|
المُتسكعون والمَجانين 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3135 - 2010 / 9 / 25 - 20:02
المحور:
الادب والفن
حضورٌ آخر، مُذكّر، حقّ له أن يُضافرَ من صُحْبَة المُنتزه، الحَميمة. ذلكَ كانَ بُعَيْدَ وصول " ريسور "، صديق عُمْر عَمّي. إنه رَجلٌ في مُنتصف الخمسين، غايَة في الظرف والمَرَح، مُهندَمٌ دوماً وفق الموضة الأكثر حَداثة. إنّ لونَ سحنته وشعره، يُفسّرُ ولا شك لغزَ كنيَته؛ التي تعني بالكرديّة " ذو اللحية الحمراء ". أبن أخي ضيفنا، كانَ أيضاً على صفة الشكل نفسها؛ هوَ المُتزوّج حفيدَة عمّتي، والمُثني بأختها إثرَ وفاة هذه التعسَة في عمليّة ولادَة، عَسرَة. أما عمّه، الغندور، فلم يُكن في حاجَة لزوجَة طالما أنّ عشيقاته بعدد زجاجات الخمر، المُهراقة في ليالي أنسه المُتتاليَة، اللانهائيّة. إحداهنّ، على أيّ حال، كانت ثمّة في " المَصطبَة " الرخيّة، المُتآلفة وشجو جَدول " بردى "، الخالد. قبل دزينة من السنين، عندما كانَ العمّ قد آبَ من رحلة الحجّ، قدَمَ صديقه " ريسور " لتهنئته بالسلامَة والتوبَة على حدّ سواء. وإذ بدأ الحاجُ يَعظ الصديقَ في عبَر الدنيا، الزائلة، وأهميّة أن يتوب إلى الله فيكوّن عائلة طيّبة؛ فإنّ هذا ما لبث أن هز رأسه وأجابَ: " معكَ حق، يا حاج. ويعلم الله أني تفكّرتُ ملياً بالأمر " " هه، خير إن شاء الله..؟ "، تساءل العمّ مُغتبطاً بسرعة اقتناع الآخر. فما كانَ من الصديق، العاصي، إلا إجابته بهدوء ورزانة: " اسمَعني، يا أخي. سأتزوّجُ وأتوبُ من ثمّ؛ تماماً كما فعلتَ أنتَ. ولكن، أريدكَ أن تعدَني بتحقيق هذا الرّجاء " " وما هوَ طلبكَ، أيها الأخ العزيز.. ؟ "، سأله عمّنا باهتمام. فقال صديقه بالنبرَة نفسها: " إذا متّ أنا أولاً، فإنكَ ستتزوّج امرأتي. وإذا متّ أنتَ قبلي، فإني أتزوّج امرأتكَ " " قمْ من قدّامي، أيّها العديم الناموس.. "، صاحَ الحاجُ بغضب فيما كانت هأهأة صديقه المَرحة، الماجنة، تتردّدُ في أجواء المنزل.
نرجيلة زاهيَة، مًضرَمَة الجمار، كانت مَبذولة لوَرَع العمّ، التائب. فيما زجاجة من الصّهباء الناريّة، المُحرّمَة، كانت من نصيب الضيف وعشيقته. هذه الأخيرَة، بما أنها كانت في حدود الأربعين من العمر، فلا غروَ إذاً أن يُلبَّس عليّ بخصوص صفتها، الحقيقية. فعندما عُدتّ إلى مَنزل مُضيفتنا، " أمّ محيو "، واستجوَبتني خالتي عما يَجري ثمّة، فإنني أجبتها ببساطة: " إنّ " ريسور " وزوجته في ضيافة عمّي، هناك في المصطبة " " زوجته..؟ "، ندّتْ باستغراب من فم المَرأة المُبرطمة، المَعروفة بغيرَتها الشديدة. برهة أخرى، وكنتُ شاهداً على الجَدَل المُعتمل في منزل العمّ، على شرف حضور " زوجة " صديقه ذاك. ولم يُخفف من غلواء الخالة، ما كانَ من تأكيد رَجلها عن نيّة الضيفيْن في مُغادَرة المكان بعد الغداء مُباشرَة ً. في واقع الحال، فإنّ جوابَ العمّ، الوَرع، كانَ على جانب من الإخبات فيما يخصّ النوايا: فإنه كانَ سيُرافق صديقه، الأثير، في الطريق إلى مُنتزه " عين الخضرَة "؛ طالما أنّ العشيقة كانت تعملُ راقصة ثمّة. عمّتي، كانت ثمّة في المنزل؛ هيَ الضيفة الثقيلة على قلب الخالة، المُتبَرّمة. سبّحَة طويلة، من خرز رخص، كانت مَطويّة في يَد العجوز الداهيَة؛ المُضيّقة على عالم طفولتنا، الواسع. النكال المُلحق بها من لدُن الخالة، كانَ يَجدُ لديّ رضا وتشفّ، خفيَيْن. ولم أكُ قد سلوْتُ بعدُ حقيقة، أنّ حضورَ هذه العمّة، المُقيتة، قد استنابَ عن مَحْضر حَفيدتها الشقراء ، الحَبيبة. من ناحيَة أخرى، فإنّ الصورة تلك، الحبيبة، كانت تتواشجُ أحياناً بصورة قرينة، مُبهرَة: " زينة "، الفتاة الحَسناء، التي راحَتْ تشغل فكري مذ اهتدائي إلى نجم عُريْها، الأسنى؛ ثمّة، تحت القنطرَة المُهيمنة على الجدول الكبير. ولكنه المَوقف الآخر، المبتدأ بالعراك مع الصبيَة المُعتدين والمُنتهي بنجدة أخي، من كان عليه أن يلفتَ نظر الحسناء إليّ. منذئذ، صارَتْ أكثر رقة لدى التقائها معي؛ هيَ الواجدَة صُحبتها مع أختي وابنة عمّي. وكان يجب أن يَنتصف النهار ذاك، الشاهد على زيارَة " ريسور " وصاحبته، لكي أدركُ سرَّ اهتمام " زينة "، المَوْصوف.
قبل تقديم الغداء، تفقدَ العمّ وجودَ " جينكو "، الغائب. على ذلك، تطوّعتُ بنفسي لكي أبحث عن الشقيق، الطائش. فما كانَ من " بروكا " إلا إبداء الرغبَة بمُرافقتي. اتجهَتْ خطاناً فوراً إلى ناحيَة الكهف، بما أنه سبقَ لي منذ نحو الساعة أن رأيتُ أخي ورفيقه يَمضيان إليه. الدرب الوَعرَة، المُستزرعة جوانبها بدوالي العنب، القصيرَة القامَة، ما لبثتْ أن أفضتْ بنا إلى سفح الجبل، الشديد الانحدار. ثمّة، على علو هيّن، كانَ يُمكن للمرء مُعايَنة المغارَة، الغابرَة القدَم، من خلال فتحاتها العديدة. قبل هذا اليوم، كانَ شقيق " زينة "، المُماثل لنا في السنّ، قد أشارَ إلى ذلك الأثر مُؤكداً أنه من الطول بحيث يتصل بمُنتزه " عين الفيجة "، البعيد نوعاً عن القرية. ما لم يكُ يَخطر لي بحال، أنّ شقيقة ذاك الفتى، الوَسيم، كانت ثمّة في الكهف نفسه. فما أن لاحَتْ هيئة أخي خلل إحدى الفتحات تلك، حتى تبعها ظهور شبح " قريبنة "، القابع إلى الخلف قليلاً. فتوجّهتُ نحوهما مُرتقيا ما تبقى من الدرب، الوَعرة. فما أن وَصَلتُ إلى المكان المَطلوب، حتى رأيتُ نظراتي مُحلّقة بأجنحَة الحيرَة بينَ " جينكو " و " زينة ". هذه الأخيرَة، كانت إذاك جالسة في مكان ظليل، حتى أنني لم أميّز شخصها من الوَهلة الأولى. رَفعتْ رأسَها عن عينيْن رائعتيْن، خضراوَيْن، رامقة إيايَ بإيماءة حلوة، باسمَة. كانت تتسلى عندئذ بسُبْحَة دقيقة، استعارَتها ولا شكّ من أخي. نجمُها المُتألق يومئذ بالتبسّط واللامُبالاة، الجليَيْن، فكّرتُ فيه لاحقا، في عُمْر مُتأخر ولا غرو؛ مُحيلاً ذلك إلى مَدار الرغبة الجسديّة، المُنتصرة. " جينكو "، كانَ كذلكَ في مَوْقع خاص من قلب العمّ، الكبير، مُذ أن كانَ بعدُ غلاماً غريراً. بتلك الصّفة، كانَ أخي مُعتاداً على المَخطرة بمَسلكه، طولاً وعرضاً، على مَرأى ومَسمع من العمّ؛ سواءً بسواء أكانَ ذلك في بساتين الحارَة أم خارجها: إنّ المُسدّس، الأوّل، الذي تملّكه الأخ، الأخرَق، في سنّ مُراهقته المُبكرة، كانَ المُفترَض فيه أن يكونَ سلاحَ حراسَة، حَسْب. فعمّنا، كانََ آنذاك يَضمنُ أحدَ أغنى البساتين تلك؛ وكانَ بالتالي بحاجَة، ماسّة، لملاك حارس على هيئة " جينكو "، المُرْهبَة. وها أنا ذا بصُحبة شقيقي، هنا في المُنتزه الأغرّ، وعلى الطاولة عينها المَنذورَة للعمّ وضيفه، السامي. بغيَة التهوين من مَظنة و ريبَة الخالة، كانَ وجود أبنيْ أختها ضرورياً في هذا المَخطر، الحافل، علاوَة طبعاً على قريبنا؛ " قرْبينة ". هذا الوجودُ، بطبيعة الحال، كان هوَ الأول بالنسبة إليّ. هكذا رأيتني، أنا غير المُتجاوز بعدُ سنّ الخامسة عشر، في مَلهىً ليليّ، مؤتلق بأنواره ومَوجوداته وكائناته. دَوْرَقُ الخمر، كانَ ينتقل أحياناً من قدّام الضيف، المَرح، إلى مُتناول يَد أخي ووصولاً من ثمّ إلى يَد قريبنا. وإذ كانَ العمّ يَغضّ بَصرَه، غالباً، بيْدَ أنه ما عتمَ أن فتحَهُ على وسعه مع ابتداء الوَصلة، الراقصة. أما صديقه، فإنه تماهى في مَسغبَة البدن اللدن، المُتراقص على إيقاع الموسيقى الشرقيّة؛ بدَن العشيقة ذاتها، التي كانت في صُحبته طوال هذا اليوم. وبلغ من ثمالة " ريسور "، وعربدته، أن نهضَ في غمرَة الوَصلة المَلحونة، الراقصة، هاتفا بالحضور وهوَ يُنزل بنطاله إلى أسفل: " ولكْ نيكوني.. نيكوني ".
نهاراً، كانَ ملهى المُنتزه يَستوي على مُنقلب آخر، أكثر حشمَة وتحفظاً. هنا، كانت عائلات المُصطافين، الشوام بمُعظمهم، تتراصفُ بدعَة حذاء الطاولات العديدة، التي تكون ذاخرة ً في العادة بأقداح شراب الفاكهة والمُرطبات. وكنتُ مع شقيقي وقريبنا، " قربينة "، في نهار تلا ليلة المجون؛ المُحتفيَة بالراقصة وعشيقها. هذه المرّة، فإنّ وجودَ " جينكو " قد شغلَ كوكبَة من الإناث، الفتيّات، المُنتميات لتلك العائلة نفسها، المُقيمة في المصطبة المقابلة لمجلسنا؛ هناك، في " بسيمة ". أخي العتيْ، عليه كانَ أن يَمْهُر ببلاغة رجولته، كما ووسامته، مَحْضرَ الحًسْن ذاك؛ ثمّة في بقعة الاصطياف، المُطلّة على النهر الثرّ. ففي يوم آخر، فائتْ، كادَ " جينكو " أن يفقدَ حياته على مَذبح تلك الفتيات، الجميلات. وكنا عند المصطبة عندئذ، حينما حضرَ أخي مع مُرافقه، المُرعب الهيئة. شاءَ " جينكو " إذاً أن يلفتَ نظرَ الحسان إلى مَبلغ جسارته، فما كانَ منه إلا أن بدأ يخلع ملابسه ببطء. ولما أضحى في سروال السباحَة، وقبل أن تندّ عن أمنا صرخة تحذير، إذا بالفتى الأخرق يقفز نحوَ الماء. تيارُ النهر، كانَ جامحاً إذاك، أنّ جملاً كانَ سيُسحب في مهلكته لو قدّر عليه أن يسيرَ خلله. عويلُ نسوَة أسرتنا، الفاجع، ما عتمَ أن اختلط بصراخ إناث تلك العائلة، الملولات. إلى أن تمكن أخي من النجاة بنفسه، بعدما تمسّكَ بشبكة بلاستيكية، كانَ بعضُ المُتنزهين قد دلاها في ماء النهر، وهيَ مُحمّلة بثمار البطيخ، المُبرَّدَة. بطلُ الواقعة، كانَ هنا إذاً؛ في منتزه " عين الخضرَة "، وعلى مَرمى من ملأ فتيات الأسرة الشاميّة، نفسها. هنيهة على الأثر، وتناهض أخي نحوَ جهاز الستيريو، واضعاً فيه قطعة من ربع ليرَة. فما لبث صوتُ عبد الوهاب، الشجي، أن صدحَ بأغنيته المشهورَة؛ التي يقول مطلعها: " ايمتى الزمان يسمح يا جميل ، أبقى معاك على شط النيل " ما أن انتهتْ الأغنيَة، حتى قام " جينكو " ثانيَة ً لإعادَتها من جديد. مرّة تلو الأخرى، كانَ الأخُ الأخرق يَهدُر نقودَه على قدَمَيْ مُطربه المُفضل وأنشودته، الأثيرة. وفي كلّ مرّة، كانت قهقهات الفتيات، المُشجّعة، تصاحب قيامَ وقعودَ فارس أحلامهنّ، الجَميل والجَسور.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثمرَة الشرّ: المُتسكعون والمَجانين
-
القبلة ، القلب 5
-
القبلة ، القلب 4
-
القبلة ، القلب 3
-
القبلة ، القلب 2
-
الأولى والآخرة : الخاتمة
-
الأولى والآخرة : مَزهر 13
-
الأولى والآخرة : مَزهر 12
-
الأولى والآخرة : مَزهر 11
-
الأولى والآخرة : مَزهر 10
-
الأولى والآخرة : مَزهر 9
-
الأولى والآخرة : مَزهر 8
-
الأولى والآخرة : مَزهر 7
-
الأولى والآخرة : مَزهر 6
-
الأولى والآخرة : مَزهر 5
-
الأولى والآخرة : مَزهر 4
-
الأولى والآخرة : مَزهر 3
-
الأولى والآخرة : مَزهر 2
-
الأولى والآخرة : مَزهر
-
الفصل السادس : مَجمر 11
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|