|
الأمكنة الكمائنُ 11: المَخطر المَشبوه
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3160 - 2010 / 10 / 20 - 22:01
المحور:
الادب والفن
" دادا، اسقني كأساً من الماء.. " خاطبَ " كاملُ " امرأته خلل صفق باب بيتهم، المُشرَع. على عتبَة الباب، كنتُ و" آدم " جالسَيْن مُذ بعض الوَقت ننصتُ لمُغامرات ابن " حوطيش "، الأكثر جدّة. إنّ جيلاً كاملاً، ونيّف، يَفصلنا عن سنّ هذا الشابّ المُغامر. إلا أنّ تفعيلة السنّ، في أيّ زمَن وبيئة، لم تكُ هيَ المُؤثرَة في بيت قصيد الصداقة. من ناحيَة أخرى، فما كانَ على صاحبنا، الغريب الأطوار، أن يَبقى بمَنجىً من نعتٍ ، مُلائم لصِفة ما في خلقه أو خلقته. إنها حِكمَة حارَتنا، الأزليّة. على ذلك، كانَ لقبُ " دادا " هوَ المُتلبّسُ صفة جار السّعد. أمّه أيضاً، كانت قد حَظيَتْ بلقب " يادي " (أيْ: ماما )؛ كون هذه المُفردَة تنتصبُ غالباً في مُبتدأ أيّ جُملة تنطقها. كانَ في سورَة سِحنة " كامل " ، المُتناسقة التقاسيم، بعضٌ من آيَات حُسْن الأمّ، الكريمَة. بيْدَ أنهما، على أيّ حال، لم يكونا على وفاق أبداً. في إحدى المرّات، وكنتُ طفلاً بعدُ، شهدّتُ غضبة الجار على والدته، والمُعبّر عنها هذا برَمي طائفة من البطاطس إلى خارج المنزل، قبلَ أن يَدوسها حبّة حبّة ببصطاره، العسكريّ. وإذاً، فإنّ تطوّع جارنا في العمل الفدائيّ، في فترَة من عُمْره، مُبكرَة، كانَ ولا رَيْب من تصاريف تلك العلاقة العائليّة، المَوْصوفة. وأتذكّرُ أيضاً يومَ عودَة " كامل " من الأردن ناجياً، إثر شهوده مَجزرة أيلول، الأسوَد: يومئذٍ، كانَ على هيئة غريبَة و رَثة؛ بلحيَة طويلة وملابس وَسخة، مُمزقة. بندقيته العجوز، الكلاشينكوف، كانت إذاك تنتقلُ بينَ أيادينا، الفتيّة؛ نحنُ من كنا في لباب الحِلم، نحلمُ بالثورات والانتفاضات، المُستحيلة. بالرغم من سوء صِلة الأمّ بوَلدها، إلا أنّ ذلكَ لم يَمنعها، المرّة تلو الأخرى، من تدبير كنة في سنّ حَدَثٍ ومُعرّفة بعراقة الحُسْن. الزوجة الأولى، كانت ابنة الرّجل الفقير، والشهير في آن، المَنعوت بلقب " رَشوْ " ( الأسوَد ). كونَ الرّجل " مُسَحِّرَ " الحارَة، جَعلَ حضورُهُ أثيراً لدى الأطفال؛ على الأقلّ، خلال شهر رمضان. وبغض الطرف عن لون صاحبنا، الأسمر، ولكنّ لقبه كانَ يُحيل للسلف الصالح، على الأرجح. الابنة، كانت بدَورها مَشهورَة؛ ولكن، بخصلة الجمال الطاغي. ماس البشرة وإبريز الشعر، ولا شكّ، كانا من واردات إرث أمّ العروس، الصالحانيّة الأصل. وإذاً، أضحَتْ المُشاحنات في منزل " حوطيش "، المُعتادَة، على مُنقلبٍ آخر بُعيدَ قران الابن بسليلة الحُسْن. فلم يَكُ من مَحلّ بعدُ للتهدئة والصّلح، طالما أنّ العروسَ، الهاربَة، باحَتْ لأبوَيْها بما زعمَت أنه سرّ الزوج، العتيد؛ أنه عنينٌ.
هيَ ذي الزوجَة، الثانيَة، وراء باب البيت، تكلّمُ رَجلها بشأن من شؤونهما، الخاصّة. " آدم "، بخلقه المَعهود، المُستهتر، كانَ لا يَتحرّج عن إرسال بَصَره إلى جهة الحريم تلك. لا بل وكانَ يُشفعُ نظرَه بابتسامة ماكرَة، مُواربَة. إلا أنّ هذه المرأة، الفاتنة، كانت لا تعير اهتماماً حركاتِ ذلك المُتطفل، الوَقح. بالمُقابل، كنتُ من جهتي على حَظوَة بيّنة، لدى ستّ الحُسْن. ليسَ حَسْب مَسلكي، المُحْتشِم، هوَ ما حَتمَ احترام امرأة " كامل " للفتى المُراهق الذي كنتهُ: إنّ والدها، المَرحوم، كانَ في حياته صديقا حميماً لوالدنا، في زمن النشاط السياسيّ وبعده على السّواء. كما كانَ الصديقان زميليْن في عملهما، القديم؛ ثمّة، في مَشتل أمانة العاصمَة. إثر وفاة الأبّ، سعى صديقه لكي يَحلّ الابن البكر في مكانه، سَعياً لتنحيَة غول الفاقة بعيداً عن الأسرَة. غيرَ أنّ علّة أخرى، شاءتْ العبث بمصير هذه الأسرَة، الفقيرَة. إنّ شقيقَ امرأة " دادا "، علاوة على أخته الصغرى، كانا لسوء الحظ مُبتليَيْن بمَرَض الصّرَع. هناك، في المَشتل، كنتُ شاهداً في طفولتي على إحدى نوبات الفتى المَريض، المسكين. كذلك الأمر في الزقاق، لدى إحدى زياراته لأخته تلك، الكبيرَة. أمّا أختهما الصغيرَة، المريضة، فقد استبعدَتْ من مَشغل الخياطة، الكائن في زقاقنا نفسه، بسبب تكرار نوبات صرعها، المُروِّعة. " أنظروا إلى هذه المرأة؛ إنها لبنانيّة.. "، يقولها " كامل " بتباهٍ فيما كانَ يَعرض صورَة فوتوغرافيّة على أنظارنا المُراهقة، المَبهورَة: إنه هنا مع امرأة حسناء، شبه عاريَة، جالسَة على ركبتيْه بساقيْن مُثيرتيْن، مَفتوحَتيْن على مَشهد السروال الداخليّ، الأكثر إثارة. ربما أنّ سببيّة طلاق الزوجَة، الأولى، كانت دافع صاحبنا إلى التباهي أمامنا دوماً بعلاقاته مع النساء، المُتعدّدة. زوجة " دادا " الثانيَة، كانت أيضاً مُطلقة. ثمرَة اقترانها الأول بابن عمّها، كانَ صبياً جميلاً لم يَتسنّ لها التنعّم بأمومته. لقد أنتزع الوليدُ من حُضن الأمّ، وأرسلَ لاحقا إلى أبيه العامل في إحدى الدول الغنيّة، الخليجيّة. وكونها لم تنجب من رجلها، الجديد، ضافرَ من مُعاناتها. عقدان من الأعوام، على الأثر، وكانَ على الأمّ أن تضمّ أبنها إليها في أسرَة جديدة، بعدما انفصلتْ هيَ عن " كامل " وتزوّجتْ برجل خليجيّ.
" صدّقني، ما لو أكدّتُ لكَ أنّ دادا مَحلولٌ.. " خاطبني " آدم " ذات يوم، في إشارَة للرّجل المُشنع بكونه عنيناً. وأردَف صديقي المُستهتر، قائلاً " هيَ ذي أعوام خمسَة، دونما أمل بإنجابه لأطفال ". لقد باحَ لي قبيلَ حين، بأنه يَتصل مع امرأة " دادا " عبْرَ إشارات عابرَة للأسطح؛ ثمّة، على شرفة منزله العلويّ. وبحَسَب تأكيده، دوماً، أنّ المرأة لم تكُ لتلتفتْ مرّة قط لإشاراته تلك. شيمَة الزوج، المُتحرّرة، كانت ولا غرو هيَ المُلهمَة لذاكَ المُستهتر في التوغل بفجاج مَسلكه الفجّ، الطائش: خلال تقديمَها القهوَة لنا، هناك في حجرَة النوم، كانت المرأة لا تكترث لخط السّواد، المَرسوم فوق فم كلّ منا. إذاك، تكون هيَ في المَنامة الحريريّة، الشفافة، والمُبرزة جانباً فادحاً من فتنة الصّدر والأطراف. جَسَدُها الفاترُ، كانَ بالمُقابل على أشدّ درجات الرّشاقة و النصاعة والاكتناز. بيْدَ أنّ عدَم تحفظها تجاه حضورنا، مُحالٌ ولا شكّ لكوننا بعدُ أغراراً؛ أقلهُ، في عينيْها. بعد أعوام أخرى، وكانَ أبنُ خالنا قد أضحى مُراهقا بدَوره، وفوق ذلك حلاقا مُتدرّباً، فإنه دأبَ على تلبيَة دَعوات امرأة الجار، المُتحرّر. عندئذٍ، لم تكُ هذه الفاتنة تتحرّجُ من التمدّد أمام حلاقها بغلالة مُرهفة، مُسلّمة ليده الدّربَة شعرَها الطويل، المُتموّج ـ كيمّ زاخر بالعسل. ولكنني، إذ كنتُ أنصتُ يومَذاك لتجديف " آدم "، فإنّ فكري كانَ مَشغولاً بمسألة أخرى، أكثر أهميّة: وهيَ شخص الجار، المَشبوه. كنتُ أحاول آنذاك ربط الظنون بعضها ببعض. إنّ بوحَ " كامل "، ببساطة، لحقيقة سفره في مهمّات غامضة إلى لبنان المُوغل في عام حربه الأهليّة، الثاني؛ هذه الحقيقة، شاءتْ أن توَشى بتأكيد شقيقتي، الكبرى، بأنّ الرّجلَ مُخبرٌ للأمن. هذا الأخير، كانَ على صداقة قديمَة بزوجُ شقيقتي، عائدَة لزمن عسكريّته في الشام؛ عندما كانَ مُستأجراً في مَنزل " حوطيش ". أما في الآونة تلك، من مراهقتي، فكانَ الصهرُ يَنشط سياسياً مع تنظيم راديكاليّ، ماويّ العقيدَة، ومَحظور بطبيعة الحال. بضعة أيام أخرى، وإذا بفضيحةٍ داويَةٍ تبلبلُ سكونَ الزقاق. كانَ ذلكَ في مساءٍ خريفيّ، دافيء، عندما تقدّمَ " كامل " الثملُ من باب منزل آل " كرّيْ عَيْشة "، ليَطلبَ من ثمّ خروج ما أسماهُ هوَ بـ " الوَلد المُعرّص ". حينما طردَ الرّجل بازدراء من قدّام الباب، فإنه أشهرَ مُسدّسه، الشخصيّ، وأخذ يُطلق في الهواء عيارات ناريّة، غاضبَة. إذ ذاك، بادرَ أهل " آدم " إلى تهدئة واسترضاء الرّجل الثائر، المُهان الكرامَة. فيما بعدُ، علّقتُ والدتي على الحادث مُذكرَة ً من حولها بجذر الخلق ذاك، الناريّ. إنّ الأمرَ، على كلّ حال، مُتواشجٌ بحكايَة مُستأجر آخر، قديم، في منزل آل " حوطيش ".
حيّة الإغواء، المُرقطة الجلد بوَشي المُتعة، المُحرّمة، كانت تسعى يوماً في ذلك المنزل. ابنتهم البكر، التي لم أحظ بوَعي مَعرفتها قط، قيلَ أنّ جمالها كانَ يَعكسُ صورَة أمّها، البهيّة، المَحفوظة في ألبوم العائلة. صورٌ أخرى، فوتوغرافيّة، كانت تعرضها على طفولتنا ربّة ُ المنزل. منها صورَة خالها؛ الزعيم " محمود شوكت ". هذا الرّجل العسكريّ، كانَ اسمه مُرقشاً في ذاكرَة أهالي الحيّ؛ حينما تردّدَ مراراً في الإذاعة وبوَصفه مُدبّر الحَرَكة الانقلابيّة، المُطيحَة بالديكتاتور " أديب الشيشكلي ". عصاميّة هذا الزعيم، كانت تحيلُ إلى فضل قريبه ، وحَميه، الدكتور " محمّد خضر "؛ الذي كانَ بدَوره مشهوراً في الأدبيات الكرديّة، العائدَة أيضاً لخمسينات القرن الفائت ـ كصَديق مُقرّب للأمير " جلادت بدرخان ". " محمّد علي "، ابن أخي الزعيم، هوَ والدُ صاحبنا؛ " كامل ". في وقتٍ من عمري، مُبكر، تسنى لي رؤيَة الرّجل مرّة واحدَة، حَسْب؛ رؤيَة، غير سارّة ذكراها. ابنُ الرّجل، البكرُ ـ من امرأته الجديدة ـ كانَ آنذاك قد أضحى صديقا لنا. ذلكَ جَدّ، بحضور الوَلد المُتكرّر إلى منزل أخوته في الزقاق، كما وبزمالته لنا في المدرسة الابتدائيّة، " النضال العربي "، المُقابلة للبناء الحديث؛ أين شقة أسرته. وإنه الزعيمُ " شوكت "، من كانَ له فضل إنقاذ ابن أخيه من حكم بالسجن، طويل؛ إثر مُحاكمته بتهمَة اقتراف جريمة قتل. الضحيّة، كانت ابنة " محمد علي "، البكر. ويبدو من تفاصيل الحكايَة، أنّ الشقيقَ ذاك، " كامل "، هوَ من كانَ يَنقل للأبّ أولاً بأول مزاعمَ علاقة البنت بالجار الشابّ، الغريب. إذاك، حضرَ " محمد علي " إلى منزل طليقته مُرعداً مُزبداً: " إنكِ تطلقين البنتَ على هواها، لكي تضعي كرامتي في الوَحل وتنتقمي مني "، قال لها. وبتطوّر المَشادَة، سقطتْ الابنة جريحَة برصاص والدها، الغاضب. ولكن، لم يكن ليهدأ الرّجل، المُدافع عن شرفه الرفيع، حتى مع سيلان الدّم. " لا أريُد مُشمشكَ، يا هذا. فاغربْ عن وَجهي.. "، هكذا صاحَتْ أمّ " كامل " ذات مرّة، طاردَة ً البائع الجوّال؛ والذي مَضى من ثمّ في سبيله حائراً، مُستغفراً ربّه. كذلك نحنُ الأطفال، لم نكُ ندري آنذاك سببَ تشاؤم المرأة، الرزينة، من فاكهة الصيف هذه، اللذيذة. في زمن مُراهقتي، إذاً، اكتملتْ تفاصيل حكايَة آل " حوطيش " بثمرَة الشرّ، المَوْسومة: لقد كان " كامل "، وليسَ غيره، من حَمَلَ كيساً من المشمش إلى شقيقته الكبيرَة، الراقدة في المَشفى. إثرَ موت هذه، مَسمومة، اعترَف شقيقها أمامَ القاضي أنّ الأبّ هوَ من حمّله الهديّة تلك، القاتلة.
حلمُ السّفر، هوَ ما كانَ عليه أن يَشدّني إلى صاحبنا، المُغامر؛ " دادا ". آنذاك، كنتُ مُعرّفا بطبع مُتوحّدٍ، متغرّب عما يُحيطني من كائنات ومُجرّدات. بما أنّ ابن " حوطيش "، على زعمه، قد جابَ البحارَ والمُحيطات، فلا غرابَة في مَيلي إلى صُحبته، الأنيسَة. أحياناً، كانَ قريبي، " قربينة "، يُشاركنا في الخوض بمَركب حلم اليقظة. إنه بنفسه من جيل " كامل "، وكانَ على الخصلة ذاتها غير المُكترثة بفوارق العُمْر بين الأجيال. في طفولتي، كنتُ مع آخرين من أولاد العمومَة مُعتادينً على الإنصات لمُغامرات " قربينة ". وقتئذٍ، حقّ لشقيقي، الكبير، أن يُخاطبَ قريبنا ساخراً: " لم أعلم، قبلاً، أنكَ كنتَ في مصر وألمانية..؟ ". لاحقا، وسريعاً، انتبهتُ إلى أنّ تلك كانت نسخاً، رديئة، من مُغامرات ابن خالتنا " فيروزا "؛ التي سبقَ واحتفينا بها عند بحرَة منزلهم، الرقراقة المياه. " كامل "، بالمُقابل، كانَ خلقه غريباً عن الاختلاق والادّعاء. في أحد أيام المُراهقة تلك، سرَدَ لنا حكايَة سفره الأولى، الخائبَة. ابنُ " شيش "، الأوسط، كانَ ذائع الاسم في الحارَة بصِفة الحِيَل، الطريفة، المُحالة إلى تعطشه للثروَة. ومن ذلك، أنه تعهّدَ في السعوديّة تمديداً صحيّاً لمَجمَع سكنيّ حَديث، راق. بعدَ عام كامل من العمل، ولما جاءَ اليومُ المُنتظر، إذا بالمُتعهّد يَختفي مع رواتب الشغيلة والفنيين والمُساعدين. أما المُفاجأة، الحقيقية، لأصحاب الشركة السكنيّة، فجدّت عند فشل عمليّة جرّ المياه خلل عروق المباني: كانت الصنابيرُ، جميعاً، مَلصوقة اعتباطاً بالجدران. أما أنابيب التمديد، مع الاسمنت والمواد الأخرى العازلة، فكانَ ابن " شيش " قد باعها في السوق السوداء قبلَ هروبه من البلاد مع الرواتب تلك. على أيّ حال، كانَ المُحتالُ قد جَمَعَ صديقيْه، " كامل " و " عبده اللّحام "، على فكرَة رحلة بحريّة، مَديدَة؛ من المُفترَض ألا يؤوبوا منها إلا وهمُ من أصحاب الملايين: " وأخيراً من منا لا يَعرف اوناسيس؛ ملكَ البحار، اليونانيّ؟ "، اختتم حديثه وهوَ يتطلع فيهما بعينيّه الضيّقتيْن، المُشتعلتيْن بجذوَة المَكر. " عبده اللحام "، لم يكن قد سمَع أبداً بذلك الاسم، الغريب. إلا أنه تساءلَ، مُرتاباً: " أأنتَ تضمَنُ لي، مؤكداً، أن أصبحَ شيفا في مطعم باخرَة الرّكاب، العائدَة لمُلك صاحبكَ الملياردير؟ " " أوف كوورس. ولوْ يا صاحبي، أهيَ المرّة الأولى، التي أقوم فيها بالعمل عند الرّجل؟ "، أجابَه الآخر بصيغة استفهام، مُمتعضة. سلّمَ الجزارُ دكانه، وجمَعَ ما كانَ قد أدّخرَه للزواج بابنة حلال، ثمّ وافى صديقيْه إلى " بيروت ". ثمّة، كانت الباخرَة بانتظارهم؛ وعلى صِفة الفخامَة، المَوعودَة. ما أن دبّ على سطح الميدان الفرسانُ، الثلاثة، حتى تمّ استدعاؤهم على عجَل إلى كبين مُساعد كبير الفنيين، اللبنانيّ الجنسيّة. من هناك، انحدروا معه إلى قبو السفينة، المُتبدّي مثل أحشاء ديناصور عملاق، مُنقرض. " ما هذا المَطعم، العجيب..؟ "، غمغمَ " عبده " مَذهولاً. وإذاً، رأى الأصدقاءُ أنفسهم وَسط صفّ من العمال، المُكتسين بلباس الشغل، المُميّز. ويبدو أنه كانَ كبيرُ الفنيين، ذلك الرّجل المُلتحي الهادر بعبارات أفرنجيّة، غير مَفهومَة. برهة على الأثر، و وُِضِعَ مَزيَتٌ، صغيرٌ، في يَد كلّ من العمال، الجُدد: " ولاه، يا مُعرّصين.. هنا مَكان عمل؛ فإياكم والتكاسل أو التسكّع "، صاح فيهم ذلكَ المُساعد بلهجته اللبنانيّة.
صداقة أخرى، وَثيقة، كانت تنمو رويداً في رَحم مُراهقتي. كانَ " حسّون " يَقف على عتبَة منزل أسرته، حينما دَفعته عفواً في اندفاعي إلى الداخل. قبل حين، كنتُ قد وَجّهتُ إلى أبي دفعة، مُماثلة، كانت من القوّة أن أطاحت به أرضاً. مُبتدأ الأمر، كانَ مع هروعي لحمايَة شقيقتنا، الكبرى، من غضبَة والدها، الطارئة. تأخرها أحياناً في الإياب للبيت، كانَ على مَرمى من عينيّ العمّ، الحاج، كما ومن لسان العمّة، المُتزمّتة. عبثا كانَ دفاعُ الأبّ أمام أخوَيْه؛ بأن ابنته مُتزوّجة ولديها من هوَ مسئول عن تصرّفاتها. بيْدَ أنّ صبرَ الرّجل، أخيراً، عليه كانَ أن يَتحوّلَ إلى سبب المُشكِل. مُذ تلك الليلة، الصيفيّة، وحتى تجنيدي للخدمة العسكريّة بعد عاميْن، بقيتُ في خصام مع الأبّ. في منزل كبرى عمتيّ، المَرحومة، قضيتُ أسبوعاً تقريباً. حفيدها، ما كانَ سوى " جميل "؛ السياسي النشط، سابقا؛ والذي كانَ له تأثيرٌ هام على وَعي العديد من أبناء جيلي. شقيقه الأصغر، " حسون "، كانَ آنئذٍ قد خلّفَ وراءه أعوامَ الطيش، غير المُثمرَة، مُندفعاً في حماسة إلى إثبات شخصيّته، المُتسمَة بالذكاء، وإمكانات حيويّته. قلة نصيبه من التعليم، ما لبثَ أن عوّضها بالتسجيل في مدرسة لمحو الأميّة. " هنا، يَكمنُ مَصْدَرُ العلم، الحقيقيّ.. "، خاطبته في أحد أيام مَنفايَ، مُشيراً إلى مَكتبة أخيه، العامرَة. منذئذٍ، صارَ صديقي مُدمناً على القراءة، مُلتهماً مكتبة منزلهم ومكتبة منزلنا سواءً بسواء. في هبوب العاصفة، المَوْصوفة، رأيتُ قاربَ عُمْري، الصغير، يَتناهى إلى برّ السلامَة، الأليف. عُدّتُ إذاً إلى حجرَة الجدّة، مُقتسماً أرض ديارها مَنامَة ً مع غيري من المُقيمين. وعلاوة على أسرَتيْ المًستأجرين، القادمتيْن من " كرداغ "، كانت جدّتي تشاركني المَبيتَ في العَراء. المرأة الشقراء، اليزيديّة، كانت ثمّة أيضاً. مَكانُ مُخيّم عائلتها، كانَ من القرب أني كنتُ أشعرُ بنفح أنفاسها الأليفة، العَطِرَة. " آآه.. لقد أضعتُ عليّ، أبداً، مُضاجعة نجلاء "، هكذا كانَ قريبي يُردّد في لحظة إلهامه، الطارئة. إذاك، نكونُ عادة ً في حجرَة الجدّة، مُستغلين فراغها ظهراً من المُقيمين. مَبعث الهام " حسون "، هوَ اختلاقي لحكايات تمتعي بجَسَد الجارَة العفرينيّة، الجميلة: لم يكُ لديّ المزاجُ، لكي أردّد هتاف قريبي؛ طالما أنني أضعتُ، حقا، وسانحَة ً تلو الأخرى، مُضاجعة المرأة الجَسورَة تلك، السّهلة المَنال.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأمكنة الكمائنُ 10: الجوار المُتأجّج
-
الأمكنة الكمائنُ 9: المَحفل المُزدوَج
-
الأمكنة الكمائنُ 8: أسطحُ الأصحاب
-
الأمكنة الكمائنُ 7: خرائبُ الرّغبة
-
الأمكنة الكمائنُ 6: أوابدُ الوَجاهة
-
الأمكنة الكمائنُ 5: بيتُ بَديع
-
الأمكنة الكمائنُ 4: مَأوى آموجنيْ
-
الأمكنة الكمائنُ 3: كهف الفتوّة
-
الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة
-
الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل
-
الأوانس والجَواري 5
-
الأوانس والجَواري 4
-
الأوانس والجَواري 3
-
الأوانس والجَواري 2
-
ثمرَة الشرّ: الأوانس والجَواري
-
المُتسكعون والمَجانين 4
-
المُتسكعون والمَجانين 3
-
المُتسكعون والمَجانين 2
-
ثمرَة الشرّ: المُتسكعون والمَجانين
-
القبلة ، القلب 5
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|