|
فرويد مؤسسة -التحليل النفسي-
مكارم ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 3156 - 2010 / 10 / 16 - 20:43
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فرويد مؤسسة "التحليل النفسي" محاضرة للكاتب هشام آدم القراء الإعزاء حاولت هنا جمع حوارات كانت بيني وبين الكاتب هشام آدم على شكل مقالة لاضعها بين ايديكم كي يستفيد منها اكبر عدد من المهتمين في نظريات فرويد في التحليل النفسي. ستكون المحاضرة طويلة وبامكانكم التوقف للاستراحة بين حين واخر وبدوري اشكر الكاتب هشام آدم على قبوله نشر هذه المحاضرة في صفحتي الخاصة. خالص احترامي وتقديري للكاتب هشام آدم
عندما بدأتُ في كتابة هذا المقال أول مرة، شعرتُ بتدافع كبير جداً للأفكار والمعلومات، تماماً كما تتدافع مياه نهر جارف عند فتح بوابة سد، ذلك أن علم النفس علم متشعب جداً، وأحدنا يشعر أنه لا يُمكن الخوض في مسألة، ما لم يتكلم عن مسألة أسبق عليها، كما أن ولعي الشديد بعلم النفس جعلني أشعر بشيء من السعادة لمجرّد أنني وجدتُ فرصة للتحدّث عن أحد أهم مدارس علم النفس، ولكنني قررتُ أن أكبح جماح هذا التدفق، وأتحكم فيه، وأحاول قدر المستطاع اختزاله بشيء من الحكمة، حتى يتسنى لكِ الإمساك بالقرون الغليظة للتحليل النفسي. قبل البدء يجب علينا أن نفرّق (في التحليل النفسي) بين أمرين: [A] الحياة النفسية [B] الكيفية النفسية فكثير منا يخلط بين هذين الأمرين، فالحياة النفسية (كما سوف يتبيّن لاحقاً) هو ما يتألف من مستويات الحياة النفسية من (الهو "Id" – الأنا "Ego" – الأنا الأعلى "Superego") وأما الفئة الثانية فمن اسمها يتبيّن أنها الكيفية التي يتم بها صياغة السلوك النفسي في الفئة الأولى وهو على أقسام: ما قبل الشعور والشعور واللاشعور (حسب تسمية فرويد) بينما الفرويديون الجُدد يُطلقون عليه اسم (ما قبل الوعي واللاوعي) وأنا أُسمّيه (ما قبل الوعي والوعي المنسي) لأن اللاوعي هو في حدّ ذاته وعي ولكنه وعي متخفي أو متنحي، وبينما يُمكننا اعتبار الفئة الأولى (قوى) فإنه يُمكننا في المقابل اعتبار الفئة الثانية (أنظمة). وسوف أعتمد في ما سأكتبه هنا على ما جاء في كتاب [الموجز في التحليل النفسي] أولاً: الحياة النفسية تتركز فكرة فرويد الأساسية في مذهبه "التحليل النفسي" على تقسيم ما يُسمى بالنفس البشرية أو (الحياة النفسية) إلى ثلاثة أقسام، أو بتعبير أكثر دقة: ثلاث مستويات، وذلك على أساس أنها ليست أقسام منفصلة بل مستويات متداخلة ومتصارعة. وحتى أبسط لكِ الصورة بشكل أوضح فإن الإنسان عندما يولد أول الأمر تكون حياته النفسية ذات مستوىً واحد وهو (الفطرة) وهذه الفطرة هي غرائز الإنسان الفطرية وجبلته الموروثة (هنا يجب التفريق بين الموروث والمكتسب) فالموروث هو ما يُولد به الإنسان، وإذا افترضنا أن الإنسان نشأ وكبر بعيداً عن أي تأثير خارجي فإنه سوف يعيش ويموت دون أن يشعر بأي مستوى من الصراع مع ذاته أو مع الآخر، لأنه سوف يلجأ مباشرة إلى إشباع حاجاته الأساسية دون الحاجة للتفكير بعوائق: الخير والشر والخطأ والصواب، فإذا شعر بالجوع سوف يأكل مباشرة أي شيء بإمكانه أن يُشبعه حسب ما تهواه نفسه (هوى النفس من اختصاص الأنا بعد تراكم الخبرات)، وإذا عطش، وإذا رغب في الجنس كذلك، وهكذا فإن هذا المستوى الأول من حياتنا النفسية هو مستوى الغرائز الطبيعية وهو ما سمّاه فرويد (الهو). ولكن ولأنه من الصعب أن ينفصل الإنسان عن واقعه وبيئته، فإنه سوف يتأثر بعالمه المحيط (سواء أكانوا بشرًا أو غير ذلك) فالآخر عندها سيكون كل شيء من شأنه أن يولد أفكارًا ومفاهيم حتى ولو بدائية عند الإنسان، وكل خبرة يمر بها الإنسان ويكون فيها الآخر طرفاً فيه، فهذا يعني مباشرة أن نتوقع نشوء مستوى آخر من حياتنا النفسية، وبطريقة ما، فإن هذه التأثيرات الخارجية تصبح هي معيارًا يتحكم في الهو، ليحاول أن يُحدد له متى وكيف ولماذا وماذا يأكل إذا جاع، ومتى وكيف ولماذا وماذا يشرب إذا عطش، وكيف ومتى ولماذا ومع من يُمارس الجنس إذا أحس بالرغبة لذلك، وهذا المستوى التنظيمي المتسلّط على الهو يُسمّيه فرويد (الأنا)، والأنا في الحقيقة هو مستوى من مستويات الهو، أو بتعبير آخر هو تغيّر معيّن في الهو يطرأ نتيجة تأثيرات العالم الخارجي. ومثلاً فإذا كان الإنسان البحت (الهو) قد اعتاد على السير حافي القدمين وهو في طريقه إلى النهر ليشرب، فإن تجربته الذاتية المتراكمة سوف تعلّمه أخذ الحذر لمعرفته بأن طريق النهر مليء بالأفاعي، وهذا من شأنه أن يسلك طريقة أكثر حذرًا في إشباع رغبته وحاجته للشرب، وهو أن يرتدي حذاءًا أو أن يحترس أثناء المشي رغم أنه لم يكن بحاجة إلى ذلك قبل أن تصادفه أفعى وتلدغه في التجربة السابقة، أو حتى أن يُؤجل ذلك إلى وقت آخر، أو حتى يغير الطريق التي اعتاد أن يسير عليها وصولاً إلى النهر (أستخدم مثال الأفعى لأوضح أن التأثيرات الخارجية ليست بالضرورة أن يكون المجتمع المكوّن من أفراد فقط) إذن فالأنا يعمل كالمنظم (Valve) بين رغباتنا الغريزية وبين البيئة الخارجية، ووظيفته الأساسية ببساطة هي أن توصل للهو رسالة مفادها: "اقتصد في رغباتك، فكل شيء ليس بالإمكان الحصول عليه في الوقت الذي تريد." وقبل الكلام عن المستوى الثالث من مستويات الحياة النفسية، فإنه يتوجب علينا معرفة أن الأنا تنشأ في الأصل من عمليات الإدراك الذهنية خلال التجارب الحياتية اليومية، ولهذا فإننا نقول إن الأنا به قدر كبير من الذاتية، فتعاليمه متولدة أصلاً من الخبرات والتجارب الذاتية، على أنه لا يسعنا أن ننسى أن منشأ هذه الأنا هو علاقات سابقة ومتعددة بين الإدراك الحسي والسلوك العضوي (العضلي) وهذه التبادلية بين الاثنين هما في الأساس من يُنشئان الأنا، وهذا ما يُميز بينه وبين المستوى الثالث من مستويات الحياة النفسية ألا وهو (الأنا الأعلى). ينشأ الأنا الأعلى ويتكون من الأنا في مرحلة الطفولة المبكرة، والتي يكون فيها اعتماد الطفل على والديه، وبتعبير آخر (القيم المجتمعية) ولهذا فليس الوالدان فقط هما المسئولان عن تنشئة وتكوين الأنا الأعلى في حياتنا النفسية، ولكن من يقوم مقامهما (الجد، والجدة، العم، والعمة، الخال، والخالة، المدرس، خطيب المسجد) وبصورة أعم التقاليد العائلية والعرقية والمجتمعية بصورة عامة، وباختصار فإن كل من له سلطة مباشرة أو حتى غير مباشرة على الطفل يُساعد بطريقة أو بأخرى في إنشاء الأنا الأعلى. والرسالة التي يحاول الأنا الأعلى إيصالها للهو هي: "لن أسمح لكَ بتلبية أي رغبة طالما أنا موجود!" وحتى يُمكن التفريق بين الهو والأنا والأنا الأعلى، فإنني أحبذ دائماً أن أصفهما على النحو التالي: [1] الهو (الأخ الأصغر): مُدلل، متهور، عنيف، غير أخلاقي، خارج عن حدود اللياقة والأدب، لا يعترف بالتقاليد والعادات، كل ما يهمه هو أن تحقق له رغباته، دون أن يسأل: كيف، ومتى. فهذا لا يهمه، كل ما يهمه هو أن يشبع رغباته بأية طريقة وبأي ثمن. [2] الأنا (الأخ الأوسط): عاقل، متزن، واقعي يحاول إشباع رغباته بالمنطق وبالقدر المعقول، وفي الوقت الذي يسمح بذلك، إلا أنه قد يتجاوز عن رغباته لفترة حين لا يسمح الظرف، وقد يتنازل عن تحقيق رغباته إذا شق عليه ذلك. [3] الأنا الأعلى (الأخ الأكبر): متزمت، متسلط، دوغمائي، مثالي للغاية، ينقاد للعادات والتقاليد بشكل أعمى، ويحب أن يكون كل شيء على النحو الأكمل والأمثل، والأكمل والأمثل بالنسبة إليه هو ما يراه المجتمع فقط بصرف النظر عن رغباته هو، سعادته الكاملة تكمن فيما يقبله ويرضاه الآخرون (المجتمع) حسب هذا المفهوم البسيط، يتبيّن لنا الآتي: [1] الهو (الأخ الأصغر) والأنا الأعلى (الأخ الأكبر) رغم أنهما يبدوان متباينين تماماً، إلا أن جميعهما ينشأ في الماضي، فمنابع الهو هي الموروثات التي وُلد بها، ومنابع الأنا الأعلى التقاليد والأعراف المجتمعية القديمة. [2] الأنا (الأخ الأوسط) يسعى دائماً إلى إرضاء طلبات الأخ الأصغر بالحصول على موافقة الأخ الأكبر أو خلسة عنه، وبما يتناسب مع الواقع ويتماشى معه. (دعينا لا ننسى هنا أن هنالك عمليات تبادلية بين الأنا والهو من ناحية، وبين الأنا والأنا الأعلى من ناحية ثانية، رغم قناعتنا التامة بمدى ارتباط الأنا بالهو لأنه منقسم عنه في الأصل) حسناً، لماذا يلجأ الأنا لتحقيق رغبات الأخ الأصغر؟ إن واحدة من وظائف الأنا الأساسية هي الحفاظ على الذات، فالرغبة في الأكل شهوة يطلبها الأخ الأصغر، ولكن الأخ الأصغر في الحقيقة لا يسعى من وراء هذه الرغبة إلى البقاء على قيد الحياة، إنما كل همّه هو أن يحقق هذه الرغبة فقط بحيث لا تكون له حاجة غير مقضية، ولكن ولأن وظيفة الأخ الأوسط هي حفظ الذات فإنه يُضطر إلى تلبية رغبات الأخ الأصغر حتى يظل على قيد الحياة، وكذلك الحال في الجنس وفي غيرها من الرغبات، ففي الوقت الذي يسعى فيه الأخ الأصغر للجنس فقط من أجل إشباع الشهوة الجنسية، فإن الأنا يقوم بذلك من أجل الحفاظ على النسل، ولكن إن تعذر ذلك لأي سبب واقعي ومنطقي فإنه يقف في طريق تحقيق رغبة أخيه الأصغر ويحول دون ذلك، بإقناعه أن الوقت غير مناسب، أو أن الجو غير مُهيأ تماماً، فإن كانت الفرصة مؤاتية فإنه يسعى معه إلى تحقيق هذه الرغبة، ولكن إذا علم الأخ الأكبر بذلك فإنه سوف يقوم بتوبيخهما أشد التوبيخ، وهو دائماً ما يحول دون تحقيق الرغبات وإشباعها سواء أكان الظرف مواتيًا أم غير مواتي، فهو لديه مثل وقيم عليا لا يُفرّط فيها بسهولة. وكمثال، فإن الهو لو كان بيده فإنه سوف يحاول الاعتداء على النساء في الشوارع فقط ليشبع رغبته الجنسية، فهو لا يكترث إلى عوائق دينية ولا اجتماعية ولا منطقية ولا غيره. أما الأنا فإنه سوف لن يتوانى عن فعل ذلك فقط إذا ما وجد الفرصة المواتية بعيداً عن أعين الناس والمجتمع والرقابة الدينية والسلطوية. أما الأنا الأعلى فإنه حتى وإن جاءته الفرصة على طبق من ذهب فإنه سوف تمنعه مثله العليا واتباعه الصارم للمبادئ سوف تحول بينه وبين ذلك. وتصارع هذه المستويات هو ما يجعلنا على الدوام في حالة من السعادة وتأنيب الضمير واللهفة والشوق والرغبة والقلق والحاجة والشعور بالكبت وووووو إلخ. الغرائز: يختلف ويتباين علماء النفس في تعريف الغرائز، ولكن التعريف الذي يعتمده فرويد للغرائز هو: "القوة الكامنة وراء توترات احتياجات الهو ورغباته" ورغم أن الظاهر لنا هو وجود غرائز عديدة ومختلفة، فإن فرويد يرى أن بعض الغرائز هي تمظهرات أو صور مغايرة لغريزة أخرى أولى وأسبق، وعلى هذا فإن فرويد يحاول القول بأن هنالك غرائز أساسية، وهنالك غرائز فرعية تتناسل من هذه الغرائز الأساسية. والغرائز الأساسية عند فرويد تنشأ من طاقتين هما: طاقة البناء وطاقة التدمير. ويرى فرويد أن هاتين الطاقتين في تصارع مستمر، فمرة بالاتحاد ومرة بالتنافر، وهذا الكلام بطريقة أو بأخرى يعتبر تطبيقاً لمبدأ صراع الأضداد الذي تكلم عنه ماركس في نظريته المشهورة. فالأكل غريزة وحاجة ولكن الحاجة إلى الأكل طاقة، وهي قائمة في الأساس على مبدأ التدمير من أجل البناء، والموت من أجل الحياة، فنحن نضطر لإفناء النبات بنزعه من الأرض من أجل أن نأكل نحن ونعيش، وهكذا فإننا نقتل الحيوانات والطيور لنأكل ونعيش، وهو المبدأ المطبّق بصورة عامة بين كل الكائنات الحية، وكذلك فإنه يرى أن الجنس عدوان جسدي الغرض منه الحد الأقصى من الاتحاد، وكذلك الإنجاب. وبصورة أقل تعقيداً فإنه قد تتوافر أكثر من غريزة في السلوك الغرائزي الواحد، فالجنس سلوك غريزي يحتوي على غريزة الجنس بالإضافة إلى غريزة تقدير الذات وغريزة البقاء. وفي إحدى كتبه يقول فرويد إن التفاوت والتباين بين حدة هذه الغرائز عند امتزاجها يولّد ظواهر سلوكية متباينة، فالعدوان الجنسي إذا كان مفرطاً فإنه من الممكن أن يحول المُحب إلى قاتل يقتل من أجل اللذة الجنسية، كما أن الانخفاض الشديد في الدافع العدواني قد يُنتج لنا شخصًا خجولاً أو عنيناً. وقد اصطلح فرويد على تسمية طاقة الإشباع أو طاقة البناء بالليبدو، وهو يرى أن طاقة الإشباع هذه ليست متركزة في منطقة محددة من جسم الإنسان، بل هي منتشرة في كافة أنحائه، ويعتقد فرويد أن منبع هذه الطاقة هي في الهو والأنا بصورة خاصة، على أن هذه الطاقة تظل كامنة بوصفها غريزة بناء ولا تظهر إلا بعد أن تتحول إلى الخارج بوصفها غريزة تدميرية، ويرى فرويد أن هذا الانتقال من حالة الكمون إلى حالة الظهور أمر ضروري لحفظ الفرد. ومن الملاحظ هنا أن طاقة الإشباع وتحولاته تكون بين مستويين فقط من الحياة النفسية هما: الهو والأنا، وتظل في حالة حركة وانتقال إلى أن يتكوّن الأنا الأعلى فإن كمية كبيرة من الطاقة يحدث لها حالة كمون أو ثبوت داخل الأنا. وحتى لا ينفلت حبل المتابعة من بين يدينا فإننا حتى نفسر الكلام السابق نحاول ضرب مثال، وذلك أن كثيرًا من الناس لا يسعهم تصوّر الغرائز وطاقات الإشباع إلا على نحو جنسي صرف. ولنفترض الآن أننا نتكلم عن طاقة الإشباع في الأكل، فإن الطفل الرضيع بمجرّد أن يُحس بالجوع فإن ثمة توترات تولدها طاقة الإشباع هذه هي التي تجعله يحس بالجوع، وعندها ينطلق بالبكاء ليتم تلبية هذه الرغبة، التي لا تتأخر كثيراً حتى تنفذ له فيهدأ الطفل. وبالتدريج فإن الطفل سوف يتعلم أن بكاءه هو الوسيلة الوحيدة لتنفيذ رغبته، فعندها يكون البكاء عملاً إدراكيًا حسياً، وبالتالي فإن مصدره يكون الأنا، بينما تكون الحاجة إلى الأكل منبعثة من الهو (دون أن نعتقد أن الأنا أيضاً لا يسعى إلى إشباع هذه الرغبة)، ولكن عندما يتكوّن الأنا الأعلى (لا يتكون الأنا الأعلى في مدة قصيرة، ولكن عبر مراحل الطفولة الطويلة) فإننا نتعلم أن البكاء ليس سلوكاً قويمًا للتصريح بالرغبات، وأنه يجب علينا أن نتعلم سلوكاً أكثر تأدباً للتصريح برغباتنا (هذا إن كانت الرغبات مشروعة طبعاً حسب معيار الأنا الأعلى أو بتعبير أدق حسب معيار العادات والتقاليد والأعراف) وعندما نشعر بحاجتنا إلى الاهتمام فإننا نجد أن سلوك التبول على الملابس هو أنسب وسيلة للحصول على حاجاتنا، عبر حصولنا على الاهتمام والرعاية من أحد الوالدين، وهو شيء يُشعر الطفل بالدفء والأمان ولاشك. وأيضاً يتدخل الأنا الأعلى ليوضح لنا أن هذا السلوك ليس سلوكاً قويماً فيكبته، وهكذا يظل الأنا الأعلى يقمع رغباتنا وحاجاتنا بسلسلة طويلة من القيم الأخلاقية والتقاليد والأعراف، والخطأ والصواب حتى تعود طاقة الإشباع إلى مرحلة الكمون أو الثبوت الداخلي مرة أخرى في الأنا لتعمل ضد الذات على نحو تدميري، وهو ما يراه فرويد من الأخطار الصحية التي تعترض طريق الإنسان في سبيل النمو الحضاري. (ملاحظة: القيم التي يحملها الأنا الأعلى ليست بالضرورة هي قيم ومُثل صحيحة، هي فقط تلك القيم التي يتوارثها الآباء من الأسلاف، والأبناء من الآباء بصرف النظر عن كونها صحيحة فعلاً أم غير ذلك) بل ويذهب فرويد إلى أبعد من ذلك فيرى أن إفراغ الشحنات العدوانية أمر هام وضروري، وأن كبح هذا العدوان ضار بشكل عام، ويعمل على إصابة الإنسان بالأمراض المختلفة، ويرى أن عدم تفريغ طاقة التدمير قد يُؤدي إلى طاقة تدمير داخلية ضد الذات فيشد شعره ويلطم وجهه، وفي الحقيقة فإن هذا السلوك الموجه للذات ما هو إلا صورة لما كان يتمنى أن يوجهه تجاه الآخر. وربما كان المثال الأكثر وضوحاً لذلك هو السلوك العدواني الذي يتخذه الإنسان تجاه نفسه انتقاماً من الآخرين، كإيذاء الفتاة لنفسها انتقامًا من أبيها مثلاً، فمثل هذا السلوك هو في أساسه رسالة يحب المرء أن يوصلها إلى الآخرين، وفي مناسبات ما، يكون مضمون الرسالة هي بكل بساطة: "أنا هنا، أنا ما أزال موجوداً" وذلك حتى يعود ليحظى بالاهتمام، حتى وإن كان الاهتمام متمثلاً بالتوبيخ أو الضرب، فالمهمة الأساسية تقضي بأن تثير انتباه الآخر وحسب، بأي طريقة كانت. ويفترض فرويد أن الليبدو يختزن بكميات كبيرة في الأنا في مرحلة أسماها بالنرجسية الأولى المطلقة، وتظل كذلك حتى يتمكن الأنا نفسه من شحن تصورات الموضوع بالليبدو، وعندها فقط يتحول الليبدو من مرحلة النرجسية إلى مرحلة الموضوعية، ويعتقد فرويد أن أحد خصائص الليبدو الموضوعي هو سهولة انتقال الليبدو من موضوع إلى آخر، غير أنه في مرحلة ما، يمكن أن يثبت الليبدو في موضوع واحد. وعلى سبيل المثال يكون موضوع الليبدو في مرحلة عمرية معينة للطفل في المنطقة الفموية، فيكون الإشباع كله عن طريق الفم كالمص والرضاعة وتناول الطعام، وفي مرحلة متقدمة أخرى ينتقل الليبدو إلى المرحلة الشرجية، فيكون الإشباع عبر قضاء الحاجة ولقاء الاهتمام والرعاية من جانب الأم مثلاً في غسل وتنظيف هذه المنطقة (أو الموضوع) وقد يكون في المرحلة القضيبية، وهكذا على أن جسم الإنسان كله صالح تماماً لأن يكون موضوعاً لليبدو بحسب فرويد، وهذا ما يُفسر اختلاف حصول اللذة عند ملامسة أي جزء من أجسادنا، فبعضنا تثيره ملامسة الرقبة، والآخر تثيره ملامسة الشفاه، أو الركبة، أو الأعضاء التناسلية حيث تتركز كميات كبيرة من الليبدو (يضيع قدر كبير من طاقة الليبدو في الأعضاء التناسلية الأنثوية عند الإناث المختونات فلا يحصل لهن اللذة مباشرة، ويُصبن بالبرود الجنسي الجزئي أو الكامل حسب مقدار الجزء المبتور) ويعتقد فرويد أن حالات الشذوذ الجنسي عند الرجال ناجمة في كمون أو ثبوت طاقة الليبدو في المرحلة الشرجية. على أنه من المهم أن نعرف أن فرويد يرى أن الوظيفة الجنسية لدى الإنسان لا تبدأ فقط منذ البلوغ مثلما كان الاعتقاد السائد، وإنما تبدأ من مراحل مبكرة جداً، وعلى هذا فهو يرى الليبدو في المرحلة الفموية لدى الطفل طاقة إشباع لا تخلو من وظيفة جنسية، وهكذا يُفسّر لنا رغبة الطفل في مص حلمة الثدي حتى دون الحاجة إلى الطعام، ومن أجل هذا فإن الأطفال عندما نلقمهم (الحلمات الاصطناعية) فإنهم يسكتون على الفور. وهذا الرأي بالتحديد أثار حفيظة نفوس عدد كبير من الناس الذين رفضوا الاعتراف بأن علاقة الطفل بأمه تحمل في جانب منها رغبة جنسية خفية، غير أن فرويد يصر على هذا التصوّر، ويُفسر عليها كافة الظواهر والسلوكيات المستقبلية كارتباط الابن بأمه أكثر من أبيه، وحتى سعيه للمطابقة بين زوجته وأمه عندما ينوي الزواج، وما إلى غير ذلك من المظاهر السلوكية المرتبطة بتلك المرحلة الجنسية المبكرة جداً. وفي الوقت الذي كان الناس فيها يعتقدون أن الرغبة الجنسية لدى الإنسان مصدرها الحفاظ على النوع والتناسل، وبمعنى آخر (الجنس وسيلة والتناسل غاية)، فإن فرويد كان يرى أن الجنس رغبة في حد ذاته، وأن التناسل نتيجة لهذه الرغبة (الجنس غاية والتناسل نتيجة) ودليله الذي قدمه على إثبات ذلك حالات يكون فيها الجنس هو الموضوع الرئيس مثل: [1] الجنسية المثلية: اللواط والسحاق (لا يوجد فيه تناسل) [2] الجنس المنحرف: جنس الأحذية وأدوات الزينة، وجنس المتعلقات بالجنس الآخر، وجنس الموتى، وجنس البهائم (لا يوجد فيه تناسل) إذن ففرويد بذلك يُريد أن يقول باختصار: إن الحياة الجنسية لا تبدأ منذ البلوغ بل تنشأ عند الميلاد، كما أنه يحاول التفريق بين مفهوم الجنس ومفهوم التناسل إذ يعتبر أن الجنس هو المفهوم العام والأعم وقد يحتوي على التناسل وقد لا يحتوي عليه كما رأينا. وعلى هذا فإن فرويد يُفسر بعض الظواهر النفسية على أنها أثر من آثار الحياة الجنسية المبكرة كالغيرة مثلاً، ويرى أن هذه الظواهر النفسية تنشأ منذ وقت مبكر وتكون جزءًا من عملية تطور منتظمة وتنمو هذه الظواهر حتى تبلغ ذروتها في سن الخامسة تقريباً ثم تأتي مرحلة من السكون، والتي بالإمكان تسميتها أيضاً بمرحلة (الكمون) ثم تعاود في الظهور عند البلوغ، وعلى هذا فهو يرى أن الحياة الجنسية تمر بمرحلتين أو دورتين إن صح التعبير. ومن ثاروا على هذه الفكرة واستهجنوها لم يفهموا مراد فرويد منها على وجه الدقة، فالمص مثلاً عند الطفل في مرحلة الرضاعة يتكون من دافعين دافع فسيولوجي ودافع سايكولوجي، فالدافع الفسيولوجي هو التغذية دون ريب، ولكن حالة كحالة تشبث الطفل بالحلمة الصناعية، وهدوئه عند مصها دون حصول التغذية يُؤكد على أن الطفل يبحث في الرضاعة عن لذة مستقلة تهبه الإشباع، فماذا يُمكن أن نسمي هذه الحاجة إلى الإشباع إن لم تكن هنالك تغذية؟ فرويد يفسرها بأنها لذة جنسية سببها الليبدو الذي يكون في المرحلة الفموية في تلك السن. ويرى فرويد أنه في المرحلة الفموية لليبدو تظهر أول علامات السادية لاسيما مع أول ظهور للأسنان، ولهذا فإنه مثلما نلاحظ أن الطفل يوجه كل ما تتناوله يده إلى فمه (حتى وإن لم يكن جائعاً) فإنه في هذه المرحلة (السادية الفموية) ينزع إلى أكل وعض كل شيء يقع في متناول يده: الصحف، المجلات، الأقمشة، إصبع أمه أو أبيه، علب السجائر، قوارير المياه ووووإلخ. ثم تظهر بعد ذلك مرحلة السادية الشرجية، وفي هذا يقول فرويد: إن الإشباع في السادية الشرجية يطلب في العدوان وفي وظيفة الإخراج، وهو يبرر إدماج الحوافز العدوانية في الليبدو بافتراض أن السادية مزيج غريزي لحوافز ليبيدية خالصة مع حوافز تدميرية خالصة. ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي المرحلة القضيبية وهو ما يعتقد فرويد أنها مشابه للشكل النهائي للحياة الجنسية، على أن فرويد يرى أن العضو التناسلي الذكري هو من يلعب دوراً كبيراً في هذه المرحلة في حين أن الأعضاء التناسلية الأنثوية تظل مجهولة لفترة طويلة، وربما كان هذا هو السر في أن الأطفال يعتقدون أن أعضائهم التناسلية متشابهة وأن الولادة تتم عن طريق الشرج. ويقول فرويد إن الطفل في محاولته لفهم العمليات الجنسية يأخذ في اعتباره الأعضاء البارزة، كما يرى فرويد أن الأعضاء التناسلية للأنثى تمر بحالة تهيّج في مرحلة مبكرة جداً وهي التهيجات التي تصيب البظر وهو العضو الأقرب إلى القضيب الذكري، وعلى هذا فإن بعض تلاميذ فرويد لا يرون من مانع في إطلاق تسمية (المرحلة القضيبية) لدى الإناث أيضاً. وفيما يلي هذه المرحلة يبدأ طور جديد هو طور البحث الجنسي واكتشاف الأعضاء وهو ما يعتبر مفصلة مهمة للتفريق بين الذكور والإناث وهنا يتناول فرويد ما يُسمى بعقدة أوديب لدى الذكور (عقدة الإخصاء) وعقدة ألكترا عند الإناث (عقدة بتر القضيب) ثم تأخذ هذه المراحل السابقة: الفموية والشرجية والقضيبية في التنظيم والتكامل عند البلوغ وهو ما يرى فرويد أنها مرحلة رابعة تمتاز بما يلي: [1] الاحتفاظ بقدر كبير من شحنات الليبدو [2] أجزاء قليلة من شحنات الليبدو تندمج في الوظيفة الجنسية من حيث هي أفعال يُسميها فرويد باللذة التمهيدية وأنا أسميها مقدمات اللذة (مرحلة التعرف الحقيقي على اللذة الجنسية ومعناها) [3] يتم استبعاد ميول أخرى في هذه المرحلة عن طريق القمع أو الكبت أو أنها تستخدم داخل الأنا بطريقة مختلفة، أو أنها تخضع للتسامى بتعطل أهدافها. كالميول الشرجية مثلاً في بعض الحالات وباستخدام التحليل النفسي تم اكتشاف أن التعلق بشخص من نفس الجنس كان في الأصل موجوداً بطريقة أو بأخرى في كل مرحلة من المراحل السابقة ولكنها ظلت في حالة الكمون (وهذا يُفسر لنا ظاهرة اكتشاف الأعضاء التناسلية الجماعي عند بعض الأطفال أو حالات التعرف على الأعضاء داخل الجنس الواحد، كأن تقوم طفلة بملاعبة الأعضاء التناسلية لها أو لطفلة أخرى في خفاء، وكذلك الحال عند الصبيان) ويقول فرويد أنه مما يزيد الأمر تعقيداً أن العمليات الضرورة للوصول إلى الحالة السوية لا تتحقق بالكامل، كما أنها تصل مرحلة الانعدام بل إنها تتحقق بصورة جزئية بحيث تتوقف الصورة النهائية على هذه العلاقات الكمية، ولذا فإن التنظيم التناسلي يتحقق ولكنه يضعف نتيجة عدك توحد أجزاء من الليبدو وبقائها ثابتة على موضوعات (أو أعضاء) وأهداف بعينها في مرحلة سابقة على الطور التناسلي، ويضيف أن مثل هذا الضعف يظهر في ميل الليبدو إلى العودة إلى سابق حالته قبل المرحلة التناسلية وهو ما يُطلق عليه اسم (مرحلة النكوص) ويكون ذلك إمام بسبب عدم الإشباع أو الكبت، ومن هذا يصل فرويد إلى نتيجتين غاية في الأهمية: [1] حالات الشذوذ الجنسية هي عبارة عن خلل في توزيع كميات الليبدو في مرحلة من المراحل. [2] الاضطرابات الجنسية لا يمكن معرفة أسبابها إلا عبر دراسة فترة الطفولة للحالة (المريض أو الشاذ) الكيفيات النفسية : ناقشنا فيما سبق بقدر كبير من الاختصار الجهاز النفسي ومستويات الثلاثة، وربما لاحظنا من خلال ما تقدم أن مهمة هذه المستويات الثلاث للجهاز النفسي تكمن في حقيقتها في تحقيق أهداف فسيكولوجية صرفة، وقبل أن نصاب بالإحباط لشعورنا بأننا رغم تلك الثرثرة الكثيرة لم ندخل بعد محمية العمليات النفسية فإنني أطمئن الجميع بأن الطاقات الإشباعية هي في جوهرها أساس الوظائف النفسية، وبهذا فإننا بطريقة أو بأخرى دخلنا محمية العمليات النفسية، ولكن فقط من البوابة الخلفية! إن أول ما يواجهنا إن نحن قررنا الدخول لمحمية العمليات النفسية من البوابة الرئيسية أو الأمامية شيء ضخم وكبير يُسمى (الشعور) ولقد كان اهتمام علماء النفس قبل فرويد منصب تماماً على الشعور باعتباره البوابة الحقيقة والوحيدة لعوالم العمليات النفسية ولفهم ظواهرها والتنبؤ بسلوكها المستقبلي، ولقد شهدت تنظيرات كثيرة ومفيدة في هذا الصدد، ولكن الشيء المذهل والمدهش الذي أضافه فرويد هو اكتشاف لما أسماه باللاشعور، وعلاقة هذا اللاشعور بحياتنا النفسية، وكيف أن هذا الكشف ساعد على فهم عدد كبير جداً من الظواهر النفسية التي كانت تبدو معقدة وغامضة، الأمر الذي جعلها لحقب طويلة جداً تبدو كنافذة خرافية لعوالم الغيبيات والميتافيزيقيا. ورغم أننا نحاول دائماً القول بأن فرويد اكتشف اللاشعور إلا أن هذا الكلام غير دقيق، فاللاشعور عرف من قبل فرويد ولكنه –كما قلنا- كان شيئاً غامضاً ومبهماً، حتى جاء فرويد ورفع الغطاء عن عوالمه الغامضة، فحق أن ندعي أنه مكتشفه. حتى أنه عندما وصفه بالعقل الاشعوري سخر منه الناس وعلماء النفس على حد سواء، فكان الأمر بالنسبة إليه أشبه بنكتة غير منطقية، فكيف يكون (عقلاً) وفي ذات الوقت يكون (لاشعورياً)؟ ينشأ الشعور أولاً من خلال التجارب الحسية التي نقوم بها باستخدام الحواس، إذ تقوم حواسنا بدور المستقبلات الحساسة للمؤثرات الخارجية، ثم تنتقل هذه المؤثرات عبر الجهاز العصبي إلى الدماغ، وهناك يتم عملية فرزها وتصنيفها حسب الموضوع: حب – حزن – فرح – غضب – لذة – خوف – قلق – اشتياق .... إلخ، ولنتفق على تسمية هذه المشاعر والأحاسيس بالحالات الشعورية، ولنفترض الآن أن هذه مركز أو مراكز الشعور في الدماغ عبارة عن وعاء كبير من الماء وداخلها عدة فواصل عرضية شفافة بحيث تعمل هذه الفواصل على تقسيم الوعاء إلى عدد كبير من التبويبات، الأمر أشبه كثيرًا بالتبويبات التي نجدها في مكاتب البريد، إذ تجد على الجدار لوحة خشبية عملاقة مقسمة إلى تبويبات صغيرة وعلى مدخل كل تبويب اسم المدينة أو البلدة التي سوف تتوجه إليها الرسائل أو الطرود، والأمر كذلك في مراكز الشعور في الدماغ، وهذه الحالات الشعورية تحفظ في هذه التبويبات ليتم استدعاؤها عند الحاجة. في حالات شعورية حادة وحرجة نشعر بأننا نتعرض لمزيج أو خليط من المشاعر المختلفة والمتباينة، وهذا الأمر في الحقيقة ناجم عن أخطاء في التبويب، فالجهاز العصبي الذي نقل التجربة الشعورية [A]، وأخذها إلى تبويب [الحزن] قام بعد ذلك في وقت لاحق (ربما بسنوات) بنقل نفس التجربة الشعورية [A] إلى تبويب آخر؛ وليكن [الخوف]، فعندما يصادفنا موقع أو تجربة مشابهة، فإن الدماغ يقوم باستدعاء الحالات الشعورية الخاصة بهذه التجربة حسب التجربة المخزنة (=التبويب) فتتدافع حالتان في وقت واحد، ولهذا فإننا في مواقف معينة حين نشعر بالحزن فإننا نستشعر بعض الخوف غير المبرر. هذا الأمر لا ينطبق على حالة أخرى تسمى (الموافقة الفسيولوجية) وهي استدعاء الحالة الفسيولوجية المناسبة للحالة الشعورية: البكاء لدى الحزن، والجوع لدى الخوف، وخفقان القلب لدى الحب وووو إلخ. وفي أحيان نادرة فإننا لا نجد ما يكفي من الحالات الشعورية المناسبة للظاهرة الشعورية، ولهذا فإننا نجد أولئك الأشخاص الذين لا يتمكنون من البكاء في حالات تتطلب البكاء، أو أولئك الذين يبدون لنا وكأنهم لا يعرفون معنى الحب ولم يتذوقوا طعمه، فالحقيقة هي أنهم لا يملكون في تبويباتهم الخاصة قدرًا كافياً من الحالات الشعورية لتوصيف تلك الظاهرة، إما لأنهم لم يمروا بتجارب شعورية مشابهة إلا نادراً أو مطلقاً، أو لأن هذه التجارب الشعورية تم قمعها في مرحلة مبكرة من حياتهم فتنحت أو كادت. ما يحدث في الحقيقة هو أمر أشبه بإجراء إداري صارم جداً، ولنتصوّر الأمر كأننا في شركة كبيرة، تقوم فيه سكرتير مكتب المدير العام باستقبال مراسلات المدير الخاصة والرسمية وتقوم بأرشفته جزئياً أو مؤقتاً في مكتبها بطريقة مرتبة ومنظمة، بحيث تتمكن من إيجاد الورقة المطلوبة من الملف المطلوب متى ما استدعاه المدير. نفس هذه الملفات تتم أرشفتها وإيداعها في أرشيف الشركة بعد مرور سنة مالية، بحيث يتم تجديد أرشيف السكرتير بصورة سنوية، (وتعلون حال قسم الأرشيف في أي شركة، فهو قسم منسي لا يهتم به أحد ولا يكترث به أحد رغم أهميته الفائقة للشركة) لا تحتوي فيها الملفات الجديدة على أوراق مراسلات قديمة إلا تلك التي تستخدمها الشركة باستمرار، كأوراق المعاملات الخاصة بمكتب البلدية، أو أوراق المعاملات الخاصة بشركة الاتصالات أو شركة الكهرباء، في حين تذهب الأوراق والمراسلات التي يُعتقد أنها منتهية إلى أرشيف الشركة الرئيسي وهو في حالتنا هذه (اللاشعور). من هذا المثال البسيط يتبيّن لنا أن محتويات اللاشعور هي في الأصل شعورية أو تجارب شعورية سابقة، يتم الاحتفاظ بها في مكان قريب لمدة زمنية معينة، ومع مرور الوقت يتم أرشفتها في مكان بعيد، دون أن يعني ذلك أنها انتهت أو أُتلفت. وفي هذا يقول فرويد: "نحن نباشر مشاهداتنا من خلال جهاز الإدراك الحسي ذاته بمساعدة الفجوات في الظواهر النفسية مباشرة بأن نملأها باستدلالات وجيهة ونترجمها إلى مادة شعورية، وبهذه الطريقة نضيف إلى الظواهر النفسية اللاشعورية سلسلة من العمليات الشعورية مكملة لها." ولا يهتم فرويد كثيرًا بتعريف الشعور ووصفة، ولذلك نجده يقول: "لا حاجة بنا إلى تحديد ما نعنيه بالشعور، فهو نفسه معنى الشعور لدى الفلاسفة والعامة، وكل ما عدا ذلك من الظواهر النفسية فهو عندنا لاشعوري." وعلى هذا فإن حالات الشعور واللاشعور هي في تبادل دائم، لأن الحالة الشعورية تظل شعورية لفترة من الوقت ثم تصبح لاشعورية، ويُساعدنا إدراكنا الحسي على تمييز هذه الحالات ولو بعد فترات طويلة، فأي تجربة شعورية تصاحبها حالة شعورية معينة، فإن هذه الحالة سوف تحتفظ برونقها حتى ولو لم تتكرر التجربة إلا بعد خمسين سنة من أول تجربة، مما يعني أننا نملك سكرتيرة ماهرة جداً، أو بالأصح موظف أرشيف عالي الكفاءة، إلا أنه في حالات الإدراك الحسي الشعوري للعمليات الفكرية ثمة حالات لاشعورية بإمكانها أن تنجح بسهولة في أن تستبدل الحالة الشعورية بحالة لاشعورية وهو ما يُسميها فرويد [قبلشعورية = قبل شعورية]، ويُضيف قائلاً: "لقد علمتنا التجربة أن كل العمليات النفسية تقريباً حتى ما كان منها بالغ التعقيد يمكن أن تظل قبلشعورية أحياناً وإن كانت كلها عادة تجاهد في الوصول إلى الشعور." وكمثال عن تبادل الأدوار بين هذه الحالات النفسية يقول فرويد: "يمكن لمضمون لاشعوري أن ينتقل إلى ما قبل الشعور، ثم يصبح شعورياً وهو ما يحدث على نطاق واسع في حالات الأمراض الذهانية، وهذا يؤدي إلى القول بأن الاحتفاظ بقدر معين من المقاومات الداخلية شرط لحالة السواء. وفي حالة النوم تقل هذه المقاومة ويندفع مضمون اللاشعوري فتكون الأحلام. وعلى الضد فقد يصبح المضمون القبلشعوري بعيداً ومنعزلاً لفترة ما نتيجة للمقاومات كما يحدث في حالات النسيان العابر، أو قد ترتد فكرة قبلشعورية ارتداداً مؤقتاً إلى الحالات الاشعورية وهو شرط النكتة"[منقول بتصرّف] لا أدري لماذا يتوجب عليّ في هذه المرحلة أن أنبه إلى أن الدماغ ليس بكليته منصرف إلى الجهاز النفسي، فهذا مما هو معلوم بديهياً، ولكن ربما للدور الكبير الذي يلعبه الدماغ في ترتيب وتنسيق هذه الأدوار والعمليات يمكن أن يُخيّل إلينا أنه كذلك، على أننا يجب أن نعلم أن الدماغ الحالة النفسية المعينة لا تسمى شعوراً إلا إذا كانت تحت إشراف وعلم الدماغ وعملياته العصبية، وما دون ذلك فهو يندرج تحت عالم اللاشعور، ولهذا من الصعب على رجل ما أن يعرف سبباً منطقياً لكراهيته للنساء وعداوته لهن والعنف الذي يتعامل به معهن رغم أنه قد يكون رجلاً متزناً ومحترماً ومجتهداً في عمله، ويبدو وكأنه شخص سوي للآخرين، فإنه ومهما اجتهد وحاول أن يعصر دماغه فإنه لن يستطيع أن يجد مبرراً منطقياً لهذا السلوك، وقد يُبرر لذلك بأعذار واهية وغير مقنعة قبل أن يتمكن المحلل النفسي أن يكتشف أن طفولته المبكرة تحمل تجربة لاشعورية مريرة رأى فيها والده يمارس الجنس مع والدته، حتى هو نفسه سوف يُصعق لهذا النبأ، وعندها سوف يقوم دماغه باستدعاء الحالة الشعورية لتلك التجربة الآتية من قعر التاريخ والماضي، والذي كان يظن أنه مات فيبدأ بالصراخ والبكاء وربما تحطيم الأشياء. كما لا أردي لماذا يتوجب عليّ التنبيه على الفارق بين الحالات اللاشعورية والحالات اللاإرادية، فليس لهما علاقة ببعضهما على الإطلاق، فالحالات اللاإرادية كحركة العينين المفاجئة أثناء مرور شيء مؤذي، أو إغلاق العينين أثناء العطس أو حتى العمليات الفسيوبيولوجية كحركة المعدة والقلب وغيرها، فكل هذه لا علاقة لها بموضوع الشعور واللاشعور على الإطلاق، وإنما يقتصر توصيف هذه الحالات الشعورية على الأفعال والسلوك الإنسانية: فهل هذا السلوك سلوك شعوري أم لاشعوري أم قبلشعوري؟ هذا هو مناط اهتمامنا هنا.
لقد تكلم فرويد فيما تكلم عن طاقتين أساسيتين: طاقة البناء وطاقة التدمير، وفي كُتب فرويد تجدين مصطلحات أو تعابير كثيرة لكل من هاتين الطاقتين، فمرة طاقة الحياة وطاقة الموت ومرة طاقة الأيروس وطاقة التيناتوس وهذه الأخيرة هي تعبير عن حالة العنف والعدوان، وهو –مثله مثل طاقة الحياة- تعتبر شيئاً أصيلاً. حسناً، بحسب فرويد، فإن هاتين القوتين تخوضان نوع من الصراع، حتى وإن لم تظهر آثار هذا الصراع وتطفو على سطح الشعور والإدراك المباشر، ولكن تنازع هاتين الطاقتين أمر ضروري عند فرويد، ويرى أن أحدهما يُفضي إلى الآخر، فمثلاً طاقة الحياة أو الأيروس (نسبة إلى إله الحب عن الإغريق) تنزع إلى أدى مهمة مُحددة وهي (حفظ الذات) وهو ما يقوم به الأنا، وهذه الوظيفة بطريقة أو بأخرى تسعى إلى توفير أو تحقيق نزعة الموت؛ إذ أن نزعة الموت عند الإنسان (وعند كل كائن حي) هي نزعة فطرية مصدرها الرجوع إلى الأصل اللاعضوي للكائن. وهذه الحركة الجدلية هي في الواقع ما تقوم عليه الحياة النفسية الإنسانية كما تقدّم، فالحياة في شكل من أشكاله وسيلة وهدف للموت. على أن طاقة الإشباع (الليبدو) على ما يبدو تقوم تحييد طاقة الموت أو الطاقة التدميرية وذلك عبر إفراغها في شكل موضوعات خارج الذات، ويكون (العنف) والعدوان أحد مظاهر هذا التحييد، ويتم التعبير عنها في شكل طاقة جنسية تتمثل في ممارسة الجنس بعنف (السادية الجنسية) أو حتى التلذذ بالتعذيب، والعكس صحيح طبعًا، وإن لم ينجح الليبدو في توجيه هذه الطاقة التدميرية نحو موضوع خارجي، فإن هذه الطاقة تبدأ بما يُسمى التدمير الذاتي أو العدوان على الذات (المازوشية) بحيث يُصبح من المُحال حصول اللذة ما لم يرتبط به ألم. وهما: أي السادية والمازوشية أحد التعابير الجنسية بحسب فرويد على أية حال. هذا يُفسر بطريقة واضحة تضاد الخيرية والشرية في النفس البشرية، فبداخل كل واحد منها المقدار ذاته من الخير ومن الشر، والراجح أن أحدهما إذا كان طاغياً على الآخر فإن الثاني يكون في حالة من القمع، وهنا يأتي دور الأنا والأنا الأعلى للتوفيق في ذلك، ومن هنا فإننا نرى بعض المُجرمين لا يشعرون بأي تأنيب ضمير على جرائمهم، بل على العكس يكونون مُتصالحين معها تماماً. إن الحرب بطريقة أو بأخرى تعد فرصة سانحة لليبدو لإيجاد موضوع خارجي ليُفرّغ فيه طاقات التدمير، بربط طاقة القتل والتعذيب بقيمة سامية: الدفاع عن الدين – الدفاع عن الوطن – الدفاع عن العرض ..... إلخ. إنه ليس من المتوقع أن نفهم خبايا اللاشعور بهذا المستوى الواهن من الاستقلال –سيدتي- فليس من المتوقع أن نجزم بأن رؤيتنا للصور البشعة في الحروب هي الصور الأولى التي تمر علينا في حياتنا، وإلا لكان الجميع دون استثناء رقيقي القلوب والمشاعر تجاه مثل هذه الصور بمستوى واحد، كما أن ذلك لا يُمكن ربطه بصورة مباشرة بمنظر الدماء أو الأعضاء المشوّهة، لأن اللاشعور في الأساس لا يتعامل مع الموضوعات كما هي بل يتعامل معها كرموز، ولهذا فإن إفصاح اللاشعور عما داخله (حتى عندما يجد الفرصة مؤاتية – كما في الأحلام) فإنه لا يُصرّح ما بداخله بصورة مباشرة، ولكن بصورة رموز وطلاسم، فأنتِ لا تعرفين معنى أن تكون الحالة الشعورية مكبوتة لسنوات طويلة قد تصل لعشرات السنين، وعلى هذا فإنه لا يُمكننا الجزم بالموضوع الذي يدل عليه الرمز المثير أو المحفز القابع في اللاشعور، فقد يكون منظر ذبح خروف العيد، وقد يكون حادث سير قديم جداً، وقد يكون حالة عنف أسري، وهكذا، ولكل إنسانة طريقة في ترميز وتشفير هذه التجارب الشعورية، كما له طريقته في أرشفتها. إن السؤال الذي يفرض نفسه الآن: إذا كان علينا تصديق أن يحمل الجندي قلباً رهيفاً تجاه مناظر الدم والقتل، فما الذي يجب أن نتوقعه من البستاني مثلاً؟ ما الذي يجعل جندياً (عمله الأساسي القتل والتدمير وسفك الدماء ورؤيتها وهي تسيل) يُصاب بالانهيار والاضطراب النفسي في الحروب، إن الإجابة المُرجحة لدي هي (تجربة الاقتراب من الموت) عندما تكون طاقة الأيروس (غريزة الحياة) هي الغالبة عليه في تلك اللحظة.
#مكارم_ابراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل نعتذر عن حرية التعبير!
-
حوار عن اصل الوجود الانساني والحياة الابدية!
-
هل النظام الاشتراكي محصن من الازمات الاقتصادية؟
-
اسباب الازمة الاقتصادية العالمية
-
سؤال الى الكاتب مصطفى حقي؟
-
الطغاة يصنعون البغاء
-
مواجهة عامة مع الكاتبة نوال السعداوي
-
البغاء والمواد الإباحية انعكاس للعنف الجنسي
-
ردا على مقالة عبد الباري عطوان...........بقلم مكارم ابراهيم
-
الحقيقة في كيفية تنمية الحافز
-
هل يمكن امتلاك العبيد والإماء في حرب افغانستان؟
-
اصل الكون بين نظرية بيغ بانغ والنظرية المكية
-
انخفاض الولادات بشكل ملحوظ في البلدان النامية بهدف مكافحة ال
...
-
دمتم متخلفين............
-
المرأة بين المطرقة والسندان
-
اخر الاكتشافات العلمية العربية والاسلامية........
-
المواقع الاباحية وتاثيرها على انحطاط اخلاق المسلمين
-
هل النفط هو سبب حرب امريكا على العراق؟
-
الاغنية السياسية الى أين؟
-
أغيثونا!
المزيد.....
-
مسؤول عسكري بريطاني: جاهزون لقتال روسيا -الليلة- في هذه الحا
...
-
مسؤول إماراتي ينفي لـCNN أنباء عن إمكانية -تمويل مشروع تجريب
...
-
الدفاع الروسية تعلن نجاح اختبار صاروخ -أوريشنيك- وتدميره مصن
...
-
بوريسوف: الرحلات المأهولة إلى المريخ قد تبدأ خلال الـ50 عاما
...
-
على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأم
...
-
فوضى في برلمان بوليفيا: رفاق الحزب الواحد يشتبكون بالأيدي
-
بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن -فهمت
...
-
المجر تتحدى -الجنائية الدولية- والمحكمة تواجه عاصفة غضب أمري
...
-
سيارتو يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تعريض إمدادات الطاقة في
...
-
خبراء مصريون يقرأون -رسائل صاروخ أوريشنيك-
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|