|
القديس والشيطان في آلهة المجزرة
بولس ادم
الحوار المتمدن-العدد: 3139 - 2010 / 9 / 29 - 20:21
المحور:
الادب والفن
يتصف التمدن المعاصر بصفة مغايرة ومعاكسة لما ينبئ به التطور التدريجي للحضارة على سطح ألأرض ، فتبني وعي سابق ومتخلف سبق وأن مرت البشرية في حقبته المدمرة ، هو تأكيد آخر بأن الأنسان ليس بمقدوره التخلص من بربريته نهائيا ، الصراع على الملكية المادية والأسبقية بذرائع معنوية ، لبوس ولغة العقلانية بالتحضر الظاهري ، خدع البشرية في العقد الأخير من القرن العشرين ، حجته كانت الدمج وتبادل المنفعة وترتيب القوى والمصالح بشكل أكثر جدوى ومناسبة لروح العصر . لكن المفجع والمدمر والذي كان بمثابة صفعة هائلة لكل القيم النبيلة ، النزعة البربرية في تصفية حسابات لاتعد ولاتحصى وهكذا ضاع الهدف وتشتت بل أصبح بحد ذاته غاية ووسيلة على يدالبرابرة .. برابرة اليوم ، يعملون بتكنلوجيا ووسائل متمدنة ، ذلك هوالأختلاف الوحيد بينهم وبين صنفهم في العصور المتحجرة !
أثار أهتمامي خبر مشروع سينمائي هو ( آلهة الجزرة ) ، قامت الكاتبة الفرنسية ( ياسمينة رضا ) كاتبة النص بالأتصال هاتفيا مع وكالة آسيوشيتدبريس ) وأعلنت تعاونها مع المخرج (رومان بولانسكي ) والمشروع هو أفلمة مسرحيتها ( آلهة المجزرة ) . ذلك التعاون بدأ بزيارات متكررة قامت بها رضا لبولانسكي في مكان اقامته الأجبارية في سويسرا ( الآن لاأحد يعلم بالمكان الجديد غير رضا وعائلته والأمن السويسري ) غير أن امكانية تواجده لاتخرج عن نطاق سويسرا ، بولونيا وفرنسا ولأسباب معروفة .. كتب بولانسكي مع رضا السيناريو وتمت ترجمته الى ألأنكليزية وبولانسكي هو من تحمل على عاتقه ذلك الشأن فقد قرر نقل أحداث المسرحية الى نيويورك وسيكون الفيلم ناطقا بالأنكليزية .
من خلال مشاهدتي لأفلام بولانسكي كلها ، عدد كبير من الكتابات النقدية وما كتب عن فنه وشخصه ، مقابلاته وحواراته المسجلة بالصورة والصوت ، خرجت بأكثر من تصور ، غير أن أكثرها مناسبة في مناسبة فيلمه القادم ، هو أن بولانسكي لاحياة له خارج رؤيته السينمائية ، ورغم حرصه على التذكير بتراجيديا والديه على يد النازيين القتلة ومن ثم تراجيديا ذبح زوجته ألأولى ( شارون تيت ) على أيدي الأرهابيين في أميركا ، الا أنه أثبت بأنه القديس الشيطان ، هو المجني عليه والجاني معا ، فعلته المشهورة لاحقته بآثارها ولعنتها ، في كل لقاء يذرف الدمع الغزير وتمنى في أول لقاء معه بعد حادثة الأغتصاب بعقد ومن قبل التلفاز الأمريكي ، رغبته بالعودة الى لوس أنجلوس ، ولكن بدون مشاكل . لكن القضاء ألأمربكي يطالب به فهو مطالب بتبرئة ذمته في الحق العام . فالمجني عليها تريده ألآن حرا ولاتطلب منه شيئا ، فبالنسبة لها ، حياتهاالجديدة أكثر أهمية مما حدث ومضى عليه فترة طويلة من الزمن . من جراء هذا الواقع ، انقسم متابعوه الى فريقين ، واحد وهو ألأغلب يطالب بمنحه كامل الحرية والناتج هو أفلام عظيمة تالية وألآخر يتمنى أن لايكون فوق القانون حتى ولو كان عبقريا . ما أريد قوله بأنه بارع بشكل فريد في تعرية ألأنسان وفضح بربريته . ليس فقط بالمشاهد الحسية وكوابيس مشاهد معينة بل قدرته التقنية وأحساسه الثاقب بألأيقاع المناسب في كل حالة تعبيرية ، لايخفى علينا بأن الدارسين للسينما في وارشو وخاصة بعد التحرير ، نالوا فرصة كبيرة في التدريب التقني المباشر ، وبولانسكي هو واحد منهم ، ترجمته التالية لجماليات الموجة الفرنسية الجديدة ونقلها الى أميركا ، ومن ثم فيلمه ( طفل روزماري )الذي تماهى مع لغته السينمائية بأنبهار سينمائيون وأثر عليهم بشكل كبير ، لهو واحد من أهم مراجع السينما الجديدة في هوليوود نهاية السبعينات وبداية الثمانينات ، وبوجهة نظري المتواضعة فأنه وبتمثيله للسينما ألأوربية في أميركا ، قدم مثالا حيا للسينما المستقلة لاحقا ، بأن الفرص المخزونة والقابلة للأنتهاز خارج سطوة الشركات السينمائيةالعملاقة ممكنة جدا ، ففي أفلام بولانسكي في أميركا وماقبلها ومابعدها ليس هناك ميل جامح نحو اللصق الألكتروني والخدع المعقدة ، يبقى بولانسكي ، مخرجا ، أداته الرئيسية تقنيات تقليدية واكب تطورها بحرص ووظفها بذكاء مفرط . يكفي التأمل في فيلمه الروائي الأول والأخير ، لأستكشاف بؤرة الرؤية واستنباط دلالات تؤشر بشكل لايقبل الغموض بأن بولانسكي بأختياراته ومعالجتها وفي مجمل انجازه الأبداعي هو ثقافة سينمائية مختلفة ومتفردة ، وألعوامل المحفزة هي ذاتها المنظومة الجهنمية التي يعيشها المخرج في حياة النفي بشكل محير.
على من تعرف الى نتاج الممثلة والكاتبة والمخرجة المسرحية الفرنسية ذات الجذور يهودية ايرانية روسية هنغارية ، لن يستغرب التقاء المخرج والمؤلفة في ( آلهة المجزرة ) فكلاهما ديدنه التراجيكوميدي والمفارقة بين التمدن والبربرية ، فهو مخضرم ومحترف في هذا المنوال وكافح بضراوة وبتكريس مرير في مجال عمله وهي تستبق الزمن وتلهث من محاولات شاقة أولى وحتى نيلها جائزة أفضل نص عن ( آلهة المجزرة ) في مهرجان توني المسرحي في نيويورك وهو يعادل أوسكار السينما . ولم تكتف بذلك بل ألفت كتابا صريحا جدا عن ( ساركوزي الرئيس ) وترجمت ومثلت نصوصها وخاصة ( فن ) والأخير الى 36 لغة .. ياسمينة رضا طاقة هائلة واصرار كبير ، لم تلق أذنا صاغية من قبل الوسط الباريسي في البداية ، من قدم لها الجميل كان المسرح الألماني الذي ترجمها وعرض لها وكافئها مقدما اياها جنبا الى جنب مع كبار المؤلفين المسرحيين المعاصرين ، وهي التي قالت قبل ذلك في باريس بأنها لاتعلم وليست متأكدة من كونها كاتبة محترفة ! تلك المرأة التي مازالت في الثلاثينات من عمرها ، بقامتها القصيرة ، شعر فاحم وعينين سوداوين في وجه ينضح فضولية وتساؤل ، هي كبيرة في التصدي لأبرز معضلة في الزمن المعاصر ، ألا وهي حقيقة الأنسان البربرية تحت ثوب جميل طرزته المدنية ، هي لاتؤلف لمسرحيات فيها عدد كبير من الشخصيات يضاف اليها مجاميع ولا يكون تعدد الأزمنة والأمكنة في نصوصها شرطا لنمو البذرة وتدوير الفعل وتوجيه الصراع بل أن الحوار هو عالم النص ، مادته وطاقة الرؤية المانحة فيه .. ليس هناك ديكور مسرحي تفرضه نصوصها ، كل مايلزم في نص ( فن ) مثلا هو ثلاثة ممثلين ولوحة كنفاس بيضاء محمولة على حامل ، وأضاءة بسيطة ، غير ان النص يبدأ بحوارات ودية ليتحول الى مبارزة مضحكة في نبش طبائع رجال يدعون الأبداع والتحضر ، لنكتشف شيئا فشيئا بأنهم رغم جديتهم ، جماعة تثير سخرية الآخرين والضحك ، لبؤسهم وأنحطاطهم الكبير .. وفي ( آلهة المجزرة ) المستلهمة من واقعة حقيقية عاشتها المؤلفة في باريس .. يحدث ان يعتدي صبي على زميله بالضرب بعصا في المدرسة ، يلتقي والدي الطرفين في غرفة الضيوف لمناقشة الحادثة وتفادي التكرار ، الا ان النقاش ينحو نحو ما لايحمد عقباه من منلوغات متبادلة يشترك فيها الأربعة رجلين وامرأتين .. يتجاوزان الفعل الصبياني الخشن الى أضعاف ذلك من تبني ألأحقاد ونبشها وصعق الطرف المقابل باسلوب وغد وبربري و ذلك بحوارات تتظاهر وتتمثل بالتحضر والأنفتاح والتمدن !
.. التصوير سيبدأ في العام المقبل والممثلون المختارون ، دورهم في المشروع مهم جدا .. الممثل النمساوي ( كريستوف فالتز ، والأمريكان جودي فورستر ، كيت وينسليت ، مات ديلون ) ، فلنا تخيل حجم المجزرة !
#بولس_ادم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جندي مخضرم وقصص أخرى
-
السلام علينا
-
موجزة ومعبرة
-
المفتاح
-
ضراوة الحياة اللامتوقعة مجموعة جديدة لبولص آدم
-
انا عراقي فقط
-
الموصل قلعة وليست مستنقعا
-
حنان نياغارا
-
هؤلاء
-
اطار نسفك في لقطة
-
ابن كميلة المدلل
-
غارة في الساعة الهادئة بشر
-
حنين صاخب
-
انا بالكوردية
-
هدوء في هدوء
-
صباح الخير
-
صوتي في العاصفة
-
ملحمة قصيرة جدا عن سمر
-
رقصة
-
العارية في شبكة اللعاب
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|