|
الأمكنة الكمائنُ 9: المَحفل المُزدوَج
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3157 - 2010 / 10 / 17 - 09:30
المحور:
الادب والفن
سطحُ مَنزل صديقي، " آدم "، كانَ مُعتكفاً بينَ مَحْفليْن مَشهودَيْن بحضور أنثويّ، يانع. من الناحيَة المُطلة على الزقاق، كانَ يَبدو جانبٌ من مَشغل الخياطة، المُدار بالقبضة الحديديّة، والحليمَة في آن، لكنة آل " حاج عبده "، الأرمَلة. أما الناحيَة الأخرى للسطح الصّديق، فكانَ يُشرف على منازل زقاق " الكيكيّة ". صاحبَة مَشغل الخياطة، هيَ المَرأة البهيّة الطلعة، الإيرانيّة الأصل، المُعرّفة آنذاك بأمومتها، الصارمَة، لثلاثة شبّان وفتاة واحدَة. " راضي "، ابنها البكر، كانَ في ذلكَ الوَقت ما يَفتأ في عاصمَة بلاد البلاشفة، مُتابعاً دراساته العليا في الفيزياء النوويّة. أما الأصغر، " فوفو "، فإنه وعلى العكس من الطالع المَنحوس لصديقه الأقرب، " جينكو "، كانَ قد آبَ عن طريق الشرّ وأضحى على سيرَة حَسَنة. من ناحيَة أخرى، كانَ المَشغلُ من القرب لمنزلنا، أنّ نذرَ شقيقتي الكبيرَة، الشقراء، لمهنة الخياطة، لم يَحتج في حينه لعناء التردّد والتفكير من جانب والدَيْها. في الآونة تلك، الشاهدَة على إطلالتي على المَشغل من سَطح آل " كرّيْ عَيْشة "، كانت الشقراءُ قد أصبَحَتْ بدَورها مُعلمَة خياطة، وفوق ذلك، أمّاً لولدَيْن. في طفولتي، المُبكرَة، كنتُ دائبَ التواجد في المَشغل، مُطوّقا غالباً بزميلات شقيقتي. مُعلمَتهنّ، وبالرغم من شدّتها، كانت تسمَح لي بهذه المُتعة، طالما أنّ حضوري للمَكان كانَ يُوافق بدايَة سوَيعة الغداء أو نهايَتها. مُبتدأ أمرُ علاقة شقيقتي مع " صبيحة "، صديقة عُمْرها، كانَ ولا غرو في ذلك المَكان الحَميم، الفريد. إنها إحدى بنات عمومَة " آدم "، وكانت ذات حُسْن وَضاء، مُبهر؛ بعينيْن سماويتيّ الصفاء وقسمات دقيقة، مُتناسقة. كلّ من الصّديقتيْن، الحسناوَيْن، كانَ قد أقترنَ مع رجل مُتغرّب عما يُعرَف رومانسياً بـ " فارس الأحلام ". بيْدَ أنّ المَقدورَ، الظالم، ضافرَ من تعاسة " صبيحة "، عندما شاءَ لها أن تقعَ بين براثن ابن عمّها، الشنيعة، الدَربَة في التنكيل؛ بما أنّ صاحبَها كانَ شرطياً. شقيقتي الأصغر، كانت من جيل آخر، بطبيعة الحال. فترَة تدرّبها في المَشغل، وافقتْ أوانَ مُراهقتي، المُتأخرَة. من كوكبَة الزميلات المُتدرّبات عند خياطة الزقاق، كانت ثلاث أو أربع منهنّ مُتألقات الهيئة. ولكنهنّ، من جهة أخرى، كنّ على غير ألفة مع هذه الشقيقة التي تصغرني بنحو ثلاثة أعوام: علاوة على كونها شبه مُتخلفة، عقلياً، فإنّ بَلادَتها كانت من ذلك النوع الخبيث، الشرير. وعلى أيّ حال، فلم أشعُرَ مرّة ً قط أنّ لي أختاً، سوى تلكَ الشقراء؛ التي تكبرني بستّ سنوات.
كذلكَ كانَ شعورُ " آدم "، عندما يَتعلّق أمرُ القرابَة بالعمّ، الوَحيد. إنه أخ أبيه، غير الشقيق. وبغض الطرْف، دائماً، عن نعت الأولاد لامرأة الجدّ باسم " ماما "؛ فإنّ كراهيتهم لها كانت لا تفتأ تتنامى باضطراد مع تفتح وَعيهم: حكايَة الخالة، الكلاسيكيّة، المُعادَة في كلّ مكان وزمن، كانت فصولها قد مثلتْ قبلَ سنين طويلة؛ ثمّة في دار جدّ " آدم "، الرثة. الدار، كانت مُقتصرَة وقتئذ على حجرَة نوم واحدة، حَسْب؛ هيَ المَبذولة للرّجل وامرأته الجديدة ووَليدها. حجرَة الضيوف، كانت مُحرّمَة إذاً على أولاد الزوج، الثلاثة، المُنجبين من امرأتيْه السابقتيْن، المُطلقتيْن. فما كانَ هناك بأسٌ، والحالة تلك، على نوم أولئك الأولاد صيفا أو شتاءً في أرض الديار. ثمّة، كانَ على القاطع الخشبيّ، العريض نوعاً، والمُظلل بطرَف سقف حجرَة المطبخ، أن يؤوي الطفلَ الجَميل؛ الذي سَيصير بعد ربع قرن أبا " آدم ". العمّ، غبّ عودَته من " القاهرة "، مُهندساً مَدنياً، عليه كانَ أن يَتزوّج ابنة خاله. إنه ذاك الصيدليّ، المُغامر، المُتباهي بلقب " الدكتور نور "، مَن كانَ له الفضل بتخرّج ابنة شقيقته؛ طالما أنه هوَ من أنفق على دراسته. ابنة الخال، كانت صبيّة بعدُ، في حدود السادسة عشر من عمرها. أما حُسْنها، ولا شكّ، فلم يكن له حدودٌ. إنه حُسْنٌ، بليغ، يَضيق بسعة عالمنا، الأرضيّ، ليَتصلَ بآلهة وحوريّات العالم الآخر، العلويّ. على ذلك، كانت علامات السعادَة، كلّها، توجبُ قربَ حَظوَة مُهندسنا بقريبته، الحسناء. في حجرَة الضيوف، بمنزل جدّ " آدم "، كانت تجذبنا في طفولتنا صورَة ً فوتوغرافيّة، مؤطرَة بالخشب المُزخرف، مَوضوعة على البيرو: العمّ المهندس، وكانَ طالباً بعدُ، يتوسّط هنا المَمثلة الحَسناء، المَعروفة، " ليلى طاهر "، وأبنها الزميل في الجامعة. أمام هذه الصورَة، كان نسوَة الأقارب والجيران يُقسمنَ أنّ ابنة الخال، الخطيبة، هيَ أجمل بكثير من الممثلة تلك، المَصريّة. في أحد الأيام السعيدة، وعلى غرّة، أعلنَ الشابّ لأمّه، المُروّعة، عن نيّته الزواج بابنة الخال الآخر، الدَرَكيّ المُتقاعد؛ المُقيم على أرضه في إحدى بلدات برّ الشام. إنها ذات البنت الذئب، الجلِفة، التي سبقَ لها، عند آجال حضورها مع أسرتها إلى الزقاق، القيامَ بهمّة على أمر تنكيد طفولتنا. " الأولى، مع جَمالها، فإنها باردَة ومُتحفظة " قالَ لي " آدم "، مُعلقا على الخبَر ببساطة. ثمّ أضافَ "عمّي، المُعتاد على جوّ مصر، عليه كانَ أن يؤثر ولا رَيْب البنتَ الحارّة والشبقة ". كانت تلك عبارَة، عابرَة، نطقها هذا في إحدى ليالي التحضير لامتحان الشهادَة الإعداديّة. بيْدَ أنني تذكرتُ العبارة، فجأة، لدى نزول صديقي من على سَطح دار الجدّ. مذ ذاك الحين، ولحين تطوّعه في المدرسة الجويّة، لم يكُ " آدم " يَكفّ عن تكرار تولّهه بالفرْج الناصع، ذي الزغب الأصفر، المَملوط، المُساس من لدُن الذكر المُتبرطم، المُنتعظ بشدّة. تسريحُ صديقي من المَدرسة العسكريّة، وافق طردي من المَدرسة الصناعيّة. إنّ عصرَ " ملوك الطوائف "، الحديث، كانَ قد آذنَ إذاً. تطهيرُ الجيش، اثنياً ومذهبياً، شمَلَ أولاً مراتب الضباط، الكبار، ليَنحَدِرَ رويداً حتى أدنى دَرجات الكادر، المُحترف. وبما أنه كانَ مُقرراً ، سلفا، مَصيرُ " آدم " وأنداده من تلاميذ المدرسة؛ فلم يَجدَ أولو الأمر حاجَة لهدر المال والوَقت لحين تخرّج هؤلاء ضباطاً، طيارين. قبلَ عودَته، نهائياً، من مدينة " حلب "، كانَ لصديقنا إجازاتٌ طويلة أو محدودة. في إحداها، رافقته إلى ستوديو التصوير، الكائن في مركز الشام. إذاك، أبدَى شقيقه الكبير، " أيسر " الرغبَة بالتصوّر أيضاً بلباس تلاميذ الطيارين، البالغة الأناقة. رغبتي، المُماثلة، مَنعها عدَم مُلائمة قياسات بَدَني، الرقيقة، للبذلة العسكريّة تلك، الواسعة والمُهيبَة. ضيقي برقة بَدَني، كانَ عليه أن يتطوّر إلى نوع من العقدَة، النفسيّة. عندئذٍ، كنتُ قد تناهيتُ إلى مَبالغ الشبان، الناضجين؛ بصوت أجش، خشن، كما وبلحيَة حليقة. إلى ذلك، كنا نتباهى باستعمالنا أدوات الرّجال، الأكثر خصوصيّة؛ أو على الأقل، مُجرّد الزعم بفعل ذلك. في إحدى المرات، رأيتنا في مقهى " الحجاز "، المُنزوي في ركن مَكين من جادّة " البوابَة "، التجاريّة. أثناء انشغال " آدم " بأمر أحجار طاولة النرد، سأله " بشر "، ندّه في اللعبة، عن كيفيّة تمكن المَرء من شراء آلة حلاقة، يَدويّة. فأجابه هذا بنبرَة جدّية: " من سوق الحراميّة، ولا شكّ. أحلق أولاً لحيتكَ، ثمّ ثني من بَعد على شِعْرَة عانتك.. ".
" أبنُ الشاميّة " ذاك، كانَ آنئذٍ طائش الحَجَر بلعبَة أخرى؛ شبيهة بدُميَة " باربي ". إنها " هنادي "، المُتدرّبة في مَشغل الخياطة، المُقابل لمنزلنا. هذه البنتُ الحسناء، ذات الشعر الأرجوان، ربما كانت قد لحظتْ، مثلي سواءً بسواء، أنّ خروجها من العَمل كانَ يتوافقُ دوماً مع ظهور " بشر " عند عتبَة باب بيته. وفيما كانت تسوّي من شأن إشاربها وثوبها المُسترسل حتى عقبَيْ قدَمَيْها، فإنها اعتادَتْ على رمقي بنظرَة دافئة، مَسبوقة بالتحيّة. بينما مَسلكها، كما عاينتُ أيضاً، كانَ على مُنقلبٍ آخر مع صديقي ذاك. فما أن تمرّ بالقرب منه، في الطريق لمنزلها، حتى تردّ على تحيّته بتكشيرَة مُتجهّمة، مُتوعّدة. إلا أنه لم يَرعو العاشقُ، المَلول، الراتع بلا كلل على طريق الفتنة، الدانيَة. في هذه المرّة، ارتأى " بشر " مُفاتحتي بحكايَة حبّه، المُستحيل. " إنني لا أبغي، أبداً، اللعبَ مع هنادي. بل أقسمُ بأنّ هدفي هوَ الزواج منها "، خاطبني " أبنُ الشاميّة " بحرارة وإخلاص ـ كما لو كنتُ أنا من سَيضحي حَماه، المُقبل. كنا عندئذٍ في حجرَة بيته، العلويّة، المُطلّة نافذتها على دَرب الزقاق. وإلى تلك الناحيَة، ما عتمَ أن أشارَ الشابّ، الأخرَق: " ليسَ لديّ مُشكلة مع البنات، مثلما تعرف جيّداً. لقد رَكبتُ ابنة " حاج عبده " هنا، في هذه الحجرَة. وقبلها، كنتُ أضاجعُ ابنة " حسّو شكر " في منزله نفسه ". وبالرغم من علمي بغلمََة " مَليكة "، الفائرَة، إلا أنني لم أصدق خبَرَ استسلامها لهذا الدّعي. " ولكن، ما المطلوب مني، في آخر الأمر؟ "، تساءلتُ بحيرَة. إذاك، تأملني " بشر " ملياً ولم يُحر بجواب. في اليوم التالي، كنتُ لدى " آدم " في حجرَته الخاصّة، الجديدة؛ التي شيّدَت فوق سَطح المَطبخ. وإذا به يَفتح أيضاً مَوضوع البنت، ذات التاج الأرجوان: " إنّ " بشر "، على ما فهمته من كلامه، يَعتقدُ أنكَ تقف عثرَة في طريق زواجه "، قالها بأسلوب الحذلقة الذي يُجيده. واستطردَ على الأثر " أما إذا كنتَ تخطط لتطبيق " هنادي "، فهذا حديث آخر ". عندما أنهى " آدم " جملته بذكر البنت، فإنّ عينيْه لمَعتا ببارق الجَشع. كنتُ، ولا غرو، خبيراً بطبعه. على ذلك، خاطبته بلا مُواربَة: " هل سنكون مَدعوَيْن، كلانا، إلى مطعم قصر البلّور؛ إذا ما نجحَ أبن الشاميّة في مَسعاه؟ ". ومثلما فعله العاشقُ يومَ أمس، فإنّ " آدم " بدَوره راحَ يتأملني دونما أن تبدُرَ منه نأمَة. إلا أنّ مزاجَهُ، على أيّ حال، كانَ قد استعاد الرواء، المَعهود، عندما رأيتنا في يوم آخر في ذاك المطعم ذاته، الكائن على طرَف ساحة " باب توما "؛ والمَشهور بتقديمه وجبات السمك المَشويّ مع العَرَق الريّان.
استئناسُ القلب بالحجرَة الجديدَة، الصّديقة، كانَ على إثر التقلبات الأخيرَة، العاطفيّة. ثمّة، كنا نسهرُ حتى ساعة مُتأخرَة بمُقابل التلفاز؛ خصوصاً، عندما يحينُ وقتُ عرض مُسلسل " كوجاك "، البوليسيّ، أو قرينه، " هارب من الأيام ". مَبيتي في مَنزل جيراننا أولئك، الطيّبين، كانَ بالمُقابل يَجلبَ استياء أمّي: " يا بُنيّ، بيتنا على مَبعدة خطوات من بيتهم. ومهما تأخرتَ، ليلاً، عليكَ بالإياب من عندهم ". ولكنّ وقتَ السّهر، غالباً، كانَ مَنذوراً للحديث عن بنات الجيران، الأقربين. " فتيحة "، صارَتْ محوَر اهتمامنا، المُشترك، بما أنها صديقة " آدم "؛ والأهمّ بالنسبَة لي، أنها ابنة خالة " هنادي ": هذه الأخيرَة، كانت إذاك قد باحَتْ لقريبتها بمَيلها إليّ. حتى وبلغ بالبنت البهيّة، المُكللة بتاج الأرجوان، أن أوصلتْ عبْرَ لسانيْ العاشقيْن، المَوْسومين، برسالة شفهيّة تفيدُ برَغبتها موافاتي إلى مَوعدٍ ما، قريب. مَكانُ اللقاء، المَوعود، ما كانَ سوى شقة عمّ " آدم "، الحَديثة، والمُتناهضة على أنقاض ما كنا ننعتها في طفولتنا بـ " خرابَة النقشبندي ". الشقة، كما علمتُ من صديقي، كانت شبه مُكتملة ولا يَنقصها سوى الاكتساء بالمَواد الخارجيّة؛ مثل الرخام والدّهان والسيراميك. تدبّرَ صديقنا المُفتاحَ من خاله؛ الذي كانَ يَعقدُ هناك لقاءاته الحميمَة بزوجة المُستقبل: إنها الخطيبَة السابقة لقريبه، المُهندس؛ من كانَ عليها أن تتوجّه في كلّ مرّة إلى المكان نفسه، المَبذول لإقامَة غريمَتها. كونَ " آدم " قد سايرَ طبعي المَعروف، الحَيي، فإننا اتفقنا على حيلةٍ، ساذجَة ولا رَيْب، نعوّلُ عليها أمرُ اللقاء المُرتقب. قبلاً، كانَ قد جَلبَ صورَة " هنادي " وعن طريق ابنة خالتها، بطبيعة الحال. أنجزتُ رسمَ الصورَة، المَطلوب، مُستخدماً قلمَ رصاص. وبما أنه لم يَحُز على رضايَ، فإنّ فكرَة أخرى، خرقاء، عليها كانَ أن تأخذ مكانَ الأولى: أن أرسمَ فتاتي على طريقة الموديل. بكلمَة أخرى، أن تكونَ هيَ جالسة أمامي لدى اشتغالي على البورتريه. " صدّقني، كلّ هذا عبثٌ ومَضيعة للوَقت. إنها مَمْحونة، وكفى "، قالها صديقي باستهتار. فنبَرتُ إلى إجابته بشيء من الحنق: " ما هذا الكلام؟ " " ولِمَ ستأتي هيَ، باعتقادك؟ " " لأنها.. لأننا نحبّ بعضنا.. "، أجبته إثر وهلة تردّد. فما كانَ منه إلى إطلاق ضحكة مُجلجلة، خنقها السعال المُتأثر بسُحُب سيجارته: " كانَ يَنقص أن تقولَ، بأنكَ ستتقدّم لخطبتها ـ كما كانه شأنُ ذاك الأحمَق؛ أبن الشاميّة ".
زمَنُ اللقاء، هيَ ساعة الغداء عَيْنها، المُتنعم فيها بالراحَة أوانسُ مَشغل الخياطة. كنتُ وصديقي على انتظار؛ ثمّة، عند ناصيَة مَدخل الزقاق، العلويّ. في اللحظة نفسها، تقريباً، الشاهدَة على ظهور " هنادي "، إذا ببَصَر " آدم " يَتجهُ نحوَ شبح، مُتشح بالسّواد من قمّة رأسه حتى أسفل قدَمَيْه. هذه، كانت هيئة صديقته، القادمَة من جهة زقاق " الكيكيّة "، المُجاور. إنها، ولا غرو، المرّة الأولى التي أرى فيها " فتيحة " في لباس الحِشمَة؛ المُعرّف فيه حريمُ رجال الدّين، المُسلمين. عادة ً، كنتُ ألمحُ الفتاة الجريئة، الجَميلة المَلامح، من على شرفة عليّة منزل صديقها. أحياناً، كانَ يَطلّ من هناك باقة ٌ من قريبات " فتيحة "، ليُبادلننا الإشارات المُحيّية أو العابثة. وإذاً، بادرتُ وصديقي إلى السَير في المُقدّمة، لكي يتبعنا أبنتا الخالة دونما عوائق ما، عارضة. وفيما كانَ " آدمُ " على خصلة هدوئه، المألوفة، فإنني كنتُ أمشي مُترنحاً نوعاً. ليسَ خجلي حَسْب، هوَ ما حكّمَ طريقة سيري؛ بل وأقداح العرَق، اللاهب، التي تجرعتها على عجل قبيل حلول ساعة الظهيرَة، المأمولة. هناك، عند مُبتدأ طلعة تربَة " رأس الحارَة "، صعّدنا قليلاً باتجاه منزل " الدكتور نور ". مَدخل البناء، الجديد، كانَ يَسبق باب المنزل ذاك. دلفنا بسرعة، ثمّ هُرعنا من ثمّ لارتقاء الدرجات القليلة نحوَ الطابق الثاني. الشقة المَقصودَة، كانت أيضاً غريبَة عن شخصَيْ العاشقيْن، الجَسورَيْن. لأنّ " آدم "، وفي كلّ مرّة ليلاً ، كان يلتقي صديقته إزاء حائط شرفة منزله، الواطيء. على ذلك، بذلَ صديقي بعضَ الجهد، المَشفوع بالقلق، حتى نجحَ في فتح باب الشقة، الخارجيّ. بهو الرّدهة، كما سائر الحجرات، كانَ عار من أيّ تلبيس أو أثاث. ثمّة، قادنا المُضيف، أنا و" هنادي "، إلى المَكان الأكثر اتساعاً، والمُتبدّي كما لو أنه صالة الضيوف.
" أنتِ صرتِ موديلاً؛ ولكن عندَ رسام وليْسَ عند خياطة " قالها صَديقي بلهجَة مازحَة، ثمّ أردفَ بنفس النبرَة " فعليكِ إذاً أن تطيعي مُعلّمك، الجديد، حتى لو طلبَ منك، مثلاً، أن تخلعي ملابسَكِ ". عند ذلك، اتخذت سِحنة الفتاة مَظهراً آخر، مُتكلّفا، فيما كانت تغمغمُ مُستنكرة ً جُملة صديقي، المُستهترَة. عراءُ الحجرَة، كانَ مُنقذي؛ مؤقتا على الأقلّ. مُحرَجاً بشدّة من انفرادي بالفتاة، كنتُ أتطلع حولي مُتصنعاً الحيرَة؛ طالما أنّ المَكان كانَ خال من أيّ كرسيّ أو مقعد أو صوفا. " هيَ ذي مَدّة، من الإسفنج. دبّروا حالكم معها، حالياً "، خاطبنا " آدم " وهوَ يَرمي الغرض إلى داخل الحجرَة. وها نحنُ ذا، أخيراً، عاشقٌ ومَعشوق. كانت " هنادي " جالسَة على طرَف الطراحَة، ومن القرب أن أنفاسها الخفيفة، العطِرَة، كانت مُتواشجَة بأنفاسي. بين فينة وأخرى، كنتُ أخطفُ شيئاً من عسل عينيْها ، الآسرَتيْن، كما ومن كنز بدَنها، المُعافى الأعضاء، والمُجَوْهر بالفضة والإبريز والماس. برهة أخرى، وإذا بالحسناء ترمي عنها إيشارب الحشمة. عندئذٍ، انسكبَ سيلٌ من العقيق والأرجوان من هضبة الرأس، الهيّنة الارتفاع، وحتى أسفل كثيب الورك، الفادح العلوّ. كانت إذاك مُنتصبَة على قدَمَيْها، مُراوحَة الخطو بتمهّل بين مَدخل الغرفة وجدارها، المُحاذي للنافذة الكبيرَة، المُفتقِدَة بعدُ لتلبيسها. ثمّة، عند المَدخل، بدا من مَظهر الفتاة أنها تتنصّتُ لصوتٍ ما، مُنبعث من حجرَة العاشقيْن، الآخرَيْن. بدَوري، رحتُ مُستثاراً أصغي بانتباه للصوت ذاك، المُفترَض. دقيقة، على الأثر، والتقتْ أعيننا مَعاً؛ نحنُ عاشقيْ الخيبَة. بيْدَ أنّ " هنادي "، هذه المرّة، لم تتبسّم كما كان عهدها مُذ صرنا وَحيدَيْن. ما أنقذني من تحت عَجلات الحَرَج، الساحقة، هوَ حضورُ " آدم " مُجدّداً: " هيا، إنه اللقاء الأوّل بينكما "، هتفَ بنا صديقي، نصف العاري. وأضاف من ثمّ مُتوجّهاً للفتاة " كنتُ وابنة خالتكِ في مثل هذه الحال، لدى اجتماعنا للمرّة الأولى ". وما عتمَ أن ضمّ رأسَيْنا بمودّة بين يَدَيْه، القويتيْن. إلا أنّ تلك، على أيّ حال، كانت المرّة الأخيرَة؛ التي يُتاح لي فيها الإنفراد مع الحسناء، صاحبَة التاج الأرجوان: لقد استأثر فيها " آدم "، ومُباشرَة بُعيدَ خطبَة " فتيحة " لأحد شبّان عائلتها.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأمكنة الكمائنُ 8: أسطحُ الأصحاب
-
الأمكنة الكمائنُ 7: خرائبُ الرّغبة
-
الأمكنة الكمائنُ 6: أوابدُ الوَجاهة
-
الأمكنة الكمائنُ 5: بيتُ بَديع
-
الأمكنة الكمائنُ 4: مَأوى آموجنيْ
-
الأمكنة الكمائنُ 3: كهف الفتوّة
-
الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة
-
الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل
-
الأوانس والجَواري 5
-
الأوانس والجَواري 4
-
الأوانس والجَواري 3
-
الأوانس والجَواري 2
-
ثمرَة الشرّ: الأوانس والجَواري
-
المُتسكعون والمَجانين 4
-
المُتسكعون والمَجانين 3
-
المُتسكعون والمَجانين 2
-
ثمرَة الشرّ: المُتسكعون والمَجانين
-
القبلة ، القلب 5
-
القبلة ، القلب 4
-
القبلة ، القلب 3
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|