|
فن فاروق حسني مَن يخاطب وأين يقف؟
يوسف ليمود
الحوار المتمدن-العدد: 3151 - 2010 / 10 / 11 - 18:07
المحور:
الادب والفن
جاءت تصريحات وزير الثقافة فاروق حسني، التي أدلى بها مؤخرا، بلا تفكير، حول مفهومه للمثقف، صدمةً لكثير من الراسخين في العمل الثقافي ممن لم تحتويهم حظيرته، وفي عاصفة من الردود، قرأنا عددا من المقالات المستنكرة، والناقدة، بسخرية واضحة، كلام الوزير الذي يبِين منه عدم فهمه لمعنى المثقف، ناهيك عن سذاجته الصادمة، حسب ما تقول تلك المقالات والردود. بعد هذا بأيام، شاهدتُ لقاءً مع الوزير في برنامج "العاشرة مساءً"، وسمعت النسخة الثانية المعدّلة، والمفكّر فيها هذه المرة، من إجابته، عن سؤال: "من هو المثقف؟"، بأنه: "الشخص الذي يعرف المذاهب على مر العصور، بدءا من أدب الباروك، عمارة الباروك، موسيقى الباروك، نزولا إلى: الكلاسيكية، الرومانسية، التعبيرية، وحتى الفن الحديث". حين سمعت هذه الإجابة المثيرة، والتي تحيل، بوضوح، إلى تاريخ الفن، الذي يمرّ على خطوطه العريضه، طالبُ الفنون، في السنة الأولى من دراسته، رأيتُ أن أتناول بالنظر والتحليل، عمل الوزير كفنان، من نفس وجهة نظر تاريخ الفن التي اعتمدها مرجعيةً لتعريفه المثقف. مهمة ليست سهلة، خصوصا مع انعدام الوعي الفني العام، حتى بين كثير من المثقفين، بل بين الكثر من ممارسي الفن أنفسهم، في زمن تلتبس فيه المعايير والقيم والذوق، ومن يُطبَّل له أكثر، يصير، ليس فقط في الصورة، بل الصورةَ والمثال!
يعمل فاروق حسني في التجريد التقليدي المتحدّر من خلاصة فلسفات هذه المدرسة الفنية في النصف الأول من القرن العشرين. طوفان من الفنانين وأشباه الفنانين لاكوا واجتروا معطيات هذا الاتجاه الفني خلال قرن كامل ومازالوا يفعلون. هذا يعني أن التجريد، لمن ليس عنده همّ حقيقي، بر أمان، وحائط للتخفي، مثلما هو حائط للخربشة والادّعاء. تكفي بصقة لون ما، مفروشة بلا تفكير بيّن ولا حس عميق، ومبصومة ببضع نقاط بيضاء متفرقة بطرف إصبع تدّعي الرقة،، أو شكل سهم يشبه العضو، أو مثلث يتوسل الأسطورة، أو مربع يتسول روح الهندسة، أو خط سريع ملتو يحاول بتعاسة أن يوهم بالرقص والغنائية... هذه هي تضاريس لوحة فاروق حسني. إنها تقريبا، كما لو اقتربنا بعدسة مكبرة على تفصيلة من إحدى لوحات كاندينسكي، أو خوان ميرو، أو ماتيس، أو بيكاسو، أو كارل أبل، أو الكثيرين من فناني الطليعة الأمريكان، ومنهم على الأخص دي كونينج، رغم ما بين كل هؤلاء من اختلافات جذرية. إن الدسامة البصرية، والروح الباحثة، في معظم أعمال المذكورين، لا نشم لها رائحة في لوحات فاروق حسني، التي، وللحق، يمكن، بنصف لسان، أن نقول على بعضها إنها جيدة، هذا من زاوية أن أعماله تتبنى القيم الفنية الجاهزة التي اشتغل عليها وطوّرها هؤلاء الغابرون، والتي أصبحت أصلا في ذمة التاريخ، من وجهة النظر الفنية المعاصرة.
الأصل في الفن، التجريدي منه تحديدا، أنه حفر في الذات. تنعكس طبقات هذا الحفر على السطح الذي يعمل عليه الفنان في صياغات بصرية تقول هذه الذات، وتُظهر عمقها وهمّها وانشغالاتها، وهنا يصبح تواصل المتلقي مع العمل الفني حدثا ذا معنى، من حيث هي فرصة التقاء عقل بعقل، وحساسية بحساسية، تحدث في إطار جمالي. رحلة تسحب فيها معطياتُ العمل الفني المتلقي إلى تضاريس فكر الفنان وحساسيته المبذولَين في ثنايا عمله الفني. لوحات فاروق حسني لا تأخذنا إلى أي مرتفعات فكرية أو حسية، يمكن أن تحرك في النفس رادار التقاط "الجميل"، الذي من المفترض أن الفنان الجاد يعصر ذاته من أجل الوصول إليه. على المستوى الفكري، تستند أعمال فاروق حسني على "سمعة التجريد" التي لم تعد تحتاج لنقاش، أكثر من اعتمادها على "فكر التجريد"، الذي هو محراب لا يدخله إلا الحقيقيون. أما على المستوى الأدائي، تعتمد لوحته على عنصرين رئيسيين من المفترض أنهما يتفاعلان معا: الأرضية، وهي، غالبا، مساحتان، أو ثلاث مساحات من ألوان، متعارضة أو متداخلة، مفروشة بعرض فرشاة سريعة لا طاقةَ فيها ولا تأمل، وإن كانت لا تخلو من جمالية تزيينية تدغدغ العين المسطحة، مخربَشُ ُ بين حدود التقاء هذه المساحات، أو فوقها، نثار من أشكال وتهشيرات خطية، طائرة هنا وهناك، فوق تلك الأرضية، بطريقة رسم الاسكتش السريع، سواء كانت خطوطا عفوية مبعثرة، أو تنقيطا، أو أشكالا (مثلث، مربع، مستطيل، سهم...الخ). هذه الأشكال التي، بسبب ركاكة أدائها في عمل هذا الفنان، وبسبب لا محدودية التجارب التي استنفدنها وابتذلتها على مدى أكثر من نصف قرن من الرسم الرمزي، تعجز اليوم عن أن تكون رموزا تحيلنا إلى عوالم لم يتم طرقها، أو أقلّه، عن أن تكون مجرد أشكال معبأة بطاقة روحية تشير إلى همّ فني. إلى جانب هذا، نجد أن تلك الأشكال، غير منسجمة، جماليا، مع المساحات اللونية العريضة التي تشكل الأرضية، والتي لا دور لها سوى ملء مساحة القماشة البيضاء بنوع بهرجة بصرية، ليس إلا؛ إذ تبدو هذه التهويمات والتهشيرات الخطية، في تفاعلها مع المساحات اللونية، وكأنها تمرين عازف مبتدئ على آلة حادة الصوت كالكمان، جنب تمرين زميل له على آلة غليظة الصوت مثل الكونترباص، هذا في مقام، وذاك في آخر!
ثمانية وعشرون عاما بين أول معرض رأيته للفنان، قبل أن يصبح وزيرا، حين كنت طالبا في السنة الأولى لدراستي الفنون الجميلة عام 1982، وبين معرضه الأخير في قاعة الزمالك، يناير 2010، لم يتغير شيء سوى الأرضية: كانت في المعرض القديم ذاك، اللونَ الأسود للورق، تجري عليه أصابع ألوان الباستيل بالخطوط والأشكال، وفي معرضه الأخير هذا، صارت مساحاتٍ من ألوان الأكريليك، مفروشة كيفما اتفق، وممهورة بتلك الخربشات الخطّية والأشكال نفسها، فأين فاعلية الزمن في حسابات البحث والتطور؟ الفنان يصف أعماله الأخيرة، في حوار طويل مطبوع على مطوية معرضه، بأنها "سكة جديدة". يقصد طريقا!
بعيدا عما يحتمل اللبس، نأتي إلى ما لا لبس فيه، وهو كلام الفنان نفسه في الحوار، المطبوع في مطوية معرضه. بغض النظر عن مستوى كلامه الذي، ليس سوى تهويمات لا تمسّ الفن من قريب أو بعيد، كقوله إنه يشعر بالجوع عند دخوله المرسم، وإذا أنجز لوحة ترضيه فإنه يخرج ولديه شعور بالانتصار... إلى آخره، نأتي على ملحوظة واحدة فقط من ما حكاه، وهي أنه اندهش عندما قرأ خبر اختيار مجله "الفنون الجميلة" الفرنسيه إياه، كواحد من سبعين فنانا يقودون الحركة الفنية في العالم، وأن سبب اندهاشه وعدم تصديقه الخبر، أنه يعتقد أن من يقودون حركة الفن في العالم لا يقلّ عددهم عن المئتي فنانا، وليس سبعينا فقط! بغض النظر عن صدق أو كذب هذه الحكاية، التي لم نجد لها أي أثر في النسخ الورقية للمجلة، على الأقل في أعدادها منذ سنة 2007 وحتى تاريخ المعرض، وعموما ليس صدق أو كذب هذا الخبر هو المهم هنا، خصوصا حين نضع في حسابنا أن المجلة المذكورة تجارية أصلا، ويمينية، وليست ذات شأن في عالم الثقافة الرفيعة؛ المهم، والمضحك، أو المحزن هنا، هو أن هذا الكلام يثبت جهل الفنان بما يحدث في عالم الفن اليوم (هل هو جهل حقا؟). عموما هذا يتماشى مع عمله الذي يعتمد على المنجز التجريدي الراسخ منذ ستينيات القرن العشرين، الوقت الذي كانت فيه نماذج من الفنانين يمكن أن يقال إنهم كانوا يوجهون حركة الفن في العالم، باكتشافاتهم وتطويرهم ما سبقهم من منجزات فنية؛ أما اليوم، ومع الحس الفني المعاصر، الذي هو نتاج فكر ما بعد الحداثة، لم تعد للفن مدارس، ولا اتجاهات، ولا فنانين "يقودون" الحركة الفنية. اليوم، كل فنان هو جزيرة قائمة بذاتها. فهل نستقبل هذه الحكاية كنكتة غير مضحكة؟ في الحق، يعيدنا منطق هذه الحكاية الهزلية، التي تخاطب أصلا زبائن صالونات الفن التجارية، إلى منطق عمل صاحبها، وإلى السؤال: من تخاطب هذه الأعمال، وما علاقتها بالفن، بل بالثقافة التي هو وزيرها؟
أذكر لحظة دخولي معرض الفنان الأخير: أول ما وقعت عليه عيني وأنا في المدخل، لوحة صغيرة الحجم محاطة بإطار زجاجي أكبر منها ثلاث مرات تقريبا؛ كانت رسما سريعا بألوان الباستيل على الورق، يحيط بحوافها مباشرة إطار خشبي رفيع مثبت بالغراء في الوسط من الفراغ الذي يحيط به الإطار الكبير، وكانت اللوحة بإطارها الداخلي، مائلة، من جهة اليسار، نصف سنتيمترا تقريبا داخل ذلك الإطار المهيب. كان ذلك، بالنسبة لي كزائر له عين، كما يقال: "أول القصيدة كفر"! لو افترضنا أن الفنان لم ير هذا العيب، حين تسلّم أعماله من النجار الذي صنع له الأُطر، ولو افترضنا أن آخرين قاموا بتوزيع لوحات المعرض على الحوائط وتعليقها بدلا منه، هل نفترض أنه لم ير العيب الفاضح في افتتاح معرضه؟ البديهي أن عين الفنان، كما حواسه كلها، مرهفة، فإذا لم يكن فناننا هذا، قد انتبه إلى اعوجاج لوحته، قبل أو أثناء أو بعد افتتاح معرضه، ولم يسارع باستبدالها أو إزاحتها عن الحائط، فذلك يقول الكثير عن الاستخفاف بعين وذائقة المتلقي؛ أما إذا لم تكن عينه قد لاحظت العيب أصلا، فتلك كارثة. الرغبة في الوصول إلى الكمال الفني غريزة في كيان كل فنان حقيقي. من لا يمتلك هذه الغريزة لا يعول عليه.
#يوسف_ليمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إرنست بيالار، العابر المقيم في جمال متحفه
-
الفن المصري في الستينيات والسبعينيات ج 3 .. السوريالية هناك
...
-
الفن المصري الحديث في الستينيات والسبعينيات (2)
-
حدود فان جوخ بين الوعي والخرافة
-
رحيل اللباد صاحب -كشكول الرسام-
-
عن الثقافة في مصر: شجرة البؤس وأزهار الخشخاش المسروقة
-
الفن المصري الحديث في الستينيات والسبعينيات، إلى أين كان، وإ
...
-
جان ميشيل باسكيا .. فنه أم موته المبكر صنع أسطورته؟
-
سبنسر تونيك .. كما نبي يقود أمته عرايا يوم الحشر
-
عن النقد والفن في مصر .. حوار
-
هيلموت نيوتن .. الفن رغماً عن أنف ما يصوره الفنان
-
مان راي .. أنامل الفنان على أوتار الجسد وظلاله
-
من ثقب الكاميرا: حقيقة الجسد أم وهم خياله؟
-
تجربة رانيا الحكيم بين الحركية والغنائية في معرض بالقاهرة
-
نينار اسبر .. جسدها آلة تعزف عليها قناعاتها
-
يوسف نبيل .. الجسد مثقوبا بوجوده
-
حمدي عطية وخريطة الجسد
-
دينا الغريب .. وردة الرغبة في حقل جسم ملتبس
-
عاصم شرف .. الواقع معكوساً في مرايا الرقص
-
روح مصر كما يفهمها ثلاثة فنانين عيناً وقلباً
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|