|
حول مفهوم الثقافة ... وأزمة الثقافة في فلسطين
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 947 - 2004 / 9 / 5 - 09:03
المحور:
القضية الفلسطينية
الحديث عن مفهوم محدد للثقافة ، أمر يفتقر للسهولة ، خاصة في عصرنا هذا الذي تتهاوى فيه كثير من النظم والأفكار والقواعد المعرفية ، فهي ليست موضوعا علميا واحدا ، بل هي مجموعة من العلوم الاجتماعية والتاريخية والفلسفية تتشابك معا في نسيج كلي مع ما توصلت إليه ثورة المعلومات والاتصالات والإنترنت والتكنولوجيا والعلوم المتقدمة ، مضافا إليها الانسان صانع هذه الثقافة ومبدعها ومتلقيها ، فالثقافة جملة ما يبدعه المجتمع على صعيد العلم والفن ومجالات الحياة الروحية الأخرى من أجل استخدامها في حل مشكلات التقدم العلمي ، أو هي "مجمل ألوان النشاط العملي والعلمي للإنسان والمجتمع وكذلك نتائج هذا النشاط ، بارتباطه بأشكال الوعي الاجتماعي : الفلسفة ، العلم ، الأيديولوجيا ، الأخلاق ، الدين ، الفن التي سيصيبها –فيما نعتقد- تغيرا عميقا بسبب هذه التطورات والمتغيرات النوعية الهائلة في البنية الثقافية على الصعيد الإنساني ، منذ العقود الأخيرة للقرن العشرين والى اليوم في سياق هذا التطور المتسارع للعلوم والتقانة أو تكنولوجيا المعلومات ، حيث أصبحت صناعة الثقافة والمعلومات من أهم صناعات هذا العصر بلا منازع .
على أي حال ، الثقافة كانت وستظل عنوان الوجود المجتمعي في مرحلة محددة –أو أكثر- من مراحل التطور ، تعكس طريقة أو أسلوب النشاط الإنساني الاجتماعي ، وعاداته وتقاليده وأعرافه وقيمه ومعتقداته وتصوراته تجاه الخير أو الشر أو باتجاه عالم الغيب وعالم الواقع ، فالثقافة ثمرة هذا النشاط المادي والروحي للمجتمع الذي يتحدد مستوى تطوره بطبيعية النمط (أو الأنماط) الاجتماعي السائد فيه .
و في عصرنا الراهن فإن الثقافة كلمة تطلق على قيم المجتمع ، و سلوكياته و أهدافه و نظمه الاجتماعية و قواعده الإقتصادية ، و علاقاته الإنتاجية السائدة بين أفراده ، و ما تفرزه هذه العلاقات من علاقات إجتماعية متباينة ، و إلى جانب كل ذلك ، فإن الثقافة تطلق أيضاً على جميع الأفعال و المتغيرات التي تعطي المجتمع طابعاً خاصاً بما في ذلك طريقته في النظر إلى الحياة أو التعامل معها .
بهذا المفهوم "الثقافي" يمكن التأكيد بأن العلاقات الاقتصادية جزء من النمط الثقافي العام ، و لعل نمط الاستهلاك السائد في ظروف العولمة الرأسمالية الراهنة ، خير مثال على بشاعة رأس المال المعولم ، الذي يتعاطى مع المجتمع البشري كله ، كوجود "مسلوب الارادة" محكوم لقوة رأس المال التي تسعى الى التحكم في مصائر الشعوب والأفراد دون أي اعتبار لجوع الملايين من البشر ، ودون أي اعتبار لاغتصاب الحقوق والعدوان واضطهاد الشعوب والاستيلاء على مقدراتها من أجل تحقيق هدفها الوحيد : تسهيل سير عملية التوسع والتراكم الرأسمالي ضمانا لمقومات القوة لدى الطغمة الحاكمة في بلدان المركز الرأسمالي ، وحليفتها إسرائيل والحركة الصهيونية في بلادنا ، ولئن نجحت هذه القوة الرأسمالية المعولمة ، وحليفتها وركيزتها اسرائيل والحركة الصهيونية في بلادنا ، في فرض "ثقافة السلام" أو الاستسلام والتطبيع عبر اتفاقات كامب ديفيد ، وأوسلو ، ووادي عربة من جهة ، وعبر إضعاف العمل السياسي-الاجتماعي والثقافي الطليعي والجماهيري العربي وتراجع فاعليته الاجتماعية لحساب مفاهيم التخلف والليبرالية الهابطة والخصخصة والاستهلاك ، فليس معنى ذلك نهاية أو موت النقيض ، الإنساني ، الاشتراكي ، بالعكس تماما ، إنه يعني المزيد من المعاناة والحرمان والفقر والتبعية ، ويعنى المزيد من الانهيارات والتراجعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وكلها مظاهر تصيب بالضرر البالغ والمباشر مصالح الجماهير الشعبية وتضاعف همومها ومعاناتها ، بحيث يصبح استمرار هذه الأحوال في إطار "ثقافة السلام" أو ثقافة الاستهلاك و التبعية والخصخصة ، والسياسات الليبرالية ، أمرا اكراهيا بصورة مطلقة ، لا يمكن أن يتوافق مع تطلعات الأغلبية الساحقة من الجماهير للخلاص والانعتاق ، عبر قوى التغيير والتحديث التي يجب ان تجد في مثل هذا المناخ فرصتها في تجديد ذاتها وتفعيل قواها المنظمة ، وتحديث فكرها الانساني الاشتراكي المدرك لحقائق الواقع العربي أولا ، وحاجته الى الثورة في الثقافة والفكر على قاعدة الهوية العربية دون سواها ثانيا ، والثورة الديمقراطية الاجتماعية ثالثا ومواكبة متطلبات العلم وثورة المعلومات والتكنولوجيا رابعا ، وتسخير نشاط هذه الحقائق عبر الإطار السياسي الوطني والقومي –الذي يقوم على أولوية مصالح الأغلبية الساحقة من الجماهير أو الطبقات الكادحة الفقيرة ، كمحور وحيد في منظومتنا الفكرية الاشتراكية المتجددة ، النقيضة لمنظومة التخلف بكل صوره وأدواته من جهة ، والليبرالية وهيمنة العولمة من جهة أخرى .
وهنا بالضبط تكمن مهمة المثقف الملتزم في فلسطين أو في سائر أقطار الوطن العربي ، التي لا تقوم على تبرير الوضع القائم واضفاء الشرعية السياسية أو الفكرية عليه ، بل ممارسة النقد الجذري لما هو كائن التزاما بما ينبغي أن يكون وفق قواعد ومنهجية تحديث العلم والوعي التنويري الاجتماعي عبر تغيير العلاقات الاجتماعية السائدة ، فالمثقف الحزبي الماركسي الملتزم –في رأينا- هو الشخصية المفكرة على نحو نقدي ، إذ أن الماركسية هنا هي شرط للمثقف باعتبارها أعلى أشكال الفلسفة العلمية النقدية التغييرية ، فهي تنقل السياسة –كما يقول مهدي عامل- من السر الى العلن لتصبح فعلا اجتماعيا ينقض ويجابه الاحتكار والظلم بكل أشكاله الوطنية والطبقية ، والسياسة بهذا المعنى ، الماركسي ، صراع شامل بين طبقتين أساسيتين ، -المستغلين والمستغلين- هذا الصراع يشمل السلطة والاقتصاد والعلوم والثقافة عموما ، والأيديولوجيا بصورة خاصة باعتبارها –كما يقول ماركس- القاعدة التي يستطيع الناس من خلالها أن يعوا حقيقة الصراع من حولهم وأن يشتركوا في مباشرته لتغيير واقعهم .
الحالة الثقافية في فلسطين :- مع اقرارنا باستمرار تراكم عوامل الأزمة الشمولية أو البنيوية بأبعادها التاريخية ، والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في بلادنا ، فإن تشخيص أزمة الثقافة الفلسطينية –كجزء عضوي من الثقافة العربية- لا يعدو أن يكون توصيفا لوجه من وجوه تلك الأزمة ، وهو وجه لم يكن قادرا ، طوال التاريخ الحديث والمعاصر –عبر هياكله وشخوصه- على تفعيل أدواته الثقافية أو المعرفية تفعيلا رائدا رئيسا في السياق التحرري والنهضوي إن على الصعيد القطري أو على الصعيد القومي العام . فالفجوة تزداد اتساعا بين المثقف والواقع ، بحيث يتبدى أن المثقف في واد والواقع في واد آخر .
وقد نتفق على أن هذا المشهد الثقافي المأزوم يعود الى عوامل موضوعية ترتبط بعملية التطور الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي الأبوية المشوهة لمجتمعاتنا العربية ، التي رسخت –عبر الأنظمة أو المؤسسة الحاكمة- مفاهيم وأدوات السيطرة والاستبداد والخضوع في سياق إعادة إنتاج التخلف والتبعية التي دفعت بدورها الى مزيد من التهميش والفقر والحرمان لجماهيرنا ، ومزيد من التفتت والنزعات المدمرة ذات الطابع العصبوي العشائري والحمائلي والفئوي والطائفي وغير ذلك من العصبيات الموروثة والمستحدثة بمختلف أشكالها وأجهزتها .
هذه العوامل الموضوعية ، لم تكن معزولة عن أدواتها أو روافعها الذاتية المتمثلة في أولئك المثقفين الذين صاغتهم الأنظمة أو المؤسسة الحاكمة أو بلدان المراكز الرأسمالية ، لتبرير الوضع القائم وإضفاء شكلا باهتا من الشرعية السياسية أو الأيديولوجية عليه ، في سياق ثقافة السيطرة والخضوع والتطبيع ، التي أصبحت تبرر ثقافة السلطة بديلا لسلطة الثقافة ، انسجاما مع مفهوم دولة السلطة الذي ترسخ في بلادنا خلال السبع سنوات العجاف الماضية بديلا لمفهوم سلطة الدولة.
وبالرغم من هذا المشهد المأزوم ، فإننا لا يمكن أن نتجاهل رؤية جماهيرنا الشعبية ، عبر وعيها العفوي وهمومها اليومية ، لجوانب هذا المشهد وضغوطاته وتأثيراته السلبية والايجابية عليها ، فهذه الجماهير –أولا واخيرا- هي التي دفعت وتدفع الثمن الباهظ جدا لكل نتائج هذا المشهد أو المسار الراهن للسلطة في بلادنا –كما للنظام العربي برمته- سواء على صعيد المقاومة والمجابهة أو على صعيد التفكك والإحباط الاجتماعي والسياسي الداخلي ، هذه الثنائية المتناقضة أو المفارقة هي ولا شك ، ناتجه عن الظروف التي عايشتها جماهيرنا الشعبية –منذ بداية القرن العشرين الى يومنا هذا ، في صراعها ومجابهتها الشجاعة للعدو الصهيوني والقوى الاستعمارية والإمبريالية من جهة وفي خضوعها لنظام القهر الطبقي والاستبداد والتخلف الداخلي من جهة أخرى .
فالظروف التي سادت طوال السبع سنوات الماضية ، وفي ظل سيطرة أجهزة أو دولة السلطة –بديلا لسلطة الدولة- لاحظنا وعايشنا كثيرا من مظاهر الهبوط والتراجع السياسي والثقافي والمجتمعي حيث بات ممكنا ، تفكك الكل الى أجزاء ، فاصبح الانتماء الجهوي بديلا عن المواطنة ، في مناخ عام تسوده روح الإحباط والنفاق والثقافة الهابطة بديلا لروح المقاومة والشجاعة وثقافة المقاومة والتغيير ، فقد استطاعت هذه السلطة الفردية المحكومة بمصالح وآليات البيروقراطية المتحالفة مع الشرائح الرأسمالية الطفيلية والكمومبرادورية وكبار الملاك من أصحاب الثروات القديمة والمستحدثة ، أن ترد المجتمع الفلسطيني –في معظمه- الى وضع الرعية المستسلمة أو الخاضعة أو المستفيدة ، وهو وضع لا ينتج سوى مجتمعا مسكونا بالذل أو الإحباط أو القلق ، لا سياسة ولا ثقافة فيه سوى سياسة التطبيع وثقافة الأجهزة ورموز التخلف العائلي والحمائلي والجهوي والمناطقي التي مهدت لبدايات انقسام مجتمعي عميق وكريه بتفريعاته أو عناوينه المتباينة –الخافتة أو المستترة حتى اللحظة- تتوزع بين لاجئ ومواطن وعائد ومقيم في إطار الانقسام الاجتماعي الداخلي الخطير الذي يتناول الحديث عن مجتمع في الضفة وآخر في قطاع غزة.
في هذه الأحوال السياسية والمجتمعية والثقافية الهابطة وبسبب ضغوطاتها ، أصبح مجتمعنا خلال هذه السبع سنوات في حالة كاد الحلم فيها أن يغيب ، حينما اختلط فيها المعلوم بالمجهول بسبب عمق ضبابية الحاضر وغياب الرؤية والوضوح لمعالم المستقبل وهي حالة لا نعتقد أن شعبنا سبق له أن عاش مثلها في كل تاريخه الحديث والمعاصر .
أيضا وفي ظل هذه الأحوال ، أصبحت مفاهيم الانفتاح والليبرالية –لدى النخبة- مقبولة وجائزة ومرحبا بها في عالم ثقافة السلام التي تروج لها بعض المنظمات غير الحكومية ، كما في عالم الاقتصاد والسوق .
ولكن رغم كل ضغوطات هذا المسار أو الرسم البياني الهابط طوال السبع سنوات المنصرمة ، ورغم اتساع الهوة بين شعبنا من جهة وقيادته في السلطة من جهة أخرى ، لم يفقد هذا الشعب وعيه الوطني العفوي ، ولم يستسلم رغم كل مظاهر الإحباط واليأس من حوله ، واستطاع التعبير عن كوامنه الداخلية بصور ووسائل مختلفة ، تراوحت بين النكتة السياسية والحديث عن رموز الفساد وتداول المنشور السري ، وكان كل ذلك مظهرا من مظاهر الثقافة الشعبية في قاع المجتمع في مواجهة ثقافة السلطة وممارساتها .
ومع تفاقم أزمة التسوية السياسية ووصولها الى المأزق الذي تفجر عبر انتفاضة أيلول 2000 ، برز دور جماهيرنا الشعبية الكادحة في التصدي للعدوان الصهيوني وفي التمسك والثبات والتضحية دفاعا عن المشروع الوطني الفلسطيني ، هذه الجماهير التي أكدت من جديد على وحدة الأرض والشعب والقضية كقاعدة مادية للفكرة التوحيدية لثقافة المقاومة المرتبطة حاضرا ومستقبلا بالثقافة القومية وركائزها الفكرية التوحيدية ، كمناخ عام ، أو صحوة ، أو وعي جديد بضرورة خلق المسار النقيض لمسار ما قبل الانتفاضة ، ليس في الإطار السياسي-الاجتماعي الفلسطيني فحسب ، وإنما في الإطار السياسي-الاجتماعي العربي المحيط ، فاعتمادا على هذا المناخ الذي ولدته انتفاضة جماهيرنا الشعبية الفلسطينية ، يجب التوقف أمام منعطفاته ومدياته المستقبلية بهدف المزيد من الفعل المقاوم في مواجهة العدو الصهيوني من جهة ، وباتجاه تغيير الأوضاع الداخلية الهابطة من جهة أخرى ، وكذلك المزيد من إعمال العقل السياسي في المتابعة المثابرة لكافة التفاصيل والمعطيات والعوامل الداخلية والخارجية ، للتوقف الواعي واعادة النظر فيما يجري لمحاولة الوصول الى المعادلات الجديدة التي يجب أن نقوم بصياغتها وفق المتغيرات المتسارعة والبطيئة من حولنا ، لكي نحول دون الجمود أو التسيب ، ولكي نحدد الصيغ والعلاقات بين ما هو خاص أو قطري ، وبين ما هو عام أو قومي ، حيث نمتلك الوضوح في كيفية التصرف تجاه الواقع المتغير ، فالانتفاضة بما هي عليه ، خلقت مناخا وجسرا لنا نحو تفعيل وترسيخ أهدافنا الوطنية الديمقراطية ، بمثل ما خلقت مناخا وجسرا للسلطة الفلسطينية نحو أهداف أو غايات لا تتطابق مع أهدافنا بأي صورة من الصور ، رغم تقاطعها في هذا الجانب أو ذاك ، وهنا تتبدى أهمية دورنا ، وعبء مسئوليتنا في استمرار ثقافة المقاومة والفكرة التوحيدية التي طرحتها الانتفاضة ، ببعديها الفلسطيني والعربي حقا ، بما يحول دون ان تتحول الانتفاضة الى حلقة مغلقة من حلقات نضال شعبنا لا يمكنها ان تتصل أو تتواصل مع ما بعدها من حلقات وذلك يحتم علينا إدراك حجم هذه المسئولية ، وادراك طبيعة ذلك الدور المستند الى رفض الاستسلام لهذا الواقع ، والبحث عن عوامل النهوض للقوة الجماهيرية الفلسطينية والعربية ، واعادة الاعتبار للعمل السياسي المنظم الذي يحفز الجماهير الشعبية للاهتمام والتفاعل بالقضايا الوطنية والمجتمعية العامة في إطار متداخل وموحد ، وكذلك العمل على اعادة الاعتبار للفكر القومي العربي في صيغته المتجددة المتوافقة مع متطلبات العصر الجديد الراهن ، وذلك كله مرهون بدور جبهتنا في إعادة وصل ما انقطع في علاقة السياسة بالثقافة ، بمعنى التفاعل بين الوعي الطليعي والوعي العفوي بما يتيح إنتاج عمل معرفي سياسي ثقافي مرتبط بصورة مباشرة بالواقع المعاش ، يملك القدرة على فهم واستيعاب وتغيير هذا الواقع دون الرضوخ لسوداويته أو تعقيداته التي تعمقت خلال السبع سنوات الماضية ، بحيث بات أحد أهم اوجه أزمة ثقافتنا الراهنة يتمثل في غياب الدور الاستراتيجي الفعال لأحزاب التيار الديمقراطي عموما ، وجبهتنا بصورة خاصة في ممارسة الوعي –المتجدد والمعاصر- الثقافي والأيديولوجي ، ومن ثم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للجماهير ، عبر دور مركزي ريادي يحدد مسيرة ومسار الحركة الجماهيرية والنقابات والمنظمات الأهلية غير المرتبطة ببرامج حكومات مراكز الرأسمالية العالمية ، هذه الرؤية قد تثير خلافا إشكاليا مع بعض مثقفينا في هذه المرحلة ، ممن يراهنون بشكل أحادى على البعد الثقافي النخبوي المجرد سواء عبر استقلاليه فردية أو دور ذاتي خالص في منظمات أجنبية تستهدف –وفق برامج محدده سلفا- تحجيم العلاقة بين الحزب والمثقف ، خاصة في أوساط اليسار الفلسطيني (والعربي عموما) لحرفها عن منطلقاتها الثقافية و الأيديولوجية لحساب ثقافة الهبوط باسم الليبرالية و الإنفتاح و الديمقراطية الشكلية و حقوق الإنسان أو أي عنوان آخر تحت هذه الأغطية طالما تحقق هدف انسلاخ هذه المنظمات غير الحكومية و عدم ارتباطها المباشر بأي حزب من الأحزاب الديمقراطية و القومية التقدمية المناهضة لثقافة الليبرالية و الانفتاح ، بما يؤكد تقييم المفكر العربي سمير أمين الذي اعتبر أن "الطفرة في المنظمات غير الحكومية تتجاوب إلى حد كبير مع استراتيجية العولمة الهادفة إلى عدم تسييس شعوب العالم ، و هي انسجام أو إعادة تنظيم لإدارة المجتمع من قبل القوى المسيطرة" .
و في هذا السياق فإننا لا يمكن أن نغفل دور بعض المثقفين الذين يحاولون الإسهام بدورهم عبر إبداعهم الثقافي أو المعرفي الخاص ، رغم وعينا بأهمية تواصل و تشابك الإبداع المعرفي الخاص بالبعد العام أو الإطار الجمعي مع إدراكنا الواعي أيضاً أن تطور الأوضاع الثقافية و الاجتماعية باتجاه مصالح الجماهير الشعبية مرهون بدورنا في تفعيل التيار الديمقراطي كقطب ثالث ، و قيادته و اتساع سيطرته بصورة منظمة في داخل الوعي الثقافي الشعبي العفوي أو الاعتيادي بما يجعل من هذا التيار قوة جماهيرية مؤثرة قادرة على تحجيم و إضعاف الشرائح الطبقية الكومبرادورية و البيروقراطية و الطفيلية السائدة اقتصادياً من جهة ، و إلغاء دورها المهيمن على الصعيد السياسي والثقافي من جهة أخرى .
أبرز المظاهر المجتمعية – الثقافية خلال السبع سنوات الأخيرة : 1- إن التطور الاجتماعي – الثقافي خلال هذه الفترة ، قاد بصورة تراكمية متسارعة عموماً ، العديد من الجماعات و الأفراد عبر حراك اجتماعي مفاجئ و غير طبيعي نقلهم من حالة الإنتماء إلى القاعدة الشعبية ، بالمعنى الاجتماعي و السياسي الوطني ، إلى الإنتماء إلى الشرائح أو "الطبقة" النقيض ، عبر امتلاكهم غير المشروع ، الطفيلي ، لثروات طارئة أو مستحدثة دفعت بهم إلى تغيير نوعي سالب في مسارهم السياسي من جهة ، و تغيير نمط حياتهم و سلوكياتهم بما يتوافق مع أوضاعهم الجديدة الطارئة من جهة أخرى . 2- تزايدت مظاهر التخلف الاجتماعي بصورة غير مسبوقة ، خلال هذه المرحلة القصيرة حيث تراجعت العلاقات الاجتماعية – و الثقافية و السياسية القائمة على أساس المشروع الوطني والتماسك المجتمعي و العمل المنظم (الفصائلي و الحزبي في إطار م.ت.ف) ، لحساب العشيرة و العائلة و الحمولة ، و ما يعنيه ذلك من بروز قيم النفاق والتفكك الاجتماعي والانحطاط والفوضى والإحباط بديلاً لقيم التكامل و التضامن و المقاومة والتوحد في الوعي الوطني والاجتماعي . 3- تراجع الحالة السياسية في مجتمعنا ، فبعد أن خلقت انتفاضة شعبنا 1987/1993 ، عنوان المجتمع السياسي الفلسطيني ، بفضل الدور التوحيدي الفعال لأطراف الحركة الوطنية مع جماهيرنا في إطار م.ت.ف و شعارها التوحيدي المركزي في تلك المرحلة ، نلاحظ تراجع هذا المجتمع السياسي خلال السبع سنوات الأخيرة ، ليس لحساب تفعيل دور المجتمع المدني الديمقراطي والعدالة الاجتماعية ، و إنما لحساب مجتمع الفوضى والانفلاش والفساد والفجوات الاجتماعية الواسعة والبذخ و الجرائم ، المحكوم بصورة مركزية بيروقراطية فردية ساهمت – عبر ممارساتها – في هذا التراجع الذي أدى إلى تفكك الشعار التوحيدي – السياسي – الثقافي – المجتمعي ، الناظم لحركة الجماهير ، هذه الحالة غيبت من ذهنية جماهيرنا الشعبية ، الاحساس العميق بمفهوم الدافعية الذاتية أو الحوافز الايجابية الوطنية العفوية ليحل محلها مفاهيم أو قيم الأنانية و المصالح الخاصة و المحسوبيات و غير ذلك من القيم الهابطة . 4- في ظل تراجع المجتمع السياسي ، و الأفكار الوطنية و القومية التوحيدية ، تعمق التباين الموضوعي في العلاقات الاجتماعية بين الضفة و القطاع ، فالمعروف أنه رغم الطابع الريفي للضفة ، إلا أن المسار التطوري بالمعنى الحضاري – الثقافي العام كان مميزاً – و ما زال – عنه في قطاع غزة ، و بفعل هذا المسار ، تأسس في الضفة طوال الثلاثين عاماً الماضية العديد من المؤسسات و الجامعات و الجمعيات و النوادي ، و العديد من الصحف و المجلات السياسية و الثقافية و الأنشطة الطوعية والمنظمة ذات الطابع الديمقراطي المدني ، في حين افتقر قطاع غزة الذي تسوده العلاقات الاجتماعية المدينية المتخلفة و المهمشة و الرثة ، لمثل هذه الأنشطة ، و يعود ذلك كما يبدو إلى حالة الفقر المادي و المعاناة الحياتية التي عززت الفقر الثقافي و السياسي المدني بصورة شبه مطلقة ، إذ لم يعرف القطاع إصدار جريدة أو مجلة سياسية أو ثقافية طوال فترة الاحتلال و إلى يومنا هذا ، و يبدو ان العمل السياسي و المدني الجماهيري المنظم قد تعطل في القطاع لحساب تصاعد ظاهرة العمل المسلح الذي كان ظاهرة مميزة – إلى حد ما وفي مرحلة محدده – فيه انسجمت مع ظروفه الموضوعية .
هذا التباين الموضوعي في العلاقة بين الضفة و القطاع يتعمق اليوم في سياق مظاهر الهبوط بما قد يؤدي إلى خلق شكلين من الوعي السياسي و الثقافي إلى جانب الاجتماعي في كل منهما ما لم نتدارك هذه المظاهر عبر العمل السياسي الطليعي المنظم و الجماهيري المتجدد في وسائله وأدواته التنظيمية والفكرية ، الحامل لبرنامج وطني ديمقراطي يعيد تفعيل الشعارات التوحيدية الناظمة لشعبنا في الوطن و الشتات . 5- في هذه المرحلة يأخذ الشعار أو القول الثقافي باسم "زمن السلام" المفترض ، عمومية مبرمجة و عميقة – بتراكمات بطيئة بالطبع – عبر شعارات الإنفتاح في إطار السلطة الفلسطينية وبعض المنظمات غير الحكومية و التعاطي مع الواقع أو الزمن الجديد ، و هي شعارات حلّت – في جزء من الذهنية الشعبية – محل شعارات الثقافة الوطنية ، أو زمن ثقافة المقاومة ، و أدواتها من الأغنية الشعبية ، و الصحيفة أو المنشور السري و مظاهر الاعتزاز بالتراث الشعبي و الكفاحي …الخ التي توازت مع دور فصائل و أحزاب الحركة الوطنية الفلسطينية في إطار م.ت.ف التي قادت طوال ما يقرب من ثلاثين عاماً الفعل السياسي و النضالي و الثقافي في مجتمعنا دون أي منازع . 6-في هذا المناخ السائد – في السبع سنوات الأخيرة- كان من الطبيعي أن تتواجد و تتراكم ثقافة الهبوط ، لأسباب و عوامل متنوعة ، يبرز من أهمها في تقديرنا ، حالة السيطرة و الخضوع التي تغلغلت في صفوف أبناء شعبنا إذ أن الثقافة الناتجة عن السيطرة و الخضوع ، الأبوي أو البطريركي أو الفردي الأوتوقراطي لا يمكن ان تكون ثقافة جماهيرية تنتج الوحدة و التماسك الداخلي ، بل تنتج و تولد باستمرار مزيداً من الثقافة المأزومة . في ضوء ما تقدم ، كان من الطبيعي أن تتعرض الحياة الثقافية لحالة من الفوضى و تراجع الأهداف الثقافية الوطنية و القومية و الإنسانية التقدمية ، لحساب الهبوط العام ، و الاختلال الواضح بين فروعها الجغرافية و الاجتماعية في الضفة و القطاع يدلل على ذلك عدداً من المؤشرات :- أ-"بلغ عدد المراكز الثقافية المرخصة في الضفة و القطاع (179) مركزاً ، لا يعمل منها سوى نسبة 46% فقط ، و من هذه المراكز العاملة 71% في الضفة و الباقي في قطاع غزة ، و توزعت مراكز الضفة بنسبة 49% في جنوبها و 41% في شمالها ، خاصة في محافظة نابلس التي يوجد فيها تقريباً ثلثا المراكز الثقافية العاملة في شمال الضفة و يقع أكثر من 58% من المراكز الثقافية العاملة في قطاع غزة في مدينة غزة و شمال القطاع ، و قد توزعت نشاطات هذه المراكز في المجالات التالية :دورات تدريب عامة بنسبة 38% ، و ندوات بنسبة 32% ، و عروض و معارض فنية بنسبة 30%. والمفارقة أن 76% من مجموع الندوات و المحاضرات و الدورات تم تنظيمها بإشراف المنظمات غير الحكومية ، 14% من قبل وزارات السلطة و مؤسساتها ، 10% من قبل الأحزاب و الفصائل السياسية ، أما بالنسبة لورش العمل فهي تزيد عن ألف ورشة سنوياً (سبق لجريد الأيام أن رصدت نحو (40) ورشة عمل في شهر حزيران 1998 ) ، و في تقديرنا فإن نسبة لا تقل عن 90% من هذه الورش بعناوينها و مسمياتها و الحضور المتكرر لنفس الشخوص فيها ، نظمته المنظمات غير الحكومية أيضاً ، لم تترك أثراً إيجابياً ملموساً بالنسبة للمستهدفين من هذه الورش و الندوات ، خاصة في الأرياف و المخيمات و المناطق الفقيرة التي لا يمكن ان "يحك جلدها إلا ظفرها" ، والتي لا يمكن ان يحس بمعاناتها ويناضل من اجل قضاياها إلا أولئك الذين اكتوت أجسادهم ونفوسهم بنار المعاناة عبر المعايشة والالتزام الحزبي والنضال الطوعي الاختياري دون أي ثمن أو مقابل مادي . ب-هناك العديد من المراكز البحثية في الضفة الغربية ، و بعضها قدم أبحاثاً و دراسات موضوعية مميزة ، مثل المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية (مواطن) ، ومعهد أبحاث السياسات الاقتصادية "ماس" ، الى جانب مراكز أخرى مثل الملتقى الفكري العربي في القدس ، و مركز البحوث و الدراسات الفلسطينية في نابلس ، و مؤسسة الدراسات المقدسة في القدس ، و الجمعية الأكاديمية الفلسطينية للشؤون الدولية (باسيا) في القدس ، هذا عدا عن المراكز البحثية في الجامعات الفلسطينية ، خاصة مركز أبحاث و برنامج دراسات التنمية و معهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت ، و هي من أبرز الجامعات الفلسطينية و أكثرها فعالية في هذا الجانب ، بعكس الجامعات الأخرى في الضفة و القطاع بشكل عام ،التي لا يوجد فيها مراكز بحثية متخصصة و خاصة جامعة الأزهر التي مضى على تأسيسها أكثر من عشر سنوات ، و في تقديرنا فإن هذا الدور غير المؤثر – بالمعنى الإيجابي – للجامعات في بلادنا سواء بالنسبة لتفعيل الحياة الفكرية و التنوير من جهة ، و عجز معظمها عن الإسهام الريادي في إنتاج المعرفة و تعميم الثقافة الوطنية و العلمية العقلانية من جهة أخرى ، يعود في أحد أهم أسبابه الى طبيعة نظام السيطرة المطلقة في السلطة الفلسطينية و ما يستند إليه من مقومات أو أجهزة أقرب إلى الولاء الفردي و الإستزلام بعيداً عن شكل و جوهر العمل المؤسسي الديمقراطي المطلوب من جهة ، و أكثر بعداً عن البرمجة و البحث و الإدارة الصحيحة و المنهجية العلمية ، و في مثل هذه الأوضاع المحكومة بثقافة السيطرة و الخضوع ، تتضاءل الفرص أمام أصحاب الرؤى الموضوعية من الأكاديميين و المثقفين الروّاد ، لحساب مجموعة المصالح الشخصية من بعض الأكاديميين الذين وجدوا في رموز السيطرة و ثقافتها مجالاً رحباً لتجديد إنتاج الثقافة المأزومة توافقاً مع مصالحهم المادية الأنانية الضيقة . ت-الصحف و المجلات : حتى منتصف عام 2001 ، لا يوجد في الضفة والقطاع سوى ثلاث صحف سياسية يومية ، تصدر كلها في الضفة الغربية ، وهناك صحيفتان سياسيتان تصدرهما إدارة التوجية المعنوي في قطاع غزة ، يتم توزيعهما مجانا على الدوائر والجهات الرسمية ، الى جانب عدد لا يزيد عن ثلاث صحف محلية في مدينتي رام الله والبيرة . وبالنسبة للمجلات ، فتبلغ حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (42) مجلة صدر 80% منها في الضفة الغربية ، والباقي في قطاع غزة ، هذا وقد صدرت مؤخرا –نهاية عام 2000- مجلة سياسية فكرية متخصصة عن هيئة الاستعلامات الفلسطينية ، هذا وتشير معطيات المسح الثقافي للإحصاء المركزي (سبتمبر 96) ان 30,9% من الأفراد الذين تزيد أعمارهم عن 9 سنوات في المجتمع الفلسطيني ، يطالعون الصحف ، تتوزع هذه النسبة على الضفة 36,2% ، وتهبط في قطاع غزة الى 20,3% . ث. الإذاعة و التلفزيون : عدا عن تلفزيون فلسطين ، الذي يبث من مدينة غزة ، بلغ عدد محطات التلفزيون حتى عام 1998 ، (29) محطة محلية صغيرة ، تم إغلاق بعضها – بأمر من وزارة الداخلية – في عام 1999 ، توزعت هذه المحطات على النحو التالي :(9) في مدينة نابلس ، (2) في جنين و قلقيلية ، و (4) في طولكرم ، (5) في رام الله و (7) في جنوب الضفة ، و لا يوجد أي محطة تلفزيونية محلية في قطاع غزة ، وقد أظهر استطلاع الرأي – المنشور في جريد القدس 28/1/99 – الذي أجراه مركز القدس للإعلام و الإتصال في القدس أن نسبة مشاهدي تلفزيون فلسطين بين الأسر الفلسطينية التي لا تمتلك لاقطاً فضائياً في قطاع غزة ، أعلى بكثير من مثيلتها في الضفة الغربية ، إذ بلغت 65% و 13% على التوالي ، و بالنسبة لتفضيل تلفزيون فلسطين بين كل من الضفة و القطاع ، تدل البيانات على أن "حوالي 13% فقط من سكان الضفة الغربية يفضلون تلفزيون فلسطين للتسلية و الأخبار ، مقابل حوالي 70% في قطاع غزة يفضلونه للتسلية ، و 63% للأخبار ، و للمقارنة فإن ربع الأسر الفلسطينية تفضل محطة إسرائيل كمصدر للأخبار ، و بالنسبة للتلفزيون الأردني فإن نصف الأسر الفلسطينية في الضفة الغربية تفضله كمصدر للتسلية ، أما بالنسبة للفضائيات فإن 80% من الأسر الفلسطينية يفضلون قناة الجزيرة ،بينما تقل نسبة الذين يفضلون محطة فلسطين الفضائية للإستماع للأخبار عن 1% في الضفة و القطاع ، و في هذا السياق فإن 31% من الأسر التي تمتلك تلفازاً في الضفة و القطاع ، تقتني لاقطاً فضائياً (عام 99) ، ارتفعت في تقديرنا إلى أكثر من 35% عام 2000 ، و2001 على أثر الانتفاضة . ج- المكتبات و الحاسوب و المسارح و النوادي الرياضية : حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء ، فإن مجموع المكتبات العامة للكبار في الضفة و القطاع (13) مكتبة ، منها 12 في الضفة ، و قد افتتح مؤخراً (بداية عام 2001) مكتبة عامة للكبار في غزة تشرف عليها بلدية غزة ، و حسب نتائج مسح الثقافة التي أعدها الجهاز المركزي في أيلول 96 ، فإن 22,1% من الأسر في الضفة الغربية ، و 24,9% في قطاع غزة لديها مكتبة بيتية ، و بينت أيضاً أن 25,1% من الأسر في المدن يتوفر لها مكتبة بيتية و 18,8% في القرى و 31,8% من المخيمات ، و المفارقة التي أوضحتها نفس النتائج بالنسبة للأنشطة الثقافية البيتية تبين أن نسبة تداول الأحاديث القديمة والأساطير تصل إلى 24% من الأسر في الضفة و القطاع ، و 62,2% في الروايات و القصص المتوارثة ، و 61,8% في الحكايات و 55,5% في الأقوال المأثورة ، بالنسبة لمكتبات الأطفال التي تشرف عليها وزارة الثقافة ، فلا تتجاوز 57 مكتبة ، 70% منها موجود في الضفة الغربية ، أما المتاحف فقد بلغ عددها عام 1998 تسع متاحف كلها موجودة في الضفة (القدس و نابلس و بيت لحم و الخليل و رام الله) ، كما يوجد سبعة مسارح ، خمسة منها في مدن الضفة ، و اثنان في قطاع غزة ، و حسب الجهاز المركزي للإحصاء – إحصاءات الثقافة 1998 ، فإن هذه المسارح قدمت 157 عرضاً مسرحياً ، 93% منها في الضفة الغربية ، أما بالنسبة لاقتناء الكمبيوتر فإن 9% من أسر الضفة تملك جهاز كمبيوتر ، في حين لم تتجاوز النسبة 3% في قطاع غزة ، و بالنسبة للإتصال بشبكة الإنترنت فإن النسبة لا تتجاوز 1% من أسر الضفة ، و تهبط إلى 0,1% في قطاع غزة حسب بيانات المراقب الإجتماعي المشار إليه . و فيما يتعلق بالنوادي الرياضية ، التي يبلغ مجموعها في الضفة و القطاع 320 نادياً رياضياً (حسب إحصاءات الثقافة 1998) ، 88% منها في الضفة الغربية ، 12% في قطاع غزة ، أما المراكز و النوادي النسوية فقد بلغت 18 نادياً و مركزاً جميعها في الضفة الغربية .
هذه هي الصورة العامة ، للمشهد الثقافي ، و هي صورة تتراكم فيها البيانات و الأرقام الكمية التي لا تعني بالضرورة وجود التوازن الفعلي بين المعطيات الكمية و الحالة أو التأثير النوعي لكل منها ، إذ أن حصيلة التأثير النوعي – في تقديرنا – اتسمت بالإرباك و العمومية وضعف المشاركة سواء في المكتبات أو النوادي والمراكز الثقافية ، في سياق استمرار حالة الهبوط الإجتماعي و السياسي الذي لا يمكن أن تنتج إلا مزيداً من الحالة الثقافية الهابطة المتناسبة مع معطياته ، و لكن بالرغم من كل هذا المناخ الذي يلف الوضع الثقافي ، و رغم العديد من المحاولات ، إلا أن حركة التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني ما تزال غير قادرة على بلورة وجودها بصورة مكشوفة وواضحة على صعيد الثقافة الشعبية بالذات ، من ناحية أخرى ، فلا بد من أن نشير إلى أن هذه الحالة الثقافية الهابطة لا تقتصر في أسبابها عند ممارسات السلطة السياسية الإجتماعية و غيرها فحسب ، ذلك لأن تطور ظاهرة انبعاث الحركات السياسية الدينية التي شهدها الربع الأخير من القرن العشرين في بلادنا ، كما في البلدان العربية ، يجعلنا نتوقف أمام هذه الظاهرة من الإنبعاث الواسع و القوي لما أصبح يُعرف بالإسلام السياسي ، التي يمكن تلمس نشاطها عبر الحركات و التيارات الدينية في معظم الأطر و الدوائر الثقافية في الجمعيات و المكتبات و النوادي و المراكز الثقافية و المسارح …إلخ ، حيث تجاوزت هذه الحركات و التيارات الدينية الحديث عن مجرد رفض الأطر الحياتية القائمة ، إلى محاولة صياغة مشروعات و نماذج دينية سلفية محافظة بديلة ، و مغايرة أو نقيضة لنمط الحياة السياسية الإقتصادية الإجتماعية والثقافية العصرية الحديثة ، تحت عنوان الثورة بإسم الإسلام من أجل إقامة حكومة إسلامية وفق نموذج الإمبراطورية العثمانية الغابر الذي كان أحد أهم أسباب القهر و الإستعباد و الإنحطاط و الجهل و التخلف و التبعية التي عاشتها شعوبنا العربية طوال أكثر من أربعمائة عام ، و الغريب أنه رغم تعدد هذه الحركات و الجماعات و التيارات و رغم تفاوت برامجها و أساليبها في العمل السياسي و العام ، إلا أنها تنطوي بصورة جماعية على وحدة الهدف و الغاية من أجل اقامة دولة "الخلافة الإسلامية" التي لا تملك أي آفاق أو مقومات من الناحية الموضوعية ارتباطاً بعملية تطور المجتمع العربي صعوداً نحو العصرنة و الحداثة ، ذلك لأن ظهور الحركة الإسلامية و تطورها و انبعاثها كان بسبب ثلاثة عوامل حددها المفكر العربي سمير أمين كما يلي :- 1) تفاقم الهيمنة الرأسمالية الغربية المادية و الفكرية و تحكمها بمصير مجتمعاتنا . 2) تحلل الفكرة الوطنية القومية و انهيار الدولة كإطار للعمل السياسي الموحد و تحولها إلى أداة قهر اجتماعي و مركز تنظيم للمصالح الطبقية الضيقة . 3) الأزمة الاجتماعية و الاقتصادية التي انعكست في صورة تدهور مطلق في مستويات معيشة الطبقات الشعبية .
إذن ، لولا هذا المناخ المأزوم و المهزوم ، على الصعيد العربي ، لما أتيح لظاهرة انبعاث الإسلام السياسي و الحركات السياسية الدينية من الانتشار و التوسع بهذه الصورة الكمية في أوساط الجماهير الفقيرة ، ويعود ذلك لأسباب موضوعية ، إذ أن هذه الجماهير العفوية طالما أنها لم تجد طريق تحررها الوطني/القومي و الاجتماعي ، فإنها – في أجواء و مناخات الهزيمة- ستتمسك بالدين كما لو كان الشكل الظاهر أو الإطار لتحقيق أهدافها أو حاجاتها الفعلية ، ويتجسد هذا بشكل خاص – في الظروف العربية الراهنة – في أوساط شعبنا الفلسطيني و كافة الشعوب العربية بنسب متفاوتة ، و إذا كنا لا نهدف إطلاقاً إلغاء ذلك التمسك الشعبي العفوي بالدين ، إلا أننا سنستمر في النضال الوطني – الديمقراطي من أجل إيجاد و تفعيل المدخل الواقعي العقلاني لتحقيق العدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية للجماهير وفق قواعد التعددية و الديمقراطية الاجتماعية و السياسية و مفاهيمها الأساسية التي تقوم على أن الديمقراطية تفترض إلغاء جميع المطلقات و إحلال محلها مطلق وحيد هو حرية الفكر في جميع الميادين ، فالديمقراطية ليست سوى أداة لتحرير الذهن من الأحكام المسبقة ، و بالتالي فإن العلمانية تتجلى هنا كشرط لا مفر منه ، بالترافق مع الديمقراطية ، و هذه العلمانية تفترض فصل شؤون الدين كعقيدة فردية عن شؤون المجتمع دون التعرض لحرية ممارسة الشعائر الدينية من جهة ، و لا تسعى إلى إثارة التناقض بين الرؤية العقلانية التنويرية الديمقراطية ، و بين الرؤية و التيارات الدينية من جهة أخرى ، ذلك لأن أي تناقض بينهما يجب أن نسعى دوماً إلى حله أو إلغائه على أرضية الفكر و الحوار .
و في كل الأحوال ، ستبقى "أزمة الثقافة الفلسطينية" ماثلة في الذهن و الواقع ، ما لم نسارع إلى التعامل مع حاضر و مستقبل هذه الأزمة في سياق الثقافة العربية و كجزء من مكوناتها ، ففي هذا التوجه تكمن ضمانات استمرارية الثقافة الفلسطينية كخصوصية تتفاعل في جوهرها مع إطارها العام الثقافي في الوطن العربي .
يبقى أن نشير إلى ان طموحاتنا -كتقدميين- ، بالمعنى الثقافي أو السياسي ، للمشروع العربي ، ستنتهي إلى سراب ما لم يتعامل المثقفين الديمقراطيين العرب ، مع الحقبة الراهنة ، أو الموجة الثالثة ، من تطور البشرية ، التي بدأت مفاعيلها منذ العقد السابع من القرن العشرين ، و ما تمثله هذه الحقبة الجديدة من قفزات هائلة للبشرية ، و من فوران اجتماعي عالمي بفعل آليات العولمة و أدواتها التي يسعى القائمون على ادارتها إلى أن تصبح "روح هذا الزمن في مجتمع المعلومات في القرن الحادي و العشرين" فهل ستفرض علينا هذه العولمة بعداً ثقافياً نتعاطى معه بالإكراه أو بالقدر الذي يحدده لنا أصحابها ؟ أم نبدأ في شق مجرى المعرفة و التفكير في هذا البعد الثقافي الجديد ، وفق رؤية عربية تسعى للخروج من المأزق الحالي ؟ هذا هو المخرج ، الذي يتطلب تحققه توحيد الجهود الثقافية العلمية العربية ، في اطار رؤية سياسية ديمقراطية موحدة ، تستجيب لمعطيات العصر ، و تشكل أرضية ننطلق منها على طريق الحضارة البشرية المعاصرة ، مشاركين في الإبداع العلمي ، لا عبيداً لأدواته .
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المأزق الفلسطيني الراهن
-
الدستور الفلسطيني ومفهوم التنمية
-
كلمة غازي الصورانـي في : المهرجان الجماهيري التضامني مع بيت
...
-
الاقتصاد الفلسطيني ... تحليل ورؤية نقدية
-
التحولات الاجتماعية ودور اليسـار في المجتمع الفلسطيني
-
الطبقة العاملـة والعمل النقابي في فلسطين ودور اليسار في المر
...
-
مجتمع المعرفة في الوطن العربي في ظل العولمة - على هامش اصدار
...
-
ورقة أولية حـول : الإشكاليات التاريخية والمعاصرة لهيئات الحك
...
-
الاصدقاء الاعزاء في منتدى الحوار المتمدن
-
التشكيلة الرأسمالية وظهور الفلسفة الماركسية
-
حول فلسفة هيجل وفيورباخ
-
الفلسفة الأوروبية الحديثة(1) عصر النهضة وتطور الفلسفة الأورو
...
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية ) والفلسفة
...
-
-محاضرات أولية في الفلسفة وتطورها التاريخي - مدخل أولي في ال
...
-
ورقـة :حول الواقع الاقتصادي الفلسطيني الراهن
-
عرض كتاب : الليبراليــة المستبـدة دراسة في الآثار الاجتماعية
...
-
دور القوى والجماهير الفلسطينية في مجابهة تحديات الحاضر والمس
...
-
الواقع الراهن للاقتصاد الفلسطيني وآفاقه المستقبلية
-
التنمية والمقاومة بين التناقض والتكامل
-
الأوضاع الفلسطينية في ظل الانتفاضة الثانية والعلاقات الدولية
...
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|