أنفاسها الأخيرة، يتمادى بحماس مفرط دعاة الفكر المحافظ الجديد في القارة العجوز في الدفاع عن الوضع القائم والاكتفاء بتنقيحه. ويتم بخبث تصدير أسباب الأزمة إلى الخارج. فتارة يشهر سلاح البيئة، وتارة أخرى "ريع" اليد العاملة في الصين، ثم حقوق الإنسان المدنية والسياسية، وحقوق الأقليات الإثنية والثقافية، الخ. لكن من ___________________ (28) كنفسيوس (Confucius) الذي مابين 551 و479 قبل الميلاد، هو الشيخ الشهير للتيار الطاوي (Taoïsme)، ورسول المعرفة والحكمة في الصين القديمة، ومؤسس الوعي الأخلاقي في الحضارة الصينية ما قبل الثورة. إنه يمثل نخبة "شي" (Shi) التي تنتصب كفئة بين الأرستقراطية والشعب، لضمان السلم الاجتماعي والسياسي، وتشيع ثقافة الطاعة والخنوع. أنظر: Anne Cheng, Histoire de la pensée chinoise, Seuil, Paris, 1997. – - Anna Ghiglione, Shenwen Li, Le confucianisme et la modernisation de la Chine, in L’éveil du dragon,op.cit المسئول الأول والمركزي عن تدهور البيئة والاستهلاك المفرط للطاقة والماء، وخلخلة توازن الكائنات الطبيعية (Ecosystème) وثقب شبكة الأوزون...؟ إنه الغرب بدون جدال، الذي اغتنى وتقدم وراكم الثروات منذ الثورة الصناعية إلى الآن، وما زال مستمرا في هذا النهج. إن الدفاع عن الطبيعة من أجل الطبيعة في حد ذاتها، بدون إنسان ككائن حي يتميز عن باقي الكائنات الطبيعية الحية والميتة، هو مجرد ترف فكري وطقوس وجدانية وطوطولوجيا. كيف يعقل أن نحرم الدول والشعوب التي لم يلج بعضها بعد مرحلة التراكم البدائي من استغلال الخيرات الطبيعية والطاقة من أجل التصنيع ورفع الإنتاجية الزراعية والتقدم التكنولوجي والعلمي، في حين أن الغرب الراقي استفاد من كل هذه الوسائل الإنتاجية، بإفراط جنوني، وتطورت فيه الرأسمالية باستغلال فاحش للرقيق وقوى العمل وبالاستعمار المباشر للغير ونهب خيراته، وذلك على امتداد فترة طويلة من الزمن؟ كيف يمكن محاربة الدول التي حققت بعض النجاح الاقتصادي والعلمي، باسم حق تقرير المصير السياسي للأقليات وعدم تطبيق الديمقراطية (الليبرالية السياسية)، الخ، في حين أن العديد من دول أوروبا الغربية: فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، هولندا...، تحتل مناطق بعيدة عنها جغرافيا وتاريخيا، وتعاني هي نفسها من أزمة الديمقراطية داخل أوطانها؟ قد يكون من المشروع والمطلوب إنسانيا سحق الديكتاتوريات المدنية والإقطاعية العريقة في القدم، التي هي عالة على شعوبها وعلى رقي الاقتصاد العالمي، ولا تساهم البتة في تقدم البشرية. لكن المجموعة الدولية التي تملك الصلاحية القانونية للقيام بهذا العمل لا تملك وسائل تنفيذه بعدل وشمولية. إذ، بطريقة قطاع الطرق، يتم انتقاء بعض الدول المزعجة لاستراتيجية الرأسمال العالمي المهيمن -سواء بتسلقها سلالم التنمية الاقتصادية والعلمية والتقنية وتنامي نفوذها الإقليمي، أو باحتلالها أسفل درجة التقدم مع فدرتها على الشغب واحتوائها لطاقة تدميرية-، واستهدافها للإطاحة بها عسكريا أو جرها إلى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
ثمة أيضا حملات تضليلية تتهم الصين بأنها تقف وراء تأزم الأوضاع في أوروبا وفي بعض يلدان النامية بسبب اكتساحها للأسواق وجلب الاستثمارات الخارجية وتدني تكلفة اليد العاملة، الخ. إلا أن الواقع يدحض هذه الادعاءات الكاذبة. إذ، خلافا للاعتقاد السائد، يتميز النموذج الاقتصادي الصيني بتركيزه بالأساس على الرأسمال البشري والقدرات الذاتية للتنمية، وإنتاجية العمل، والاستثمار العمومي، والتفتح التدرجي على السوق. فما بين سنة 1980 وسنة 1999 ارتفع معدل نسبة الدخل لدى الشغالين سنويا إلى 6 %؛ وتضاعف ارتفاع إنتاجية الشغل بين 1992 و2001، وضرب بأربعة منذ 1978؛ ومابين 1990 و200 بلغ المعدل السنوي لنمو دخل الأسر 9%. أما نسبة الاستثمار في الصين، فقد تراوح معدلها السنوي حول 50% منذ الثمانينيات؛ ومثلت في سنة 2007 قرابة 45%، أي بقيمة 1.566 مليار دولار، معظمها نابع من الدولة (بنسبة الثلث) والمقاولات العمومية والجماعات. ولا تمثل الاستثمارات المباشرة الأجنبية في هذا المبلغ سوى %1,44 (22,5 مليار دولار). وحتى إذا أخذنا الرقم القياسي الذي بلغته الاستثمارات المباشرة الخارجية في الصين سنة 2006، حيث صعدت إلى 70 مليار دولار (8%)، فإن أصلها يعود بنسبة 62% إلى آسيا الشرقية وخاصة هونغ كونغ التي تدخلت بنسبة 36% في الاستثمارات النابعة من هذه المنطقة. وخاصية نموذج النماء الصيني تكمن في نسبة الادخار العالية التي تتجاوز في المعدل السنوي 60%، واستقرت في 50% سنة 2007 (1750 مليار دولار). في المجمل يبقى الاستثمار ممولا من الداخل بنسبة تفوق 90%. وإذا كانت التجارة الخارجية تساهم في نمو الصين بنسبة 2,3 %، فإن نسبة الاستثمار والاستهلاك الداخلي تصل إلى 4,9 و4,7 على التوالي؛ وتتركز تدفقاتها في آسيا التي تجلب أكثر من 30% من صادرات الصين و46% من وارداتها. ولا تمثل الصادرات الصينية نحو الاتحاد الأوروبي ببلدانه 27 سوى 19,6 %، و21% نحو الولايات المتحدة.(29). إضافة إلى ذلك ثمة حوالي 60 % من الصادرات الصينية منبعها الشركات المتعددة الجنسيات المستقرة في الصين.
إن الخطر الحقيقي الذي يتهدد الصين هو الحرب التي بدأت تدق طبولها وسائل الإعلام والنخب الغربية المتشبثة بأركان النظام السائد المأزوم، وقيمه البالية، وقبليته الحديثة. يلقي هذا الاحتمال مسؤولية جسيمة على عاتق القوى المحبة للسلام، وفي مقدمتها اليسار العالمي والحركات المناهضة للعولمة وللحروب غير العادلة. علما بأن الصين تقع في وسط منطقة لها خصوصيات تاريخية، نجحت في استثمارها عبر تفتحها على الدولة المجاورة(30)، ونسج علاقات اقتصادية وسياسية قوية معها. مثلما وطدت علاقاتها مع العديد من الدول في أفريقيا وفي أمريكا الجنوبية.
من جانب آخر، ليس من الصدفة بمكان أن تتم "العودة" إلى ماركس الذي أضحى يشد من جديد اهتمام العديد من رجال الفكر والسياسة الذين أصبحوا يسلمون بتعاصرية (Contemporanéité) وحداثة فكره.(31) فالماركسية لم تستنفذ قدراتها التحليلية والنظرية لسبر أغوار النظام الرأسمالي والمجتمعات المعاصرة. تمركز اهتمام العموم حول الأدبيات السياسية لماركس، سواء للتسلح بنظريته أو لمناهضتها، وظل عمله الكبير الذي خصص له السنوات الجميلة من حياته: مؤلف "الرأسمال"، بعيدا عن أنظار حتى الخاصة، باستثناء نخبة محدودة من المفكرين وعلى رأسهم الملمين بالاقتصاد السياسي. قراءة "الرأسمال"، هي بالفعل عملية شاقة وفي غاية الصعوبة، بالنظر ليس فحسب إلى الدرجة العالية من التجريد (الواقعي) التي يسمو إليها في تفكيك الواقع: العلاقة الاجتماعية، بل أيضا تعقد المداخل ومستويات التحليل. فإشكالية
_____________________ (29) المنابع: - CNUCED, World Investment Report, 2007 et 2008. - Bureau national de statistiques chinois (BNS). (30) الدول 14 التي تقتسم الحدود مع الصين هي كالآتي: كوريا الشمالية، روسيا، منغوليا، كازاخستان، كيرغيزستان، طادجيكستان، أفغانستان، باكستان، الهند، نيبال، بهوتان، ميانمار، لاووس، فييتنام. (31) أنظر: - Jacques Attali, Karl Marx ou l’esprit du monde, Fayard, Paris, 2005.
تحول القيمة إلى ثمن مثلا(32)، التي طرحها وعالجها بعمق ماركس، أرهقت العديد من الباحثين الذين اجتهدوا في تحليلها وتفسيرها(33)، كما هو الشأن كذلك بالنسبة لمفهوم الرأسمال(34). والغريب في الأمر أن رواد الليبرالية، من كينز إلى فلراس ومدرسة شيكاكو والمدرسة النمساوية، الخ، لم يجابهوا ماركس بكيفية مقنعة، ولم يتعمقوا في فكره الاقتصادي أو قاموا بنقد تحليلاته للرأسمال والقيمة... بل اكتفوا بالاستفادة من أفكاره لصياغة البرنامج السياسي والاقتصادي: الاعتماد على الدولة الراعية (الكينيزية) ثم الدعوة إلى انمحائها (الليبراليون الجدد). "عودة" ماركس القوية إلى الساحة الفكرية والسياسية في الغرب الرأسمالي تمليه عدة عوامل، أخيرها الأزمة المالية الحالية التي أبرزت من جديد حدة ومركزية المسألة الاجتماعية، ومسؤولية الدولة في التنمية الدائمة.
يجب الوقوف في هذا الصدد عند الانعكاسات السياسية للتحول العالمي الجاري. فهو يفتح المجال واسعا لنهوض اليسار وتقوية شوكته؛ ويلزم أخد هذا المعطى بجدية وتبصر من طرف النخب الفكرية والسياسية المعنية. تعددية اليسار أمر طبيعي ومفيد، ما دامت تعكس الاختلاف في التأويل النظري والتطبيقي للمشروع المجتمعي، والتنوع في صياغة البرنامج السياسي، ولا تمس جوهر الخيار الاشتراكي البعيد المدى. لكن المهمة المركزية والاستراتيجية التي تنتظر اليسار في المغرب، وفي العالم، تكمن في توحيد الرؤى الفكرية والسياسية، وجمع شمل الكيانات التنظيمية المشتتة، بعيدا عن الدغمائية والطهارة الإيديولوجية. الوعي بضرورة التوحد لا معنى له دون ترجمته على أرض الواقع، إذ يبقى مجرد شعار وخطاب سياسي فارغ. في السابق، خلال مرحلة الستينيات والسبعينيات، لم يكن اليسار الماركسي يتوفر على تراث وتاريخ، كان يتحرك وسط مجتمع تقليدي جعله يعيش في غربة، زاده الوحيد تجربة الحزب الشيوعي المغربي والقليل من الأفكار الماركسية المحمولة من طرف بعض قياديي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. تراكمت الآن التجارب ذات الأفق الاشتراكي، وأضحت الماركسية مكونا أساسيا من مكونات الحداثة الفكرية في بلادنا؛ وأصبح العالم قرية صغيرة. إلا أن الكائنات السياسية ذات المرجعية الاشتراكية في المغرب ظلت غارقة في القبلية التقليدية على امتداد عقود من الزمن، مقفلة أبوابها أمام كل فكر تحديثي حقيقي. إنها تعاني من إعاقة هيكلية لا سبيل لعلاجها سوى بالانتفاضة على الذات والقيام بثورة ثقافية عميقة وواسعة، والإطاحة بالأصنام والجدران الوهمية، قصد تأسيس جبهة سياسية تقدمية تتسع لجميع القوى الديمقراطية الفعلية. وإن اقتضى الحال ذلك، يمكن التوافق ديمقراطيا على تأسيس هيئة مستقلة مكونة من ذوي الخبرة أو مجلس تأسيسي انتقالي، للنهوض بهذه المهمة الكبيرة في حيز زمني معقول...
في ظل المناخ العالمي الجديد، سوف تستعيد السياسة عافيتها والأيدولوجيا مكانتها، وستتراجع مظاهر الدعارة الفكرية والثقافية، والشعبوية، والسطحية، والتسيب. معاداة الفكر النقدي والقيم الكونية هي سمة دائمة للنخب التي ترتعش حين يفوح نسيم الحرية وتنزعج عندما يتأجج صوت الرفض والاحتجاج. في المقابل، تنشرح هذه النخب لما تسود الطمأنينة العابرة على الحاضر المتردي، والرغبة الدفينة في استمراره -ولو في حدود الظرفية-، وتنتشي بانسداد أفق المستقبل وفقدان الأمل فيه. أما الدول العربية، القابعة في مستنقع التخلف الفكري والحضاري، والتسلط السياسي الإقطاعي، لم تلبث نخبها الرسمية والنخب الموالية لها، في تلويك الخطاب اللاهوتي التقليدي وتوظيف الإيديولوجيا الوطنية البالية لإضفاء بعض الشرعية على أنظمتها السياسية البائدة، ولا تولي أي اعتبار للتاريخ، تاركة تقرير مصير مجتمعاتها بيد الأجنبي أو تحت رحمة المجهول. لكن الشعارات البراقة الزائفة والحماس القومي الطائش والتبشير باسترجاع أمجاد الماضي الدفين، الخ، ليس في مستطاعها حجب الواقع المر، واقع الضعف الضخم الذي تشكو منه. فمجموع الدول العربية (21 دولة)، بثرواتها النفطية وجيوشها المدججة بالسلاح المستورد، باقتصادياتها المعتمدة على الريع الإقطاعي، بأنظمتها السياسية التي تجتر الاستبداد الشرقي، لا تضاهي في القوة دولة إسبانيا مثلا. بساكنة عددها 40 مليون نسمة، بلغت قيمة الناتج الداخلي الخام لإسبانيا 1.429 مليار دولار سنة 2007، مقابل 1.301 مليار دولار فقط بالنسبة للبلدان العربية مجتمعة، بساكنة تبلغ 347 مليون نسمة.(36) _________________________ (32)، أأثارت هذه الإشكالية مؤخرا انتباه عبد الله العروي الذي اكتفى بالإشارة إليها بسرعة، في جملة يتيمة، في مؤلفه الأخير، الذي يجب التنويه بالشجاعة الفكرية القوية التي تحلى بها في السمو بالواقع التاريخي وتفكيك التناقض الملازم للفكر التقليدي وتفعيل فكر الحداثة والكونية. أنظر: عبد الله العروي، السنة والإصلاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2008. (33) هناك بيبليوغرافيا غنية وغزيرة حول هذا الموضوع، خاصة منها ما تم إنتاجه من طرف "مدرسة" غرونوبل. (34) أنظر (مؤلف جماعي): - Louis Althusser, Lire le Capital, Maspéro, Paris, 1965. مع الأسف، طغت على هذه القراءة الفلسفة البنيوية والوظيفية. (35) فيما يلي ترتيب بعض الدول العربية حسب قيمة الناتج الداخلي الخام: العربية السعودية: 381.683 مليار دولار (الرتبة 24)؛ أفريقيا الجنوبية: 277.581 (الرتبة 28)؛ إسرائيل: 161.822 (الرتبة 43)؛ الجزائر: 135.285 (الرتبة 49)؛ الإمارات العربية المتحدة: 129.702 (رتبة 50)؛ مصر: 128.095 (رتبة 52)؛ المغرب: 73.275 (الرتبة 57)؛ تونس:35.020 (الرتبة 75). المنبع: البنك الدولي، معطيات 2007.
#أحمد_الحارثي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بتوبيخ نادر.. أغنى رجل في الصين ينتقد -تقاعس الحكومة-
-
مصر.. ضجة حادث قتل تسبب فيه نجل زوجة -شيف- شهير والداخلية تك
...
-
ترامب يعين سكوت بيسنت وزيراً للخزانة بعد عملية اختيار طويلة
...
-
ترامب بين الرئاسة والمحاكمة: هل تُحسم قضية ستورمي دانيالز قر
...
-
لبنان..13 قتيلا وعشرات الجرحى جراء غارة إسرائيلية على البسطة
...
-
العراق يلجأ لمجلس الأمن والمنظمات الدولية لردع إسرائيل عن إط
...
-
الجامعة العربية تعقد اجتماعا طارئا لبحث تهديدات إسرائيل للعر
...
-
ابتكار بلاستيك يتحلل في ماء البحر!
-
-تفاحة الكاسترد-.. فاكهة بخصائص استثنائية!
-
-كلاشينكوف- تستعرض أحدث طائراتها المسيّرة
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|