|
بصدد نظرية -السيرورات الثلاث- : المنطلقات والانزلاقات الجزء 4
امال الحسين
كاتب وباحث.
(Lahoucine Amal)
الحوار المتمدن-العدد: 3159 - 2010 / 10 / 19 - 14:22
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
هذه الورقة كتبها المناضل الثوري فؤاد الهلالي بعد انسحابه من المؤتمر الثاني للنهج الديمقراطي في يوليوز 2008 ، نعيد نشرها عبر حلقات نظرا لأهميتها التاريخية و الفكرية باعتبارها نقدا صريحا لحزب النهج الديمقراطي أيديولوجيا و سياسيا و استراتيجيا.
بصدد نظرية "السيرورات الثلاث" : المنطلقات والانزلاقات بقلم: فؤاد الهيلالي
"لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية" لينين "وحدها الحقيقة دائما ثورية" جرامشي "كل من يخشى المجهود يحرم نفسه من إمكانية الوصول إلى الحقيقة" (1) لينين
الجزء 2 : قراءة نقدية لوثيقتي مشروعي المقرر التنظيمي والعمل الجماهيري.
الوثيقتين : (1) مشروع مقرر حول التنظيم (الوثيقة الأصلية والوثيقة المعدلة). الوثيقة : (2) مشروع مقرر توجيهي حول العمل الجماهيري.
ملاحظة : لقد تم اعتماد الوثيقتين (الأصلية والمعدلة) لمشروع مقرر حول التنظيم. وذلك لدراسة الأطروحة التنظيمية الأصلية قبل أن تزيدها المحاولات التوفيقية غموضا، ثم التطرق للتعديلات لاكتشاف فشلها في التوفيق بين تصورين متناقضين.
(1) الأطروحة التنظيمية : (حسب الوثيقة الأصلية) : نعني بها مشروع الورقة الأولى المقدمة إلى اللجنة التحضيرية.
- في طبيعة التنظيم :
أ) المحددات الاستراتيجية للتنظيم والمهمة التنظيمية الاستراتيجية :
ترتبط هذه المحددات بالنسبة للتصور التنظيمي ب:
- الأفق الاستراتيجي لبناء الاشتراكية. - طبيعة المرحلة الراهنة : التحرر الوطني الديمقراطي ذو الأفق الاشتراكي. - طبيعة التشكيلة الاجتماعية (هيمنة رأسمالية تابعة) مختلفة عن تشكيلات المركز الرأسمالي.
مما سبق، تكون مهمتنا الرئيسية والاستراتيجية على المستوى التنظيمي هي :
- المساهمة في بناء "التنظيم السياسي المستقل للطبقة العاملة والكادحين".
هناك شرطان لتحقيق ذلك :
- البناء الذاتي للنهج الديمقراطي. - توحيد الاشتراكيين الماركسيين (توحيد الاشتراكيين و"القوى الاشتراكية" مهمة معقدة وطويلة الأمد تتطلب : بلورة خط سياسي إيديولوجي ماركسي يعتمد على معرفة عميقة للمجتمع المغربي، مما يستدعي تشجيع كل المبادرات وأشكال النضال المشترك بين المكونات الاشتراكية).
- شكل التنظيم في المستقبل :
لا يمكن الحسم بين شكلين :
(1) جبهة للتنظيمات الماركسية. (2) تحالف أحزاب تمثل فئات مختلفة من العمال والكادحين.
ملحوظة : بالإمكان القبول بتسمية الحزب لأسباب تعود للدعاية وأسلوب التواصل مع الجماهير.
ب) المحددات التاكتيكية :
تطرح الوثيقة التنظيم كإشكالية تاكتيكية (بمعنى غير قار). هذا الطرح التاكتيكي للتنظيم المحدد بالاعتبارات السابقة وباعتبار الفترة الراهنة (الشرعية) يجعلنا نرى أن : التنظيم الممكن (موضوعيا) هو بناء النهج الديمقراطي كتنظيم سياسي، صلب، منسجم للعمال والكادحين. وهذا السعي حسب الوثيقة طبع ممارسة النهج الديمقراطي منذ تأسيسه.
وصفات التنظيم المتوخى هي :
- سيكون تنظيما شبه جماهيريا. - سيكون تنظيما منفتحا نسبيا. - لن يكون تنظيما للأطر.
ولإعطاء أسس نظرية لهذا الطرح :
تعتبر الوثيقة أن هذا التصور هو تركيب لعدة تجارب لأنه يعتمد على :
- طلائع التنظيمات الجماهيرية. - التنظيمات الذاتية للجماهير (التي ليست courroie de transmission)، حقل الالتقاء بين الاجتماعي والسياسي كل من موقعه. - الفعالية والاحتياج الضروري لأطر يركزون عملهم في المجال السياسي. - للتأقلم مع هذه المحددات تقوم البنية التنظيمية على التبسيط وعلى الديمقراطية. - الوحدة الإيديولوجية والسياسية والتنظيمية تتطلب تطبيق مبادئ الديمقراطية وتعني بالضرورة حدا أدنى من المركزية، الذي سيتم تقليصه إلى أقصى حد ممكن (أبعد الحدود). وكذلك الانضباط والنقد والنقد الذاتي والمحاسبة.
ت) فترة الإنجاز والهدف الرئيسي :
إن هذا الهدف الرئيسي هو لفترة تمتد إلى حدود 2012 (المؤتمر الوطني الثالث) وتلخص الوثيقة ذلك : "وهذا الهدف المرحلي إن هو تحقق، سيساهم لا محالة في خلخلة موازين القوى لصالح الطبقات المستغلة، وسيمكن شعبنا من انتزاع مكتسبات ديمقراطية، تسمح له بالتقدم نحو مستويات أرقى أو أعلى من النضال في اتجاه التخلص من النظام المخزني والطبقات السائدة، التي يستند إليها وفك الارتباط مع الإمبريالية. كما سيطيح بتهافت شعار البعض حول "الحزب الاشتراكي الكبير" بحجة أن مكونات اليسار الديمقراطي غير فاعلة في الساحة السياسية نظرا لحجمها وعزلتها عن الجماهير. وهي كلمة حق يراد بها باطل. كما سيحدث تقاطبا فعليا في المشهد السياسي وسيتعزز موقع النهج الديمقراطي، كتنظيم يساري ديمقراطي جذري واشتراكي. وسيمكن أيضا من التقدم على مسار توحيد القوى الاشتراكية". لقد قمنا بتلخيص لأهم أطروحات الوثيقة حول التنظيم، حتى يستطيع القارئ أن يستحضرها ونحن نناقشها بكل نزاهة وتجرد فكري. ولنبدأ من حيث تنتهي الأطروحات. إن بناء التنظيم حسب المحددات التاكتيكية مهمة رئيسية في الفترة الراهنة. وحتى يستقيم النقاش، تم تحديدها. فهي غير معلقة في الزمن، بل لها سقف هو 2012. إن تحقيق هذا الهدف المرحلي سيساهم لا محالة في خلخلة موازين القوى لصالح الطبقات المستغلة، ويمكن من انتزاع مكتسبات ديمقراطية، وبها تنتهي الفترة (لقد وصلنا 2012). هكذا ننتقل إلى الفترة الثانية التي تستفيد من الفترة الأولى للتقدم نحو مستويات أرقى أو أعلى من النضال في اتجاه التخلص من النظام المخزني والطبقات السائدة التي يستند إليها، وفك الارتباط مع الإمبريالية. وفي سياق هذا التحول من الفترة الأولى إلى الثانية، سيتعزز موقع النهج الديمقراطي بحكم تقاطب فعلي في المشهد السياسي سيسمح بالإطاحة بشعار "الحزب الاشتراكي الكبير" وسيتم التقدم في مسار توحيد القوى الا شتراكية.
- ما وراء الفقرة وتناقضاتها الداخلية :
1) التناقض الأول :
تنظيم شبه جماهيري منفتح نسبيا سيقوم بخلخلة موازين القوى لصالح المستغلين، ويسمح للشعب بانتزاع مكتسبات ديمقراطية وفي حدود 4 سنوات. إن خلخلة موازين القوى الطبقية تعني انتقال الجماهير أو بدأ الانتقال إلى وضع هجومي. ما لم يوضحه الطرح يتعلق بأمر أساسي : أدوات الهجوم المضاد للجماهير.
2) التناقض الثاني :
انفتاح الفترة الثانية بفضل هذا التنظيم التاكتيكي الذي يعمل بأكثر ما يمكن من الديمقراطية وأقل ما يمكن من المركزية، وستتقدم تناقضات الفترة وتنضج لتضعه على خط المواجهة مع النظام المخزني والطبقات السائدة وحليفها الاستراتيجي : الإمبريالية. ماذا لو افترضنا لحظة أن هذا السيناريو سيتحقق (وبنيته الداخلية توحي بأن ذلك ممكن لنقل في 8 سنوات)؟ إن جدلية السياسة بالفعل عائمة flottante ولكن إذا غابت البوصلة فلا أمل للسفينة بالنجاة. تنظيم غير ممركز، شبه جماهيري، سيواجه دولة ممركزة إلى أقصى حد، ومدعمة بالإمبريالية كقوة حليفة استراتيجية، جد ممركزة ! إن تنظيما كهذا سيتحطم، وبسرعة فائقة، ما أن تبدأ العاصفة بالهبوب، لأنه ببساطة غير مهيأ لهذا الدور.
3) التناقض الثالث :
حاول الطرح الالتفاف على المحددات الاستراتيجية والاعتماد الحصري على المحددات التاكتيكية بسبب خطأ نظري (عزل التاكتيك عن الاستراتيجية)، وسياسي (فصل التحرر الوطني الديمقراطي عن الاشتراكية). والنتيجة إغفال مهمة بناء حزب الطبقة العاملة وتعويضها ببناء النهج الديمقراطي كتنظيم شبه جماهيري...إلخ. وعدم إدراك الفارق النوعي بين النهج الديمقراطي (تنظيم ديمقراطي جذري قاعدته بورجوازية صغيرة بالأساس) وحزب الطبقة العاملة كتنظيم سياسي مستقل للطبقة العاملة والكادحين. هناك نوعيتان مختلفتان تعبران عن لحظتين مختلفتين نوعيا. ولتعميق النقاش، نرى أن امتلاك نظرية واستراتيجية يؤدي لدى الماركسيين إلى اعتبار المسألة التنظيمية جزءا لا يتجزأ من هذه النظرية ومن هذه الاستراتيجية. ("التنظيم هو شكل التوسط بين النظرية والممارسة، بين الهدف والعمل في سبيل الوصول إليه" لوكاش). فالتنظيم يرتبط كذلك بالخط السياسي "لا يمكن فصل المسائل السياسية ميكانيكيا عن مسائل التنظيم" لينين.
1) الطرح النظري :
تقدم الأطروحة التنظيمية نفسها كتركيب لعدة تجارب لأنها تعتمد في بنائها على :
- طلائع التنظيمات الجماهيرية. - التنظيمات الذاتية للجماهير التي هي حقل الالتقاء بين الاجتماعي والسياسي كل من موقعه.
والحصيلة تنظيم شبه جماهيري وليس تنظيما للأطر. وتعود فتستدرك أن الأطر ضروريين لتوفير الفعالية، وعليهم تركيز العمل في المجال السياسي. كان من اللازم، ولو من باب الإشارة، تذكير القارئ بتلك التجارب التي تم تركيب عناصرها المختلفة لتقديم تصور نظري للتنظيم. وسنراهن بدورنا من خلال العناصر المؤسسة للمفهوم النظري، على أن الأمر يتعلق باسمان بارزان في تاريخ الفكر الماركسي، الذي سجل لهما التاريخ جدلهما الكبير حول المسألة التنظيمية، نعني لينين وروزا لوكسمبورغ. فهل طلائع التنظيمات الجماهيرية (ولينين لم يقل بهذا) والتنظيمات الذاتية للجماهير (وهل هكذا يقدم الطرح اللوكسمبورغي؟) هي هذا التركيب المعلن عنه. في حدود ما قدم لنا، هناك استخفاف بالموضوع. كل كتابات لينين وروزا لحظات في تبلور نظريتهما التنظيمية. ومنهج المعالجة يتطلب بالضرورة الانطلاق من وحدة النظرية والممارسة ومواجهتهما، ثم القيام بالتمييز الشمولي، والعرض في النظرية لكل منهما والمقارنة والانتصار لهذا الموقف أو ذاك، أو القيام بالتركيب بينهما. والحال أن الاطلاع على كتابات لينين وتجاربه ومواقفه (أكثر من 25 سنة من الإسهامات) وكتابات روزا الجدالية وغير الجدالية الموضوعة في سياقها التاريخي وعلى محك التجربة، كل هذا يدعونا إلى التساؤل عن مدى جدية النظرية التنظيمية التركيبية التي تقدمها الوثيقة. والغريب أن الوثيقة لم تتذكر هنا أنها بشرت بتصور تركيبي لتجارب تاريخية. وكان عليها استلهام المبادئ التنظيمية العامة التي تشكل أركان النظرية الماركسية للحزب أو على الأقل صورة مركبة لما تختاره. لا شئ من هذا !! وحين التطرق للشكل التنظيمي، لا يجد المضمون المقترح صيغته ويقع التردد بل والسقوط في نوع من الانتقائية المرتبكة والتبريرية. هكذا تخضع صيغة الحزب إلى الرفض لماذا !؟ لأننا لا نعلم "الغيب" فقد يكون هذا الشكل جبهويا : جبهة لمنظمات ماركسية. والحال أن مجموع منظمات ماركسية (جبهة) لا يشكل بالضرورة حزبا. فقد يكون مجموعا لتنظيمات بورجوازية صغيرة ترفع شعار الماركسية. وإذا كانت بالفعل ماركسية ومرتبطة بالطبقة العاملة ومشروعها التاريخي فلماذا لن تتوحد؟ والوحدة في كل الحالات ليست تجميعا عدديا بل قفزة نوعية لتأسيس حزب الطبقة العاملة. وهذا ما تظهره التجارب التاريخية سلبا وإيجابا. أما "تحالف" أحزاب تمثل فئات مختلفة للطبقة العاملة كتعبير عن تعددية عمالية،فهو هنا بحث عن تعددية في مكان غير مكانها. فأن توجد تعددية فكرية وسياسية وسط الطبقة العاملة أمر بديهي وله أساسه المادي الاجتماعي، ولكن موضوعنا يتعلق بأحد أركان الفكر الماركسي : الطبقة العاملة ودورها التاريخي. الطبقة العاملة مفهوم أساسي وجوهري ومركزي. هناك طبقة عاملة وهناك فئات وشرائح داخل الطبقة العاملة، ولا يقتصر ذلك على الطبقة العاملة فقط. الفئات العمالية هي نتاج تقسيم العمل داخل مسلسل الانتاج، ومستويات الوعي الذي يتطور بشكل غير متساو كنتاج لذلك وللصراعات الطبقية ( تعددية مستويات الوعي وضرورة حزب للطبقة العاملة (الحزب اللينيني). فالحزب يمثل هذا الجوهر (الطبقة العاملة).
والاختلاف في الفهم بين الطرحين يعود إلى منهجيتين مختلفتين:
- منهجية مادية جدلية وتاريخية. - ومنهجية سوسيولوجية (لا وجود للطبقات بمعنى classes بل بمعنى strates، أو مجرد فئات إلخ).
ولأن "التنظيم هو شكل التوسط بين النظرية والممارسة ..." فبناء الحزب يحتاج إلى نظرية في التنظيم، وخط سياسي رابط بين الهدف والعمل في سبيل الوصول إليه. لذلك، مهمة التجذر وسط الطبقة العاملة هي ذات أولوية تتفوق على غيرها. وفي سياقها ينبني التنظيم ضمن خطة سياسية مركزية، تحددها المهام الاستراتيجية، وتجسدها الخطط التاكتيكية (أشكال التنظيم، أساليب النضال، الشعارات ...). وهذا هو السياق كذلك الذي تنبني فيه وحدة الاشتراكيين الماركسيين. وبخصوص المحددات التاكتيكية، لا يمكن بناء التنظيم عن طريق الفصل بين التاكتيك والاستراتيجية. التنظيم هو مكان الالتقاء بينهما عبر توسط النظرية ورابط البرنامج. إن ما يتغير هو أشكال التنظيم والنضال، وليس طبيعة التنظيم بغض النظر عن السرية والعلنية. فلماذا إذن هذا الفصل بين المستويين؟ نعتقد أن هناك حاجة ما لهذا الفصل لدى البعض (لنتذكر لينين : "لا يمكن فصل المسائل السياسية ميكانيكيا عن مسائل التنظيم"). ولننقل أو لنطبق هذا الفصل في مجال السياسة، لنجد أن مرحلة الديمقراطية تحتاج هكذا تنظيم أي قائم على أسس تاكتيكية. وللمرحلة الاستراتيجية تنظيمها كذلك، أي القائم على أسس استراتيجية. هناك سقوط في "مرحلوية" (فصل بين المراحل) على مستوى استراتيجي وفي الفصل بين الديمقراطية والاشتراكية. ومن الملفت للنظر أن التنظيم الممكن مرحليا هو تنظيم شبه جماهيري. ولأن البشرية حسب هذا التقسيم لاتعرف سوى تنظيمات ثلاثة مختلفة (ومنفصلة !!) أي :
1- التنظيم الجماهيري. 2- التنظيم الشبه جماهيري. 3- التنظيم الأطري.
يتنكر هذا الطرح لجدلية التصور اللينيني للتنظيم الذي يمفصل العمل بين هاته المستويات الثلاث في سياق خط سياسي جماهيري لحزب طليعي ثوري هو خط الجماهير الذي قام بتطويره القائد الثوري ماو تسي تونغ. ولتسهيل النقاش، نضع الأمور في سياقها. هنا يمكن القول أن التنظيم الشبه الجماهيري هو تنظيم تاكتيكي يعمل لفترة مدتها أربع سنوات. ولنستحضر ما قلناه أعلاه لتتضح لنا الصورة. إنه تنظيم تركيبي من الناحية النظرية لاعتماده على تجارب تاريخية. ولذلك يكتفي باستقطاب "طلائع المنظمات الجماهيرية" وتسنده التنظيمات الذاتية للجماهير التي هي مكان الالتقاء بين مسارين :
1) المسار السياسي. 2) المسار الاجتماعي.
ويجب ألا ننسى مع ذلك أننا في حاجة إلى أطر تقوم بالعمل السياسي. وسيدار هذا التنظيم على قاعدة أقصى حد من الديمقراطية (مع تقليص الوسائط) وأقل ما يمكن من المركزية. - تنظيم لطلائع المنظمات الجماهيرية أم "للطلائع البروليتارية"؟ لسنا في حاجة إلى جواب فالفرق واضح والأدبيات الماركسية تعج بذلك. - التنظيمات الذاتية للجماهير كمكان لالتقاء السياسي والاجتماعي؟ الوثيقة واضحة وحاسمة، يتعلق الأمر بمسارين يتقاطعان داخل التنظيمات الذاتية للجماهير.
إذا شرحنا الأمور سنقف على ما يلي :
1- المسار الاجتماعي يقابله المسار السياسي. 2- التنظيمات الذاتية يقابلها التنظيم السياسي. 3- العمل الجماهيري يقابله العمل السياسي. 4- مناضلو الحركة الجماهيرية تقابلهم الأطر السياسية.
ولنطرح سؤالا رئيسيا :
• عن أي مسار سياسي تتكلم الوثيقة؟ (لا فصل ميكانيكي بين التنظيم وخطه السياسي). • وإذا كان الأمر كذلك فكيف يتم النظر إلى الاجتماعي (الجماهيري)؟
في الوثيقة السياسية الجواب يأتي واضحا : "إنه انتزاع مكتسبات ديمقراطية". وفي المقرر التنظيمي بناء التنظيم التاكتيكي أمامه أربع سنوات ليتحقق. انطلاقا من ذلك، فما مضمون الاجتماعي (الجماهيري) أي الأولويات، أساليب النضال، أشكال التنظيم، البرنامج؟ لكل من المسارين موقعه وسيتم التقاطع بينهما في لحظة لاحقة من خلال تبادل الدعم بينهما. وفي انتظار ذلك، فلنتمسك بالصبر ! لعل هذه النظرية (نظرية الالتقاء والتقاطع ...) تستقي جذورها من النظرية الأم (نظرية السيرورات الثلاث المترابطة والمتزامنة في ذات الآن). للتذكير :
(1) في التعامل مع السياسة يقر الماركسيون "بمركزية الصراع الطبقي" « Toute lutte de classe est une lutte politique » Marx. ويعني هذا تحليل التناقضات الطبقية (التناقض الأساسي، التناقض الرئيسي، التناقضات الثانوية ...) وتحديد البرنامج والمهام انطلاقا من ذلك.
(2) في نضالهم الاجتماعي (الجماهيري) يقر الماركسيون بأولوية السياسي (الاجتماعي يتضمن السياسي) ومن هنا أهمية الحزب السياسي وأهمية الهيمنة الإيديولوجية والسياسية للطبقة العاملة، ضمن السيرورة التاريخية لبناء الاشتراكية. ولذلك احتلت إشكالية الوعي الطبقي، بارتباط مع بناء حزب الطبقة العاملة، أهمية قصوى في الفكر الماركسي (انظر إسهامات لينين الأساسية): أهمية خطة سياسية دعائية تحريضية مركزية في خدمة بناء التنظيم البروليتاري. وخلافا لمناوئيه، أدرك لينين أهمية المركزية لا كمركزية تنظيمية تقنية بل كمركزية سياسية.
(3) فيما يخص علاقة التنظيمات الذاتية للجماهير بحزب الطبقة العاملة (التنظيم السياسي).
أهي علاقة تداخل وتبعية ؟ أم هي علاقة خارجانية (rapport d’extériorité) ؟ أو علاقة حياد ( فصل الخبز عن السياسة)؟
في نظرنا، استقلالية التنظيمات الذاتية تعني توفرها على استقلال القرار في مجال اختصاصها، علما أن التجارب التاريخية تثبت أنها تظل مطبوعة بالجزئية، الفئوية، المحلية، القطاعية، الشوفينية، الاقتصادوية والتجريبية ... أي بقاءها لقمة صائغة في يد الفكر البورجوازي (الإيديولوجية المسيطرة هي إيديولوجيا الطبقة المسيطرة)، إذا لم يناضل الماركسيون من أجل انتزاعها من تربصات الاستيلاب الاقتصادي والإيديولوجي، ومن أجل بسط الهيمنة السياسية والإيديولوجية لخط الطبقة العاملة وحزبها السياسي، ضمن سيرورة تنامي الوعي الطبقي السياسي داخل الجماهير. إن تكون الوعي البروليتاري سيرورة غير متساوية وغير متواصلة، لأنها انعكاس لسيرورة تاريخية غير متواصلة لتكون البروليتاريا ذاتها. الطابع الغير المتواصل لتطور الوعي الطبقي له شروط موضوعية (شروط العمل والعجز عن النضال على الدوام (ضرورات العيش) فبعد المعارك تكون العودة إلى منطق الفردانية (ما دمنا لم نتخلص بعد من الرأسمالية) ولكن في معمعان النضال تبرز العناصر الأكثر وعيا، نضالا ومقاومة لنزعة العودة إلى النضال من أجل الوجود (ضرورات العيش). إنها الطلائع البروليتارية. وتبرز هنا الحاجة الضرورية إلى الإعلام والتكوين النظري واحتلال النظرية لدور مستقل نسبيا في السيرورة التاريخية. هاته الحاجة أساسية لمواجهة التجريبية وتمظهراتها (وعي مجزئ، زائف، مستلب)، وللإمساك بطرفي الجدل : التجزئة والوحدة الطبقية. في فترات التراجع تقوم الحاجة إلى ممارسة نضالية شمولية لقلة من الطبقة العاملة تتابع النشاط السياسي الاشتراكي المتواصل. إن من لم يفهم الطرح اللينيني لا يدرك الأساس المادي للحزب الطليعي الذي يتماشى تماما مع جوهر النظرية الماركسية للمعرفة. إن الحزب اللينيني وضرورته مستمدة من دوره كذاكرة جماعية للطبقة العاملة وكمثقف جماعي (ضمان تراكم الخبرات والوعي ولو في مراحل الجزر). إن المركزة هنا هي مركزة التجارب والخبرات، أي مركزة سياسية. وهذا ما لم تدركه روزا لوكسمبورغ. إن الطليعة البروليتارية المفهومة هكذا تستدعي تنظيما طليعيا. ولنتذكر جميعا الفرق الذي وضعه لينين بين الإصلاحي والثوري حين أكد على أن الثوري يتابع الدعاية الثورية والإعداد للثورة في المراحل الغير ثورية. لا يسمح الوقت بالمزيد ولكن النظرية اللينينية كان وراءها 25 سنة من التجارب والخبرات ولا تختزل في كراسة "ما العمل؟" ولذا وجب المعالجة على هذا الأساس لنكتشف تدقيقات لينين المستمرة لجدلية الجماهير والحزب، ولجدلية الحزب والتنظيمات الذاتية للجماهير (المجالس العمالية، اللجان، المنظمات الجماهيرية ...). إن الهيمنة السياسية للحزب تتم عبر خطه السياسي، وقدرته على إقناع الجماهير، الشئ الذي أدركه ماو عندما أسس لخط الجماهير.
إن النظرة الدونية للعمل السياسي (رفض أولوية السياسي الطبقي) تسقط بشكل متلازم في :
(1) على مستوى العمل الجماهيري :
الانغماس في الحركية والعفوية والفئوية والنظرة المتجانسة، الغير الطبقية للحركة الجماهيرية ولتنظيماتها الذاتية، ومن ثمة فقدان البوصلة.
(2) على المستوى السياسي :
السقوط في الذيلية، النخبوية والنزعة الاستبدالية (الاستعاضة عن دور الجماهير السياسي). ذلك لأن السياسة هي اختصاص نخبة، أطر حتى ولو سميناهم "طلائع المنظمات الجماهيرية" أو أطر سياسية. إن أساس هذا الطرح نجده في عملية الفصل التي ذكرناها وهي تقوم على : - للجماهير وتنظيماتها الذاتية دور اجتماعي واقتصادي. - للتنظيم السياسي دور سياسي (في العمق سياسوي).
لقد كان ولازال هذا الطرح يسقط في وهمين ينتشران وسط الحركات الجماهيرية والحركات الاشتراكية :
- الوهم الاجتماعي :
وهو الاعتقاد بأن تغيير العالم ممكن بدون أخذ السلطة (ينتشر الآن وسط الحركات المناهضة للعولمة ...).
- الوهم السياسي :
وهو يقوم على إفراغ الديمقراطية من معناها التاريخي، الاجتماعي والطبقي، مما يفسر تضخم الخطاب حول الديمقراطية والفصل بين التاكتيك والاستراتيجية، الذي يقابله فصل التنظيم بالمعنى التاكتيكي عن معناه الاستراتيجي. بينما فصل النضال من أجل الديمقراطية عن النضال من أجل الاشتراكية يقابله فصل التنظيمات الذاتية للجماهير عن التنظيم والعمل الجماهيري عن العمل السياسي.
(3) على المستوى التنظيمي :
باستحضار البنية التنظيمية والخبرات المتراكمة للنهج الديمقراطي، وباستعادة النقاش المكرر حول علاقة السياسي والجماهيري، نعتقد أن الأزمة التنظيمية ستظل تراوح مكانها، لأن النهج الديمقراطي غير قادر على معالجة سلسلة من التناقضات. ولا نظن أنه في غياب امتلاك نظرية تنظيمية، بالإمكان الخروج منها. والدعوة إلى أكثر ما يمكن من الديمقراطية يكرس الإشكالية. فأعضاء اللجنة الوطنية لا يمثلون إلا أنفسهم في حين تبقى الفروع خارج دائرة القرار السياسي. فالقرارات التي لايساهم فيها الجميع ليست قرارات للجميع. وهذا ما يفسر الخلل القائم بين الهيآت الوطنية المقررة وباقي الهيآت المحلية ... وضع يجعل التنظيمات المحلية تعيش كما لو أنها في تنظيم قائم على لامركزية تنظيمية، في حين تجد نفسها مطالبة بتطبيق قرارات لم تساهم في بلورتها. هذا حال المنظمات المحلية. فماذا عن واقع العمل الجماهيري والمناضلون ينتقلون من تنظيم "أكثر ديمقراطية" إلى تنظيمات أكثر مركزية (النقابات، الجمعيات...) وهذا يفسر لماذا يتباهى المناضلون الجماهيريون بتنظيماتهم الجماهيرية؟. إن ما لم ندركه أن هذه الفرمولة تقوم بتأسيس تبعية السياسي للعمل الجماهيري، وهو ما يفسر الاستهانة بإطارات النهج الديمقراطي وعملها السياسي، الشئ الذي يكرسه كذلك رفض العمل بالخلايا وتفضيل الإبقاء على المجالس المحلية كصيغة فضفاضة وعائمة. إن وراء الأكمة ما وراءها ! فوراء هذا الحال يختبأ تصور نخبوي للعمل السياسي وللتنظيم. لجنة وطنية كنواة مركزية بيروقراطية وفروع حائرة بين مركزية بيروقراطية من جهة (علاقة الوطني بالمحلي)، ولا مركزية تنظيمية سائبة على المستوى المحلي من جهة أخرى. لا علاقة للجزء بالكل، وإن وجدت فمن عل. أما التأكيد على الانضباط، المحاسبة والنقد والنقد الذاتي فأشياء لا محل لها من الإعراب في هكذا تنظيم... أما سياسة الأطر في ظل هذا التصور التنظيمي والسياسي والذي يتجاهل جدلية التنظيم الطليعي والتنظيمات الشبه الجماهيرية والمنظمات الجماهيرية، ويقوم على الفصل بين المحددات التاكتيكية والإستراتيجية في عملية بناء الحزب، فلا يعدو كونه تصورا بورجوازيا صغيرا وخطا داخليا في نظرته لتربية الأطر وتكوينها. ذلك أن تكوين الأطر في ظل تصور قائم على الفصل بين السياسي والجماهيري، بين النظرية والممارسة، لن يستطيع إدراك أن تربية المناضلين وتكوين الأطر هي أساسا مسألة إعادة صهر مفهومهم للعالم حتى ينتسبوا بالكامل للتنظيم على المستوى الإيديولوجي وكذلك السياسي. وأسلوب لتعامل مع إشكالية الأطر يقوم على المبادئ التالية:
1- وحدة النظرية والممارسة. 2- الارتباط الوثيق بالجماهير. 3- النقد والنقد الذاتي. 4- التركيز على الهوية الطبقية البروليتارية دون إغفال الطاقات الأخرى. 5- تغليب مقاييس الكيف على الكم وتغليب مقاييس الممارسة النضالية مع الجماهير.
لقد أدركت منظمة "إلى الأمام" مبكرا أن التنظيم السياسي يتأرجح من خلال قطبي الممارسة والنظرية بين العفوية والأطروية (cadrisme). والحال أن الانحرافان لهما منبع واحد: هو سعي المثقف البورجوازي الصغير ليكون مربيا فوق الجماهير. (انظر الأطروحة 3 حول فويرباخ).
(2) التعديلات وفشلها في التوفيق:
- فيما يخص الشكل التنظيمي للتنظيم السياسي المستقل للطبقة العاملة والكادحين، تم الإبقاء على رفض صيغة الحزب كمفهوم تنظيمي والاستمرار في اعتمادها كمفهوم دعائي فقط، لكن التعديل تراجع عن المبررات المقدمة في الوثيقة الأصلية، التي مفادها أن الشكل التنظيمي قد يكون تنظيما جبهويا لعدة تنظيمات ماركسية أو تحالفا معينا يجمع عدة أحزاب لفئات مختلفة من العمال والكادحين. هذا التعديل إذن لا يفعل شيئا سوى حذف كل ما يمكن أن يثير النقاش مؤجلا إياه إلى أجل غير مسمى، على الرغم من الاعتراف الشكلي بأهميته. - رغم أن التعديل يقر أن شكل التنظيم هو الذي يتحدد بالاعتبارات التاكتيكية وليس طبيعته، فهذا لا يغير شيئا في الطرح النظري للورقة لطبيعة التنظيم المنشود، التي لا يخدم مهمة بناء التنظيم السياسي المستقل للطبقة العاملة انطلاقا من الاعتبارات الاستراتيجية (التحرر الوطني الديمقراطي ذو الأفق الاشتراكي). - أما استبدال صيغة "تنظيم شبه جماهيري" بصيغة "تنظيم ذو عمق جماهيري" فهو غموض وهروب إلى الأمام في الغموض ... - استبدال طلائع المنظمات الجماهيرية بطلائع العمال والكادحين في المنظمات الجماهيرية : يبقي هذا التعديل على الطابع النخبوي في الاستقطاب، ولو لعمال وكادحين. ولا يرقى إلى مفهوم الطلائع البروليتارية، الذي يتحدد بالوعي الطبقي بالمعنى التاريخي، والذي يتجاوز مباشرية الطبقة العاملة وانقساماتها، وليس بالوعي المجزأ (فئوي، قطاعي، نقابي، ...) الذي ينبثق من العمل الاقتصادي المباشر والذي تكرسه المنظمات الجماهيرية. - استبدال المسارين المنفصلين : السياسي والاجتماعي بعلاقة "تفاعل جدلي دائم" بين التنظيم السياسي والتنظيمات الذاتية للجماهير. لكن "علاقة التفاعل الجدلي الدائم" هذه لا تجد مكانا لتجسيدها في البنية التنظيمية. إذ أن الخلية كآلية تنظيمية ل"علاقة التفاعل الجدلي الدائم" لاتحظى بالأولوية اللازمة في البنية التنظيمية للنهج الديمقراطي، بل تظل "إمكانية لا يتم إعدامها إذا توفرت الظروف المواتية". كما أن هذه البنية، ونظرا لحرصها على "تقليص الوسائط وتبسيط الهيكلة"، تعدم إمكانية بناء قنوات تنظيمية متنوعة ومتعددة بين التنظيم والجماهير. هذه القنوات التي يعود إليها دور إقامة "علاقة التفاعل الجدلي الدائم" التي يتحدث عنها التعديل. - بالنسبة لمركزية السياسي، فخارج إطار العمل بالخلايا والقنوات التنظيمية الوسطية، التي يمكن العمل من داخلها على الربط الجدلي بين السياسي والاجتماعي، يصبح العمل السياسي سياسويا في العمق، وبالتالي يصير مضمون مركزية السياسي هو بالضبط ما تحذر منه الوثيقة (أي التعامل مع التنظيمات الذاتية كقنوات لتمرير الخطاب). - فيما يخص المركزية الديمقراطية، فإن التعديل إذ يعترف بها كمنطلق نظري عام، يلتف عليها حين يتعامل مع مضامينها الإجرائية كمسائل خاضعة للظروف ولمراحل تطور التنظيم. وهكذا يتم التملص من تحديد تلك المضامين وانعكاساتها على العلاقات التنظيمية، ليتم اختزالها في فقرة لاحقة في تبني "مبادئ الديمقراطية والانضباط والنقد والنقد الذاتي والمحاسبة والوحدة التي تمنع وجود تكتلات أو تيارات بداخله". إضافة إلى أن التعديل يتكلم عن المركزية الديمقراطية كمنطلق نظري يحكم العلاقات داخل التنظيم، ولا يذكر شيئا عن العلاقات بين التنظيم والجماهير. الشيء الذي يكرس استمرار أطروحة الفصل بين الجماهيري والسياسي. إن المركزية الديمقراطية، بالمعنى الماركسي اللينيني، ليست مسألة تقنية بقدر ما هي مفهوم تنظيمي، يستقي جذوره من النظرية الماركسية للمعرفة، التي تنظر إلى تطور المعرفة باعتبارها تطورا حلزونيا عبر مرحلتين : مرحلة المعرفة الحسية (الممارسة) ومرحلة المعرفة العقلية (النظرية) التي تختلف نوعيا عن المرحلة الأولى، ثم العودة إلى الممارسة من أجل تطويرها واختبار مدى صحة النظرية. وفي كل دورة ترتقي النظرية وترتقي الممارسة (يرتفع مستواهما). في اعتقادنا "الجدلية" ليست طريقة للاختزال، إنها طريقة إعادة إنتاج فكرية ومفاهيمية للواقع، طريقة تطور أو تفسير الظاهرات الاجتماعية انطلاقا من النشاط العملي والموضوعي للإنسان التاريخي. فلإدراك الواقع لابد من مجهود (un détour). ولذلك يميز الفكر الجدلي بين تصور الشيء ومفهومه (Représentation et concept) ليس فقط كدرجتين في المعرفة ولكن وخاصة كنوعيتين للممارسة الإنسانية (Praxis) مما يعني أنه ليس هناك قطبان متعارضان ومتكاملان، الأول قطب يمثل موضوع المعرفة، التحليل، وقطب ثاني يمثل ذات مجردة للمعرفة في وخارج العالم، هناك إذن درجتان للممارسة تقابلهما درجتان للمعرفة. على هذا الأساس فإن الدور الديمقراطي للمركزية الديمقراطية يكمن في تحليل المعطيات الحسية الغنية لمختلف تجارب الممارسة الاجتماعية للجماهير، لفهم الواقع الموضوعي والذاتي في جوهره وكلياته والروابط الداخلية التي تربط بين أجزائه (معرفة عقلية). الشئ الذي يقتضي نقاشا عميقا وحرا وواسعا، يتوج بإقرار رأي الأغلبية في بناء خط الحزب، مع احتفاظ الأقلية بحقها في الدفاع عن رأيها. وهو حق يوفر له الحزب جميع الإمكانيات لممارسته. إن الديمقراطية بهذا المضمون تفترض تنظيما طليعيا أي منظمة أطر شيوعية قادرة على تحليل المعطيات الحسية التي لاتعكس سوى ظواهر الأشياء وجزئياتها وروابطها الخارجية، وتحويلها إلى معرفة نظرية أعمق وأصدق وأكمل للواقع الموضوعي والذاتي (بلورة خط الطبقة العاملة)، وليس تنظيما منفتحا نسبيا ومكونا من طلائع المنظمات الجماهيرية وإن كانوا عمالا وكادحين. فالتنظيم الطليعي للأطر الشيوعية وحده يضمن الحفاظ على استقلال الطبقة العاملة وسيادة خطها. إن الديمقراطية، إذن، ليست غاية في حد ذاتها بل هي وسيلة فقط والهدف هو بلورة خط سياسي سديد. وتجدر الإشارة إلى أن احتفاظ الأقلية بحقها في التعبير عن رأيها يبرره كون ما هو جديد رغم صحته في العديد من الأحيان لا تدركه الأغلبية ولا يترسخ لديها إلا بعد جهود لإقناعها به وبعد خوضها تجارب تثبت صحته. أما الدور المركزي، فإن أهميته تتجلى في كون النظرية (وبالتالي الخط السياسي المبلور انطلاقا منها) مهما كانت صحيحة وسديدة تصبح عديمة الأهمية ما لم تطبق في تطوير الممارسة (الموضوعة 11 حول فيورباخ). فمركزية التنظيم وحدها تسمح بتننسيق تدخل الطليعة في الحركة الجماهيرية العفوية قصد تطويرها. وفي غياب ذلك يكون التدخل مرتجلا وأحيانا متضاربا، وغير ذي فعالية في تطوير الحركة الجماهيرية. كما أن تقييم نتائج تدخل الطليعة المنسق يمكن من تصويب خط الحزب (عودة للنظرية في مستوى أعلى) مما يعني حركة لانهائية من التعلم من الجماهير وتعليمها. حركة تتجاوز المقابلة الشكلية بين طليعة مستنيرة حاملة للعلم وطبقة مبعثرة غارقة في وعي مباشر لا شفاء منه بل هي حركة تجعل لكل من الطليعة والجماهير دورا فاعلا وخلاقا. من هذا المنطلق، ومما يؤكد أن المركزية الديمقراطية ليست قواعد إدارية للتسيير الداخلي لتنظيم ماركسي لينيني، تأخذ القيادة كطليعة شرعيتها ليس من كونها تم انتخابها حسب القواعد التنظيمية ولكن ما يؤسس شرعيتها هو صحة سياستها. وذلك مرتبط ب:
- مدى ارتباطها بالجماهير والتعلم منها ومركزة أفكارها لبلورة خط سياسي يستجيب لمطامحها. - مدى خضوعها لمراقبة الجماهير وتشجيع النقد والنقد الذاتي.
إن المركزية كما يتبين لنا، ليست هي الأخرى سوى وسيلة أما الغاية فهي تطوير الحركة الجماهيرية وتوسيعها وتجذيرها. توجد الديمقراطية في قلب المركزية والعكس بالعكس. إذ أن غياب حق النقد والتعبير عن الرأي يجعل من الانضباط خضوعا وعبودية ولا معنى لاعتباره ثوريا إذ أنه أصبح رجعيا (الانضباط البيروقراطي) أما بعد النقاش الحر، العميق والواسع فإن الانضباط يصبح الشكل الملموس للحرية (الانضباط البروليتاري) الذي يمكن الفرد والمجموع من النضال في سبيل إنجاز القفزة التي تحدث عنها إنجلز للانتقال من عالم الضرورة إلى عالم الحرية. إن كلا الدورين : الديمقراطي (التحليل النظري للمعطيات الحسية للحركة الجماهيرية) والدور المركزي (تنسيق تدخل الطليعة في الحركة الجماهيرية) يشترطان علاقات وروابط متعددة ومتنوعة ومختلفة المستويات في الوعي لتربط التنظيم الطليعي بالجماهير، عكس ما تقترحه الوثيقة من تقليص الوسائط وتبسيط الهيكلة. فمن خلال هذه الروابط المتشعبة، تشكل سلسلة توالي الديمقراطية والمركزية سيرورة لالتحام الطبقة العاملة بطليعتها، عبر التقويم المتواصل والتطوير المستمر للخط السياسي والممارسة النضالية للتنظيم الطليعي. "الانطلاق من المعرفة الحسية للارتفاع على نحو فعال إلى المعرفة العقلانية لتوجيه الممارسة الثورية على نحو فعال من أجل تحويل العالم الذاتي والموضوعي، الممارسة والمعرفة، ثم من جديد الممارسة والمعرفة... وهذا الشكل الدوري لا نهاية له، وفي كل دورة يرتفع مضمون الممارسة والمعرفة إلى مستوى أعلى" في الممارسة: ماو تسي تونغ. في هكذا تصور تنظيمي يتشكل حزب الطبقة العاملة في سيرورة يتمفصل خلالها مستويات ثلاث من التنظيم : التنظيم الطليعي كنواة صلبة من الأطر الشيوعية، التنظيمات الوسطية أو الشبه جماهيرية والجماهير المرتبطة بها، بروابط متنوعة ومتعددة والكل يشكل حزب الطبقة العاملة كجسد واحد لا ينفصل الرأس فيه عن باقي الجسد.
- هكذا إذن فشلت المحاولات التوفيقية في مسعاها. بل أكثر من ذلك، إن النزعة التوفيقية في حد ذاتها تمثل خرقا للدور الديمقراطي (أو لحظة الديمقراطية كما تسميها الوثيقة) لأنها تشكل عرقلة للبحث والسجال ومجابهة الأفكار من أجل تطوير خط الحزب. كما تمثل خرقا للدور المركزي (أو لحظة المركزية) إذ أن الغموض، الناتج عن التوفيق –بدون مبادئ- بين تصورات متضاربة، يؤدي إلى تعددية في التفسير وانحرافات في التطبيق.
(3) حول العمل الجماهيري :
• ملاحظات في الشكل :
يعاني النص من تفكك مفرط نتيجة غياب أي تصميم منطقي داخلي. ولذلك جاءت الأفكار متأثرة بانعدام بنية للفقرات المختلفة. فبالإضافة إلى الطول الغير مبرر، هناك تكرار وعموميات لا تفيد في إعطاء معنى للأفكار. فغلب المنهج الوصفي وانعدمت الدقة لتحديد المفاهيم.
• من حيث المضمون :
- في التقديم :
تمجيد التنظيمات الذاتية كحلول سحرية، أو كصمامات أمان ضد الهيمنة السياسية للدولة والأحزاب، بما يشي بفصل ميكانيكي ل"الاجتماعي" عن "السياسي"، علما بأن الحركات الثورية التاريخية للجماهير هي القادرة على صنع الحلول والبدائل. إن بناء السلط المضادة لا يتم خارج أولوية "السياسي" (الحزب هو نفسه شكلا من أشكال السلط المضادة للدولة)، وخارج النضال من أجل بناء سلطة الجماهير الكادحة بقيادة الطبقة العاملة وحزبها الثوري. إن إشكالية العلاقة بين الحزب والتنظيمات الذاتية المستقلة للجماهير والسلط المضادة لا يمكن مناقشتها خارج تحديد مراحل النضال السياسي، وخارج تحديد علاقة التاكتيكي بالاستراتيجي، وخارج تحديد المضامين الطبقية التاريخية لذلك. إن مفهوم الجماهير ومفهوم الشعب مفاهيم ذات طابع استراتيجي متحرك، ولذلك تأخذ التنظيمات الذاتية للجماهير وسلطها المضادة مضامين تحددها طبيعة المرحلة التي نعمل على اجتيازها. إن تعددية هذه التنظيمات أمر لا خلاف عليه لوجود عوامله الموضوعية والذاتية.
- في مفهوم وأهداف العمل الجماهيري :
تعاني الفقرة بشكل عام من غلبة الوصف وانعدام التحديد المفاهيمي، ولذلك تم التعويض عن النقص التحليلي بالعموميات بدون مضمون محدد. ولكن الأهم هو غياب اعتماد مفهومين مركزيين : مفهوم الطبقة العاملة ومفهوم الصراع الطبقي. وحين تم تبني صيغة "الحزب المستقل للطبقة العاملة وعموم الكادحين"، جاء مبتورا عن السياق الذي استعمل صيغ أخرى في فقرات لاحقة كصيغة "كادحون".
- في مفهوم التجذر وسط الجماهير الكادحة :
إضافة لغياب صيغة الطبقة العاملة واستمرار صيغة كادحون، ليس هناك مجال لتناول مفهوم التجذر نظريا، بل أكثر من هذا، لايترجم معنى التجذر إلى خطة سياسية وتنظيمية، بل يتم الاكتفاء بالإشارة لدور المناضلين. ولم تختلف فقرة "في أهمية العمل الجماهيري" عن سابقاتها مؤكدة أن هذا الأخير "يمكننا من استقطاب القسم الأكثر وعيا من الناحية الطبقية وسط الكادحين وعموم الجماهير ...". إن المنهجية الغير الطبقية تسقط في نظرة متجانسة للحركة الجماهيرية.
- واقع الحركة الجماهيرية في الفترة الراهنة :
عبثا سنبحث عن مميزات للحركة الجماهيرية في وضعها الراهن لغياب الهدف المحدد لذلك. إن تحليل واقع الحركة الجماهيرية يستهدف في نظرنا توصيف طابع المرحلة جماهيريا، للوصول إلى تحديد المهام والشعارات والأشكال النضالية والتنظيمية. ولن يكون ذلك دون تحديد القطاعات الجماهيرية الأكثر نضالية أو المتوفرة على أكثر الطاقات والإمكانات لتركيز العمل داخلها وبلورته. ومن ثمة الحاجة إلى تحديد طابع الحركة الجماهيرية في راهنها، عبر تحليل موضوعي وذاتي وبلورة خطة عمل دعائيا، تحريضيا وتنظيميا خدمة لأهدافنا السياسية.
- واجهات النضال الجماهيري :
لأن طابع المرحلة المحدد استراتيجيا هو : التحرر الوطني والديمقراطي. كان على الفقرة أن تستحضر طابع التشكيلة الاجتماعية المغربية التابعة (نظام رأسمالي تبعي) كإطار عام لتحديد الواجهات النضالية والربط فيما بينها. فالواجهة السياسية أو ما يرتبط بها لا يحكمها إطار نظري مفاهيمي يسمح بالربط المنطقي بين قضايا وطنية وقومية وأممية. دون ذلك يتم اقتراح التضامن مع إيران، السودان، وسوريا دون أن ندري لماذا وكيف؟ أما واجهة النضال الاجتماعي فتعتمد مطالب ذات صلة بإطارات جماهيرية وليست خاصة بالتنظيم السياسي. وعموما عند تناول واجهات النضال الجماهيري يتم السقوط في مأسسة الحركة الجماهيرية لحد يمكن القول معه أن الحركة الجماهيرية تساوي عدد المنخرطين في إطاراتها. والحال أن الحركة الجماهيرية أوسع بكثير من ذلك.
- حول علاقة العمل الجماهيري والعمل السياسي :
تنطلق الوثيقة من مبدأ سليم حين تؤكد على أولوية السياسي في علاقته بالجماهيري. لكن سرعان ما تتناقض مع نفسها حين تتناول الموضوع بالنقاش : (1) تنقل الوثيقة النقاش إلى مستوى عام حين تتناول التأثيرات السلبية للتجارب الحزبية على العمل الجماهيري، وداخل المنظمات الجماهيرية. لكن أين نحن من هاته التجربة وما هي تجربة مسارنا في هذا الإطار؟ لاشيء وهذا أمر غريب بالفعل ! لأن الموضوع يعني النهج الديمقراطي أولا. (2) تتوضح أسباب التناقض (المشار إليه أعلاه) لما تبحث الوثيقة عن تصور لهاته العلاقة، وهو تصور ينهل من "النظرية الأم: نظرية السيرورات الثلاث".
- في تعريف العلاقة :
العمل الجماهيري والعمل السياسي هما "حلقتان" تتداخلان وتتكاملان ضمن سيرورة النضال من أجل التغيير الديمقراطي الجذري. (هذا حسب الوثيقة طبعا).
- كيفية فهم العلاقة؟ !
يكون الفهم سديدا (حسب الوثيقة) إذا تم الربط جدليا بين "الحلقتين" وذلك عن طريق مراعاة خصوصية كل منهما ومن ثمة تمفصلهما وتقاطعهما. والنتيجة هي أن القوى الديمقراطية الجذرية تشكل المساند لنضالات الجماهير، بحيث تخلخل علاقات القوى عبر نضالاتها، الشئ الذي يؤثر على النضالات الجماهيرية. والعكس بالعكس، فتقدم النضالات الجماهيرية يؤثر على الصراعات الطبقية وهذا يشكل سندا للنضالات السياسية. (3) لقد ابتدأنا بأولوية السياسي على الجماهيري، ولكن سرعان ما عاد التوازن والتكافؤ، لأن الوثيقة تنهل من "نظرية السيرورات الثلاث" المترابطة والمتزامنة. فهي بدورها تقوم على أساس من الفصل بين حقلين متقاطعين ومتوازنين داخل سيرورة النضال من أجل التغيير الديمقراطي الجذري. يتعلق الأمر بحقلين لسيرورة واحدة ! (4) حسب أبجديات الدياليكتيك، السيرورة تحتمل عدة تناقضات. لانستطيع الفهم إذا غيبنا حركة التناقضات المحددة للسيرورة وانعكاساتها على العمل السياسي الجماهيري. لا ندرك الجوهر دون إدراك جدلية البنية التحتية والبنية الفوقية المفهومة على أساس من الوحدة المادية في علاقتها بالصراعات الطبقية (العودة إلى المادية التاريخية والصراع الطبقي). فالاجتماعي (العلاقات الاجتماعية) بما فيه السياسي الذي لا ينفصل عنه يؤثر بعمق على الاقتصادي. والبنيات الفوقية بما فيها القانونية تحافظ على البنيات التحتية ليس كبنيات فوقية في حد ذاتها بل لأن بعض القوى الاجتماعية التي تخدمها تلك البنيات الفوقية هي التي تعارض تطور قوى الإنتاج. ومن خلال تفاعل الاجتماعي والاقتصادي وتناقضهما تولد القوى الاجتماعية التي تحل التناقض. (5) هل يتعلق الأمر بعلاقة خارجانية (rapport d’extériorité) تجمع عاملين (Agents) لسيرورة موضوعية، كل منهما مستقل عن الآخر لكن يتداخلان ويتقاطعان؟ نعتقد أن الإقرار بذلك هو سقوط في "تفكير دائري" (raisonnement circulaire) لا يأخذ بعين الاعتبار وجود بنية محددة (structure à déterminante). (6) غياب نظرية للوعي الطبقي أدى ويؤدي باستمرار إلى النظر للحركة الجماهيرية "ككل متجانس" يفتقد إلى أي تحديد طبقي. ودون ضبط علاقة الوعي الطبقي بالصراع الطبقي، والاحتكام إلى نظرية في تحديد حركة الجماهير ومنظماتها، يتم السقوط في الاقتصادوية والشعبوية والنظرة النخبوية المتعالية اتجاه الجماهير. (7) لقد حدد الماركسيون الحركة الجماهيرية وتنظيماتها الطبقية انطلاقا من ثلاث مستويات للنضال :
- النضال الاقتصادي. - النضال السياسي. - النضال النظري (إضافة إنجلس).
ويعني ذلك أن التنظيم السياسي يمارس الدعاية والتحريض. وهما بمثابة تعيين حدود لنشاطه. فكل تعبئة سياسية أو مطلبية ينظر إليها كحلقة من حلقات موجهة ضد النظام الاقتصادي والسياسي القائم. وما يميز الشعبوية أنها لا تختلف عن سياسات الأحزاب البورجوازية والبورجوازية الصغيرة. لذلك نحتاج إلى تنظيم صلب وأهداف واضحة، مما يتطلب تحول التنظيم كذلك إلى مركز إشعاع فكري. إن الحط من النضال النظري (الفكري) يولد :
1) الحط من دور التنظيم وتحويله إلى مواقع أخرى قد تكون الشعبوية، العفوية، الحركية المفرطة ... 2) تقديس العفوية وجهل بقوانين الحركة الاجتماعية. 3) استبدال دور طليعي للتنظيم بمفاهيم شعبوية ضبابية، والسير خلف الجماهير (لعق دبر الحركة الجماهيرية كما يقول لينين). 4) عدم القدرة على الفهم والتحكم في قيادة النضال الجماهيري، من خلال وضع سلم للمهام المطلوبة، بدل التماهي دون بوصلة. 5) السقوط في العفوية والتجريبية (غياب أي نظرية عن التنظيم) كانعكاس للتجريبية السياسية والإيديولوجية. ويكون لذلك أوخم الآثار ومنها التلوث بالواقع الفاسد. إن النظرية التنظيمية هي شرط أساسي لوجود التنظيم السياسي الثوري، وإلا فالانتقائية في مجال التنظيم وانتشار النزعة التقنية (اعتبار المسألة التنظيمية مسألة شكلية وغير سياسية) وقد أكدنا منذ البداية أن التنظيم هو شكل التوسط بين النظرية والسياسة والممارسة.
على سبيل الخاتمة :
أمام لحظة تاريخية وظرفية نظرية بامتياز، فإن النهج الديمقراطي، باعتباره تنظيما سياسيا يقف على خلفية تاريخية لنضاله، ويستمد مرجعيته الإيديولوجية والسياسية من تجربة طويلة للحركة الماركسية اللينينية المغربية ومنظمة إلى الأمام، ومن مواكبة راهنة للأوضاع الوطنية والدولية الحالية، يجد نفسه مطالبا برفع التحديات والاستعداد النظري والسياسي لمواجهة مهامه التاريخية. ذلك أن التفاعل مع مجريات الأحداث يخضعه، كجسم حي، لتأثيرات إيديولوجية وسياسية غير منفصلة عند استقبالها، عن تركيبة قاعدته الاجتماعية. هكذا يجد نفسه وسط محيطه المباشر والغير المباشر في وضعية سفينة تتقاذفها الأمواج. تلك الأمواج التي تتولد داخل معترك من الصراعات وطنيا، عربيا وعالميا. فالعديد من المناضلين والمثقفين، عربا ومغاربة، قد سقطوا تحت وقع الصدمة التي ولدها انهيار الاتحاد السوفياتي سابقا، في عديد من ردود الأفعال، جعلتهم إما يتنكرون لماضيهم ويدعون أن الدخول في التجربة الاشتراكية كان خطأ تاريخيا، وإما يظلون حبيسي نظرة دوغمائية عمياء تختزل الانهيار كله في مؤامرة دولية وخارجية ضد التجربة الاشتراكية. في هذا السياق العام، تظهر الأحداث المتتالية إلى الآن كما لو أنها نهاية للتاريخ وقدرا محتوما : والقدر الذي لا مفر منه هو الرأسمالية. وفي العالم العربي، نظر العديد من المثقفين للوضع عن طريق: إما العودة للخطاب الليبرالي (الديمقراطية السياسية، حقوق الإنسان) وإما الدخول في طريق البحث عن حقائق جديدة مزعومة، بالانخراط في التيارات الإسلامية. وكانت النتائج مدمرة بالنسبة للثقافة التقدمية العربية ولليسار العربي على حد سواء. هكذا انتقل العديد من المثقفين العرب من الفكر العلمي إلى الفكر الغيبي، ومن مشروع مجتمع اشتراكي إلى مشروع مجتمع ثيوقراطي، ومن الفكر المادي الجدلي إلى الفكر الوضعي، ومن الاشتراكية إلى الليبرالية، ومن الإنسية الشيوعية إلى الإنسية البورجوازية. وفي ظل سياقات فكرية متنوعة، آمن العديد بوعي أو بدون وعي بنهاية التاريخ. وكان عليهم أن يضربوا بعرض الحائط بكل قيمهم النضالية السابقة. فلا حاجة إلى الثقة بالجماهير، لأن ليس لها أي دور في تحقيق التغيير. فالتغيير تصنعه القوى الاقتصادية العمياء : قوى السوق (اليد الخفية). وفي تساوق مع إيديولوجية نيوليبرالية، أعلنوا موت الشعب، الجماهير والوطن. من هنا، غير العديد من المناضلين والمثقفين، يساريين حتى أمس قريب، جلدهم وتحولوا إلى منفذين لمهام إيديولوجية وسياسية لحساب الإمبريالية، والشركات المتعددة الاستيطان، والرجعية، وأحيانا دعاة التطبيع مع الكيان الصهيوني. وإلى جانب جوقة هؤلاء، تحرك بعض قدامى الماركسيين تحت شعار "حرية النقد" و"الدفاع عن الماركسية"، ليزرعوا وينشروا العديد من الأفكار قامت وتقوم بتكريس الغموض الإيديولوجي. وهؤلاء هم الأخطر بالنسبة للماركسية الثورية. ومن أخطر أفكارهم ادعاءهم أن الماركسية تحافظ على قيمتها فقط كيوتوبيا، وأن إشكالية الحزب والوعي الطبقي قد تم تجاوزها لأن المعرفة أصبحت في متناول الجميع بفضل شبكة الأنترنيت، وبالتالي فإن دور الحزب كوسيط قد تم تجاوزه. أما الدولة فلم يعد بالإمكان الكلام عن اضمحلالها، كما تنبأت به الماركسية. ذلك أن "الدولة الحديثة" قد أصبحت منفتحة على المجتمع ومنبنية على النزاهة و"الحكم الرشيد"، وهذا هو الهدف الوحيد للإنسانية. إذن تقادم مفهوم الدولة الطبقية، وحان الوقت للعودة إلى الليبرالية. وتدعي هاته الأطروحة حصول تقارب وتكامل الدولة مع المجتمع، في أفق تقاسم السلطة والثروات، ضدا على احتكارهما. وبمعنى آخر الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وبذلك ادعى العديد من أشباه الماركسيين أن الوقت قد حان للقيام بمصالحة تاريخية بين فكر ماركس وروح الثورة الفرنسية. ويتناول هؤلاء المدافعون المزعومون عن الماركسية مواضيعهم بذكاء، فينتقون ما شاؤوا من الماركسية، ويطيحون بما لا يتطابق مع إيديولوجيتهم الجديدة. فتراهم، وهم في فلك الليبرالية سابحين ومسبحين، واضعين فارقا مطلقا بين العلم والإيديولوجيا، وداعين إلى نزع الإيديولوجيا عن الفكر والفلسفة، وإلى فصل النظرية عن المنهج. والهدف هو نزع الطابع الطبقي عن النظرية الماركسية، تحت شعار العلم في مواجهة الإيديولوجيا. وفي ظل هاته الإيديولوجية الوضعية البورجوازية، ينمحي الفارق النوعي بين إيديولوجية طبقة ثورية وأخرى رجعية، أي الدعوة إلى التصالح الطبقي. هكذا يقوم "العلم" بنفي الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ (وللعلم نفسه). وبالتالي تصبح ماركسية هؤلاء إيديولوجية حداثوية لاطبقية تخدم الجميع. إنها روح الإنسية البورجوازية، وإعلان على دخول المجتمع مرحلة "ما بعد الصناعية" و و و... إن إفقاد مركزية الصراع الطبقي لقيمتها الموضوعية هو إلغاء للتناقض الأساسي لنمط الإنتاج الرأسمالي. وانطلاقا من ذلك، ندرك مدى الشراسة التي يهاجم بها هؤلاء الطبقة العاملة والمفهوم الذي تنبني عليه، ساعين لنزع سلاحها الإيديولوجي وهو نزع من طرف واحد لسبب بسيط هو أنهم أصبحوا خداما جددا لسيدهم الرأسمال. وفي محاولة لإعطاء ضربة استباقية لخصومهم، يقوم هؤلاء "الماركسيون المجددون" بنعت كل من لم ينح نحوهم ويلف لفهم ويسير على شاكلتهم بالدوغمائية. فهم المجددون والآخرون غارقون في أعماق الدوغمائية البليدة. ولأن كل من يدعي التجديد ليس بالضروري مجددا، فعلينا أن نذكر (لعل الذكرى تنفع بعض هؤلاء) ببعض القضايا التي تقوم عليها النظرية الماركسية :
ترفض الماركسية الثورية الفصل بين المنهج والنظرية، وتؤكد على الوحدة العضوية بين الدياليكتيك والمنطق ونظرية المعرفة. وعلى هذا الأساس لا يكون التجديد نفيا عدميا، بل طرحا دياليكتيكيا، يقوم على دراسة التجارب التاريخية، والنضالات الجارية أمام أعيننا. ولذلك يؤكد الماركسيون الثوريون على الصراع الإيديولوجي والمواجهة كأداة للتجديد المستمر والانفتاح الانتقادي. خارج هذا، كل ادعاء للتجديد يفقد شرعيته. ولذلك أخطأ مدعوا التجديد حين يزعمون أن الماركسية ليست نظرية، والقول بالعكس هو جمود عقائدي، معتقدين أن التفريق بين منهج ماركس المادي الجدلي والنظرية الماركسية هو نقطة افتراق بين الجمود العقائدي والتحرر الفكري. وحجتهم في ذلك أن المنهج هو مولد النظرية. ومن جهتنا نؤكد أن العودة إلى مصادر الفكر الماركسي وسياق تطوره النظري يثبت أن الماركسية قد استفادت من البرهنة التي قام بها هيجل على صواب النظرية القائلة بوحدة الدياليكتيك (المنهج والمنطق) ونظرية المعرفة. وقد أخذ كل من ماركس وإنجلز بهذا الدمج بين النظرية والمنهج ووضعاه على أسس فلسفية مادية. هكذا اعتبرا أن وحدة النظرية والمنهج والمنطق انعكاس للعالم الموضوعي في فكر الإنسان. وبإدخالهما المادية الدياليكتيكية (المنهج والنظرية والمنطق) إلى دراسة المجتمع البشري، تم إنتاج المادية التاريخية. وأصبحت الصبغة الثورية للنظرية والمنهج لا تكتفي فقط بتفسير العالم بل تؤكد على ضرورة تغييره. وكمثال على اندماج المنهج والنظرية، انطلاقا من بلورة نظرية الصراع الطبقي كمحرك لتطور التاريخ، تم تأسيس نظرية زوال الطبقات والدولة وبناء المجتمع الشيوعي. وفي مجال العلوم، لا توجد نظرية علمية لا تحمل معها منهجها وأداة تحقيقها. ذلك أن كل نظرية بلا منهج تظل عقيمة، بينما العكس يحول المنهج أداة سائبة بلا هدف. وضد كل طرح ميتافيزيقي، عدمي، يؤكد تاريخ تطور النظريات العلمية بأنه لا يمكن قطع الصلة بين النظرية السابقة واللاحقة، وبين ماضي كل نظرية ومستقبلها، فالمعرفة سلسلة متصلة الحلقات. الشيء الذي تؤكده المبادئ المنهجية السائدة في تطور العلوم (مبدأ التوافق = correspondence principle لصاحبها الحاصل على جائزة نوبل Bohr 1913). وهذا المبدأ يؤكد على وجود الفارق والتواصل في المعرفة كسلسلة متصلة الحلقات. مما يؤكد قانون نفي النفي الدياليكتيكي الذي يعني الاحتفاظ والتجاوز. لقد ذكرنا في البداية أننا أمام لحظة تاريخية وظرفية نظرية بامتياز. بما يعني أننا أمام منعطف حاسم يدعونا إلى إدراك أن أزمات الماركسية كانت دائما محركا لتطورها، انطلاقا من مفهومها الدياليكتيكي للضدية (négativité). وتمتاز الأزمة الراهنة عن سابقاتها بأنها أزمة تراكمية، أزمة عقدية (nodale)، نتاج سيرورة تاريخية موضوعية، حيث طبقات اجتماعية ودول طبقية تواجهت منذ ثورة أكتوبر 1917، حول مشاريع مجتمعية وأنظمة اقتصادية مختلفة ... مما يضعنا اليوم أمام مسؤولية فكرية جسيمة لاستخلاص الدروس (دروس الهزائم والانتصارات) على قاعدة منهجية مادية تاريخية، وباعتماد الماركسية اللينينية كنظرية ثورية وتبني خط الجماهير القائم على خدمة للمشروع الثوري للطبقة العاملة والجماهير الكادحة. وخلافا لادعاءات خصوم الفكر الماركسي، فقد كانت الماركسية وستبقى في خدمة البحث الحر والعلمي. وعلى هذا الأساس وجب الانخراط في نقاش واسع وعميق حول ست إشكاليات مركزية:
(1) طبيعة الماركسية وعلاقتها باللينينية. (2) النظرية الاشتراكية على ضوء التجارب التاريخية. (3) مسألة الحزب الثوري وإشكالية الوعي الطبقي. (4) قضايا التحرر الوطني والقومي والأممي. (5) الفكر الماركسي وحقوق الإنسان. (6) اللغة، الثقافة وإشكالية التحرر الوطني الديمقراطي ذي الأفق الاشتراكي.
هوامش : 1- « Quiconque redoute l’effort se prive lui-même de la possibilité d’accéder à la vérité » Lenine 2- المرجع: وثيقة الإطار المرجعي للمؤتمر الوطني الأول للنهج الديمقراطي (المرجعية السياسية فقرة 27). 3- التحليل السياسي نعني به التحليل المتضمن في مشروع وثيقة حول "الوضع السياسي الراهن ومهامنا".
#امال_الحسين (هاشتاغ)
Lahoucine_Amal#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بصدد نظرية -السيرورات الثلاث- : المنطلقات والانزلاقات الجزء
...
-
بصدد نظرية -السيرورات الثلاث- : المنطلقات والانزلاقات الجزء
...
-
بصدد نظرية -السيرورات الثلاث- : المنطلقات والانزلاقات الجزء
...
-
التحريفية الإنتهازية بالنهج الديمقراطي و الهجوم على المناضلي
...
-
ملاحظات أولية حول ورقة -المرجعية التاريخية و الفكرية و السيا
...
-
ملاحظات أولية حول ورقة -المرجعية التاريخية و الفكرية و السيا
...
-
المرجعية التارخية و الفكرية للنهج الديمقراطي
-
الحد بين الخط الثوري و الخط التحريفي الإنتهازي بمنظمة -إلى ا
...
-
شروط الحياة المادية لنشأة منظمة إلى الأمام الجزء 4
-
شروط الحياة المادية لنشأة منظمة إلى الأمام الجزء 3
-
شروط الحياة المادية لنشأة منظمة إلى الأمام الجزء 2
-
شروط الحياة المادية لنشأة منظمة إلى الأمام الجزء 1
-
حزب النهج الديمقراطي و النظرية الماخية الجديدة
-
النهج الديمقراطي و نظرية الحزب الثوري 2
-
النهج الديمقراطي و نظرية الحزب الثوري
-
الشهيد القائد عبد اللطيف زروال و مفهوم الحزب الثوري
-
منظمة إلى الأمام و إمكانية إنجاز الثورة
-
طبيعة الصراع حول استغلال المياه المخصصة للأغراض الزراعية بأو
...
-
ما معنى أن يكن الماركسيون اللينينيون -الماويون- المغاربة الع
...
-
في المعرفة و الدياليكتيك الماركسي عند لينين ج 2
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|