|
أسطورة المسيح الدجال وتغييب العقل
سامح محمد إسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 3148 - 2010 / 10 / 8 - 07:31
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الأسطورة بوصفها نتاجا معرفيا جماعيا تعد انعكاسا للمكونات الفكرية والثقافية للمجتمع، لما تحتويه من بنية مركبة تتداخل فيها شتى المؤثرات من فكر وفن وتاريخ، مما يجعلها مرآة تنعكس فيها المكونات الحضارية لشعب من الشعوب، مما يفسر وجودها بشكل دائم لا ينقطع في جميع الحضارات الإنسانية، أي أنها تجسّد وضعًا معرفيًا أنثروبولوجيًا جعلها مرجعية ثقافية ومكونًا رئيسًا من مكونات الفكر الإنساني له القدرة على الامتداد ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، والأسطورة تمنح الانسان القدرة على مواجهة ما يعجز عقله عن استيعابه، كما أنها توفر له خط دفاع أساسي يمنحه التوافق النفسي في مواجهة الطبيعة وقسوتها وتقلباتها. ونظرًا للامتداد والشمولية اللتين تأخذهما الأسطورة في الأيديولوجيات المختلفة - خاصة الدينية منها - اختلطت الحقائق مع تقادم الأزمان، لتصبح الأسطورة مرادفًا للواقع، تعبث بالعقول وتذهب بها إلى غياهب الوهم ودركات الجهل، لتختلط صفحات الأساطير بصفحات التاريخ، وتغدو الخرافة من ثوابت الدين. والإنسان بطبعه يميل صوب الأساطير مثلما يميل إلى الصور التي يعتمد عليها عقله الباطن الذي يرفض دومًا التخلي عن الماضي الذي سرعان ما يلاحقه بكل صوره ورؤاه، حيث تتضافر عدة قيم نفسيّة وروحيّة في تأجيج الذاكرة دومًا صوب الماضي، وهو ماحدث مع الشعوب التي فتحها المسلمون، والتي كانت تمتلك زخمًا حضاريا تتناثر في ثناياه الحكايا الأسطورية، والنزعات الميثولوجية لتفسير الكون والحياة، فصبغت تراثها الميثولوجي بصبغة دينية تلقفتها الأيديولوجيا لتحقيق المزيد من التغييب للوعي الجمعي للرعية، لتظهر أساطير خرافية تحاكى الخرافات الهوميرية والإغريقية، في محاولة لتقديم وجبات جاهزة لعقول استراحت إلى الخرافة، فتقبلت دون تفكير ما طرحته الإسرائيليات وبعض موروثات الحضارات القديمة في البلاد التي فتحها المسلمون، فتدثرت الخرافة بعباءة الدين، ولنا في أسطورة المسيح الدجال – بوصفها رؤية ميثولوجية لزعيم الشر الذي يأتي في آخر الزمان ويعيث في الأرض فسادا - مثالا واضحا على ذلك . تجسد أسطورة المسيح الدجال ذلك الصراع الأبدي بين الخير والشر، والذي تناولته جميع الثقافات القديمة: الفرعونية والبابلية والإغريقية، ورمز الشر هنا كائن خرافي أسطوري أعور العين، وإن اختلف الإمامان البخاري ومسلم حول موضع العين العوراء فيقول البخاري في ذلك: عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال: "إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ..". أما مسلم فيقول في روايته: "عن حذيفة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله : "الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ - كَثِيرُهُ - مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ". وهكذا اختلط الأمر بين الصحيحين، هل هو أعور العين اليسرى أم اليمنى؟! ثم تذهب الروايات إلى وصف البنية الخارقة لذلك الكائن الأسطوري المرعب: فيروى أبو داود عن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه): أن رسول الله قال: "إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنْ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لا تَعْقِلُوا، إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّال رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ وَلا حَجْرَاءَ فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ". والدجال هنا يتصف بصفات إلهية خارقة حتى يغدو الفارق بينه وبين الله هو العين العوراء، فهو كما أخرج أحمد عن سمرة بن جندب أن رسول الله قال: "إن الدجَّال خارج، وهو أعور عين الشمال، عليها ظفرة غليظة، وإنه يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى". وله حمار يركبه، عَرْض ما بين أذنيه أربعون ذراعًا!! كما أن معه جنة ونارًا، جنته ناره وناره جنته، وأن معه أنهار الماء وجبال الخبز، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض، ويقطع الأرض بسرعة عظيمة كسرعة الغيث. وروى الإمام مسلم عن حذيفة (رضي الله عنه) قال : "لأنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ: مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ أَحَدُهُمَا رَأْيَ الْعَيْنِ مَاءٌ أَبْيَضُ وَالآخَرُ رَأْيَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ، فَإِمَّا أَدْرَكَنَّ أَحَدٌ فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا وَلْيُغَمِّضْ ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ فَيَشْرَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ". ويستفيض البخاري في وصف الدجال وفقا لرواية أخرى فيقول: عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله : "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ. فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ"!! وليس هناك مانعا من مواصلة المشهد الدرامي المثير حيث يلتقيه النبي مع نفر من صحابته، فيروي أحمد عن جابر بن عبد الله أنه قال: "إن امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلامًا ممسوحة عينه طالعة ناتئة فأشفق رسول الله أن يكون الدجال، فوجده تحت قطيفة همهم فآذنته أمه فقالت: يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء فاخرج إليه. فخرج من القطيفة فقال رسول الله : "ما لها قاتلها الله؟ لوتركته لبين".ثم قال: "يا ابن صياد ما ترى؟". قال: أرى حقًا وأرى باطلًا وأرى عرشًا على الماء فلبس عليه فقال: "أتشهد أني رسول الله؟" فقال هو: أتشهد أني رسول الله؟ فقال رسول الله : "آمنت بالله ورسله". ثم خرج وتركه. ثم أتاه مرة أخرى فوجده في نخل له يهمهم فآذنته أمه فقالت: يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء، فقال رسول الله : "ما لها قاتلها الله؟ لو تركته لبين". فكان رسول الله يحب أن يسمع من كلامه شيئًا فيعلم أهو هو أم لا قال: "يا ابن صياد ماترى؟". قال هو: أتشهد أني رسول الله؟ فقال رسول الله : "آمنت بالله ورسله". فلبس عليه فخرج وتركه. ثم جاء في الثالثة أوالرابعة ومعه أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) في نفر من المهاجرين والأنصار وأنا معه قال: فبادر رسول الله بين أيدينا ورجا أن يسمع من كلامه شيئًا فسبقته أمه فقالت: يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء، فقال رسول الله : "ما لها قاتلها الله؟ لو تركته لبين". فقال: "يا ابن صياد ما ترى؟". فقال: أرى حقًا وأرى باطلًا وأرى عرشًا على الماء قال: "أتشهد أني رسول الله؟" قال هو: أتشهد أنت أني رسول الله؟ فقال رسول الله : "آمنت بالله ورسله". فلبس عليه، فقال رسول الله : "يا ابن صياد إني قد خبأت لك خبيئًا" فقال: هو الدخ. فقال رسول الله : "اخسأ". فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي يا رسول الله. فقال رسول الله : "إن يكن هو فلست صاحبه إنما صاحبه عيسى بن مريم، وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد". قال: فلم يزل رسول الله مستيقنًا أنه الدجال"!! هكذا يترك النبي الأعظم شئون الدولة الجديدة وصراعه المرير مع المشركين، وسعيه المستمر لدعم جبهته الداخلية، ولا يصبح له هم سوى البحث عن الدجال وفق رواية خيالية موضوعة بلا شك، ولكنها لاقت رواجا كبيرا لعقول تبحث عن الخدر والسبات. كل تلك الروايات تفردت بها الأحاديث، ولم يأت بها خبر في الذكر الحكيم، والذي يؤكد أن كل غيب قبل البعثة وأثناء مدة الرسالة (23سنة) وبعد بعثة النبي لا يعلمه إلا بالوحي أي بالقرآن ويؤكد ذلك قول الحق (تبارك وتعالى): "تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ". (سورة هود /آية 48). فأنباء الغيب كما هو واضح هنا لا يعلمها النبي ولا قومه من أي مصدر سوى الذكر الحكيم. جدير بالذكر أن حذيفة بن اليمان كان القاسم المشترك فيما يعرف بأحاديث الفتن وأشراط الساعة، وكان حذيفة يكنى بحافظ سر رسول الله، وقيل فيما قيل أن حذيفة روى تلك الأحاديث لغلامه وهو في فراش المرض الأخير، علمًا بان حذيفة قد توفي عام 36 هـ، فما الذي جعله ينتظر كل هذا الوقت ليحدث عن الساعة وأشراطها في سياق أساطيري يبتعد عن العقل الذي جاءت الرسالة الخاتمة لترتقي به وتعلي من شأنه. وللأسف فقد جعلت الأيديولوجيا من الأسطورة عقائد مترسخة عند عامة المسلمين تمهيدا لظهور المخلص الذي سيأتي لتحقيق العدل والمساواة بعد أن يقتل رمز الشر "الدجال" وعلى الرعية أن تصبر وتنتظر المخلص، والذي انتظرته البشرية طوال تاريخها، وتحدثت عنه كافة الأساطير، ولا فرق هنا بين حورس عند الفراعنة، وماردوخ عند السومريين، والمهدي المنتظر الذي سيصلح في أيام معدودات ما أفسده الدهر في قرون طوال.
#سامح_محمد_إسماعيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحقير المرأة في المرجعيات الفقهية
-
شهيد العشق الإلهي
-
صلب المسيح (رؤية جديدة)
-
الصهيونية بين القومية والوطن التاريخي(رؤية تاريخية)
-
رواية الحديث بين الواقع والأسطورة
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|