|
الرفيقة (أم امتاني)
عبدالكريم العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 3142 - 2010 / 10 / 2 - 15:02
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
أكثر ما أكرهه، مذ كنت طفلا صغيرا هو حلول ظهيرة الصيف، ولجوء أسرتي الى القيلولة، وبقائي وحيدا بين أربعة جدران. كنت دائما أنبطح على الأرض وأبدأ برسم أبي وأمي وأشقائي وشقيقاتي وهم يغطون بنوم عميق، وكان كلما استيقظ أبي ووجدني منشغلا بخربشاتي، أبدى امتعاظه مني وردد تساؤله المكرر:"شنو بعيونك ملح متنام!؟"، ولكنني كنت أحسب دقائق الظهيرة دقيقة قاسية بعد اخرى منتظرا حلول "العصرية"، لا لكي أشارك أسرتي احتساء الشاي العراقي المنعنع مع "الجرك" وانما لألقف الخمسة فلوس "يوميتي المحببة" وأهرع صوب العجوز الطيبة، جدتي أم امتاني، بائعة الباقلاء التي كانت تجلس الى جانب شقيقتها العجوز "جلعه" في أقصى الزقاق. كانت العجوزان تتقاسمان أوجه شبه كثيرة، فكلاهما ترتديان ثوبا أسود، وعباءة سوداء وتلف كل منهما عمامة سوداء حول رأسها المتوشح "بفوطة" سوداء أيضا. كانتا كتلتان سوداوان تفترشان الأرض مع حلول عصر كل يوم وقبالة قدر الباقلاء الكبير. كنا نتحلق نحن الصغار حول القدر، نتناول طاسات الباقلاء ونحرص على طلب "الزواده" وماء الباقلاء الساخن، ثم نترك أمكنتنا لأطفال آخرين ونبدأ بممارسة ألعابنا الجميلة حتى حلول الظلام. ذات يوم حصلت على يوميتي الشحيحة عصرا كالعادة وعدوت باتجاه الجدة أم امتاني فلم أجدها، لا هي ولا شقيقتها جلعه فاندهشت وعدت الى البيت حزينا، سألت أمي عن سبب اختفائها فأجابتني ببرود: اذن ذهبت لزيارة ابنها امتاني في السجن. ولكن من هو امتاني!؟، وماهو السجن!؟. حملت جواب امي الذي بدا وكأنه ليس جوابا وسألت أبي عن الجدة وامتاني والسجن فأجاب: انها تذهب برفقة شقيقتها جلعه الى سجن نقرة السلمان من حين لآخر لأنه شيوعي ومعتقل هناك!. ازدادت حيرتي وتلبسني الاندهاش من جواب أبي الذي بدا أكثر تعقيدا من جواب أمي بعد أن أضاف عليه "نقرة السلمان والشيوعي"، فاندفعت صوب شقيقي الأكبر لفك ألغاز هذا الطلسم وحل قضية اختفاء الجدة أم امتاني وشقيقتها جلعه. كان أخي محافظا، غير ميال للسياسة ومخاطرها في ستينيات القرن الماضي، ولذلك بدا متضايقا من أسئلتي والحاحي لكنه لم يجد بد من اجابتي فقال: امتاني شاب طيب ويحمل أخلاق عالية ولكنه انتسب الى حزب سياسي اسمه الحزب الشيوعي العراقي، وهذا الحزب تحاربه الحكومة وتمنعه من ممارسة نشاطاته... "يعني اشلون يا الهي... بابا انت صغير، اترك هذه الأسئلة وانتظر ام امتاني لحين عودتها...". ولكن أجمل ما قلته وقتها وأثار دهشة أخي وجعل أبي وأمي يطالبانني بغلق فمي وهما يتلفتان يمنة ويسره هو انني عرفت امتاني تماما وشخصت الحزب الشيوعي مبكرا، قلت: "افتهمت، يعني امتاني شيوعي ضد الحرس القومي الأنذال اللي يخطفون البنات ويرتكبون الجرائم"!. بعد عودة الجدة شعرت بفرح غامر ورحت أحاصرها بأسئلتي المتشابكة عن امتاني ورفاقه المعتقلين معه والحزب الشيوعي وسجن نقرة السلمان، وكانت تجيبني بلهحة جنوبية محببة عن مشاهداتها خلال رحلتها الشهرية للأحياء والقرى والصحراء والسجن وحياة المعتقلين ونضالهم. كنت أطالبها ببراءة طفل ان تحمل سلامي الى عمو امتاني الذي أوقد في مخيلتي شعلة السياسة من وقت مبكر، وكانت كلما تعود من رحلتها المضنية تشمني وتقبلني وهي تردد:"هاي بوسه وشمه من امتاني حملني ذمه". وفي عصر يوم لا يشبه صمت تلك الأيام "اليابسة"، تسلل الى حينا رجل يرتدي دشداشة صفراء ويسير ببطء. لمحني فابتسم لي فتوقفت عن اللعب ورحت أتابعه، ولكن جارنا العجوز "الحاج كعيد" خرج عن صمته المعهود وهتف بأعلى صوته:"بويه امتاني، خايبه جعله هوووي، امتناي طلع من السجن". تناسل الرجال والنساء، الشباب والشابات، العجائز والأطفال، ليتحلقوا حول المناضلة والمكافحة أم امتاني وهي تحضن ولدها البطل وتنغمر معه في أشد اللحظات انفعالا وبكاء، بينما راحت النسوة يزغردن وينثرن الجكليت والحامض حلو، وكان أشد المشاهد اثارة لنا نحن الأطفال هو نثر العجوز جلعه "لربع دينار خرده خمسات" على رأس امتناي وتنافسنا على الحصول على أكثر من قطعة معدنية من ذلك الربع دينار. تلك القطع النقدية الرخيصة التي كانت تحصل عليها الجدة أم امتاني من بيع الباقلاء الينا لتجمعها وتشتري بها ما يسد رمق ولدها الكبير (الرفيق امتاني) طوال فترة اعتقاله التي امتدت لما يقرب من عقد في سجن نقرة السلمان في صحراء السماوة.
#عبدالكريم_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيت علي الشباني. محطة الشيوعيين.. شهادة
-
العراقيون يتكيفون مع الحر ويحولون معاناتهم إلى نكات!
-
شهادة دموية مكتوبة برائحة شواء لحم العراقيين
-
مفردات برلمانية تغزو الشارع العراقي الآن
-
1/7 تاريخ كاذب لمواليد العراقيين على مدى قرن
-
صورة -فكاهية- من داخل المعتقلات الصدامية
-
البعث و ضرورة المراجعة الذاتية
المزيد.....
-
الخارجية الفلسطينية: تسييس المساعدات الإنسانية يعمق المجاعة
...
-
الأمم المتحدة تندد باستخدام أوكرانيا الألغام المضادة للأفراد
...
-
الأمم المتحدة توثق -تقارير مروعة- عن الانتهاكات بولاية الجزي
...
-
الأونروا: 80 بالمئة من غزة مناطق عالية الخطورة
-
هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست
...
-
صربيا: اعتقال 11 شخصاً بعد انهيار سقف محطة للقطار خلف 15 قتي
...
-
الأونروا: النظام المدني في غزة دُمر.. ولا ملاذ آمن للسكان
-
-الأونروا- تنشر خارطة مفصلة للكارثة الإنسانية في قطاع غزة
-
ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر
...
-
الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج
...
المزيد.....
-
١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران
/ جعفر الشمري
-
في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية *
/ رشيد غويلب
-
الحياة الثقافية في السجن
/ ضرغام الدباغ
-
سجين الشعبة الخامسة
/ محمد السعدي
-
مذكراتي في السجن - ج 2
/ صلاح الدين محسن
-
سنابل العمر، بين القرية والمعتقل
/ محمد علي مقلد
-
مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار
/ اعداد و تقديم رمسيس لبيب
-
الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت
...
/ طاهر عبدالحكيم
-
قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال
...
/ كفاح طافش
-
ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة
/ حـسـقـيل قُوجـمَـان
المزيد.....
|