أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - محمد حسن عبد الحافظ - حوار مع محمد حسن عبد الحافظ















المزيد.....


حوار مع محمد حسن عبد الحافظ


محمد حسن عبد الحافظ

الحوار المتمدن-العدد: 3160 - 2010 / 10 / 20 - 20:30
المحور: مقابلات و حوارات
    


التراث الشعبي وسيرة بني هلال شغله الشاغل، فهو صاحب أكبر مشروع لجمع روايات السيرة الهلالية، وهو صاحب مبادرة تأسيس مركز الجازية للثقافة والفنون والتنمية، وهو ذو الخبرة العريضة في العمل الشبابي المجتمعي، إنه الدكتور محمد حسن عبد الحافظ (مدرس الأدب الشعبي المساعد بالمعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون بالقاهرة) في حوار حول تجربته في جمع السيرة الهلالية، ومجمل أفكاره ومشروعاته.

أجرى الحوار: منير أديب - مجلة "روتانا"

• من الواضح في نشاطاتك وإسهاماتك الفكرية اهتمامك بمجالات وقضايا متعددة، كالتنمية وحقوق المرأة والأنشطة الأهلية والعمل الشبابي وبعض القضايا السياسية وغيرها، بجانب إنتاجك القيم في مجال التراث الشعبي، كيف جمعت بين هذه المجالات المختلفة؟

أتصور أن ثمة قانون في روحي يستند إليه تعدد نشاطاتي واهتمامي بمجالات وحقول معرفية تبدو متباعدة، لكني ألمس رابطًا دقيقًا بينها يجعلني واعيًا باتساقها جميعًا. يتمثل هذا القانون في انحيازي إلى مشاطرة الفضاءات المستبعدة والمهمشة والمستضعفة، بصرف النظر عن مجالها الزمني والمكاني، وكنت أخوض في تجارب ملهمة، لأكتشف أن ذلك المستبعد هو الأقرب، وأن المستضعف هو الأقوى، وأن المهمش هو الذي يسكن متن الحياة والتاريخ. ولأكتشف أن عالمنا يعيش على فيض من المفاهيم الزائفة والوعي الزائف التي ينبغي العمل على تصحيحها.

أول إسهاماتي البحثية كان في مجال حقوق المرأة وقضاياها، بوصف المرأة الحلقة الاجتماعية الأضعف. بدأت هذا البحث في مطلع عام 1997، وصدر عام 1998 معنونًا بـ"المرأة المصرية ومآزق الفعل السياسي في مصر". ولم تكن هناك وقتها إسهامات فكرية (مصرية) نوعية في هذا المجال، بعد كتابات قاسم أمين وإسماعيل مظهر والدكتور نصر حامد أبوزيد، لكني شعرت بالفخر بعد ذلك، وأنا أتابع صدور عشرات الكتب التي نجحت في تشخيص الآليات التي تعمل بموجبها الدولة تجاه المرأة، مع التأكيد على أن مفهوم الدولة هنا هو المنظومة التي تضم المجتمع والحكومة ومؤسساتهما.

وظل اهتمامي بخطاب المرأة مترافقًا مع عملي الأساسي في مجال الأدب الشعبي، وخاصة تجربتي في جمع سيرة بني هلال ودراستها. فقد نجحت في جمع رواية لهذه السيرة من ألسنة النساء، ودعتني هذه الرواية إلى التفكير في مقاربات منهجية جديدة تمكننا من تحليل الأدوار الاجتماعية والرمزية للنساء داخل نص الهلالية وخارجها، واكتناه صوت النساء الذي قاومت به المرأة هيمنة الرجل على اللغة، والنظر إلى فضاء السيرة بوصفه فضاء للبطلات (خضرة، شيحة، الجازية، الناعسة، هولة، بازلة، واطفة، عزيزة، سعدة، شمعة،... إلخ). وأتذكر أحاديث الدكتور عبد المنعم تليمة عن عالم الأساطير جوزيف كامبل الذي أشار إلى أن الثقافات القديمة عامة (ومنها الحضارة المصرية القديمة) تجعل الأنثى خالقة للحياة، وتجعل الذكر خادمًا للحياة، وحسبي أن سيرة بني هلال هي حكاية من خلق النساء وإبداعهن، فكثير من المشاهد في سيرة بني هلال لا تزال تحتل النساء بطولتها على نحو فريد لا نظير له في التراث العربي برمته، بينما يمثل الرجال حراسًا للسيرة الهلالية ورواة ومؤدين لها، على نحو أتاح لهم حرية صوغها في أشكال شعرية تتسم بالفحولة كالمربع والموال، يذكرنا ذلك بقول عبدالحميد الكاتب: "خير الكلام ما كان لفظه فحلاً، ومعناه بكرًا"، وكأنه بذلك يعلن – حسب عبدالله الغذامي - عن قسمة ثقافية يأخذ فيها الرجل أخطر ما في اللغة، وهو "اللفظ"، ويترك للمرأة "المعنى"، هذه القسمة أفضت إلى قسمة أخرى أخذ فيها الرجل "الكتابة" واحتكرها لنفسه، وترك للمرأة "الحكي"، مما أدى إلى إحكام الرجل السيطرة على الفكر اللغوي والثقافي، وعلى كتابة التاريخ من منظوره الذي يرى فيه نفسه صانعًا للتاريخ.

انحزت إلى الثقافة لأنها الأضعف من لدن حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية والتاريخية، وكما تعلم هناك أبعاد ثلاثة للواقع الاجتماعي: الاقتصادي والسياسي والثقافي. لكن هناك اختلافًا بيِّنًا في درجات المعرفة العلمية لهذه الأبعاد. في اللحظة الراهنة، يعد البعد الاقتصادي أكثر تقدمًا، يليه التحليل العلمي في مجال السياسة والسلطة. أما البعد الثقافي، فهو البعد الأقل تقدمًا.

ومن داخل حقل الثقافة، تظل الثقافة الشعبية معرضة إلى الإهمال، فضلاً عن استمرار إزاحتها بعيدًا عن مشهد الثقافة الوطنية، وعن النهوض والتنمية. وداخل الثقافة الشعبية، نجد الأكثر ضعفًا، وهو ثقافة المجتمعات الفقيرة والبعيدة والمعزولة، فالبحوث الميدانية الحضرية "أرخص" وأكثر أمانًا، وأوفر في المجهود والمال، كما أنها تبدو- زيفًا – أكثر كفاءة من البحوث الريفية. وإذا ما تعين القيام بعمل ميداني في الريف، فإن العمل في المناطق القريبة من الحضر، يفضل على العمل في المناطق الأبعد. إن الباحثين والخبراء والمسؤولين هم من قاطني المدينة، ومثقفي المدينة. هم طبقة ثقافة المكتوب التي تتحاشى "العقاب" بالعمل في منطقة رعوية؛ بعيدة؛ هامشية؛ طرفية؛ منطقة ليس بها ري؛ منطقة حارة وغير صحية. باختصار: تحاشي المكان الذي يوجد به الناس الأشد فقرًا.

اخترت الولوج في عالم المجتمع الصامت، المعزول عن المشاركة في أي مستوى من مستويات إدارة الحياة اليومية وتسييرها. المجتمع الذي عاش تاريخًا جائرًا، ويعاني من ظروف معيشية بئيسة، ويستند إلى مكونات ثقافته الشعبية التي تعتمد على ما هو شفهي، وعلى التعبير الرمزي، وعلى الصمت، في مواجهة التحديات، والمشكلات اليومية، والسلطة. فعرفت جماعات الغجر، والنَوَرْ، والحَلَبْ، والبرامكة، والجَلَبْ، والجُمَسَة، ومن يطلق عليهم العبيد؛ إذ لا يزال هناك استعباد في عالمنا الراهن، وإن كان لا يخضع للآلية القديمة في تجارة الرقيق والاتجار بالبشر.• ووعيتُ بالتاريخ المدوَن الراسخ القوي، لأكتشف أنه لا يمثل إلا لحظات بسيطة من التاريخ الفعلي للبشر، فتوجهت إلى التاريخ الشفهي للقرى والنجوع والجماعات التي صنعت التاريخ دون أن يذكرهم التاريخ.

• وماذا عن أوراقك السياسية التي جمعتها في كتابك "ذاكرة لأطفال لم يولدوا بعد"؟

تمثل فصول هذا الكتاب معالجة استشرافية لعدد من الموضوعات التي تتعلق بملفين كبيرين، هما فلسطين والعراق، كنت قد بدأت كتابتها مع حلول عام 1995، وواصلت كتابتها على نحو متقطع حتى نهاية عام 2002. ولا تدور هذه المعالجة في فلك السياسي والاستراتيجي فحسب، بقدر ما تمتزج بالثقافي والجمالي، والحقيقة أنني لم أكن أحسب أن أخلو إلى هذه الأوراق يومًا لأدفعها إلى الطبع في كتاب، لكي تمثل شهادة إلى جيل لم يأتِ بعد. ورغم تخصصي في مجال أبعد عن السياسة، لكن انتمائي لهذا الوطن، وإصراري على مقاومة تغييب جيلي (جيل حرب الخليج الثانية والثالثة) عن القضايا التي تمس وجود مصر في المحيط الإقليمي والدولي، كانا دافعين لعبور التخصص المنكفئ، فضلاً عما تمنحه الثقافة الشعبية من دروس في معنى التواصل وصناعة التاريخ، فالشعوب التي عرفت أعرق الحضارات، وعلمت العالم أبجدية العلم والإنسانية، تأبى أن يتوقف إنتاجها للمعنى بفعل فاعل، فالهيمنة والإبادة والتزييف لا بد أن يستنهضوا نقائضها. لقد بات مؤكدًا أن تاريخنا متصل الحلقات، على العكس مما يبدو على السطح، وبات مؤكدًا أيضًا أن من حق كل جيل يعي انتسابه لوطنه وللإنسانية أن يحاسب الجيل الذي سبقه، وعلى جيلي أن يكون مستعدًا لمساءلة الجيل الذي لم يولد بعد.

• يبدو مشروعك واعيًا بدور الشباب والجيل الذي تنتسب إليه، هل لتجربتك في العمل الشبابي دور في تشكيل هذا الوعي؟

بالتأكيد، وأنت تعرف ويعرف القراء الكرام المقولات البلاغية السائدة التي تصف أهمية الشباب في المجتمع: الشباب عماد المجتمع؛ الشباب عصب المجتمع؛ الشباب مستقبل الوطن... إلخ. في مصر، حُرمت هذه المقولات من التطبيق منذ عقد السبعينيات من القرن العشرين، وصار الشباب في مصر مجالاً مستباحًا لكل أشكال الاختراق والتطرف والإضعاف؛ انهارت الوثوقية، وتحطمت آمال الشباب في رسم ملامح مستقبلهم ومستقبل أوطانهم باسم الاستقرار السياسي. ومنذ منتصف الثمانينيات، انهارت المؤسسات التكوينية التي كانت تستهدف النشء والشباب بوصفهما مشروع مستقبل الوطن. وقد نشأتُ في قلب هذه الأزمة إبان مرحلة الثانوية (1987-1990)، حيث كان زملائي في إحدى مدارس محافظة أسيوط (أبوتيج الثانوية للبنين) مدفوعين لاختيارات مريرة؛ فإما الانضمام إلى فيلق التطرف الديني المسلح (الجماعة الإسلامية)، أو التيار الديني السياسي ذي الطابع البراجماتي (الإخوان المسلمون)، أو الإذعان لترهيب وإغراءات كل مستويات السلطة، فيختارون الانضمام إلى الفضاء الانتهازي (الحزب الوطني الديموقراطي)، أو النزوع إلى الاستسلام والإحباط، حيث اللجوء إلى المخدرات للوصول إلى مرحلة تغييب الوعي، بينما توزَّعت القلة القليلة الباقية على اتجاهات أيديولوجية يسارية (الماركسية والناصرية). وأدركت أن مدرستي كانت نموذجًا لوضع الشباب في مصر، وقضيت هذه السنوات الثلاث في تأمل أطياف زملائي وتحليلها، وكنت على علاقة بشباب ينتمون إلى كل هذه التيارات بلا استثناء. وبالطبع، فقد تعرضت للاستقطاب منهم جميعًا، وتعرضت أيضًا لمخاطر كثيرة؛ لأني كنت أمثل الصوت المختلف والمتسائل دائمًا، وهو صوت لا يقبله الجناح الديني المتشدد بأي حال. أتذكر موقفًا طريفًا في هذا السياق، فبينما كانت تسعى عناصر من الجماعة الإسلامية لاستقطابي، كنت أتعمد حمل بعض الكتب والمصادر الماركسية والناصرية، فكانت النتيجة استدراجي لعملية خطف وتهديد صريح، إذا لم أتراجع عن قراءة كتب الكفر. لم أنتمِ إلى أيٍّ من هذه الاتجاهات على الإطلاق، وإن كنت أعترف بميلي في البداية إلى بعض الشباب من الناصريين في مدينتي مثل أحمد رفعت ومحمد رفعت وناصر مخيمر وغيرهم.

تصاعد تفكيري في أفق الشباب عندما انتقلت للدراسة بكلية الآداب جامعة القاهرة في عام 1990، وهو العام الذي شهد بداية حرب الخليج الثانية، وأزعم أنه العام الذي بدأت معه مرحلة مفصلية في التاريخ العربي المعاصر، حيث دارت معارك فكرية وأيديولوجية واسعة النطاق بين الطلاب إثر ما يسمى باجتياح الكويت، ثم العدوان العسكري على العراق، ثم سنوات الحصار المريرة على الشعب العراقي.

قادتني الصدفة إلى اتساع هواجسي وأسئلتي عندما خضت تجربة مكتنزة في مجال المبادرات الشبابية الأهلية من خلال مشاركتي في مؤسسة مخيم الشباب القومي العربي التي تغير اسمها - من بعد - إلى ملتقى الشباب العربي الذي يرأس مجلس أمنائه الآن الدكتور محمد السعيد إدريس. وكان الملتقى – ولايزال - يعقد مخيمًا سنويًا في بلد عربي. وقد تطور مستوى علاقتي بالملتقى من مشارك (1991 - 1997) إلى عضو في الهيئة الإدارية (1998-2003).

• حدثنا أكثر عن مشاركاتك في ملتقى الشباب العربي، وعن دورك فيه.

كانت مشاركتي الأولى في الدورة الثانية التي انعقدت في جامعة صنعاء صيف عام 1991، كانت التجربة بالنسبة لي مدهشة، حيث اطلعت للمرة الأولى على أفكار جديدة وتشكيلات شبابية أخرى لشباب في بلدان عربية غير مصر. التقيت شباب المقاومة الفلسطينية الذين سجنوا في سجون المحتل الصهيوني، وحاورت شبابًا من حزب الله وحركة أمل والبعثيين والماركسيين بأطيافهم المختلفة والتيارات الناصرية المتعددة في مصر والوطن العربي.

تمسكت بالفرصة عندما أدركت أن ملتقى الشباب العربي يمثل بالنسبة إلىَّ طريقًا مضيئة للتعلم والمعرفة والتكوين، طريق تتسق مع الحقيقة الكونية التي أطمئن إليها تمامًا: الاختلاف والتنوع. فالاختلاف والتنوع من طبائع الكون والطبيعة والبشر وباقي المخلوقات. ومن ثم، فهما ينسحبان على الثقافات والحضارات والأفكار والأديان.

استمرت مشاركاتي في دورات ملتقى الشباب العربي حتى عام 2002، مررت خلالها باليمن وتونس وليبيا والأردن والعراق والمغرب ولبنان، وأديت خلال هذه السنوات دورًا حيويًّا في تفعيل فضاء الحوار بين المئات من الشباب العربي، وتعميق اهتماماتهم الثقافية. ودومًا كنت أوجه المشاركين إلى الإسهام إسهامًا مباشرًا في تأطير النشاط الثقافي وتسييره؛ وكان ذلك بتشجيع ودعم من صديقي المفكر المغربي عبدالإله بلقزيز، كان يتم تشكيل لجنة ثقافية من المشاركين، بإشرافي، ويُنتخب من المشاركين رئيس ومقرر، وكانت اللجنة تتمتع بحرية وحيوية فائقة في جمع مقترحات جميع المشاركين لموضوعات حلقات النقاش التي تجسد اهتماماتهم الفعلية، وتغطي القضايا الجوهرية للوطن العربي، وتمثل طموحاتهم ورؤاهم المستقبلية. ثم تقوم اللجنة بترتيب أولويات العناوين المقترحة، وتصفيتها، وإدماج الموضوعات والقضايا المشتركة، حتى يصل إلي عدد يتناسب مع الفترة الزمنية لانعقاد الدورة (أسبوعان). في إحدى الدورات (الدورة الحادية عشرة المنعقدة في الفترة من 25 يوليو/ تموز إلي 7 أغسطس/ آب 2000، على فضاء المعهد الملكي مولاي رشيد للرياضيات بالمعمورة، قرب مدينة الرباط) وصل عدد الموضوعات ستة عشر موضوعًا من أصل سبعة وخمسين مقترحًا، وقد أدار المشاركين- بأنفسهم- حلقات النقاش التي حققت لهم مبادلات معرفية وحوارًا خلاقًا طوال أيام الدورة، وانطوت النقاشات على أفكار ذهبية، دالة على إمكانات هذا الجيل في نحت بدائل معرفية جديدة. وعلى هذا النحو، اعتمدت فلسفة النشاط الثقافي لملتقى الشباب العربي على قاعدة المبادرات الحرة من قبل المشاركات والمشاركين.

إن من سيعيشون المستقبل هم أكثر الناس تنبؤًا وإحساسًا به، والتنبؤ والإحساس بالمستقبل هما الخطوة الأولي لصناعته. ونعلم أن حلقات من الشباب العربي، تتأسس وعيها على وحشية النظام العالمي الأمريكي الجديد، وعلى مرارة محاولة تدمير العراق، وحصار شعبه، وعلى غطرسة القوة العسكرية المتعولمة، وعلى مخططات صهينة فلسطين، وانتهاك حقوق شعبها، وعلى سقوط الأفكار والتصورات الكبرى، وعلى عدمية الرؤية، وانهيار اليقين، وعلى محاولة ابتلاع المسافات الحضارية والتاريخية والجغرافية لشعوب الجنوب المطحونة، بحقنها بملايين الصور المرئية يوميًا، لتنميطها على طريقة واحدة في التفكير والممارسة.

إنه جيل لم يشخص مرحلته، ولم يحدد انتسابه. جيل محروم من عُدَّة الفعل، وشروط الوجود. هذا الجيل/ المأزق، هو نفسه الجيل الذي يفُترض فيه أن يمثل - بقوة أحكام الزمن الجائرة - كتيبة الصدارة في معركة اجتراح أفكار جديدة، وبدائل جديدة، ومسارات جديدة، وإنتاج معرفة علمية جديدة، وصياغة وعي جديد بالعالم، والاحتماء - غير المتشرنق - بالذات الحضارية، وبالتراكم الوطني، وبثقافته الشعبية الغنية، والتحوط من الوقوع في شرك الخداع، والتقنية المُهَنْدَسَة، وبراثن المحو الإعلامي للحرية ولإرادة الذات الجماعية.

• قمت بتأسيس مجموعة شبابية باسم مجموعة الجازية للثقافة والفنون والتنمية، ما هي أهدافها، وما الذي دعاك إلى تأسيسها؟

منذ عام 1993، تجدني - في فترات متقطعة من كل عام - أحمل حقيبة بها أجهزة التسجيل الصوتي والمرئي والفوتوغرافي... أدخل القرى والنجوع بجسارة وتفاؤل، أتعرف إلى الناس وأعرفهم إلى نفسي، أعقد ثقة بيني وبينهم. أجوب القرية بحثًا عن راوٍ شعبي كبير السن أخشى عليه من الرحيل قبل أن يقوم أحد بتسجيل ما في ذاكرتها الشفهية من إبداعات أو وقائع تاريخية محلية أو معلومات مطرودة من الكتب ومن الطروس. إذا مات مثل هذا الراوي دون هذا التسجيل، فكأن مكتبة بكاملها قد احترقت. أبحث عن بناية معمارية تقليدية متميزة ذات أبواب ونوافذ خشبية أبدعها أناس بأيديهم منذ سنوات بعيدة جدًا. قد يتم هدم هذه الدار بعد أيام؛ لأن العمران الشائه القبيح يزحف بشراسة منقطعة النظير. أبحث عن عرس تقليدي وما يترافق معه من غناء ورقص ومأكل ومشرب وطقوس اجتماعية، أسجل كل لحظة فيه قبل استبدال هذه الأعراس أو فنائها. أسجل بالصورة أزياء الرجال والنساء والأطفال، وأسجل بالصوت والحركة طرائق صنعها. أبحث عن حرفة تقليدية في سبيلها للانقراض. أبحث عن مقام وليّ يعد له الأهالي احتفالاً سنويًا، أسجل الحكايات المنسوجة حول هذا الولي، واستبطن المعنى الرمزي لوجوده بين الناس.

الناس عندما يدركون أنك صادق يقربونك منهم عن طيب خاطر. ساعتها أنت مدعو لمعرفة كيف تسير الحياة اقتصاديًا، وكيف يتضامن الناس في الأزمات، لتدرك أن ثمة أنماطًا اقتصادية تقليدية لاتزال مؤثرة ومعيشة. ومدعو لمعرفة وجهات نظرهم ومعارفهم التقليدية ومنظورهم للعالم. ومدعو لمعرفة حقيقة الأدوار الاجتماعية وأنماط العلاقات بين الناس. وفي النهاية، أنت مدعو من قبل هذه الناس لتوثيق كل ما تنطوي عليه حياتهم.

هذا هو ما أفعله منذ أكثر من خمسة عشر عامًا. ولم تكن أيام هذه السنوات تسير برفق بأية حال، فقد مارست هذا العمل (الممتع) وأنا أشعر أني أحارب أشباحًا في الطريق. لكني التقيت رفقاء درب خففوا عني الشعور بالغربة والوحشة. وبدأت أحلم بهم ومعهم بمؤسسة غير تقليدية تحمل حصيلة ما جمعناه وتستكمله، وتقوم بعملية التوثيق والأرشفة والدراسة والتحليل، لصيد لآلئ هذا التراث الحي، واكتشاف الحكمة الكامنة فيه، والقيم الرمزية التي تتبناها مجتمعاتنا، وتحمي حرية الناس في التعبير الثقافي والفني بلغتهم وبالطرائق التي جبلوا عليها، وتحمي ذاكرتهم الشفهية من التآكل، وتبحث في الوسائل التي تجعل من التراث الشعبي للمجتمعات العربية فضاءً للتنمية وللتضامن الاجتماعي. والتقيت – عبر سنوات - عددًا من الشباب من بلدان عربية عدة، تشكل وعيهم – مثلي - على إحباطات ذاتية وإخفاقات عامة، فكانت دافعًا إيجابيًّا لنا لخوض تجارب فردية ملهمة في مجال المبادرات الشبابية داخل مجتمعاتنا. قبلوا مبادرتي في تأسيس واحدة مما تسمى – على صعيد المنظمات غير الحكومية - بـ "المجموعات الشبابية"، باسم "مجموعة الجازية للثقافة والفنون والتنمية". استعملنا مختلف وسائط الاتصال الحديثة لضمان استمرار تجاور تجاربنا وأفكارنا، واعتمدنا آلية "التشبيك" بين التجارب الفردية والجماعية بهدف تبادل الخبرات والمعارف المستقاة من الواقع الشعبي المحلي. والتقى كثير منا في سلسلة لقاءات شبابية إقليمية متعددة الموضوعات، وناقشنا عددًا من الأفكار التي استهدفت إبداع طرائق جديدة وخطاب جديد في مجالات الثقافة والفنون والتنمية، بحيث تعود للثقافة الشعبية والفنون التقليدية والخيال الاجتماعي أدوارها المفقودة أو المهمشة في عملية رسم السياسات والبرامج التنموية، وهو ما يعني أيضًا انضمام جهودنا إلى الجهود المتعددة التي تعمل على حماية الثقافة الشعبية وفنونها ومعارفها التقليدية ومأثوراتها المعنوية غير المادية، وقبلها حماية عناصرها البشرية لاسيما المبدعين الشعبيين والفاعلين الاجتماعيين، لضمان استدامة أدوارهم في مجتمعاتهم المحلية.

ويحمل اسم "الجازية" المعاني الرمزية التي جمعت شباب المجموعة من الفنانين والباحثين والميدانيين، حيث أردنا أن تكون تجربتنا فضاءً للتنوع والخيال والإبداع والفن والأساطير والمعارف الشعبية والتاريخ الشفهي. و"الجازية" إحدى شخصيات سيرة بني هلال، يراها الناس في المنطقة العربية المرأة النموذج للبصيرة والقوة والحكمة والسياسة والتدبير والفن والجمال، مما يجعلها - في وجداننا - قيمة جمالية في مجال التنمية البديلة.

• في ثنايا الحوار، تحدثت عن الثقافة الشعبية والأدب الشعبي، وخصوصًا سيرة بني هلال، وقد قدمت أعمالاً كثيرة في هذا المجال، وصدر لك كتاب مهم في السيرة الهلالية، حدثنا عن تجربتك مع هذه السيرة، وعن رؤيتك الخاصة لها.

السير الشعبية واحد من الإبداعات العربية المهمة، والسيرة الهلالية واحد من نماذجها، لكن الهلالية هي النموذج الوحيد الذي لا تزال ترويه ألسنة الرواة في مصر وبلدان عربية عدة، خاصة في شمال أفريقيا. وتبدأ تجربتي مع الهلالية مثل الملايين الذين عاشوا أجواءها منذ الطفولة، حيث استمعت معهم إلى رواية الشاعر الشعبي الكبير جابر أبو حسين الذي أسرني أداؤه وأنغام ربابته، كما شدني انفعال الناس به، وجذبتني طريقة تحلقهم حول الراديو لينصتوا إلى الحلقات اليومية للسيرة في إذاعة الشعب وإذاعة شمال الصعيد من المنيا.

وبعد تخرجي في كلية الآداب جامعة القاهرة (1994)، قررت أن أسلك طريق البحث في السيرة الهلالية، فأنجزت فيها أول أطروحة جامعية ميدانية في تاريخ الجامعة المصرية، حيث اخترت قرى أسيوط ميدانًا للبحث عن رواة مجهولين لها. وقد طُبعت هذه الدراسة في كتاب من جزأين (1400 صفحة)، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقد قدمت في هذه الكتاب الروايات التي جمعتها وقمت بضبطها وتوثيقها، كما أوردت وصفًا دقيقًا لتجربتي الميدانية، ورؤيتي لقضايا متعددة في مجال السيرة الهلالية ودراستها. ثم اتسع مجال اهتمامي لينسحب على تقديم العروض الفنية لفرق السيرة الهلالية، حيث قدمت أكثر من مائة عرض في إطار الاحتفالات الفنية للهيئة العامة لقصور الثقافة ودار الأوبرا ومركز الهناجر للفنون وغيرها، كما قمت باستطلاعات ميدانية للتعرف على شعراء الهلالية في تونس والجزائر، وتعرفت في هذه المسيرة على باحثين أكفاء، مثل عبد الحميد بورايو من الجزائر، وعبد الرحمن أيوب من تونس، وعلي برهانة من ليبيا. وأواصل الآن بحثي الأكاديمي في الهلالية بموضوع جديد، يركز على رواية الرواة المحترفين في محافظة سوهاج، ويستهدف تحليل نصوص السيرة تحليلاً نقديًّا، باستخدام أدوات السيميائية.

• ما الفرق بين عملك في السيرة الهلالية، وبين العمل الشهير الذي قدمه الشاعر عبدالرحمن الأبنودي؟

يعود الفضل إلى الشاعر عبدالرحمن الأبنودي في تنشيط السيرة الهلالية، وتوسيع نطاق جمهورها ومتلقيها من خلال الحلقات الإذاعية وشرائط الكاسيت والنص المطبوع، وذاعت شهرة الأستاذ الأبنودي في هذا المجال، إلى حد ظن كثير من الناس أنه كاتب السيرة الهلالية ومبدعها، يعزز هذا الظن التمكن الذي يتمتع به في الحكي، والطريقة التي يقدم بها الشاعر الشعبي، لقد أبحر الأبنودي في نهر الهلالية، وكان إبحاره طويل النفس، وما قدمه من جهد إضافة كبيرة إلى جهود سبقته، وأخرى تزامنت معه، وهي كثيرة، لكن أبرزها إسهامات الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي التي عملت على تفعيل الهلالية أيضًا، وعلى اكتشاف رواة جدد، وعلى البحث في قانون هذه السيرة، وعلى تدريب الباحثين على الخوض في غمار الهلالية، وكنت واحد من هؤلاء الباحثين، ولا أزعم أنني قدمت كل ما أتمنى إنجازه في مضمار السيرة الهلالية، فطريق الهلالية طويل، وآمل أن أقطع أبعد مسافة فيها، لأسلم إلى باحثين من بعدي شعلة متوقدة لا تطفئها ريح.

• حصلت مؤخرًا على جائزة الشارقة للإبداع العربي لعام 2010، حدثنا عن صدى هذه الجائزة في نفسك، وعن الجوائز الأخرى التي حصلت عليها؟


جائزة الشارقة كانت في مجال أدب الطفل، عن مسرحية "لعبة الغولة"، وهي تجربة إبداعية حاولت فيها تقديم جماليات جديدة في مسرح الطفل، أفدت فيه من درايتي بالتراث الشعبي، ومن خبرتي في العمل في مجال ثقافة الطفل. وقد أسعدتني هذه الجائزة لما عرف عنها بالنزاهة. وسبق أن فزت بجائزتين لا تقلان نزاهة، هما جائزة الاستحقاق الثقافي من ملتقى الشباب العربي الذي انعقد بالمغرب عام 1996، وجائزة الدكتورة نبيلة إبراهيم لأفضل رسالة جامعية في مجال الأدب الشعبي بجامعة القاهرة عام 2004.



#محمد_حسن_عبد_الحافظ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرية للصغيرة الطيبة طل الملوحي
- مسألة الثقافة الشعبية بين أنطونيو جرامشي وبيير بورديو
- طريق الهلالية : رحلة الجزائر
- هل الهلالية سيرة نسوية؟
- جماليات الكتابة القصصية: قصة الطفل نموذجًا
- مناسك 1
- تراث في طريق الزوال
- بعض مشكلات العمل الميداني في جمع المأثورات الشفهية
- يوميات نيسان
- يوميات نيسان 1
- أتوق لطفلٍ لم يولد بعد - 1
- الجامعة المفتوحة على طريق الجنوب : نقش على جذوع شجر الزيتون
- سيرة بني هلال ودرس الاختلاف
- الفولكلور والتنمية(مهاد نظري)
- أفق المرأة المصرية
- محتوى الشكل في الرواية المصرية، علاء الديب نموذجًا
- الشعر مدينة خربانة؛ السيرة الشعبية وقضايا النوع الأدبي
- طــريـق الــهـلالـيـة
- الثقافة الشعبية والمجتمع المدني؛ نحو مدخل فولكلوري للتنمية
- حرية الشفاهي ؛ حرية المكتوب


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - محمد حسن عبد الحافظ - حوار مع محمد حسن عبد الحافظ