|
العولمة وظاهرة العنف واقع ثلاثي الأبعاد.
حورية بن حمزة
الحوار المتمدن-العدد: 3152 - 2010 / 10 / 12 - 19:33
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
العولمة وظاهرة العنف واقع ثلاثي الأبعاد.
الملخص: أضحى العنف أحد أهم الحقائق في عصرنا هذا، وأصبحت الجريمة تعد بالدقائق في أغلب دول العالم، بعدما كانت تختص بالبعض منها وذلك في وقت سابق، حيث أصبحت مجتمعات اليوم تعيش حالة القلق والحيرة إزاء هذه الظاهرة الخطيرة، والأخطر من ذلك تفشيها ، في كل الأوساط والشرائح، وعلى مستوى المؤسسات باختلاف طبيعتها اقتصادية كانت أو تربوية، في الملاعب والشوارع والأحياء، فباتت تهدد أجيالا، ومستقبل أمم.
فإذا كان العنف سببا للجريمة، فان الجريمة في التعريف القانوني هي ذلك الانتهاك للعرف السائد، مما يستوجب توقيع الجزاء على منتهكيه،أما من المنظور السوسيولوجي فالغاية من معالجة ظاهرة العنف ،هي السعي ليس إلى تطبيق الجزاء للحد من هذه الظاهرة ،وإنما إلى البحث عن الخلفيات المسببة لها، ثم صياغة آراء و أفكار تكون أكثر واقعية، لضبطها و قصد علاجها بطرق أكثر موضوعية وعلمية. كما إن التحليل النفسي والاجتماعي لسلوك الفرد يكون انطلاقا من ذاته البيولوجية كما هو في تفسير البعض،ومن ميولا ته الفطرية والمكتسبة أي من المحيط الاجتماعي الذي ينتمي إليه فهو القاعدة الأساسية لإثارة السلوك، فالتعدي على الآخرين، لا يحدث على مستوى الفرد وحده ،وإنما يكون بتفاعل اجتماعي فيما بين أفراد جماعة من نفس الجيل أومن نفس الزمرة وكذلك يكون بين أعضاء جماعة العمل ،والحي أو المدرسة ،وكذلك غالبا ما نشاهد سلوكيات العنف في الأسواق ،فكلها محيط اجتماعي ،فالحدث الممارس ،وما ينتج عنه من تطورات ،هو نتاج تلك العلاقات التفاعلية مع الظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع. من هنا وفي هذه الورقة نتخصص في تحديد الظروف الاقتصادية والثقافية التي انعكست سلبا على مجتمعاتنا،في واقع هذا النظام العالمي الجديد ،والذي اصطلح عليه بنظام العولمة فمن جانب ،نجد الوضع المستحدث في عالم المعلوماتية قد خلف آثارا ايجابية كسهولة التنقل والتواصل والربط بين مختلف الشعوب، لكن أكثر نتائج هذا العالم هو سلبي ،فحسب نظرتنا للواقع،نرى تدهوا كبيرا في العلاقات الاجتماعية،فتدفق"هذه الثقافة الكونية "،والتي هدفها نشر إيديولوجية الهيمنة للرأسمالية ،والدعاية لسيادة آليات السوق وحرية التجارة والأموال ،فقد أدى ذلك إلى تعميم الفكر المادي،وطغيان المصلحة الشخصية، وفقدان القيم الإنسانية في أغلب الأحوال:( القوي يأكل الضعيف)،ومن هنا تتسع الهوة بين أطراف المصلحة الواحدة ،وتؤدي في الأخير إلى استخدام العنف لتحقيق غاية النفودية والسطو .
ومن جانب آخر،إن النظرة الليبرالية الممارسة من قبل الشركات الاحتكارية،تقضى يوما بعد يوم على الطبقة الفقيرة،فما ترتب عنها من قوانين اقتصادية مجحفة قد زاد من نسبة البطالة والفقر،فتزعزعت أحوال هذه الطبقة وساءت أوضاعها المعيشية،ومن هنا عمت الصراعات وتجاوزت الاعتداءات نطاق المعقول، وتنوعت أساليب العنف ،فكثيرا ما نسمع حالات اختطاف لأطفال أبرياء قصد ابتزاز مادي أو بيع لأعضائهم ، وكثيرا ما نقرأ في الصحف عن الاحتيال بطرق جد متطورة على القانون وعن الغش والمضاربات في السلع وكثرت أعمال الاختلاس والفساد المالي ،وخلفية كل ذلك هي البحث عن سبل غير شرعية من أجل العيش وتحسين المد خول وتحقيق مكانة وسلطة في الوسط الاجتماعي، ومن هنا نقول أنه قد اختلطت المفاهيم حول مسألة "كسب القوت ".
علاقة الظاهرة بالعولمة :
تعتبر ظاهرة العنف ظاهرة ناتجة عن مجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية، الاقتصادية والسياسية ،وهي من الظواهر التي عمت مجتمعات عديدة في الآونة الأخيرة ، لها آثار سلبية على المجتمع ، وعلى مؤسسات المجتمع المدني ، كما تشكل عائقا في تحقيق التنمية ،و تصل إلى تهديد استقرار الدولة وتمس بسيادتها وبمكانتها أمام باقي الأمم، ومهما كانت أو تعددت الأسباب الدافعة إلى استخدام هذا السلوك الشائع في مناطق التجمعات السكانية، باللجوء إلى القوة والضغط المادي والمعنوي لتحقيق غايات بعض الأفراد و بأسلوب غير شرعي،فانه من ضروري التوقف عند هذه الظاهرة ،وضبط خلفياتها ونتائجها على مجتمعنا -فمن خلال هذا المقال، نسعى إلى توضيح أهمية معالجة ظاهرة العنف وتحديد طرق انتشارها في المجتمع الجزائري وربط خلفيات هذه الظاهرة السلبية بالجانب الاقتصادي ،الثقافي والإعلامي لنظام العولمة ، وإبراز البعد السوسيولوجي لهذه الأبعاد الثلاثة ، وتوضيح آثارها على البنية الاجتماعية لهذا المجتمع .
إن وسائل الاتصال والمعلوماتية، تزيد من وتيرة استخدام العنف في سلوكيات أطفالنا وشبابنا، والإدمان على مشاهدة أفلام العنف، والجنس وغيرها...دفع بالعديد من أفراد هذا المجتمع، إلى مستنقع الانحراف،من إدمان على المخدرات والإجرام والانتحار.ويتجلى دورنا كباحثين في علم الاجتماع،في تفسير وتحليل هذه الحالة ،وكشف أسبابها ، وكيف تستطيع قواعد ومعايير المجتمع التصدي لها ومنع واردع هذه الانحرافات والاختراقات القانونية ،من خلال ما تملكه وسائل الضبط الاجتماعي ،ومن أساليب التربوية والتوجيهية قبل اللجوء إلى العقاب،ومن خلال تثبيت معايير تنشئة اجتماعية سليمة ، حتى لا نصل إلى ما وصلت إليه بعض من دول الغرب ،التي تعيش يوما بعد يوم مثل هذه السلوكيات ،وخير دليل على ذلك هذا الشاب المراهق في ألمانيا الذي قتل العديد من التلاميذ والمعلمين أمام مرأى من الناس ،وقيل انه كان من المتعاطين على مشاهدة أفلام العنف ،وكثيرة هي الأمثلة المماثلة لها.
و لقد لوحظ في العشرية الأخيرة ،تزايد أعمال العنف في مجتمعنا ،وذلك بإحصاء العديد من الاعتداءات وأعمال عنف والتي تصل أحيانا إلى القتل ،كما أنها انتشرت في مختلف الأماكن وداخل العديد من المؤسسات،في المدارس التربوية بالاعتداءات بعض التلاميذ على معلميهم وحتى على مدراء ومربين،أما في الملاعب والشوارع ،فحديثنا قد لا ينتهي، وحتى في أماكن العمل أين تتعدد اللوائح للنظام الداخلي وأسس الضبط القانوني، لكن العنف المستخدم قد همش هذه المعايير ،و كان إلحاق الضرر والخسائر على الممتلكات الاقتصادية سبيل للتعبير عن حالة تدمر أو احتجاج عمالي لوضعية ما ،ومثل هذه السلوكيات السلبية الغريبة عن مجتمعنا ،قد أثارت حيرة الهيئات الحكومية،واهتمام الباحثين والمتخصصين في العديد من العلوم كالقانون وعلم النفس وعلم الاجتماع ، وبعقد الملتقيات والاجتماعات الجهوية والوطنية،لتحديد وتفسير أسباب انتشار هذه الظاهرة ،ظاهرة العنف ،وورقتنا هذه هي عمل متواضع لمحاولة ضبط بعض الأفكار التي تحيط بالظاهرة كمفهوم وكسبب تفشيها في مجتمعنا ،وأيضا ربطنا في هذا التحليل بين الدافع الانفعالي العنفواني الذي يسلك عند حدوث اضطراب أو صراع أو خلاف بين شخصين أو جماعتين ،وبين نظرة الفرد المحبطة إلى مجتمعه ونظرة كراهية واستياء بسبب فشله في تلبية حاجيات مادية أو معنوية والتي تزداد يوما بعد يوم ،فهي نتاج عصر العولمة.
1- ماهية المشكلة : نقصد بها " مشكلة العنف " ، كأهم مشكلة من المشكلات الاجتماعية ، التي تتأثر بالأوضاع الاقتصادية والبيئية، كما أنها تتطور مع تطور المجتمعات ومع التغير الاجتماعي في القيم وفي العلاقات بين الأفراد ،وأيضا نلاحظ تباين في أساليب الضبط الاجتماعي ،كالقوانين ،والأعراف. فإذا كانت هذه المشكلة من صفات المجتمع الحضري أو الريفي فهي سواء ، لكن تختلف باختلاف البيئة الاجتماعية ،وباختلاف الأزمنة ،فإنها من المشكلات التي يصعب تتعقد نتائجها ، وهي تؤثر على فئات وعناصر مختلفة في المجتمع ، وبدرجات متفاوتة ، كما تؤدي إلى مجموعة من التغيرات في العلاقات الاجتماعية والسياسية.
تقودنا هذه الخصائص لظاهرة العنف، إلى مسألة تشابك المفاهيم ، وتعقدها واختلافها بين أفراد المجتمع الواحد، وأيضا إلى تعقد في آساليب ضبطها في النظم الاجتماعية، أما عن أسبابها فكوجهة نظرنا يعتبر التطور الهائل في الإنتاج الاقتصادي وتنوع السلع بانفتاح الأسواق وحرية التجارة واللاحودية في المعملات الاقتصادية وتطور الأنظمة المعلوماتية من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور العديد من المشكلات الاجتماعية في الآونة الأخيرة . وهنا نطرح تساؤلا :هل للنظام الجديد الذي عم الاقتصاد العالمي والذي أصطلح عليه نظام العولمة علاقة بظهور مشكلة العنف ،وتناميها في المجتمع الجزائري؟ إن تطبيق نظام العولمة ،بمختلف جوانبها وبتنوع آليات انتشارها في المجتمع ،ازدادت العلاقات الاجتماعية تعقدا وحركية ،فكان نتيجتها ظهور العديد من المشكلات، وهنا جاءت الحاجة إلى فهم المشكلة الاجتماعية، حيث يرى أحد الباحثين (1) بقوله: "فهنا ظهر علم يساهم في فهم المشكلات الاجتماعية التي تواجه الإنسان في علاقته بغيره، من أفراد المجتمع، أثناء تفاعله معهم ، وعند قيامه بالعملية الإنتاجية ، من أجل إشباع الحاجات الإنسانية"
فعلا،نحن بحاجة إلى أهمية دراسة ومعالجة المشكلة الاجتماعية ،ويقول المتخصصون في هذا الحقل أن المشكلة الاجتماعية " هي موقف يتطلب المعالجة الإصلاحية وينجم عن أحوال المجتمع، والبيئة الاجتماعية، ويستلزم تجميع الوسائل والجهود الاجتماعية، لمواجهته وتحسينه " (2)
وفي هذا المقال ،تعد الظاهرة من بين أهم المشكلات الاجتماعية التي نواجهها اليوم،فهي مشكلة العنف ،والتي أخذت منحى معقد، له عدة أبعاد ،البعد السياسي يسمى بالارهاب والذي عانت منه الجزائر الويلات خلال العشرية السوداء ،والبعد الثقافي وكان بظهور فئات في أوساط المجتمع الجزائري شغلها الوحيد العنف والاعتداء وبأحدث الوسائل التكنولوجية على ممتلكات الغير، حيث نجدها تتوزع في مختلف أماكن التجمعات السكانية وتستخدم الكحول والمخدرات لترهيب الأفراد ، وحتى المؤسسات التربوية لم تسلم من هذه التصرفات التي يرون فيها صفة التقدم والتميز ،وهي نمدجة مأخوذة من مواقع التثقف العالمي نقصد بذلك الإنترنيت ، ولتحليل فكرة السلوك العنيف أوالعدوانية، كسلوك يتوسع نطاقه ، نضيف البعد الثالث الاقتصادي والذي هو ناتج عن انعكاسات ثقافة لعالم العولمة من قيم الكسب المادي اللامحدود و البحث عن وضع اقتصادي لا مشروط ،للمنافسة والاحتكار في السلع يصاحب ذلك أعمال عنف ،و انحلال خلقي، يتزايد بسبب افتقار الأفراد المنحرفين إلى تكفل نفسي وتربوي سليم ،يعيد دمجهم إلى الحياة الاجتماعية السليمة ،ويدخل فيهم قيم القناعة والاكتفاء بالقدر الذي عاهدناه في تفكير آبائنا وأجدادنا ،وليس الغنى وحده الذي يحدد قيمة الفرد والإنسانية ،وهنا نصحح الأخطاء الشائعة التي تعتقد أن مشاعر العدوانية منبعها نفسية الإنسان وهي من مصدر بنية بيولوجية ووراثية خاصة ببعض الأفراد ،ولكن يبقى السبب الأهم و الدور الأكبر يعود للتنشئة الاجتماعية وخاصة الأسرية منها وللمحيط الخارجي .
إن صعوبة التكيف مع الظروف المادية والاقتصادية للمجتمع الحديث، خاصة لدى الطبقة الكادحة والفقيرة، يحدث هذا السلوك كمسلك غير قانوني لتحقيق و لإشباع رغبات مادية وأخرى معنوية للأفراد، فظاهرة العنف هي خليقة بأن تكون موضوع اهتمام في بحوثنا، بحيث تتداخل فيها عدة عوامل اجتماعية واقتصادية...، لكنها تفسر في مجموعها بظاهرة تفكك اجتماعي أو انحلال خلقي أو صراع مصلحة، أوبتأزم في المناخ السياسي،وأحيانا بأنها نتاج فراغ ثقافي ،وقد تفسر أيضا بذلك التعصب في الأفكار وفي بعض الإيديولوجيات لجماعات متطرفة تستخدم العنف في برنامجها السياسي ،ومن جانب آخر فان عامل التدرج الطبقي والاستغلال المادي الذي آلت الطبقة الكادحة من قبل الشركات الاقتصادية الكبرى ،أدى إلى انتشار ظاهرة العنف في الأوساط الفقيرة ، ونؤكد في هذا المجال أن هذه المشكلة باتت تشكل خطرا يداهم شبابنا وخاصة الجيل المتفتح على عصر المعلوماتية والتقنوقراطية بوصفها محددات الثقافة المعولمة .
2- تحديد المفاهيم: - العولمة : هي ذلك الاستخدام الدال اقتصاديا على مجال المال والتسويق والاتصال ،وأيضا على الافرازات المعلوماتية التي استخدمت لتدل على حرية السلع والخدمات والأيدي العاملة ورأس المال والمعلومات عبر الحدود الوطنية والإقليمية،ولا نتعمق في هذا المفهوم لأننا نخص الموضوع بفهم واقع العنف ،بينما العولمة وهذه الكلمة التي مايزال الالتباس حولها تعد سببا أساسي للعنف ،فنكتفي بهذا التعريف الشامل لآلياتها .
إن تحديد مفهوم العنف لغة "la violence " من " عنف " أي تشير إلى كل سلوك يتضمن معاني الشدة والقسوة والتوبيخ واللوم " (3).وعلى هذا الأساس فإن العنف يكون فعليا أو لفظيا. والعنف اصطلاحا هو ذلك السلوك البشري الذي يأتي بشكل بدني: كالضرب ، التشاجر ، التدمير .. أو اللفظي : كالتهديد ، الفتنة ، ويؤدي إلى إلحاق الأذى بالآخرين (4). والعنف سلوك اجتماعي وهو انحراف عن القواعد التي تحددها الأعراف في المجتمع ، وهي في تعار يف لعلماء اجتماعيين ونفسانيين ،كتعريف العالمين Graham و wurr فيعرفا العنف بمظاهره وعلى أساسه يكون استخدام القوة والاحتجاج والاعتراض من ناحية ، والشرعية من ناحية أخرى، تستخدم بطرق متنوعة كمترادفات للعنف وذلك بالرجوع إلى من يستخدم العنف نفسه ،أي العودة إلى النسبية (5). فهنا تحمل مفاهيم العنف صفات متباينة ومظاهرمتنوعة لا يحددها إلا مستخدميه،ولا يبينها إلا العرف الاجتماعيوفي تعريف آخر نرى بأن " العنف إنساني وجبري (مفروض ) وتلقائي ،قديم قدم البشرية ذاتها وأن سجل تاريخ البشر قد حفل ومازال بقوائم متعاظمة لأحداث العنف التي بدأ ت مع بداية البشرية (6). وبالتالي " فالعنف " سلوكا تستخدم فيه القوة أو التهديد أو الإكراه والقهر، والإيذاء البدني و النفسي والاجتماعي على الآخرين لتحقيق غايات أو لإشباع حاجات .
المفاهيم ذات العلاقة ومنها: ا-مفهوم الجريمة : وهو ذلك السلوك الإنساني المنحرف الذي يمثل اعتداءا على حق أو مصلحة من الحقوق أو المصالح التي يحميها الشرع والقانون ، ويعتبر من السلوكيات التي يترتب عليها ضرر على المجتمع ، فتجرمه الدولة ، وتتدخل لمنعه بعقاب مرتكبيه (7).
ب-مفهوم الانحراف: هو كل خروج عن أنماط السلوك الاجتماعي المألوف ، والمتعارف عليه في مجتمع ما ، كما ن كما انه يمثل " صورة من صور سوء تكيف الإنسان مع الأنظمة الاجتماعية التي يعيش في إطارها ، ويترتب عليها سلوكيات مخالفة غير معتادة، بعيدة عن عادات وتقاليد وأعراف المجتمع مثل : الكذب ، الرشوة والسرقة " (8) .وبهذا فالانحراف أوسع مضمونا ويحمل أبعادا سلوكية ،قد تكون عند البعض عادية بينما يجدها البعض الآخر انحرافا عن القيم الاجتماعية السائدة . ج-الضبط الاجتماعي :هو نمط من الضغط يمارسه المجتمع على جميع أفراده المحافظة على النظام ، ومراعاة القواعد المتعارف عليها ، وهو القوة التي يمثل الأفراد فيها لنظم المجتمع ، فالضبط الاجتماعي يشكل" العملية الإطرادية التي يخضع الأفراد فيها لمعاييرالمجتمع ولنظمه المختلفة والمرتبطة بطبيعة البناء الاجتماعي ذاته"(9). وعليه فكل سلوك يمارس فيه العنف يكون خاضع لأحد الضوابط المسطرة في قاموس الضبط الاجتماعي. د- العقاب : وهو الجزاء الذي يضعه القانون والمشرع ، لمنع أي اعتداء يكون ماديا أو معنويا ، " فالعقوبات موانع قبل الفعل وزواجر بعده ، وعلم العقاب يبحث عن تلك الإجراءات التي يرى المجتمع اتخاذها تجاه الخارجين عن القانون ، والعقاب هو مجموعة من القواعد التي تنظم كيفية تنفيذ الأحكام والقوانين " (10). ويندرج في معايير الضبط الاجتماعي ،التي تمارس اتجاه أي خرق للعرف أو القانون ويعتبر كابح للعنف.
3- النظريات المفسرة لظاهرة العنف : تعددت النظريات المفسرة لظاهرة العنف منها : أ-النظرية البيولوجية : بمعنى أن سلوك العنف هو نابع عن غريزة أو ميول الفرد ، تكون فطرية ، منها الوراثية ومنها النفسية ، فالإنسان يولد مزودا باستجابات عدوانية ، وهذا ما يفسره علماء النفس من اتجاه : الايتولوجيا يعتقد ان الناس يولدون ولهم غريزة القتل ، العدوان ، فالعدوان فطري في الطبيعة البشرية ، من بين أصحاب هذه الاتجاه العالم " كونراد لورنز " الذي وضح أربعة مسائل لها علاقة العدوانية الدموية : 1-الدفاع عن المجال الحيوي. 2- البحث عن الغذاء. 3- المكانة المترتبة ضمن الجماعة . 4- التزاوج أي أن أشكال القتال تزداد بين أفراد الجنس الواحد (11). ويرى " جاكوب" أن الرجال الذين لديهم كروموزوم (y ) زائدا بدلا من (xy) لديهم نزعات للعنف وأن هذا الميل هو وراثي (12)،ويستندون في ذلك إلى أن قابيل قتل أخوه هابيل ،فهي نزعة وراثية في الانسان. ب- نظرية التحليل النفسي : يتزعمها " فرويد " الذي يفترض أن غريزة التدمير والعدوان عند الإنسان تمثل مشاعر يمتلكها الإنسان عندما يكون محبطا وعندما لاحظ " فرويد " خسائر الحرب العالمية الاولى ، زداد اهتمامه بالبحث حول ظاهرة العنف أو العدوان والتدمير ومنه كان مفهوم " اللبيدو" التي تمثل الدوافع الشهوية والجنسية لدى الإنسان في صراعها مع غريزة الموت . أما العالم " رايش " فيؤكد على أن أي توتر عدواني ينتج عن الإحباط .
ج- نظرية التعلم الاجتماعي (13): هي من أهم البحوث الحديثة التي عالجت موضوع العنف ،ومن بين العلماء "باندورا" و"زيلمان" و"باس " ويتمحور موضوع هذه البحوث حول مسألة المحاكاة (التقليد) من خلال تجارب على أطفال يقلدون السلوك العدواني ويتقمصونه بعد مشاهدة اعتداء على الدمى فتكون النمدجة ، وهو سلوك مكتسب ناتج عن ضغوط بيئية ،تجعل الإنسان يتعلم العنف عن طريق المحاكاة .
د-النظريات المعرفية : من بين العلماء "كابرار" من علماء النفس الذين ركزوا على العمليات الفكرية والمعرفية ، أي أن الإنسان له قدرات يدرك بها وقائع الأحداث ويتخذ استجابات بعد تكوين مشاعر الغضب والكراهية ثم ممارسة السلوك العدواني وقد يعتدل المجال الإدراكي للموقف فيصبح الفرد مستبصرا بكل العلاقات والأبعاد بين السبب والنتيجة (14). أي أن الخبرة والمعرفة التي يكتسبها الفرد في الوسط والبيئة الاجتماعية ،تجعله يميز بين السلوك السوي،والسلوك المنحرف ويدرك الموقف الكلي قبل الشروع في أي عمل . ومنه فإن ظاهرة العنف تتعدد أسبابها فهي حالة اجتماعية ونفسية لها علاقة بالعالم الخارجي ، وإن الظروف الاجتماعية لها دور في تقوية هذا السلوك وفي حالة عدم ضبط هذا السلوك تكون ممارسة العنف أكثر فأكثر .فهو الوسيلة لتحقيق الرغبات الذاتية التي لا يستطيع الفرد –غير السوي-إشباعها لعوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية من جهة ، ولعوامل نفسية ، غريزية تنتج منذ الطفولة ، والمجتمع وحده مسؤول عن تحديد او ضبط هذا السلوك من خلال مؤسساته التربوية ، العقابية ، الدينية ... الخ.
ه-النظريات السوسيولوجية المفسرة لمشكلة العنف :
توجد تفسيرات متعددة حول العنف كظاهرة أو كمشكلة اجتماعية استنادا إلى عدة نظريات: 1ه-نظرية التفكك الاجتماعي : فهي ترى في العنف حالة جديدة للمجتمع يجد أفراده أنفسهم فيها لا يتقاسمون نفس المعايير السلوكية و حيث تتحدى هذه القواعد السلوكية قواعد أخرى جديدة ، فيصبح المجتمع حينئذ في حالة تفكك اجتماعي ، كتفكك الأسرة (الطلاق، الانفصال ) وتؤدي إلى ضغط على أفراد هذا المجتمع ،فتمارس فيه أشكالا متنوعة من العنف وخاصة من قبل الأفراد المحبطين . وهناك العديد من علماء الاجتماع الذين يفسرون مختلف الظاهر الاجتماعية على أساس ذلك التصدع في القيم بين الأجيال ،ويرجعون مشكلة العنف الى اللاتوازن بين قيم جديدة ،وأخرى محافظة لها منطق مخالف لهذه الاخيرة .
2ه-نظرية التغير الاجتماعي : أي نقصد بذلك التغير في أنماط التفاعل داخل المجتمع ، مثل تغير العادات بسبب التقدم التكنولوجي، وبدوره تتغير اتجاهات الناس ، ومن أصحاب هذه النظرية العالم الشهير " وليم أوجبرون " Wiliam Ogburn " فهو صاحب مصطلح "التخلف الثقافي" أو" الفجوة الثقافية "(16)، ويقصد به اختلاف معدلات التغير في أجزاء الثقافة الحديثة ،ومنه تحدث الصراعات وتعم أشكال العنف.
3ه- نظرية صراع القيم الاجتماعية : ونلاحظ في هذا الصدد وجود قيم تختص بها مجموعات معينة داخل المجتمع الواحد ، ليس شرطا ان تكون عامة بين جميع أفراد المجتمع وتختلف عن قيم جماعات أو أفراد آخرين ، فيحدث صراع القيم وبالتالي تتجاوز العلاقات بسلوك الانحراف، أو بممارسة العنف.
4ه-نظرية الانحراف : يرى "ميرتون" أن لكل مجتمع أهدافا معينة يسعى إلى تحقيقها من خلال وسائل مشروعة ارتضاها المجتمع ، ولكن داخل كل مجتمع نجد أن هناك بعض الأفراد أو الجماعات الصغيرة التي حرمت من تحقيق هذه الأهداف وبالتالي يتبعون وسائل غير مشروعة للوصول إلى ما يبتغون .
5ه- نظرية البناء الاجتماعي : يرون أصحاب هذا الاتجاه أن المجتمع كله يؤدي إلى هذه المشكلة أي الى العنف، بما في ذلك مؤسساته ومذاهبه ، وعلى هذا يجب وينبغي النظر والاهتمام بالبناء الاجتماعي وإعادة تشكيله لإعادة تنظيم الوضع الاجتماعي على أسس سليمة.
4-أسباب العنف : تتعدد أنواع وأشكال ومظاهر وأسباب العنف ، فهي تختلف باختلاف المجتمعات والنظم الاقتصادية والسياسية ، وبتعدد القيم الثقافية والدينية ، وحتى لتنوع نمط العلاقات الشخصية والاجتماعية ، ولهذا فالعنف له أسباب متعددة منها :
أ-الأسباب الشخصية : تتأتر بالبنية البيولوجية الوراثية و الخلقية -كما سبق عرضه -فتعطل بعض الوظائف الحيوية التي لها الدور في تحديد السلوك العنفواني منها : التسلطية ، العدوانية ، المحبطة وغيرها ...
ب-الأسباب السياسية : تتمثل في ذلك الصراع بين الطبقات ويحدث العنف ، بسبب غياب الديمقراطية ، تبنى السلطة نظام القوة العسكرية كالديكتاتوريات –منع تكوين الجمعيات ، النقابات و الأحزاب .... ج- الأسباب الاقتصادية والاجتماعية: وهي الظروف المحيطة –المادية – التي تولد مشاكل في الوسط الاجتماعي : كالبطالة ، انخفاض مستوى المعيشة وغيرها .... تؤدي إلى سلوكات إنحرافية منها العنف ، وهذا ما يمكن توضيحه في هذه المقال كسبب للإنقتاح الاقتصادي و للوضعية الاجتماعية الصعبة التي يعانيها مجتمعنا (انتشار الفقر،والبطالة واللااستقرار).
د-الأسباب الثقافية : هي مجموع المعارف والمعتقدات والعادات والقيم وغيرها ...التي تكون مفاهيم خارج عن المنظومة القيمية للمجتمع لبعض الجماعات أو الأفراد فيكونون توجها إيديولوجيا أو عقائديا متطرفا سيخدم فيه العنف لبسط أو لتحقيق هذه الأفكار.
ه-الاسباب التكنولوجية: والتي يمكن ربطها بعالم المعلوماتية والتي هي من ميزات ما بعد الثورة الصناعية ،فانتشار العنف والسلوك الانحرافي قد نمى بعد الانتشار الواسع لوسائل الاعلام بين الشباب،وخاصة تطورأجهزة الاتصال المباشرة ،فيحدث الاحتكاك بقيم غريبة عنا تكون مشحونة بالعنف والانفعالات العدوانية.
ومن هنا نقول بأن ظاهرة العنف مرتبطة بالعولمة ،فهي فعلا عولمة للعنف :
فالتقدم التكنولوجي الذي صاحب تصدير أنواع الأجهزة ووسائل الاتصال، والعديد من الآلات إلى بعض المجتمعات، كذلك صاحب هذا التقدم أنماط ثقافية وسلوكيات وقيم واتجاهات لا تتماشى والمحيط الاجتماعي وقد تكون بعض هذه الأنماط الثقافية غريبة تماما على أفراد المجتمع فيحدث التصادم، ويقع خلل في القيم فتكون تلك الهزات التي تنجم عنها بعض المشكلات الاجتماعية كالعنف.
أن الانفتاح الواسع، على المجتمعات الأخرى، والنقل الحضاري والتواصل الثقافي، وخاصة في مجال التقنيات الحديثة المستعملة في العديد من المجالات كالهواتف النقالة والانترنيت تجعل تعريف العولمة " بأنها ديناميكية جديدة تبرز دائرة العلاقات الدولية من خلال تحقيق درجة عالية من الكثافة والسرعة في عملية انتشار المعلومات والمكتسبات التقنية والعلمية للحضارة " (16 )، فتزيد من الحاجات،وتنوع من الكماليات عند الأفراد لدى مختلف شرائح المجتمع،لكن بأي طريقة يتم إشباعها.
كما إن عدم تفهم المجتمعات لحاجات الشباب وعدم تلبيتها لهم بالطرق السليمة و القانونية ، يجعلهم يتخذون مجالاغير مشروع بإتباعهم السلوك المنحرف،غير المستحب من المشاهدات غير الطيبة ،وتلقن صور العنف من مواقع الانترنيت ، والتي تزرع في ذواتهم ، وليمارس العنف على نطاقه من خلال علاقات العداء على الآخرين ويجدر الذكر بأن أغلبية السكان في الدول النامية ،ومنها الجزائر هي من فئة الشباب ،حيث " تتمثل حاجاتهم في إطار التنمية البشرية عديدة ومتنوعة، وفي ميادين شتى،كالتعليم، الصحة ، التشغيل ،و التنشئة الاجتماعية التي تؤسس الشخصية، وذلك من خلال مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة .(17)
ومن جهة أخرى ،تحدث الفجوة الثقافية بين الأجيال ، فالتقدم الكبير ، الذي يشهده مجال الإعلام والاتصال والتكنولوجيات المختلفة ،لدى الجيل الجديد،يختلف إطارا ومضمونا ، عن الجيل القديم ، وبالتالي تختلف القيم والثقافات ويصعب تكوين إطار أحادي للفهم العام للأمور بين الجيلين، فيحدث الصراع، ويتولد انفجارا لدى جيل الشباب، باستخدامه أساليب العنف المادي أو البدني أو اللفظي للتعبير عن رغباته المخالفة لقيم ولأفكار الجيل القديم .
إن العوامل المجتمعية، والتي تحدد ظروف كل مجتمع، بناء على المنظمات والمؤسسات واللوائح والقوانين والسياسات العامة للمجتمع، كذلك أن خصائص المجتمع الاقتصادية والإنتاجية والاجتماعية والثقافية، كلها عوامل تنعكس مباشرة على أمن واستقرار المجتمع.
فالثورة المعلوماتية التي خلقت تقنيات جد متطورة في البرمجة والإعلام-كما وضحنا سابقا- قد ساهمت بطريقة و بأخرى في تكوين شخصية عنفوا نية ، وفي تنشئة أطفال مولعون بالعنف والتدمير ، فرؤية العنف في التلفزة هو من أهم أسباب السلوك العدواني لدى الأطفال،كما يوضح أصحاب هذا الاتجاه التحليلي –النفسي، أن توكيد الدور النفسي، الذي يمكن أن تحدثه تلك الأفلام للدوافع العدوانية، وانه توجد صلة بين الرغبة في مشاهدة العنف مع السلوك العنيف الذي يعقب المشاهدة ،عن طريق التلقين العفوي والتقليد والنمدجة.
لقد أجريت بحوث في هذا المجال من بينها أحدث الدراسات التي قام بها Bandura حول مخاطر مشاهدة النمادج العدوانية على شاشة التلفزة ،وذلك عن طريق المشاهد المشحونة بالعنف .حيث بين في تجاربه : بأن الأطفال الذين يشاهدون أفلاما بها حالات العنف ، يتصرفون بعنف أكثر ،وقام بتطبيقها كدراسة على عينة من الأطفال حول مشاهدتهم لسلوك عدواني على الدمية، فكان لهم أن طبقوا نفس السلوك. ولقد ساهم أيضا العالم "Eron " سنة 1980 بعمل حول هذه المسألة، فوجد أنه أثناء تتبع أطفالا وعددهم 875 من 1960 (كانوا آنذاك في الفصل الثالث ) وتمرنوا على مشاهدة العنف ، وهذا في مدينة هيدسون بنيويورك ، وبعد دراسة لاحقة،على 400 طفل من بين هؤلاء الأطفال ،الذين أصبحوا في الثلاثين من عمرهم ،بان كانت لهم سلوكات عدوانية ،فمنهم المخالفون للقانون، والذين لهم معاملة قاسية مع زوجاتهم وأطفالهم ، وبالتالي أظهر الارتباط بين برامج التلفزيون والعنف ".( 18)
وإذا كانت هذه حالة الأطفال في عهد التلفزة وأفلام الرعب ، فكيف هي الآن أمام هذا التطور التكنولوجي الهائل في وسائل الترفيه،والمشاهدات الواسعة التطرف ، والتي يصعب على المجتمع ،وعلى الأسر،ان تضبطها وحتى أن القانون لا يعاقب عليها وتخرج عن كفاءة الضبط الاجتماعي وعن مؤسساته. إن هذه الظاهرة ، تعد تفسيرا واضحا لانعكاسات مشاهدة القنوات التلفزية الأجنبية والأشرطة والانترنيت وغيرها .... والتي هي مظهر من مظاهر العولمة الإعلامية ، هذه العولمة التي توصف بالإيجابية من حيث تقصير المسافات، وتوسيع العلاقات والاتصالات بين الأفراد والمجتمعات ،لكنها "من اخطر القضايا التي تواجه العالم وخاصة الأمم ،وذلك أنها تضيع هويتنا الثقافية " (19).
يلاحظ ازدياد وتوسع دائرة العنف على مستوى الوطني و العالمي ، ويعود ذلك إلى كل تلك الامتيازات التقنية والعلمية في تنظيم أسلوب العنف وفي نشره ، حتى أن ظاهرة العنف هذه ،قد ولدت منحى جديد من السلوكات العدوانية وأنواع الجريمة التي أصبحت لها صبغة عالمية ، منها الجريمة المنظمة والتي يحللها البعض (20) ، بأنها مشروعات عمل نظمت لأهداف تحقيق الكسب الاقتصادي من خلال نشاطات غير قانونية ، وتتضح علاقتها بانحراف الطبقات الدنيا التي تشمل جرائم: السرقة، المخدرات، الإدمان الخ... (21).
ان بتدفق الثقافة الكونية بواسطة وسائل الإعلام العملاقة ، التي تعتمدفي نشر رسائلها على احدث تقنيات الاتصال "فمن خلال العروض التلفزية والإعلانات ، تقوم هذه الشركات بتشكيل وعي الناس وصياغة هويتهم وتحديد بنية رغباتهم في جميع أرجاء الأرض ...وفي العقدين الآخرين يسيطر عدد قليل من الشركات العابرة للقوميات...على السوق العالمية للترفيه والأخبار والبرامج والأفلام، تحركها الرغبة إلى الربح ,...فتبث القيم الاستهلاكية وتعمل على تشكيل ذوق الجمهور ونمط حياته بما يحقق مصالحها ".(22) وهنالك أيضا انعكاسات سلبية للعولمة الإعلامية على ميول الطبقة الفقيرة نحو العنف ، فمع التغير في أساليب التنمية ، وفي ظروف العمل وقوانينه، ظهرت مفاهيم حديثة في التحاليل السياسية، كالتطرف، التعصب والإرهاب، ولكل منها مسائل لها دلالتها ، أسبابها ونتائجها ، وهي حسب تصنيفنا للواقع المعاش تطور لظاهرة العنف في عصر العولمة أمام غياب آليات الضبط الاجتماعي . ف زادها عنفا "عولمة الاتصال وتشجيع الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية على العمل في مجالات الاتصال والمعلومات ."(23)
إن التدهور الكبير في الحياة الاجتماعية في المجتمع الجزائري ،وزيادة التعصب والعنف ،وتفكك في العلاقات الاجتماعية في عصر العولمة ، في عصر الليبرالية المتوحشة كما سماها " سمير أمين " تثبت ان العولمة" لا تكف عن إنتاج المزيد من الفقراء حتى أصبحت تطال فئات اجتماعية، كانت تمثل في الماضي القريب أساس التلاحم الاجتماعي ألا وهي فئات وشرائح الطبقة الوسطى التي هوت إلى الفقر ، والمجتمع الجزائري ، قد دخل في أزمة البطالة بفقدان العديد من العمال مناصبهم وأصبح الجزائريون "يشعرون بغياب العدالة الاجتماعية ، الأمر الذي دفع بعض الأفراد إلى التعبير عن رفضهم لهذا الواقع من خلال السلوك العنيف" (24) .
تتجسد احتمالات ظهور واتساع ظاهرة العنف في الدول النامية ، من خلال العولمة وهيمنة النظام الرأسمالي العالمي ، حيث اتجهت العديد من الدول العالم النامي ومن بينها الجزائر ، إلى إصلاح مسارها الاقتصادي ، وإتاحة فرص المنافسة ، قصد التنمية الاقتصادية والاجتماعية ففتحت حدودها أما التجارة الحرة ، وسهلت فرص الاستثمار أمام الشركات الأجنبية ن وهذه التغيرات الاقتصادية انعكست على المؤسسات الاقتصادية وحتى الثقافية والتربوية ، فعمت قيم الفساد والرشوة والاختلاسات ، والتي بدورها شجعت على استخدام العنف لتحقيق هذه الغاية، أو تلك الحاجات المادية ، وتتضح العلاقة بين السلوك العدواني وحتى الوصول إلى " السلوك الإجرامي، علاقة بينها وبين التدرج الاجتماعي والبناء الطبقي والحراك الاجتماعي.. وكذلك مع نسق القيم السائد ة في المجتمع " (25). ويعتبر الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته التنمية الاقتصادية في الجزائر في الآونة الأخيرة ، من أهم الأسباب المباشرة في انتشار ثقافة العنف في أوساط الشباب خاصة ، وذلك لاسباب التمايز الطبقي ، ولصعوبة التكيف مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة ، للفئات الدنيا ، فانتشار الفقر كظاهرة ناتجة عن حالات التسريح العمالي ،وزيادة معدلات البطالة وتراجع معدلات الصحة (يقصد بها انتشار بعض الأمراض التي لها علاقة بالفقر ).
كذلك يتراجع مستوى المتمدرسين ، أو ما يصطلح عليه بالتسرب المدرسي (لعجز عن تسديد نفقات التمدرس )وغيرها من المخالفات السلبية للعولمة على الجانب الاجتماعي .كلها ساهمت في زيادة ظاهرة العنف والإجرام.
إن هذه الحالة التي يعيشها المجتمع ، تبين ذلك التطور في العلاقات الاجتماعية بحيث أصبح الحق لدى البعض في استخدام المشروعات غير الرسمية من بيع المخدرات والكحول وغيرها ...لتحقيق غايات مادية وهي في الأساس السبب المباشر لتعميم ظاهرة العنف في أوساط المجتمع الجزائري.
إن ظاهرة العنف التي لم تسلم منها المؤسسات التربوية تبين الملف الخطير الذي وصلت إليه المدرسة،بما شمل التعدي على هذه المؤسسة الموقرة بل وعلى مؤطريها أيضا، فالظاهرة تمثل اتخاذ الأفراد مسلكا غير شرعي التحقيق الحاجات والرغبات ، وهي سلوكا انحرافيا ، تصاحبه آثار سلبية على المجتمع وعلى مؤسساته. وبالتالي تفشل التنمية ويفشل المشروع الإصلاحي الذي جاءت به الحكومات ،بل يتحول العنف وأخطاره إلى تهديم مؤسسات المجتمع المدني ، وذلك من خلال توسيع انتشار ظواهر اجتماعية بل انحرافية أخرى كالإرهاب والاغتصاب الخ.. ونرى هنا أن ما جاءت به العولمة من أفكار ومبادئ هي في أصلها قيما غريبة عن مجتمعنا،تجعل الفرد ،اذا ما عجز عن تطبيقها ،يلجا إلى استخدام أنواع التطرف.فلقد انبعثت مع هذه العولمة نزعات الانفصال والحروب الطائفية والعرقية ،وانتشار الإرهاب والصراعات في العديد من الأوطان ،وهي تعبير واضح عن نتائج العنف .
ان علاقة العولمة بتنامي سلوك العنف في أوساط الطبقة الفقيرة هو من هيمنة اقتصاد السوق وغلاء المعيشة ،فبزيادة الإحساس بالظلم وبالا مساواة أو التفاوت الطبقي،يتولد لديها الشعور بالحقد والعدوانية .وانه من جانب آخر،الوضع المستحدث في الثورة المعلوماتية ،عامل آخر هام في إحداث تلك الهزة العنيفة التي مست العلاقات الاجتماعية وقيمها و حتى في الأفكار،فمن خلال الصراع بين الطبقات ،والتصادم في القيم بين الأجيال ،وضحها العديد من علماء النفس في أن هنالك مفاهيم سيكولوجية حديثة مرتبطة بالعولمة منها مفهوم "موقع الضبط" وهو تحديد سلوكيات الأفراد التي تقع بين تسيير لظروف داخلية آو لظروف خارجية، وان إدراك الشخص لهذه الظروف، يكون بتحكم جوانب سلوكية وأخرى معرفية،والتي تحدد اتجاهات ومواقف الأشخاص،فمناخ العولمة يخلق شيئا قريبا من "موقع الضبط الخارجي" حيث تبدو الأشياء كلها خارجة عن سيطرة الجميع"(26) ونتساءل هنا عن أساليب" الضبط " هذه ،لظاهرة العنف ، أو بالأحرى ل"عولمة العنف" إن مشكلة العنف تحكمها آليات "الضبط الاجتماعي "، فالإنسان فرد في المجتمع يتطلب وجوده كعضو فيه،مسايرته للضوابط الاجتماعية ،فتكون بمثابة كابح تكبح قوة وشراهة الغريزة الإنسانية ،التي يتصف بها الكائن البشري،قبل تنشئته الاجتماعية،وعليه نجد أن الفرد الذي يخضع للضوابط ،ويلتزم بها يكون سويا وسعيدا ،لدرجة ما ،لأنه يجد صورة جميلة له مطبوعة في حكم ورؤية وتقييم أصدقائه وزملائه المحيطين به وتجد الجانب الأخر يكون تعيسا وشقيا ،ومتعبا نفسيا ،وقلقا فكريا ،ومضطربا سلوكيا،عندما لا يكون منضبطا بضوابط اجتماعية(27). فهذه هي حالة الفرد السوي ،أما غير السوي يكون ذا شعور انتقامي رافضا لمجتمعه حاقدا عليه.
خلاصة:
في الأخير نقول أن الضبط الاجتماعي هو مصطلح محوري يمثل حلقة وصل رابطة بين التحليل الاجتماعي للقيم الإنسانية والسلوكيات والانفعالات لدى الأفراد أثناء عملية التفاعل الاجتماعي ،فعلينا أن نوضح من خلال أبحاث علمية كيفية "ضبط" سلوكيات الأفراد غير السوية ،وكيفية معالجتها ،كظواهر نتجت عن "عولمة العنف" بالسبل الأكثر نجاعة وفعالية ،بمواجهتها،وبالكشف عن أسبابها ،للحد منها وبإصلاح الفرد وتنشئته وتوجيهه،عن طريق نفس الوسائل أي الوسائل الإعلامية ،فهي سلاح ذا حدين ،وبالعودة إلى ارثنا الحضاري والثقافي،والى قيمنا الإسلامية، كما تفعل شعوب عديدة لها تاريخ في التقدم والتحديث وما تزال تتمسك بالأصالة في القيم وتحافظ على انتمائها القومي(اليابان).
قائمة المراجع : 1 –احمد مجدي حجازي : علم اجتماع الأزمة ، دار الثقافة العربية ، القاهرة ، 1988 ، ص.12 .
2-عبد الباسط محمد حسن : أصول البحث الاجتماعي ، مكتبة وهبة ، القاهرة ، 1985 ، ص148 . 3- عامر احمد جيدر وعبد المنعم جليل إبراهيم : لسان العرب ن دار الكتب العلمية ، بيروت 2003 ،المجلد العاشر. 4-عصام عبد اللطيف ، سيكولوجية العدوانية وترويضها ، دارغريب ، القاهرة 2001 ، ص.97 .
5-محمد عبده محجوب ويحي مرسي عبد بدر ، العنف السياسي والاجتماعي ، قراءات ودراسات انثروبولوجية دار الثقافة العلمية الإسكندرية ، ط1 ،2005 ، ص178 .
6- نفس المرجع السابق ص.176 . 7- محمد شحاتة ربيع : علم النفس الجنائي ، مكتبة دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1994 ص 39 . 8-محمود مصطفى : شرح قانون العقوبات ، دار النهضة العربية ، القاهرة ن 1969 ، ص 20. 9-مصطفى العوجي : التربية المدنية كوسيلة للوقاية من الانحراف ، مركز الدراسات الأمية والتدريب ، الرياض ، 1986 ، ص.284 . 10-محمد محمود مصطفى : الدفاع الاجتماعي والخدمة الاجتماعية المعاصرة ،مكتبة عين شمس ، القاهرة ، 1998 ، ص.166 .
11- خليل ميخائيل معوض : علم النفس الاجتماعي ، دار الفكر الجامعي ، الإسكندرية 1999 ، ص365 . 12- نفس المرجع السابق ص 370.
13- ارحع :مصطفى حجازي : التخلف الاجتماعي ، مدخل سوسيولوجية الإنسان المقهور المركز الثقافي ن المغرب ،2000 ، ص.190.
14-عصام عبد اللطيف العقاد ، سيكولوجية العدوانية وترويضها ، مرجع سابق ، ص.116 .
15- سحر فتحي مبروك وعصام ن توفيق عمر : المشكلات الاجتماعية المعاصرة ، دار الفكر ، الأردن ، 2008 ، ط1 ،صص 27.30 .
16-برهان غليون ، العرب وتحديات العولمة الثقافية ، مقدمات في عصر التشريد الروحي ، في ملتقى المجمع الثقافي في أبو ظبي (10 أفريل 1997 ).
17- محمد سيد فهمي : العولمة والشباب من منظور اجتماعي ، ط1، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ، الإسكندرية 2007 صص 134و 133.
18- بلقاسم سلاطنية وسامية حميدي : العنف والفقر في المجتمع الجزائري ، دار الفجر ، القاهرة 2008، صص 55 و56 . 19-محمد سيد فهمي ، مرجع السابق ص.18 .
20 –علي عبد الرزاق جلبي ، المشكلات الاجتماعية دار المعرفة الجامعية ، مصر 2005 ، ص153مأخوذ عن: Simon et Eitzioni .
21-نفس المرجع السابق ، ص.162 . 22 –مصطفى عادل ،العولمة من زاوية سيكولوجية ،دار النهضة العربية ،بيروت 2006،ص 63. 23-علي عبد الرزاق جلبي : المشكلات الاجتماعية ، دراسات معاصرة في (العنف ، الجريمة المنظمة ) مرجع سابق ً.184 . 24- بلقاسم سلاطنية وسامية حميدي :المرجع السابق ص147 25 –محمد شومان عولمة الاعلام ،عالم الفكر ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب،الكويت،المجلد،28 العدد2 ،1999،ص 147.
26-مصطفى عادل ،مرجع،سابق،ص85.
27 –معن خليل معن ،الضبطالاجتماعي،دار الشروق،الاردن،2006 ،ص ص 31-32 .
#حورية_بن_حمزة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حاول تثبيتها فسقطت منه في البحر.. شاهد ما التقطته كاميرا تحت
...
-
علماء يكتشفون سببًا محتملًا لإعادة بناء نصب -ستونهنج- قبل آل
...
-
أحبّها بعمق.. قد يصدمك ما فعله رجل ليبقى بقرب حبيبته
-
فيديو يظهر محاولة اقتحام سجن مكسيكي بعد أعمال شغب دامية.. شا
...
-
-العنف الطائفي بعد الإطاحة بنظام الأسد أقل حدة مما كان متوقع
...
-
آلاف السوريين يحتشدون في ساحة الأمويين في الجمعة الثانية بعد
...
-
إل ألتو البوليفية: -المنازل الانتحارية- مهددة بالانهيار والس
...
-
فنلندا تجدد رفضها فتح الحدود مع روسيا
-
ليبيا.. ضبط شبكة نشطت في تصنيع وبيع الخمور المغشوشة في بنغاز
...
-
مصر تدين اعتداء الدهس في ألمانيا وتؤكد رفضها كل أشكال الإرها
...
المزيد.....
-
Express To Impress عبر لتؤثر
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
المزيد.....
|