أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نذير الماجد - هكذا رقص زوربا















المزيد.....

هكذا رقص زوربا


نذير الماجد

الحوار المتمدن-العدد: 3141 - 2010 / 10 / 1 - 23:48
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تتأرجح المعرفة بين تحديدات أساسية تسعى لكشف الماهية وإزالة الغموض وفتح الأبواب الموصدة، والكشف والإزالة والفتح غايات معرفية تتواشج مع تأرجح ثلاثي بين الكينونة والصيرورة والرقص، وهو نفسه الاتساق بين الكشف كأداة للمعرفة المباشرة، والإزالة أو الهدم بما هو تفكير بالمطرقة "نيتشة"، والفتح بما هو نتيجة للمسار العقلي الشاق والطويل لتلك الهيمنة التي ينتجها التمثُل.

منذ البداية وقبل سقراط كانت الأنطولوجيا الإغريقية تتراوح بين مدارين أساسيين: الكائن كائن والكائن صائر، ولكن السمة الأساسية والقاسم المشترك والذي قاد الإغريق الأوائل نحو كشوفاتهم هو دافع الدهشة ولذلك فالحقيقة كما لاحظ هايدغر ليست سوى انكشاف أو تبدي أو ظهور، إن الدهشة هي التي ألهمت ذلك الحكيم الذي من فرط ذهوله سقط في بئر، وهي التي علمت سقراط كيف يحول الفلسفة إلى أسئلة، والتي هي نفسها حالة الذهول الطفلي للإنسان البدائي الذي يقف على هاوية الكون ليصبح شاعرا مدركا بأن ثمة مطلق لا متناهي، وهذه الدهشة البدائية هي نفسها التي قادت البسطامي إلى كشف إلهي في ملهى لمبتهجين راقصين: وجدت الحبيب هنا حيث الرقص واللغة انعكاس واحد لحالة واحدة هي الوجد.

كانت الحقيقة كشفا ثم أصبحت تمثلا، ولأن تاريخ الميتافيزيقيا عند هايدغر هو تاريخ سقوطها نحو ذلك التشويه المتلاحق الذي طال تلك التحديدات الأنطولوجية الأولية، فإن الوجودية الهايدغرية هي عود على بدء، أو بدء آخر لانبلاج أنطولوجي، فالحقيقة ليست تمثلا، أي ليست محاولة لاستدعاء الشيء ليتطابق مع ما في الذهن، وإنما هي استكناه: كشف عن كينونة الكائن، والكشف تأويل، سادية مع النص، إذ لا تأويل دون تغيير أو حركة، والحركة هي في جوهرها فكر، والفكر يغيب كلما أمعنت الكينونة في الحضور بحيث لا يجليها إلا حدس، معرفة مباشرة، كسر صوفي للصدفة نحو ذلك الارتجاج السديمي الذي لا يدركه إلا من تعلم كيف يرقص.

إن افلاطون مستلهما التأويل العددي الفيثاغوري للعالم هو الذي دشن وفقا لبرتراند راسل ذلك الشكل التعميمي والمهيمن للعقلانية التي تحيل الوجود إلى مثل أو صور تعكس قصدا بدئيا لكينونة مستقرة، حيث أن "في البدء كانت الكلمة" والعقل هو امتدادها الطبيعي القادر على كشف الاستمرارية في كون ثابت وسكوني تسوده حالة من الطمأنينة، هذا التصور العقلاني يمثل في التصور المضاد فعل اغتصاب ومصادرة تنتهي بحالة هيمنة وسيطرة يكون العالم من خلالها بمثابة مشروع أو حيز تفكيكي، فالعقل ليس بوسعه إلا أن يجزئ لأن المعرفة العقلية بالكليات لم تفعل سوى مراكمة الغموض وتوليد الأسئلة، ليس العقل إلا أداة لمعرفة الأشياء المفككة أما إدراك الترابط والأشياء في وحدتها فهو من مهام الحدس أو المعرفة المباشرة للإنسان الكامل، والكمال الإنساني ليس تموضعا أخلاقيا أو سلوكيا في حالة وسطية بين إفراط وتفريط، إن الإرادة بحدها الأقصى المتولد من الرقص بوصفه تمددا انطولوجيا أو تحطيما دائما للنسق أو الضرورة أو الحجرة المغلقة للذات هي وحدها التي تصنع الكمال وفقا لتصور زوربا في رواية "زوربا اليوناني" للكاتب اليوناني كزتنزاكيس.

ولكن عندما يكون الرجل كاملا ماذا بوسعه أن يفعل؟ يرقص أو ينفجر، كما يعلمنا زوربا الراقص دائما، ففي الألم كما في الفرح والسعادة عليك بالرقص، الرقص هو كسر للرتابة ومواجهة للألم، لقد نهضت ورقصت، يعلن زوربا، فقيل لي مجنون، لكنه كان الرقص، فقط الرقص هو الذي أوقف الألم. في رقصة زوربا تندمج الثنائيات ويتوحد العالم ويأخذ شكله المتمايل والمتأرجح فيعود إلى أصله السديمي الذي تتساوى فيه الفضيلة والرذيلة، الجهل والمعرفة، العقل والجنون، العمل واللذة، الجسد والروح، وكل الثنائيات التي تنتهي بالخير المطلق والشر المطلق أو الوجود كما هو، لا كما يجب أن يكون، فالرقص هو تمرين على لغة لا يجيدها إلا جسد متوحد بالروح، وهي بالتالي معرفة مباشرة ناتجة عن اتحاد صوفي بالعالم. والعالم يرقص أيضا، كما لو كان في رحلة على ظهر سفينة تداهمها العاصفة ولا تهدأ قبل أن تحدث ارتجاجا أو رقصا عفويا للعابرين السكارى.

وقد جسد كزتنزاكيس هذه الرحلة في مشهد من أروع المشاهد الحافلة بالدلالات الفلسفية والكشف الوجودي: زوربا برفقة المعلم، وهو الصوت الأساسي في الرواية، يرحل إلى كريت "الأم الأصلية للحضارة الاغريقية" عبر سفينة في يوم عاصف، العاصفة تربك المسافرين وتجعلهم يتمايلون ويرقصون كما لو أنهم في حالة سكر أو وجد صوفي، الفتاة وهي في حالة دوار وبلا توازن تسقط قبعتها، والصحون والأواني تتحطم، وزوربا يصطدم بامرأة عجوز" كانت الحبال تصدر صريرا فوق الصواري، والشواطئ تتراقص، وأضحى لون النساء على متن السفينة أصفرا، أشد اصفرارا من الليمون". زوربا اصفر لونه هو كذلك، لكنه ما إن رأى دلفينا حتى وقع تحت تأثير الدهشة، فزوربا الراقص يندهش أيضا، لديه فضول معرفي من النوع الذي يحدث للطفل وهو يواجه الأشياء بذهول ودهشة، فالعالم لديه مليء بالألغاز، كل شيء لغز: الحياة، المرأة، النبيذ.. "يتساءل بالدهشة ذاتها عندما يرى رجلا، شجرة تتبرعم أزهارها، كأسا من الماء البارد، كان زوربا يرى كل شيء كل يوم وكأنه يراه للمرة الأولى".

في مقابل هذه الدهشة والحساسية الجمالية وكل ما يتصل بالبهجة والفرح والموسيقى المنبعثة من السنتوري، الآلة المفضلة عند زوربا، يأتي دور المعلم/ التلميذ الذي تعلم على يديه كيف يرقص، فهو كاتب عقلاني ورأسمالي يعالج الكلمات ويبحث عن الأجوبة عن الكون والدين والخلود والله، يقرأ دانتي ويحاور بوذا ليحقق الخلاص، أي النيرفانا التي وجدها أخير في الرقص، والفن هي وسيلة الإنقاذ، فما عاد ينبهر بالكلمات بل بالحياة بتدفقها وعفويتها، بوذا يدعوه إلى إفراغ الجسد والروح والقلب، إنه هو الإنسان الأخير الذي لا يرى إلا الأشياء الصرفة والمعادلات والكلمات والتعبير بالأصوات الرتيبة والساكنة، "لقد أحال كل شيء إلى كلمات واستحالت كل مجموعة من الكلمات إلى شعوذة" حتى الموسيقى لم تعد سوى معادلات رياضية بكماء.

التعبير يجب أن يكون بالرقص "إن جمجمتي سميكة يا معلم - يقول زوربا- لذلك فإني لا أفهم الأشياء بسهولة.. كنت أتمنى لو كنت تستطيع أن تعبر عن كل ذلك بالرقص لفهمت ما تقوله بسهولة" يتحسر المعلم لأنه لا يستطيع أن يرقص وترقص كل تلك الأفكار البائسة "لقد ذهبت حياتي هدرا".

إن التعبير عن اللانهائي أو عن الديمومة التي تتجلى في كل لحظة من الحياة المبتهجة لا يتم إلا بمجاز أو إشارة، والرقص لغة من إشارات لا تدخل في نظام أو نسق أو منطق، اللغة هذه هي التي بدأ منها الدين، فكزتنزاكيس الذي يوغل في تعرية الزيف بكل وجوهه وتجلياته بما في ذلك التصور الديني الجامد والحرفي والذي يحيل الروح إلى خيط رفيع وفولاذي من العبودية، هو في الوقت نفسه "متروحن" يدرك جماليات التجربة الدينية وانفتاحها على مستويات متعددة من الدلالة، فنجده في رواية "المسيح يصلب من جديد" منحازا إلى تصور احتجاجي ضد الظلم ولصالح المعاناة الإنسانية، بينما هنا في "زوربا اليوناني" فإنه يحيل الدين إلى تجربة، إلى حالة إتحاد مع الطبيعة وتمجيد شاعري بها، أو رقصة تحاكي رقصة العالم، فزوربا اليوناني هو من الذين يؤمنون بوحدة الوجود التي تدمج في بوتقة واحدة الشر كله مع الخير كله، أو بمعنى آخر إن الوجه التنزيهي لإبليس كما تبدى للحلاج هو الوجه الآخر للعالم، إنه والنبي امتداد أو انعكاس لصفحة الوجود. والله يتجلى في صور عديدة، فكما هي الموجات التي تتراقص بفعل الريح تتراقص الحقيقة وتتجلى في المرأة أو "بين الأسنان" كما يعبر سلفادور دالي، أو مع بوذا أو في مناجاة أو في رقصة صوفية تدور كما يدور الفلك، إن الله هو القلب: "إليكسيس سأقول لك سرا... إن طبقات السماء السبع وطبقات الأرض السبع لا تكفي لكي تحتوي الله، أما قلب الإنسان فيستطيع أن يحتويه، لذلك إحرص تمام الحرص يا أليكسيس على ألا تجرح قلب الإنسان".

لكن زوربا المندهش دائما والراقص أبدا والذي يمقت الخداع ويكره التصنع في دير أو كنيس أو مسجد لا يتردد عن الجحود ولا يكف يعلن كفره بكل شيء يسقط عليه من الخارج، إنه رجل جواني لا يشعر إلا بداخله ولا يصدق إلا تلك الرقصات التي أنجبها تزاوج الروح والجسد، ولأنه كذلك فهو لا يؤمن إلا بزوربا والثورة، الثورة التي تقهر الضرورة وتفتح الوجود أمام القلب والبهجة التي تضحك في وجه الموت، وكما أن الرقص هو تعبير الفكر فإن الجنون هو تعبير الثورة، "ومن لم يكن مجنونا فلن يستطيع أن يقطع الحبل لكي يصبح حرا"."هيا يا زوربا علمني الرقص"!



#نذير_الماجد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحيل أركون وبقاء الأركونية
- عبثية أن تكون حيا
- لا تبن لك بيتا
- البغدادي يلقي الضوء ويرحل
- سعودة الحداثة !
- المشروع التغييري والمسكوت عنه: الشيخ الصفار أنموذجا
- حين يكون -جان كالاس- سعوديا !
- التصوف كخطاب تنويري
- التشيع والشيرازي وفلسفة التاريخ *
- عندما يتحول التاريخ إلى دين -3-3-
- عندما يتحول التاريخ إلى دين (2-3)
- عندما يتحول التاريخ إلى دين (1-3)
- ماراثون القطيف وصديقي المتشائم
- تمرين على السياسة الشخبوطية !!
- من اللاهوت إلى علم الأديان: محاولة للفهم
- ما وراء كلمات العريفي
- السيستاني والعريفي والتقيؤ الطائفي
- بين المتدين الأصولي والشامان
- البطولة الزائفة
- أنفلونزا التبشير المذهبي


المزيد.....




- آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد ...
- الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي ...
- فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
- آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
- حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن ...
- مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
- رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار ...
- وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع ...
- -أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال ...
- رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نذير الماجد - هكذا رقص زوربا