جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3149 - 2010 / 10 / 9 - 01:48
المحور:
كتابات ساخرة
معروف عن العراقيين إنهم كانوا أقل الناس رغبة في الهجرة من وطنهم.
لقد وصل اللبنانيون والسوريون إلى الأمريكيتين منذ زمن بعيد, وحتى في مناطق متفرقة من أفريقيا كان حضورهم كثيفا ومؤثرا وخاصة في مجال التجارة, وفي الأرجنتين وصل سوري إلى رئاسة الجمهورية وكاد الثاني أن يصلها في البرازيل, أما المصريون فقد حج الكثير منهم إلى روما وباريس واليونان, وكوّنوا هناك تجمعات ونواد بأنشطة مختلفة, وعاد قسم منهم لينقل إلى مصر ما استطاع نقله من شؤون عصر النهضة, وبفضل هذه القربى الجغرافية وسياسة الأبواب المفتوحة, صارت للهجرة ثقافة, قد مكنت هذه الثقافة الأغلبية على التعايش مع بلدان الغربة بما لا يقطع الوصل والصلة ولا يثير الحزن والشجن .
لقد ظل العراقيون الذين يحظون بفرصة السفر إلى الخارج من أكثر الناس إصابة بمرض الحنين إلى الوطن, أي الْ (هوم سِكْ ), حتى كأن هذا المرض صار ماركة مسجلة بإسمهم.
ولا يعني ذلك إن بقية الأقوام كانت أقل حبا لأوطانها من العراقيين, إلا أنه يعني إن العراقيين لم تتوفر لهم الفرصة لكي يحبوا غير وطنهم. وبإحصائية بسيطة نستطيع أن نتعرف على أن نسبة الذين ظلوا خارج العراق مفضلين البقاء في المهجر كانت قليلة جدا جدا.
لكن أمرا قد حصل وجعل كل ذلك جزءً من الماضي.
ببساطة, كان العراقي مريض بحب وطن غير مريض.
لكن المعادلة كانت تغيرت فيما بعد بشكل جذري, أو هي أصبحت تكتب بالمقلوب. إذ حينما توالت حروب الرئيس القائد وأصبحت خطوط القتال الأمامية هي المكان الأفضل للسياحة والسفر, و صار بعد ذلك قطع الرؤوس على الهوية, ودخل البلد في محنته الطائفية, وسقطت النماذج والأحلام والآمال, وصار القرف والخوف والحرمان هي الصفات المتغلبة, فقد صار الأب العراقي الذي كان يركض خلف السيارة التي تقل إبنه بعيدا وهو يصيح ( لا تتأخر عليّ وليدي ), صار يودع فلذة كبده بعبارة ( روحة بلا رده ) , بعد أن كان يعد الساعات في السابق لكي يكحل عينيه برؤيته ويحضنه باكيا حتى لو كان سافر لأيام عدة لا غير.
فجأة ما عاد العراقيون يطربون لأغنية سعدون جابر ( إللي مضيع وطن ) لأن سعدون نفسه قد ضيع وطنه, بعد أن ضيعه وطنه.
ولقد شفى العراقي من مرض الحنين إلى الوطن لأن الوطن نفسه قد مرض.
وفي السابق كان العراقي يخرج من بلده سليما ليمرض أما الآن فهو يخرج من بلده مريضا ليشفى.
ولهذا لم يعد العراقيون يصابون بالْ ( هوم سِكْ ) لأن( الهوم ) نفسه صار ( سِكْ ).
وحينما شفي العراقيون من أغلى وأعز وأفضل مرض على الإطلاق ألا وهو مرض ( الهوم سِكْ ), فقد ساروا على طريق الروحة بلا ردة.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟