|
نظام لينين نظام العمل المأجور: 3- التخطيط الشيوعي للإنتاج
أنور نجم الدين
الحوار المتمدن-العدد: 3153 - 2010 / 10 / 13 - 07:51
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
إن تنظيم الإنتاج لا يعني إطلاقًا الخطط الثلاثية أو الخماسية لتطوير الصناعة، والزراعة، والخدمات، أي إخضاع حركة الإنتاج للإدارة العلمية: التخطيط، التنظيم، التوجيه، الرقابة! إن هذا التنظيم قديم قدم الأسلوب العقلاني للإنتاج الرأسمالي.
وهكذا، فإن التخطيط الشيوعي للإنتاج لا يربطه أي رابطة بالتخطيط العقلاني للصناعة، فالتخطيط الشيوعي يعني بكل بساطة ضبط القوانين الاقتصادية من خلال إعادة أسلوب الإنتاج والتوزيع، أي إخضاع الإنتاج للوعي الإنساني المشترك، فإننا نعرف سلفًا أن كل اختلال اقتصادي في الحياة الاجتماعية للمجتمع يعود إلى قوانين اقتصادية، لا إلى عدم توفر الأشياء الضرورية لمعيشة المجتمع، فالفقر يوجد لا لأن الأشياء الاستهلاكية قليلة في المجتمع، بل لأن الأشياء الميتة كثيرة وقيمتها تزيد على الدوام على قيمة الإنسان، فاختلال التوازن يأتي من القوانين التي تنظم الإنتاج لا من قلة المنتجات، فالبطالة توجد لا لعدم مجال في توظيف القوى العاطلة عن العمل، والمجاعة توجد لا لأن عدد أفراد المجتمع تزيد على الأشياء المتوفرة في المجتمع، والأزمات الاقتصادية توجد لا لقلة المواد الخام أو قلة الطاقة، بل لعدم ضبط القوانين المتحكمة في الإنتاج، والتوزيع. لذلك لا نتفق إطلاقًا مع المنهج البرجوازي للاقتصاد السياسي الذي يتمسك به لينين حول كيفية تطوير وتخطيط الإنتاج لما يسمى ببناء الاشتراكية؛ فلينين لا يرى الحل إلا في تطوير الصناعة والزراعة وتخطيطها، علمًا بأن مصدر مصائب الإنسانية هو التطور العقلاني للصناعة الخاضعة للإدارة العلمية، فهناك فائض من المنتجات ومن وسائل إنتاج هذه المنتجات في كل مكان في العالم، في مصر كالصين، في أمريكا كالهند، ولكن الأُجَراء عمومًا عاجزون عن امتلاك هذا الفائض من الإنتاج؛ فالخطط الخماسية التي تشمل اليوم كل مؤسسة رأسمالية عصرية، يعود تاريخها إلى ظهور الإنتاج الكبير، وخاصة الشركات المساهمة.
إذًا فإن مشروع لينين المزعوم، أي التوزيع العقلاني للصناعات الكبيرة، والاهتمام الخاص بالكهرباء والطاقة المائية الذي كان يخطط له لينين، لا يمكنه أن يغير شيئًا من الطبيعة الرأسمالية للإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك، قريبًا أم بعيدًا؛ لأن العقلانية هذه هي نفس المنهج العقلاني للإنتاج الرأسمالي، وهي بالأحرى لا تمس قانون القيمة والعلاقات الناتجة منها إطلاقًا، فالأمر يتعلق بضبط القانون الذي ينظم هذه الصناعة في مستوى المجتمع على العموم، لا بتنظيم الصناعة نفسها؛ لذلك لا ننطلق إطلاقًا من الفكرة اللينينية التي تعيدنا إلى الخطيئة الأصلية الموجودة في الاقتصاد السياسي الذي يبدأ من قلة الأشياء، بل نبدأ دائمًا من المعايير الاجتماعية لقياس معيشة المجتمع. هل قياس المجتمع هو الحاجات المادية والفكرية للمجتمع، أو الحاجات الضرورية لتجديد قوة العمل؟
هنا، وهنا بالتحديد نجد مفترق الطرق بين الرأسمالية والشيوعية، ونرى أن المسألة تتعلق فقط بالقضاء على قانون القيمة، أو القوانين الضابطة للإنتاج الرأسمالي، لا بما يسمى بتوفر الأشياء الضرورية لأفراد المجتمع، فهذه الأشياء متوفرة سلفًا، بل وفائضة في كل مكان، ولكن بدل امتلاكها من قبل المجتمع، تسبب وباء له بصورة دورية، تسبب الأزمات، والفقر، والبطالة، والمجاعة، والحروب، فإنها لا تلبي الحاجات الاجتماعية، بل تسبب الفائض في الإنتاج، والاختلال في الحياة الاقتصادية نظرًا لامتلاكها الطبقية. ولا يمكن السيطرة على هذا الاختلال الدوري الذي بدأ بالتحديد في الربع الأول من القرن التاسع عشر (عام 1825م)، دون ايقاف روح الرأسمالية التاريخية، وهي قانون القيمة.
إذًا، هل من الضروري أن يمر المجتمع عبر فترة طويلة تسمى الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ومنها إلى الشيوعية؟ وهل تعني الاشتراكية تطوير وتخطيط الصناعة، والزارعة، وتركيز الوسائل الإنتاجية في أيدي الدولة تحت عنوان التأميم؛ كما يوهمنا به لينين؟ كلا، أبدًا.
وهكذا، فإن الانقطاع عن المجتمع الرأسمالي، يعني الانقطاع عن قوانينه ومعايره الاجتماعية المحددة، وإن أصل هذا الانقطاع هو إيقاف التبادل -القيمة التبادلية-. وبهذا المعنى فإن (الفترة الانتقالية) ليست لها أية مقدمات مادية في التاريخ، وإن ما تسمى الدولة البروليتارية ليست سوى تخيلٍ فلسفيٍّ. وإن هذا الانقطاع يعني في الواقع دخول البشر حياته الكومونية -المجتمع الشيوعي- بالمعني الضيق للكلمة، أي بمعنى الانقطاع عن الصراع من أجل البقاء عن المملكة الحيوانية. فما الشيوعية إذًا بالمعنى التاريخي للعبارة؟
الشيوعية:
إن الأساس المادي التاريخي المشخص لظهور أسلوب إنتاجي كوموني، يكمن ضمن حركة الأشياء ذاتها لا ضمن فكر المفكرين مثل بليخانوف، ولينين، وتروتسكي، فالقوى الإنتاجية هي أساس البحث لا مشاريع لينين البرجوازية لتطوير الصناعة، والثورة لا تعني إطلاقًا قلب نظام سياسي، بل تعني قلب نظام اقتصادي، وإيقاف القوانين التي تحركه، وهذا من خلال تهديم علاقات بشرية قديمة على أساس قلب نظام الإنتاج والتوزيع القديم من خلال ايقاف تبادل القيم -قانون القيمة-، فالمسألة تتعلق فقط بأسلوب إنتاجي جديد لا أكثر، أي بتحويل اتجاه الإنتاج لا بصنع آلات وأدوات جديدة لبناء مجتمع جديد، فأسلوب استخدام هذه الآلات هو الذي يعطينا أسلوبًا إنتاجيًّا محددًا، فالأمر إذًا يتعلق بأسلوب إدارة هذه الآلات وتوجيهها لمصلحة المجتمع على العموم لا بإيجاد آلات جديدة -تطوير الصناعة والزراعة، كما يدعي لينين- فحجة التاريخ للعبور إلى مجتمع كوموني، هو وجود مسبق للأداة الاقتصادية والاجتماعية الضرورية لتحقيق هذا الهدف.
إذًا فإن إعادة تنظيم الإنتاج، وإخضاعه للوعي الجماعي للمجتمع، وتوجيهه من قبل كل فرد من أفراد المجتمع بصورة مشتركة من خلال تشكيل كومونات إنتاجية يكفي لترسيخ قاعدة اجتماعية جديدة تقيس بموجبها حياة الأفراد حسب الحاجات الاجتماعية. ولا تعني الشيوعية سوى تلبية الحاجات المادية والفكرية للمجتمع.
تعني الشيوعية الامتلاك الجماعي للثروات الاجتماعية، ووسائل إنتاجها، وأن الامتلاك المشترك لهذه الوسائل لا يحتاج إلى ذلك الإنسان الناعم الذي لم يسمع كلمة الله، والتملك الخاص، والدولة، والعائلة، كما يوهمنا به لينين، فكما شاهدنا مرات عديدة في التاريخ، أن أولى الكومونات تتكون من نفس العناصر الذين يستولون على الملكية الخاصة بأنفسهم، وأن هذه الكومونات الإنتاجية سوف تعمق في تطورها اللاحق تلك الروابط الاجتماعية التي تظهر بظهورها، فكما أن الرأسمالية تحافظ على الدوام على الماهية التي اكتسبتها منذ ظهورها: انفصال الإنسان عن الإنسان؛ فتعمق الكومونة أيضًا في تطورها تلك الروابط الاجتماعية التي تكتسبها منذ ظهورها: الشيوعية! ونعني بالتعميق في العلاقات الجديدة للبشر، السيطرة على مخلفات الماضي، فكيف ممكن ترى السيطرة على كل ما تخلفه الرأسمالية من المأساة للبشرية، دون توحيد مسبق لمصالح هذه البشرية؟
الخلاصة:
إن كل أساس استثمار الإنسان للإنسان في المجتمع المعاصر يتوقف على الحالة التي يعادل فيها الإنسان قِيَمًا متساوية حسب الحق المتساوي. إن إلغاء الشكل الرأسمالي في الإنتاج لا يعني سوى إلغاء علاقات القيمة والحق المتساوي. وهذا كل شيء، فليس الحق المتساوي سوى وحدة القياس لتعادل هذه القيم. وإن الفاصلة التاريخية بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الكوموني هي هذه القيم المتساوية لا أكثر. وجذر هذا الموضوع يتلخص في الآتي: إن قانون القيمة يُفَعَّل بصورة عمياء في العلاقات البشرية، بمعنى أنه قانون مستقل عن إرادة المنتجين المشتركة. وللقضاء على هذا القانون الذي يؤثر على الإنسان بصورة عشوائية، ومثل الطوفان غير المتوقع، لا بد من إيقاف فعل هذا القانون. وهذا كل شيء. وبخلاف هذا التفسير المادي، لا يمكن أن يوجد شيءٌ سوى الأوهام الفلسفية مثل أوهام بليخانوف، أم الحيل السياسية مثل حيل لينين، ففي الملكية العملاقة الرأسمالية، توجد شروط كامنة لتنظيم الإنتاج من جديد، وهذه الشروط قديمة قدم الإنتاج الصناعي الضخم، الصناعة التي خلقت في المجتمع الفوضى الإنتاجية نظرًا لامتلاكها الخاص من قِبَل طَبَقة. وإن ضبط هذه الفوضى يفرض ضرورة إدارة كومونية، فالدولة لا في شكلها الأمريكي ولا في شكلها السوفيتي، قدمت حلا للسيطرة على الفوضى الناتجة من التطور الصناعي بالذات، وفي الشكل السوفيتي لم تتطور الصناعة في ظل إدارة الدولة إلا من جانب واحد: الصناعات الحربية، فكل الصناعات السوفيتية الأخرى، وخاصة السيارات، والمكائن، وصناعة إنتاج المواد الاستهلاكية، ومنها خاصةً المواد الغذائية مُنْهَارة سلفًا، فبعد سبعين سنة مما تسمى بالاشتراكية السوفيتية، لم تتحقق تصورات بليخانوف الفلسفية أو وعود لينين الديماغوغية، فبعد سبعين سنة، أي في المرحلة التي يسميها بليخانوف المرحلة الناضجة للاشتراكية -المرحلة الثالثة- كان المواطن السوفيتي لا يزال مضطرًّا إلى الوقوف لعدة ساعات في الأسواق العامة للحصول على المواد الغذائية. فيا لها من اشتراكية!!! لا لينين، ولا تروتسكي، ولا ستالين، ولا خروتشوف، ولا الآخرين، لم يخطو خطوة واحدة للخروج من دائرة الإنتاج الرأسمالي، من إنتاج القيمة؟
وهكذا، فعلى إدارة الدولة أن تخلي مكانها لإدارة جديدة، إدارة كومونية، لأن الدولة لا يمكنها أن تستوعب التنظيم الحديث للإنتاج إطلاقًا، فأسلوب الإنتاج الكوموني بحاجة إلى إشراف جماعي لا طبقي، وأن خروج الإنسان من سلطان الحكم السياسي أمرٌ ممكنٌ مادام العمل الجماعي أمرًا ممكنًا. فنزع الأكثرية الساحقة من البشرية من الملكية الخاصة مثل اليوم، يعني في الواقع شرطًا من شروط خروج الإنسان من سلطان السياسة. والكومونة هي بحد ذاتها التعبير المادي لا النظري عن الميل التاريخي الذي يخفيه أسلوب العمل الجماعي الرأسمالي في أحشائه، فالكومونة لم تظهر دون مقدمات مادية مسبقة، فإنها ليست اكتشافا نظريًّا أو فلسفيًّا من قبل ماركس أو باكونين، بل هي عملية مادية تجري داخل حركة التاريخ ذاتها، وإنها تعبر عن الطابع الجماعي للعمل الموجود في ذات الأشياء. ولم تكن الدولة السوفيتية سوى فخ للبروليتاريين الكومونيين، وبالذات من خلال الإساءة بسمعة الكومونة من قبل لينين باسم الشيوعية نفسها.
وهكذا، فالشيوعية ليست مشروعًا برجوازيًّا مثل مشروع لينين ليعدل عليه المجتمع القائم نواقصه حسب ما يسمى ببرنامج الحد الأدنى وبرنامج الحد الأقصى من خلال تطوير الصناعة، وتخطيطها، فالبروليتاريا كطبقة اجتماعية ليست لها أفكار سياسية لتطبقها على الواقع، ولا برنامج سياسي لتطبقه في ظل ما يسمى بدكتاتوريتها السياسية. لذلك، فمحور الثورة الشيوعية هو إعادة تنظيم المجتمع لا استيلاء البروليتاريا على السلطة، فالتناسق الموجود في العمليات الإنتاجية سيجعل من إيقاف الفوضى الإنتاجية أمرًا ممكنًا، كما أن التناسق في الإدارة السياسية سيجعل من إلغاء الدولة أمرًا ممكنًا أيضا. وإن هذا التناسق المسبق، هو الأساس المادي المشخص لتَبَيُّن إمكانية تنظيم مجتمع كوموني.
وهكذا، فالنقد الشيوعي للمجتمع لا يتوجه ضد الدولة بوصفها رأسمالية، بل ضد الدولة بوصفها إدارة سياسية، ثم عائقًا أمام التطور الحر للبشرية، والحريات الشخصية للفرد، بوصفها مالكًا خاصًّا للثروة البشرية، فالمجتمع بحاجة إلى الدولة نظرًا لأنه قد فقد تنظيمه الجماعي. وفي تطورها أصبحت الدولة في النهاية دولة المجتمع بأسره، وأن هذه الميزة نجدها بدرجة من الكمال في الحياة الديمقراطية للمجتمع المعاصر، فالدولة تتصرف في الديمقراطية بوصفها دولة جميع المواطنين. وهنا بالذات يطلب التاريخ ضرورة إنهاء إدارة الدولة -هذه الحياة المغتربة للإنسان مع ديمقراطيتها- بدل تجديدها. فهل نحتاج الدولة إذًا للوصول إلى المجتمع الكوموني؟ الدولة التي تكون شروط إلغائها كامنة في ذاتها؟
لا تظهر الشيوعية إلا على أساس التوحيد الرأسمالي المسبق للإنتاج وبسببه وحده؛ إذ إن ظهورها لا بد أن يكون عملية سريعة أسرع من أوهام لينين وتروتسكي الخداعة. فإذا كان الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج بحاجة إلى قرون عديدة، فالأسلوب الشيوعي في الإنتاج بحاجة إلى سنوات قليلة، لأن المهمة التاريخية للرأسمالية هي تجميع الإنتاج المتفرق في إنتاج ضخم، وهي الشروط التي تحتاجها الشيوعية في الإنتاج والتوزيع، أي في السيطرة على القاعدة الاجتماعية التي ينتج فيها القيمة التبادلية. ولنأخذ دولة من الدول النامية -العراق- كمثال:
إن إنتاج النفط العراقي هو 2.42 مليون برميل يوميًّا (عام 2008)، واحتياطي النفط العراقي هو 115 بليون برميل (عام 2009)، واحتياطي الغاز الطبيعي هو 3.17 ترليون متر مكعب (2009). بينما النفط والغاز غير متوفرة للمواطنين في العراق، ودخل الفرد لم يتقدم إلا على الشكل الآتي: 3.100 دولار أمريكي (عام 2007)، و3.200 دولار (عام 2008)، و3.300 دولار (عام 2009). علمًا بأن دخل الفرد لا يعكس لنا الثروة الاجتماعية المتوفرة وكيفية توزيعها الاجتماعية، وهو بالأحرى لا يعطينا شيئًا عن الفروق الاجتماعية بين الطبقة الحاكمة والطبقة المخضوعة.
وهكذا، فإن أسلوب الإنتاج وشكل الملكية، هو الذي يعطينا أسلوب التوزيع، وكما نعرف، فالنفط في العراق هو ملك الدولة، وإن عملية إنتاج النفط هي عملية عقلانية مخططة من قبل الدولة سلفًا، بينما المواطنين العراقيين محرومين من استهلاك النفط والغاز حسب حاجتهم. وما السبب إن لم يكن أسلوب الإنتاج والتوزيع؛ أي تمليكه الخاص من قبل طبقة، من قبل الدولة؟
أما إذا نظرنا إلى تمليك الدولة لثروات النفط ومشتقاتها، أي تمليك الإنتاج ووسائله، فنرَ أن تمركز هذه الوسائل -في أيدي الدولة أو أفراد قلائل في المجتمع- سيجعل الإنتاج أكثر تناسقًا، الأمر الذي سيجعل إدارته أكثر تناسقًا أيضًا. والشيوعية لا تصبح واقعًا إلا على أساس هذا التناسق المسبق، وليست لها مهمة اجتماعية سوى إلغاء الطابع الخاص لتمليك هذه الثروات الاجتماعية، فالإنتاج متمركز سلفًا، والإدارة متناسقة بصورة مسبقة، إذًا لا يحتاج المجتمع سوى إعادة طابع الإنتاج، أو أسلوب الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك. وما هذا العمل ان لم يكن الانقطاع عن الإنتاج الرأسمالي الذي ينظمه قانون القيمة؟
وبعد ..؟
إن عدم إنتاج القيم، أي الانقطاع عن الرأسمالية، لا يعني أن الإنسان قد تحرر في نفس الوقت من الكفاءات التي هي في الأساس (امتيازات طبيعية) ثم تاريخية، مثلا: التقسيم الطبيعي للعمل، التفوق الجسدي، وتقسيم العمل الجسدي والعمل الذهني، وهذه العملية متروكة في الأساس للكومونة. والإنتاج المعاصر، يكفي في الواقع لتأمين الحاجات الاستهلاكية لكل فرد من أفراد المجتمع، ثم لكل مَن كان عاجزًا عن العمل بسبب ما مثل: المعوقين، والمسنِّين، والأطفال. وإن الثروة البشرية فيها احتياطات مدهشة للتناسب الاجتماعي للحالة التي ستحتفظ فيها البشرية بالضرورة وإلى أجل غير معروف، الفارق الجسدي والفكري والمصائب التي يورثها الإنسان من الرأسمالية، كالإعاقة في العمل، والأمراض الوراثية، وأعمال هؤلاء الذين ليس لهم مكان في التنظيم الجديد للإنتاج: السياسي، الحقوقي، الاقتصادي، العسكريين، المدراء، الشرطة، ثم رجال الدين مثل الفنانين الذين يعودون إلى حياتهم المتواضعة ويأخذون مواقع جديدة في الإنتاج. وحتى اللغة البشرية ستتحول رأسًا إلى لغة جديدة مع هذا الانقطاع الأولي من أسلوب الإنتاج القديم، فسرعان ما سيتحول الإنتاج إلى إنتاج كوموني، يجد المجتمع كلمات ومصطلحات جديدة للتعبير عن الحالة الإنتاجية الجديدة، فبمحو الإنتاج القديم تمحى جملة من المصطلحات: القيمة وما يلاحقها من العلاقات والمفاهيم الاقتصادية.
وهكذا، فإن الإنتاج هو الشرط الطبيعي للوجود الإنساني، والكومونة لا تعني سوى إعادة الإنسان إلى هذا الشرط الطبيعي المجرد لوجوده. وليس الهدف الأخير للإنسانية سوى اكتساب نوعه الطبيعي. وما ثورة الكومونة إن لم تكن محاولة لإعادة الإنسان إلى مملكته النوعية؟ وما ثورة الكومونة إن لم تحرر الإنسان من السيادة والخضوع لبعضهم البعض، ثم القضاء على الأساس التاريخي للاغتراب -الاستلاب- الإنساني وهو تقسيم العمل بالذات؟
وهكذا، فالعمل الذي يكرس المجتمع الكوموني وقته له، هو التقسيم الاجتماعي للعمل على الأخص، فالتقسيم الاجتماعي للعمل حكم على الإنسان بآلاف القرون من التأَخُّر، والدولة الناشئة من هذا التقسيم، حكمت عليه بمئات القرون من التأخر. وإن الدولة بصفتها نتاجًا خاصًّا لهذا الاغتراب الإنساني، قد دمرت مرة واحدة أساس التطور الحر للقوى الإنسانية الإنتاجية، لأنه إذا كان تقسيم العمل قد يجعل من الإنسان عبدًا لحرفته الخاصة، فالدولة الناشئة منه قد تجعل من الإنسان عبدًا لوظيفته الخاصة. وإذا كان تقسيم العمل قد حكم على العامل بتكرار عملية مملة ومخصوصة به مدى الحياة، فالدولة الناتجة منه تجبر الإنسان لا على ممارسة حياته خلال هذه المؤسسات السياسية فحسب، بل وعلى إضاعة كل أوقات فراغه بين هذه المؤسسات الحقيرة أيضًا. إذا كان تقسيم العمل قد جعل الإنسان خاضعًا لنتاج إنتاجه الخاص، فالدولة الناشئة منه قد جعلت منه عبدًا مطيعًا لا للمؤسسات السياسية الحقيرة فحسب، بل وللأفراد الذين لهم مراكز معينة في هذه المؤسسات أيضا. لذلك، فعمل الكومونة يتلخص في محو الأساس التاريخي لاغتراب الإنسان عن الإنسان، وهذه العملية هي التي تحتاج إلى وقت طويل، لا تنظيم المجتمع على أسس كومونية، وهذا العمل هو الذي يكرس المجتمع وقته له لا تطوير وتخطيط الصناعة كما يخدعنا به لينين، فالصناعة مخططة سلفًا، في أمريكا كالعراق.
وهكذا، فالمهمة التاريخية للكومونة لا تنحصر فقط في القضاء على الفروق الاجتماعية والطبيعية، بل ترتفع إلى القضاء على الفروق الذهنية للإنسان أيضًا. وهذا هو الحد النهائي لتأثيرات قوى التاريخ العمياء. وهذه هي الشيوعية، الحياة النوعية للإنسان في حركتها المتصاعدة اللامتناهية. ولا تصل البشرية إلى هذا الهدف دون عبورها بكومونات إنتاجية وإدارية.
فما الكومونة إذًا؟ سوف نجيب على هذا السؤال في موضوع مخصص للكومونة في حينه.
#أنور_نجم_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظام لينين نظام العمل المأجور: 2- كيف يجري التوزيع في الإنتا
...
-
نظام لينين نظام العمل المأجور: 1- طبيعة الاقتصاد السُّوفيتي
-
لينين: تراجيديا السوفيتية!
-
نظام لينين نظام تايلوري -2
-
نظام لينين نظام تايلوري -1
-
الاتحاد السوفيتي في ضوء قانون القيمة
-
الاتحاد السوفيتي السابق: كيف نبحث أسباب انهياره؟
-
الدين بين المادية الألمانية والمادية الإنجليزية -3
-
الدين بين المادية الألمانية والمادية الإنجليزية -2
-
الدين بين المادية الألمانية والمادية الإنجليزية -1
-
لينين: عدوا لدودا لثورة الكومونة
-
الديالكتيك الإلهي وقانون حركة المجتمع الحديث
-
ثورية الديالكتيك
-
ماركس وإنجلس في التناقض
-
الديالكتيك والشيوعية
-
فؤاد النمري وحسقيل قوجمان في الديالكتيك الإلهي -5
-
فؤاد النمري وحسقيل قوجمان في الديالكتيك الإلهي -4
-
فؤاد النمري وحسقيل قوجمان في الديالكتيك الإلهي -3
-
فؤاد النمري وحسقيل قوجمان في الديالكتيك الإلهي -2
-
فؤاد النمري وحسقيل قوجمان في الديالكتيك الإلهي -1
المزيد.....
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|