|
الوفاء بالعهود
حامد كعيد الجبوري
الحوار المتمدن-العدد: 3138 - 2010 / 9 / 28 - 17:28
المحور:
الادب والفن
بخمسينات القرن المنصرم وصولا لمنتصف عقد الستين كان في محافظة بابل شخصية غريبة ، رجل لا يختلف عن بقية الرجال بملبسه ، يرتدي العقال والكوفية – اليشماغ -الأبيض المنقط بالسواد ،وعباءة رجالية وسترة تحتها ما يسمى ( الصاية ) ، أراه يجلس في المقاهي الشعبية ، وهناك مقهى يرتادها طيلة أيام السنة ، إلا بشهري عاشور وصفر ، وشهر رمضان لأن عمله بهذه الأشهر يؤجل للأشهر ما بعدها ، والرجل يجلس بهذه المقهى ليتخذها مقرا لعمله ، وعمله هو أحياء الحفلات لمن يرغب بها ، والحفلات تقام عادة بالزواج وختان الأطفال ، فمن يرغب بحفلة زواج أو ختان يذهب للمقهى التي يجلس فيها ( أحميدي ) للتعاقد معه على إحياء تلك الحفلة ، في اليوم المحدد لتلك الحفلة تأتي الفرقة الفنية ل ( أحميدي ) وهي تتكون من عازف للإيقاع – الطبلة - ، وعازف آخر لآلة ( الدف ) ، وفي بعض الأحيان آلة ( المطبك ) ، يجتمع الرجال بمكان محدد لهم والنساء كذلك ، والأطفال يتنقلون بين آبائهم وأمهاتهم ، في هذه اللحظات تخرج حسناء مرتدية لباسا يشبه ملابس الغجريات ، ولها شعر طويل مسرح ، واضعة كامل زينتها على شفتيها ، وخدودها ، وعيناها ممتلئة بالكحل ، وهي تضع بين أصابعها شيئا يشبه ما تضعه النسوة على أصابعهن وهن يخطن الملابس ، وأعتقد أنها تسمى ( الكشتبان ) ، ولكن هذه الراقصة تضع بين أصابعها كما قلت شيئا مصنوعا من النحاس تسمى ( جنبارات ) ، ولا أعرف معناها ، ومنها تطلق أصوات تبعا لحركة أصابع تلك الراقصة ، كنت أعتقد أن هذه الراقصة امرأة حقا ، ولكن أبي أخبرني أن هذه الراقصة هي رجل تنكر بزي الراقصات ويدعى ( أحميدي الشعار ) ، وحين تنفض تلك الحفلة تخلع الراقصة ملابسها وتعود لتلبس ملابس الرجال ، ول( حميدي الشعار ) ذؤابتان طويلتان يسرحهما ويعقفهما ليضعهما تحت غطاء الرأس ( العرقجين ) ، وحميدي ليس له شارب إلا بشهر رمضان ومحرم وصفر ، لأن عمله يتوقف في الأشهر المذكورة سلفا فيطلق العنان لشاربه ، وسبب حلق الشارب ليوهم الآخرين على أنه أنثى وليضع أحمر الشفاه على شفتيه أثناء أداء مهماته الراقصة ، في بعض الأحيان وعندما يعرف الأطفال حقيقة ( أحميدي ) يفعلون معه كما يصف الممثل المصري عادل إمام ،(العيال بتعمل حاكات غريبه وتكري) . إحتاج ( أحميدي الشعار ) لمبلغ من المال فماذا سيفعل وهو اللا يملك شيئا ، أقنع أخته – حمديه - المتزوجة في البصرة لبيع مسكن والدهما ، وافقت الأخت لبيع الخربة التي يسكنها ( أحميدي ) ، وبيع الدار للمحسن الحاج حسان مرجان ، وهو خال رئيس وزراء للعراق فترة الحكم الملكي المرحوم الأستاذ عبد الوهاب مرجان ، قبض أحميدي المبلغ كاملا ستون دينارا عراقيا ، وكان ذلك بداية خمسينات القرن الماضي ، وستون دينارا آنذاك مبلغ لا يستهان به ، حينما قبض أحميدي المبلغ لم يخرج منها حصة أخته حمديه ، وتصرف بالمال لوحده وقضى على آخر دينار بجيبه والدار لا تزل باسميهما هو وأخته ، بعد مضي مدة ما أرسل الحاج حسان مرجان محاسبه وصديقه الوجيه ( هاتف الجبار الحساني ) مختار محلة الوردية ، أحدى مناطق الصوب الصغير للحلة الفيحاء ، ليأخذ موعدا من ( أحميدي الشعار ) لإجراء معاملة نقل ملكية الدار ، وحينما فوتح ( أحميدي ) بذلك أطرق مليا صوب الأرض وقال لهاتف الجبار ، ( عمي أبو عامر أنطيني مهلة شو جم شهر وآنه حاضر ) ، أعتقد هاتف الجبار أن ( أحميدي الشعار ) لديه لعبة ما بخصوص نقل الملكية وقال له ، ( عمي شو أنت كاعد عطال بطال وأنت قابض فلوسك شو تعال باجر للعقاري وخل أنسجل البيت لو أنت عندك لعبة) ، أجابه ( أحميدي ) ، ( على بختك عمي والله آني ما سويها ولا أنكر البيعة بس أفلوسي كلهن خلصن وما أنطيت أختي حمديه حكها الشرعي وهو 20 دينار ، كلت لما يجي موسم شغلنه أجمع الفلوس وأنطيهن لحمديه وأخلص ذمتي ، ويعمي أبو عامر حمديه بيتها بالبصره هم يريدلي فد خمس دنانير حتى أروح أجيبها وتعترف بالبيعة ألكم ، وتدري هي أختي خو مو تجي وتصرف على نفسها وآنه أخوها ، لازم أنه اللي أصرف عليها ) ، عاد المرحوم هاتف الجبار لصديقه المرحوم حسان مرجان وأخبره بتفاصيل ما جرى ، والمعروف عن الراحل حسان مرجان سخائه الجنوني ، لذا قرر أن يدفع حصة ( حمدية ) مرة ثانية إضافة لمبلغ عشرة دنانير لحميدي لجلبها من البصرة ، وسلم المبلغ الى ( أحميدي ) الذي رفض بدوره أن يأخذ هذا المبلغ مصرحا بأن ذلك عار سيلحق به إن فعلها ، وتحت التأثير الوجاهوي لهاتف الجبار قبض أحميدي المبلغ وذهب الى البصرة وجاء بحمدية أخته وأجريت معاملة انتقال الملكية للحاج حسان مرجان ، بعد أن أنتهى موسم الركود بعمل أحميدي ، وبالمناسبة فأن أشهر الشتاء تعتبر من أشهر الركود إليه ، لأن الأطفال لا يختنون بهذه الأشهر ، والقلة القليلة من المترفين يتزوجون أيام الشتاء ، والفقراء لا يتزوجون بالشتاء لأن مصاريفه أكثر من الصيف ، ومثلا لذلك من أين سيأتي بأسرة النوم لضيوفه من الأقارب وغيرهم وكما يقال ( الصيف فراش الفقير ) لذا فالفقراء لا يتزوجون شتاءا إلا ما ندر ، ناهيك عن أن موسم الركود بشهري محرم الحرام وصفر ومعروفة طقوسهما الدينية ، إضافة لشهر رمضان حيث تعطل كل المناسبات إلا الدينية منها ، وفي موسم عمل ( أحميدي ) جمع المبلغ الذي أعطاه له الحاج حسان مرجان وهو ثلاثون دينارا وذهب بالمبلغ إليه ، أستقبله الحاج حسان بوجهه المألوف مبتسما له وقائلا ل ( أحميدي ) ، ( آمر عمي أني حاضر شتريد ) ، أخرج ( أحميدي ) مبلغ الثلاثون دينارا وقدمها للحاج حسان مرجان ، قال له الرجل ( عمي هاي شنو ) ، أجابه أحميدي ( هاي القرضه اللي أنطيتنياها ) ، فقال له حسان رحمه الله أنا لم أعطك قرضة مالية وإنما هدية متواضعة لنبلك يا ( أحميدي ) ، أصر الرجل على دفع المبلغ وأصر الآخر على رفض استرجاع النقود لأن الحاج حسان لا يسترجع ما يعطي . قد يتبادر لذهن القارئ الكريم ما علاقتنا بهذه القصة التي قد نسجت من قبل كاتبها ، وأنا أقول بدوري أنها قصة حقيقية غير منسوجة ويعرفها الكثير من أهالي بابل الكرام ، وأقسم أن المرحوم هاتف الجبار قد رواها لي هكذا ، وربما يتبادر للذهن أيضا ما علاقتنا بقصة ( شعار ) ، وهنا أقول للجميع أن مثل هذا الرجل – الشعار - الذي يعد من قبل طبقات غير قليلة من الشعوب على أنهم لا يستحقوا الاحترام ولا ينجزوا وعدا أبرموه ، ودليل تخطيئهم ما رويت عن هذا الفنان – الشعار - ، ولكن أقول هل أنجز لنا من أوعدونا بأن يصلحوا حال العراق والعراقيين ، وواقع الأمر أنهم أصلحوا حالهم أيما إصلاح وتركوا ممن أوصلهم لكراسيهم يعانون الفقر والحرمان وقلة الخدمات ، بل انعدامها تقريبا ، ألا يجدر بهم أن يتخذوا من ( أحميدي الشعار ) قدوة ودرسا لهم ، للإضاءة ........ فقط .
#حامد_كعيد_الجبوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظاهرة الهروب الجماعية من السجون العراقية
-
الهروب عن اليسار الى اليسار في ( عرس الماي )
-
( رجعنا بخفي حنين )
-
البرلمان العراقي ومجالس المحافظات و الحاجة منهما
-
هل يخسر مظفر النواب العراق أم يخسر العراق مظفر
-
هموم وحلم جذاب
-
مراسيل الكلب*
-
إضاءة الشاعر فالح حسون الدراجي ومتابعة جادة
-
( أشلون باجه وينذكر تاريخها) وللقصائد قصصها أيضاً
-
سلام الله
-
يمه يا يمه
-
حبيت الوطن
-
رسائل متأخرة لبوش الإبن
-
عامر مضيف الحزب
-
الشهيد أحمد عيد
-
البرلمان العراقي ومجالس المحافظات و الدور التشريعي
-
(عرب وين طنبوره وين)
-
هل تسرق الثورات ؟
-
رفض بيع وشره
-
مشاهدات حيه
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|