|
الواقعة الغريبة التي حدثت يوم تكريم الدكتور ماجد
ثائر دوري
الحوار المتمدن-العدد: 954 - 2004 / 9 / 12 - 10:31
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة اندفعت الأمور يوم تكريمه كاندفاع كرة الثلج على سفح جبل شديد الانحدار . بطريقة لا تخطر على بال و لا يمكن لإنسان أن يتوقعها فكبرت بشدة و تسارعت و أخذت مساراً غير متوقع جارفة كل ما جاء بدربها .ذلك الصباح استيقظ كعادته تمام السادسة . لكنه شعر ببعض التوتر على غير العادة إذ أن اليوم هو يوم تكريمه بمناسبة إحالته على التقاعد بعد ممارسته التدريس في الجامعة لمدة أربعين سنة كاملة .كعادته مارس بعض التمارين السويدية لمدة عشرين دقيقة ، ثم حلق ذقنه بثلاث دقائق ، وبعدها أخذ دشاً من الماء الساخن لخمس دقائق . ثم جلس ليتناول قطعة من الجبن و بيضة مسلوقة واحدة ، حيث يتناول البيض المسلوق مرتين أسبوعيا كي لا يرتفع الكولسترول . بعد ذلك أدار مؤشر المذياع إلى إذاعة لندن فاستمع إلى موجز الأنباء ، أيضاً كعادته ، دون أن يستمع لكامل النشرة ، موجز الأنباء فقط لا حاجة لي للتفصيلات فأنا لا اعمل بالسياسة . هكذا كان يردد عندما يسأله أحدهم هل استمعت للأخبار ؟ ارتدى بذلة رسمية و ربطة عنق و حذاءاً لامعاً لا أثر للغبار عليه. و في السابعة و النصف كان جاهزاً تماماً . نزل على درج البناية ، كالعادة و في نفس التوقيت ، و عند باب البناية صبّح عليه البقال أبو سعيد ، الذي لم ينس أن ينظر إلى الساعة و يدق على الخشب كما يفعل كل يوم : - توقيتك كتوقيت ساعة بيغ بن. أدار محرك السيارة لمدة دقيقتين ثم تحركت السيارة إلى الجامعة . في هذه اللحظة فكر بأن نظام حياته بحاجة إلى إعادة ترتيب بطريقة أخرى بعد هذا اليوم . لقد أمضى أربعين عاماً يمارس هذا النظام . يذهب إلى الجامعة في هذا الوقت ، ثم يفتح مكتبه و يجلس ليقرأ و يكتب هناك حتى الحادية عشرة صباحاً ، ثم يعطي محاضرته أو يستقبل بعض الطلاب الذين يريدون أن يسألوه أو يناقشوه بأمور علمية . لم يخرق هذا النظام سوى مرات معدودة إحداها عندما توفيت والدته و لمدة يومين متتاليين . و مرة أخرى أثناء هزيمة الخامس من حزيران و لمدة أربعة أيام ، حيث لم يقدر أن يواجه الناس بسبب الحزن ، ففضل أن يعتصم بالبيت . لا يعرف لما هاجمته الذكريات بهذا الشكل منذ الصباح الباكر مع أنه سيكون لها متسع طويل من الوقت أثناء حفل التكريم ، لأن الخطباء سينبشون حياته نبشاً و هم يتحدثون عن مزاياه منذ ولادته و حتى حصوله على الثانوية العامة بتفوق ، ثم انتدابه من قبل الدولة السورية ببعثة إلى بلجيكا عام 1949لدراسة الهندسة المدنية . سافر يومها بالباخرة إلى أوربا المدمرة بعد حرب أكلت الأخضر و اليابس لكن عجلة إعادة البناء كانت قد بدأت فأتاح له هذا الأمر الإطلاع على تجارب إعادة بناء المدن المدمرة و ساهم في بعض المشاريع مع الأستاذ المشرف على رسالته في الماجستير لأنه انتقل إلى ألمانيا بعد أن حاز على شهادة الهندسة و حاز من هناك على شهادة الماجستير في تخطيط المدن . و من ثم حاز على شهادة الدكتوراة من بريطانيا في نفس الاختصاص . كان المسار المنطقي المتوقع لحياته أن يبقى في أوربا بعد أن يسوي وضعه القانون مع الحكومة السورية بسهولة ، إذ يكفي أن يدفع تكاليف البعثة و بعض الغرامات فيصبح وضعه قانونياً . و قد فعل هذا الأمر كثير من زملائه الذين درسوا الطب أو الهندسة فأسسوا حياة مهنية محترمة ناجحة في أوربا . لكنه اختار العودة إلى الوطن ليمارس اختصاصه و يدرّس الأفكار التي خبرها و عاشها في أوربا للأجيال الجديدة في وطنه . عندما دخل إلى مكتبه هذا الصباح أصيب المستخدم بالدهشة فلم يملك إلا أن يقول له : - أستاذ اليوم يوم تكريمك . هز رأسه و أجاب : - أعرف . سيتم ذلك تمام الساعة الثانية عشرة صباحاً . ما زال هناك أربع ساعات أحضر لي القهوة المعتادة . و انهمك بقراءة رسالة ماجستير لأحد الطلاب . حتى هذا الوقت بدت الأمور عادية . لكن الكوارث حصلت بعد نهاية حفل التكريم ، الذي تم بحضور القيادات العليا في الجامعة و البلد فأشبعوه مديحاً . ثم انفض كل إلى بيته ليبدأ هو حياة جديدة . صعد إلى سيارته و معه حفيده و توزع باقي أفراد أسرته على عدة سيارات على وعد اللقاء في البيت فقد قررت الأسرة أن تجتمع على الغداء . اقترح عليه حفيده أن يشاهدا المدينة على مهل فهذه مناسبة نادرة ضمن هذا الطقس الخريفي الجميل و بالفعل أعجبه الاقتراح فكان هذا أول خروج عن نظام حياته السابق فهو لم يتحرك أبداً بدون هدف محدد . بدأ يدور بالسيارة في شوارع المدينة على غير هدى .......... أكثر الكلمات التي علقت بذهنه كلمة عميد كلية الهندسة المدنية الحالي ، الذي قال أنه تتلمذ على يدي . و تكلم عن مهاراتي العلمية و الشهادات التي أحملها و الخدمات التي قدمتها للمجتمع . ((الخدمات التي قدمتها للمجتمع )) توقف عند هذه الجملة و تأملها ملياً و بدأت تتردد في داخله ، الخدمات التي قدمتها للمجتمع . ثم تدريجياً ، و هو يسير على غير هدى في شوارع المدينة ، تحولت إلى سؤال . بل إنها تحولت إلى سؤال ملح : - ما هي الخدمات التي قدمتها أنا للمجتمع ؟ لو كان من نوعية اخرى لأجاب على ذلك السؤال بكل بساطة . لقد أنشأت أولادي أحسن نشأة و علمتهم أحسن تعليم . لكنه ليس من النوع الذي يحصر إنجازاته في المجال الشخصي و العائلي و إلا لما عاد من أوربا أصلاً . لقد عاد لهدف واحد و هو أن يقوم بدوره في بناء بلده في مجال اختصاصه . لم يكن يحلم أن يمارس دوراً سياسياً رغم أن هذا الأمر قد عرض عليه لكنه رفضه و ظل متمسكاً بدوره العلمي و المهني . ماذا قدمت خدمة لمجتمعي ؟ خرجت أجيالاً من المهندسين المتخصصين في بناء المدن . عند هذه الإجابة بدأت تصفع وجهه المشاهد التي تمر عبر نافذة السيارة . مدينة بدون ساحات عامة ، و بدون حدائق . شوارع و أرصفة لا تتناسب مع عدد السكان . عمارات سكنية متلاصقة لم يراع عند تصميمها اتجاه الرياح و لا إمكانية دخول النور ، لا وجود لملاعب الأطفال أو لصالات سينما . أين ما قدمته للمجتمع إذاً ؟ و كأنه يكتشف للمرة الأولى أن أحداً لم يستشره في مجال اختصاصه ، تخطيط المدن . أحس بضيق في صدره ففتح شباك السيارة فجاءته رائحة عوادم السيارات . و كان قد اقترب من أحد الأحياء العشوائية المنتشرة حول المدينة فهاله ما رأى إلى حد أنه ركن السيارة جانباً و نزل ليشاهد بنايات من سبع طبقات من البلوك المرصوف فقط دون أن يكون هناك أعمدة بيتونية داعمة . تمتم : - غير معقول . هذا شيء لا مثيل له في كل أنحاء العالم . و شرح لحفيده أن هزة أرضية صغيرة كافية لتطيح بهذه الأبنية و تحيل عاليها سافلها . و تساءل من أعطى رخصاً لهذه المباني ؟ هذه المباني يجب أن تزال فوراً لأنها تشكل خطراً على حياة سكانها . عاد إلى السيارة من جديد . و عاد السؤال : - بما خدمت بلدي ؟ حاول أن يبعد هذا السؤال بالغرق بأحاديث جانبية مع حفيده لكن واجهات البنايات المشوهة بطرق مرعبة بعضها خليط من أنماط معمارية غير متناسقة أبداً . فسأل نفسه : - هل هم طلابي من أنجزوا هذه المخططات ؟ أطفأ جهاز التسجيل الذي كان يرسل أنغاماً لباخ أدمن سماعها منذ الفترة الألمانية من حياته ، كما اعتاد أن يسمي مد دراسته في ألمانيا . فتح زجاج نافذة سيارته فبدأت تأتيه أصوات الشارع الحقيقية . أحس أنه يسمعها لأول مرة . أصوات مطربين شعبيين تلعلع في الفضاء و تختلط بدخان منبعث بكثافة من عوادم سيارات قديمة متهالكة مع منظر بصري مشوه لواجهات أبنية بلا هوية و لا يدخلها لا الهواء و لا النور ، ولا تصلح لسكنى البشر. أنماط معمارية مشوهة مع غياب للحدائق و للساحات العامة مما يحول المدينة إلى أشبه بمهجع عسكري كبير لا يصلح سوى للنوم و تناول الطعام . أحس بعبثية حياته لأول مرة . أربعون عاماً في خدمة المجتمع . أي مجتمع خدمته و لم أستطع أن أساهم ببناء مدينة حضارية ، و لم أعلم طلاباً يستطيعون أن يقفوا في وجه هذه القباحة . في هذه اللحظة كان العشب على الأرض قد جف تماماً و كل ما يحتاجه هو الشرارة . و قد أتت الشراراة على إشارة المرور عندما كان يقف ينتظر الشارة الخضراء فتوقفت خلفه سيارة مرسيدس سوداء من النوع الذي يطلقون عليه النملة و يستعمله المسوؤلون و أولادهم . بدأ سائق النملة يزمر له كي يبتعد عن طريقه . هذا ما قاله الحفيد و هو يروي ما جرى لأفراد الأسرة فيما بعد . استغرب جدي هذا الطلب لأن الإشارة كانت حمراء إلا أن سائق النملة استمر بالتزمير ، ثم وجد ثغرة استطاع النفاذ منها واندفع بسرعة متجاوزاً الإشارة الحمراء و سمعته يشتم جدي لأنه لم يفسح له الطريق . نظر إلى رجلي شرطة السير الواقفين بجانب دراجة نارية فوجد أنهما لم يتحركا لقمع المخالفة التي حدثت امامهما . كانت هذه الشرارة التي اشعلت الحريق الذي ستتحدث عنه المدينة كلها . أدار محرك سيارته و اندفع متجاوزاً الإشارة الحمراء مطارداً سيارة المرسيدس غير آبه بصافرة شرطي السير ، التي لم يُسمع صوتها عندما حدثت المخالفة السابقة لكنها الآن ترصد مخالفته الدكتور ماجد . سأله حفيده باستغراب : - جدي ماذا تفعل ؟ لقد تجاوزت الإشارة الحمراء . لم يجبه إنما داس على دواسة البنزين إلى النهاية منطلقا بسرعة كبيرة وسط زحام السيارات متبعا مسارا ملتوياً كي لا يتسبب بحادث . نظر الحفيد إلى الخلف و نبه جده أن رجال شرطة السير يطاردونه . فسمعه لأول مرة يتلفظ بكلمة نابية . استمرت هذه المطاردة الغريبة بين الدكتور ماجد و سيارة المرسيدس و شرطة السير حوالي نصف ساعة و كادت تتسبب بعشرات الحوادث و أخيراً استطاع أن يعترض طريق المرسيدس . نزل و فتح باب السائق فشاهد شاباً صغيراً خمن أنه ابن مسؤول كبير . و هم الشاب أن يقول انه ابن فلان إلا أن الدكتور ماجد عاجله بصفعة على خده و أردفها بشتيمة نابية بحق والده ، ثم سحبه خارج السيارة و دركله على الأرض و صار يدعسه بقدميه . وعندما وصل شرطي السير و قبل أن يركن دراجته كان قد تلقى صفعة من الدكتور ماجد جعلته يترنح على الأرض . و سريعاً تجمهر الناس و حضر رجال الشرطة بأعداد كبيرة و استطاعوا إنقاذ سيارة المرسيدس من التحطيم بعد أن صار يضربها بحجر وجده على طرف الرصيف مما تسبب بكسر زجاجها الأمامي . انتهي الأمر في مخفر شرطة بسلسلة شتائم طالت رجال الشرطة الموجودين و الضابط المناوب و كاد أن ينتهي بكارثة لولا أن الحفيد تصرف بسرعة إذ اتصل بالعائلة و أخبرهم بما جرى ، و هؤلاء اتصلوا بالمسؤولين ، الذي قلب أحدهم على قفاه و هو يضحك عندما سمع بما جرى . و تمت لفلفة الأمور بسرعة كي لا تحدث فضيحة . بعد عدة شهور عندما كان يتذكر ما حدث في ذلك اليوم بينه و بين نفسه ، إذ لم يعد أحد لذكره بحضوره ، كان يشعر براحة عميقة . و ذات مرة تجرأ و صارح نفسه معترفاً أنه عاش بشكل خاطيء لمدة أربعين عاماً . - كان يجب أن أتصرف بهذه الطريقة منذ عودتي من أوربا أو أن أبقى هناك
#ثائر_دوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وجوه تحتضر
-
بين نورما خوري و أحمد الجلبي
-
الأمريكاني المفلس و الدفاتر السعودية العتيقة
-
عن مصر و الألم يعتصر قلوبنا : حكاية الأسد و مروضيه
-
أسرى سايكس بيكو
-
القط ذو الرأس الكبير في المصيدة
-
الديمقراطية على الطريقة الفنزويلية
-
أزمة المسرح العربي 3من 3 العلبة الإيطالية : من مارون نقاش إل
...
-
أزمة المسرح العربي 2من 3
-
أزمة المسرح العربي 1من 3
-
القلق الذي يحيط بنا
-
غرينكا دخلت التاريخ و مغر الديب تنتظر
-
صور تصنع التاريخ و أوهام تصنع الصور
-
العملاء هم الأسرع اشتعالاً
-
عن العروبة
-
التصدعات التي خلقتها المقاومة في جسد الاحتلال الأمريكي للعرا
...
-
الوضع العام
-
بعد مرور سنة على الغزو أهداف و دوافع هذا الغزو
-
حماقات علمية و أخرى سياسية
-
دروس عملية تبادل الأسرى
المزيد.....
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|