|
الطاهر وطار 2
عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن-العدد: 3128 - 2010 / 9 / 18 - 20:19
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
أركز في هذه المقالة الثانية على الوجه الآخر للطاهر وطار من خلال روايته "الشمعة والدهاليز" التي يمكن تحميلها من: http://www. 4shared. com/get/77amP_E5/___. html المقالة الأولى يمكن مراجعتها في: http://www.ahewar.org/m.asp?i=2611 رأيي في هذه الرواية أنها أقرب إلى البيان السياسي التبريري للاصطفاف وراء الحركة الإسلامية ومهاجمة المثقفين الجزائريين المختلفين معه من حيث الموقف من الحركة الأصولية، أكثر منها رواية، وهي بالتالي لا ترقى إلى مستوى رواياته الأولى ذات التوجه اليساري. من الوهلة الأولى يعبر الكاتب اليساري عن انبهاره بالحركة الإسلامية فيقول: "وهل في هذا العصر، المتميز بالفردانية والانعزالية، والنفعية، يمكن العثور على حشد، مضبوط على موجة واحدة، وعلى درجة حرارية واحدة، إلى هذا القدر والحدّ، ضبطا آليا راقيا جدا؟". (ص 9). يعني وطار بهذا الوصف حشود الحركة الإسلامية المعنية (الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر) التي لم يكن أي فصيل سياسي قادرا على القيام بالمظاهرات المليونية كما كانت تفعل، وهو وصف صحيح، فالانتماء لحركة شمولية غير ديمقراطية لا يمكن أن يجمع إلا هذا النوع من الأتباع الذين لا حق لهم في السؤال والمراجعة والشك والنقد. الفرد فيها مسحوق أمام القيادة المهيمنة على كل شيء. في الحركة الإسلامية ليس من حق "المناضل" فيها، إذا جاز لنا أن نطلق عليهم مناضلين بالمفهوم العصري للكلمة، أن يترشح للمسؤولية ولا أن ينتقد المسؤولين ولا أن يعبر عن رأي شخصي لم يُسْأل عنه وأي خرق لهذه القاعدة ينظر إليه بريبة. بل إن الإسلاميين ترددوا كثيرا قبل الاقتناع بجدوى المشاركة في العملية الديمقراطية بما تعنيه من تكوين حزب إلى جانب أحزاب والمشاركة في الانتخابات ولهذا أطلقوا على حزبهم صفة "الإنقاذ" ذات الدلالة الخلاصية الدينية. فكيف يمكن الإعجاب بهذا النوع من التنظيم القطيعي الذي يذوب الفرد فيه داخل "حشد مضبوط على موجة واحدة، وعلى درجة حرارية واحدة، إلى هذا القدر والحدّ، ضبطا آليا راقيا جدا؟" على حد تعبير وطار؟ بهذه الطريقة فقط تمكن شيوخ الإسلاميين من إقناع شباب في مقتبل العمر من القيام بعمليات انتحارية دون أن يهتموا بنوعية الضحايا وكأنهم آلات. والتذرع بالعامل الاجتماعي أو الاقتصادي عند وطار وعند غيره غير مقنع وهو أبعد ما يكون عن حقيقية الإسلاميين. إن الغالبية العظمى من هذا الحشد المضبوط عبارة عن خليط غير متجانس من المغرر بهم والمؤمنين السذج والمخدوعين والساخطين على الدولة والوصوليين والانتهازيين جمعهم الحقد على المختلفين معهم والانتهازية وركوب المغامرات في مجتمع غالبته من الشباب. إن بطل الرواية الذي اكتفى وطار بتسميته (الشاعر) والذي هو حسب تصريح الطاهر وطار "الكاتب والشاعر يوسف سبتي" المغتال، وكان يساريا وصديق وطار، يتقاسم معه نفس الانبهار بالحركة الإسلامية، نراه هنا يبدي توافقا وتعاطفا مع الحركة الإسلامية حتى "تمنى لو يدخل وسطهم، ويندمج في جذبتهم مفسحا المجال، للدهليز المظلم في أعماقه أن يتنور، ولو للحظات قصار، إلا أنه أحجم"، أحجم ومع ذلك قال بينه وبين نفسه: "هؤلاء جماهير، جماهير كادحة، وسواء أكانت على خطأ أو على صواب، هل يجوز لمثقف ثوري مثلي، كرس حياته لخدمة الجماهير والدفاع عن قضاياها، أن يقف ضدهم؟" (ص 15) هنا مقتل الفكر اليساري الوطاري الذي تبنى طروحات الإسلاميين. هنا تحضرني قصة ذلك اليساري الألماني التي يذكرها فيلهلم رايش، إن لم تخني الذاكرة. أمسكت به مجموعة من الشباب النازي وقرروا إعدامه بناء على تعليمات القيادة النازية. قبل التنفيذ قالوا له: هل لك كلمة أخيرة؟ فأجابهم: "أيها الأغبياء، إنني أناضل من أجلكم". الشاعر، بطل هذه الرواية جرى له نفس الشيء بحيث كان مصيره الاغتيال من طرف جماعة إرهابية تقول بعض المصادر إن بعضهم كانوا من طلبته في المعهد العالي للفلاحة. على الأقل المناضل الألماني بقي على مبادئه إلى النهاية ولم ينبهر بالدعاية النازية ويتبنى جنونها بل ظل، إلى النهاية، يحتقر تلك الجماهير التي انساقت عمياء وراء النازيين . يوسف سبتي تحادثتُ معه مرة واحدة في رمضان في دار الثقافة، وقد جاء من العاصمة لإلقاء محاضرة ولم يحضر إلا ثلاثة كنت أحدهم. كنت قد خرجت من بيتي فقط احتراما له. لأنني لا أحب هذا النوع من النشاط الرمضاني عندنا حيث ينام الناس نهارا ثم يتحركون ليلا بما في ذلك النشاط الثقافي، وبعدها يتوقف كل شيء أو يكاد حتى يعود رمضان. وعلى مر الزمن تكيف الناس مثل كلاب بافلوف مع هذه الحياة. دار بيننا نقاش مطول بعد أن ألغيت المحاضرة ولقد صُدمت فيه بسبب تأييده للإسلاميين حتى قال، ونحن نتحدث حول المشكلة اللغوية في الجزائر التي ركبتها كل الحركات السياسية بين متعصب ورافض، بإن أهم إنجاز يمكن أن تقوم به الجبهة الإسلامية لو وصلت إلى السلطة هو تعريب الجزائر وهو يقصد القضاء على منافسة اللغة الفرنسية للغة العربية واللغات الأخرى المحلية. أعداء هؤلاء الكادحين في نظر وطار هم الكتاب المفرنسون الذين "لم يتعربوا هم كقادة، ولم يفرضوا على الإدارة التي ورثوها من المستعمر، أن تتعرب. وبينما راحت الروح الوطنية تشحب، راح روح التقليد للسيد السابق يقوى من طرف المسود، وراح الشعب بفئاته المختلفة، يرفض أن يكون مرة أخرى مسودا للسيد نفسه. أو بالأصح لسيد مزيف". ( ص16) وهذا زعم لا يستقيم. لقد سارعت الدولة باكرا إلى تعريب جهاز العدالة ومع ذلك لم يتحسن مستوى أدائها. أما التحدث عن خرافة السيد والمسود فكل المتابعين في الجزائر يتذكرون الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الفرنسي جاك شيراك عندما زار الجزائر. كانت جماهير الشباب تصيح: فيزا "فيزا شيراك !!!". وهي نفس جماهير الإسلاميين، بل من الطريف أن أغلب قيادات الإسلاميين التي هربت من الاعتقالات توجهت إلى الغرب، ولجأ الكثير منهم إلى فرنسا وإلى ألمانيا وبريطانيا، وحتى أمريكا. لكن وطار يقول "الطرف الآخر، أولئك الذين دخلوا دهليز الثقافة الفرنسية، ونمط الحياة الغربية، وأغلقوا على أنفسهم يحتمون بالظلمة، رافضين أن تتقد أية شمعة حولهم. قرروا فيما بينهم وبين أنفسهم، أن هذا البلد انقسم مرة وإلى الأبد، إلى قسمين: الماضي والمستقبل". (38) صحيح تتحمل القوى اليسارية والتقدمية مسؤولية جسيمة لأنها كانت تزعم أنها تملك نظرية علمية لتحليل الواقع واستشراف المستقبل، ومع ذلك عجزت عن أن تتوقع ما حدث ولم تدق ناقوس الخطر في القوت المناسب، بل سايرت الجماهير في معتقداتها المتخلفة خلافا لادعاءات وطار. وأنا أتذكر، أن الكثير من القيادات اليسارية وحتى المثقفين لم يكتفوا بالسكوت عن نقد الدين الذي كان يستغل من طرف القوى الرجعية ضدهم وضد مطالب الحداثة والتقدم وكأداة لتخدير الناس، بل كانوا يقولون للناس بأن الإسلام دين الكادحين ودين العدل والحق والحرية، ودبج مثقفونا الكتب والمقالات بحجة عدم ترك ساحة الدين يتلاعب بها الرجعيون وضرورة تقديم إسلامي تقدمي متفتح، فنقبوا وفتشوا وأبرزوا نزعات مادية وطبقية مزعومة لصالح الكادحين في ديننا وفي تاريخنا لمجرد عثورهم على حديث "الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والناس"، أو آية "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ". بل إنهم أسبغوا يساريتهم على بعض الحركات المتمردة في التاريخ الإسلامي مثل القرامطة والزنج. من الطريف أن أحد الكتاب اليساريين كان يحاضر في السبعينات حول اليمين واليسار في الإسلام، واضعا أبا ذر الغفاري في اليسار وعثمان بن عفان في اليمين، جاء إلينا العام الفارط محاضرا حول مزايا الزوايا الطرقية لا لشيء إلا لأن الرئيس عمل على تشجيعها وإحيائها لمعارضة الإسلام السياسي. وهو خطاب حلب في إناء الإسلاميين. فمادام الإسلام فيه كل هذا، فما الداعي للبحث عند الآخرين الغربيين الكفرة. مع ذلك هناك قوى وشخصيات ومثقفين استيقظوا ونبهوا إلى الخطر، وهو ما لم يغفره وطار لهم. نواصل مع الشاعر بطل هذه الرواية. يقول الطاهر وطار على لسانه: "من لا يثور فضوله لمعرفة ما سيطر على عقول أجداده طوال خمسة عشر قرنا، أبله". (ص 41). وهو كلام موجه للقوى الديمقراطية والمفرنسة التي يتهمها وطار بالانفصال عن أصولها. طبعا، لا بد من توجيه اللوم للكثير من المثقفين خاصة المفرنسين الذين تهاونوا أو تأخروا في التفتح على الثقافة العربية الإسلامية مما جعل بعضهم يقفون موقفا مضحكا كالتلاميذ أمام محاججات الإسلاميين وعنترياتهم اللغوية خاصة عندما فتحت وسائل الإعلام للمعارضة، لكن وطار الذي يقول عن نفسه إنه أمازيغي، نراه يختصر تاريخ الجزائر في التاريخ العربي الإسلامي فقط وهو نوع من الغزل تجاه الإسلاميين والفكر المعرب عموما. هناك أيضا كاتب آخر (الدكتور سعد الله) كتب أيضا أن تاريخ الجزائر يبدأ مع عقبة بن نافع الغازي العربي الذي قاد جيش المسلمين لاحتلال شمال أفريقيا ولا يكاد المتعلمون عندنا يعرفون شيئا عن المقاومة الشرسة التي وُوجِه العرب المسلمون بها. يقول الشاعر بطل الرواية وهو يتذكر مرحلة دراسته في الثانوية الفرنسية "لا أحد في الثانوية يحسن العزف لا على القصبة ولا على الزرنة، ولا أحد يعرف إيقاع اللحن. جزائريون صوريا. أولاد أغنياء، وأولاد موظفين من مختلف الرتب والدرجات في الإدارة الفرنسية. لا شيء فيهم جزائري، عدا شعورهم بالتضايق من ارتباطهم العرقي بنا، وعدا جلد الذات المستمر بالانتقاد اللاذع". (ص56) قال ذلك وهو يتذكر رقصة تقليدية قدمها في حفل بالثانوية في الخمسينات أثناء الثورة وكأن العزف على القصبة والزرنة شرط ضروري لإثبات الانتماء لهذه البلاد. الغريب أن الطاهر وطار سرعان ما يُغرِق بطله في تناقضات مضحكة. فهؤلاء الخونة الجزائريون صوريا نراهم وبسرعة خارقة يستعيدون جزائريتهم فتنفجر قاعة الثانوية بالتصفيقات والصيحات متأثرين بهذه الرقصة البدوية الأصيلة. "انفجرت القاعة : تحيى الجزائر حرة مستقلة. ترددت الأصوات، من أركان مختلفة، باللغة الفرنسية". (ص 62). للعلم فقط، فهذه شتيمة لا يستحقها ذلك الجيل من الجزائريين إطلاقا. فهؤلاء التلاميذ والطلبة المفرنسين، كانوا قد لبوا نداء جبهة التحرير إبان الثورة وهم مازالوا في سن المراهقة (12-18 سنة) وقاموا بإضراب مفتوح طوال شهور، ثم التحق الكثير منهم بالجبال ولم تمنعهم ثقافتهم المفرنسة من ذلك وبينهم تلميذات وطالبات حكم عليهن بالإعدام مثل جميلة بوحيد التي لم تكن لتنجو من المقصلة لولا هبة التضامن العالمي يومئذ. جميلة وحسيبة وغيرهن كن مفرنسات. من جهة أخرى، فحتى شيوخ جمعية العلماء المسلمين وشيوخ الزوايا الطرقية التقليدية لم يكونوا يتحرجون من إرسال أبنائهم للمدارس الفرنسية ليتخرجوا في مهن كانت تعتبر نبيلة مثل الطب والمحاماة والهندسة، رغم أنهم كانوا يشرفون على مدارس للتعليم العربي الإسلامي بعضها تقليدية وبعضها تأثرت بالتعليم العصري مثل مدارس جمعية العلماء المسلمين التي تعلم فيها الطاهر وطار. وبينما كان أبناؤهم يقصدون فرنسا لإتمام تعليمهم العالي كان تلامذة المدارس العربية الإسلامية يتوجهون إلى الزيتونة بتونس أو الأزهر بالقاهرة وحتى إلى القرويين بفاس. الشخصية الثانية في الرواية هي شخصية عمار بن ياسر ولعل وطار يرمز بها إلى علي بلحاج أيديولوجي الجبهة الإسلامية ومنظرها وصاحب الخطب النارية التي كانت تلهب الشباب وتفقدهم عقولهم والذي تشاء الصدف أن أقرأ له اليوم كلاما يقول فيه "أنه لم يطلب أبدا من الناس الصعود إلى الجبال". http://www.echoroukonline.com/ara/national/59447.html
وهو كذب. فعندي فتوى له أصدرها سنة 1991 قبل اعتقاله تبيح اللجوء إلى العنف في سبيل إقامة الدولة الإسلامية. رأي عمار بن ياسر في المفرنسين لا يختلف عن رأي الشاعر (الطاهر وطار) حين يقول: "قال المتفرنسون، إما جزائر فرنسية، إما لا جزائر أصلا. نفقرها. نجوعها. نفكِّكها. نسلمها للأجنبي". (65 ص). وهو موقف يتبناه وطار أيضا في مواقف أخرى في الرواية. وهو قول لا أساس له من الصحة. فالجزائر قادتها جبهة التحرير التي كان على رأسها بومدين، ملهم الطاهر وطاهر. وللحق، فقد بذل بومدين، رغم استبداده، كل ما استطاع لتنمية البلاد من خلال ثوراته الثلاث: الثورة الثقافية والثورة الصناعية والثورة الثقافية. وإلى حد الآن لم يعرف عنه ما يشين نزاهته ولم يعرف عنه أنه جمع ثروة تذكر. بعده جاء الشاذلي بن جديد، وأعاد النظر في سياسة بومدين وأراد أن ينسي الناس فيه وفي الاشتراكية فانطلق في سياسة انفتاح استهلاكية تفوق إمكانيات البلاد وراح يستدين على حساب البترول وهو في باطن الأرض وعندما انهارت أسعاره حدثت الكارثة. هنا يجمع باحثونا، وعلى رأسهم محمد بوخبزة، وكان السباق في التحدث عن ضرورة إحداث القطيعة مع النظام الريعي البيروقراطي، ومع الأصولية، وكان مرشحا ليتولى رئاسة الوزراء في عهد الرئيس المغدور محمد بوضياف، لكن أيادي الإرهاب اغتالته، كما اغتالت بوضياف. قلت يجمع هؤلاء الباحثون أن الاستبداد الذي مارسه بن بلة ثم بعده بومدين، رغم طموحات هذا الأخير الوطنية في تنمية سريعة للبلاد هو ما تسبب في هذه الكارثة من ثلاث جهات على الأقل: الاختيار الاشتراكي المتمثل في احتكار الدولة لكل المبادرات اعتمادا على نظام ريعي بيروقراطي أبعد الكفاءات وقرب عديمي الكفاءة والنزاهة مع غلق الأبواب في وجه المبادرات الخاصة وحصار الرأسمالية المحلية التي تحالف جانب كبير منها مع الإسلاميين، والمنظومة التربوية التي تركت بين أيدي القوى المعربة التقليدية التي تحالفت مع الإسلاميين فعاثت فيها فسادا باسم التعريب واستعادة مقومات الأمة وأخيرا التغافل عن خطر النمو الديمغرافي الذي جعل سكان الجزائر يتضاعفون أربع مرات في جيل واحد، وأدى إلى اختلال رهيب في الأعمار وما انجر عنه من هيمنة العنصر الشباني على الساحة واستعداده التلقائي لركوب كل المغامرات بالإضافة إلى عجز الدولة عن مواجهة مطالب هذا الجيل. كل هذا يعبر عنه وطار عندما يقول: "تم اقتسام التركة دون كتابة فريضة، بتواطؤ غريب. استولى المتفرنسون، من شارك في الثورة منهم ومن لم يشارك، على المناصب الإدارية، كل حسب محسوبيته، وليس حسب كفاءته". (67) "استولى المعربون على التعليم، خاصة على مراحله الابتدائية، وعلى بعض مناصب في المجال الإعلامي إذاعة، صحافة، على محدوديتها، وكذا على بعض المناصب الإدارية في مكاتب حزب جبهة التحرير، الذي لم يكن ممكنا أن يكون سوى معرب، وعلى بعض المسؤوليات ذات الطابع الجماهيري، مثل المجالس البلدية، والمجالس الولائية، والبرلمانية أيضا" (67) ثم "الفلاحون الذين ساهموا في الثورة التحريرية، خص لهم العصب الحساس؛ الجيش والحزب، وما يتبع هذا الأخير من المنظمات الجماهيرية، باستثناء النقابات، (67) أين نحن إذن من الاتهامات بالخيانة والعمالة التي يحصرها وطار في المفرنسين؟ وأين نحن من محاولات وطار في هذه الرواية وفي غيرها مما كان يقوله خاصة في محاضراته ومحاوراته لتبرير همجية الإسلاميين ضد المثقفين اغتيالا وتشريدا باعتبارها ثورة الكادحين ضد المتسببين في شقائهم. وطار يتهم المفرنسين بالنزعة الإقصائية ولكننا نراه في هذه الرواية يمجد إقصائية الإسلاميين الفاشية. نقرأ على لسان القائد الإسلامي في الرواية، عمار بن ياسر، في حوار مع أبيه، رامزا بذلك إلى العلاقة بين جبهة التحرير والجبهة الإسلامية التي ولدت في أحشائها والتي شاءت المصادفة أن تنطق الحروف الأولى لاسمها بالفرنسية (فيس F.I.S.) وتعني بالفرنسية (ابن) مع اختلاف الحروف والاتفاق في النطق (fils) بالنسبة لابن، قال لأبيه: (ص 74) "من ليس معنا، فهو ضدنا". ثم قال له في حديث آخر: "ألا ترى يا أبي أن أحدنا زائد في هذا الفضاء؟ وبما أنني الأغلبية، فإنني لا أجد لي مكانا آخر. وبما أنك الأقلية، فما عليك إلا أن تذوب في.. أيها الأب البئيس. أيها الأب التعيس. أيها الأب العزيز. المكان يضيق بكلينا، وما عليك إلا أن ترحل. ترحل عائدا إلينا. ترحل هاربا منا. ترحل ميتا على أيدينا" (ص 148- 149) هل يعقل أن يتوهم كاتب أن حركة سياسية إسلامية تتبنى هذا النوع من الخطاب الإقصائي يمكن أن يتمخض عنها دولة في صالح الكادحين بينما هي تسعى لاستبدال نظام استبدادي بآخر فاشي أقبح منه. أفكار الشاعر بطل الرواية لا تبتعد كثيرا عن هذه النزعة الفاشية بل النازية عندما يقول بينه وبين نفسه: "كباحث اجتماعي سأقترح على الهيئات الطبية الخاصة، وعلى المنظمات الدولية الصحية والاجتماعية، على مؤتمر الإسكان بصفة خاصة، كيفية نزع جينات الغريزة الجنسية لدى الإنسان، هذه التي تلازمه ليل نهار، فتجعله، يعمِّر الكون بلا حساب، وتعويضها، بغريزة حيوان ثديي آخر، متزن. تلك التي تثور من سنة لأخرى، أو حتى أكثر". (ص 110). ثم يقول: "أعطانا الله العلم، وبالعلم، نتدخل وننقذ مسلولا وأي معلول آخر، وبالعلم، ينبغي أن ننقذ الإنسانية من الحيوانية". (ص 111). الواقع أن الكارثة الديموغرافية التي مهدت الطريق للانزلاق نحو التطرف الديني وحتى العرقي والجهوي في الجزائر، كان قد تسبب فيها عاملان: تحسن المستوى الصحي وجهل الناس وقدريتهم ومعارضة رجال الدين لتنظيم النسل وهم يرهبون الناس بآية "وإذا الموؤودة سئلت". (عندنا لا زال الناس يقولون: اللي خلق ما يضيّع)، وكأنهم عميان، بل هم كذلك أمام حقائق الواقع التي تدحض يوميا هذه القناعات البليدة. ثم يبلغ تملق وطار للإسلاميين أو انبهاره بهم حدا لا يصدق عندما يقول: "من ينكر، من يرى الله نزل على الأرض وملأ الساحات، بهدير الشباب، المفتوح الصدر على الرصاص الحاصد"؟ بعد هذا يبدع شاعرنا اليساري في التنظير (ص 115) فيقول: "سيقول ماركس، أولا إن ما يجري هو أحد مظاهر إفلاس البرجوازية في أن تنجز التحول الطبقي، إما إلى الاشتراكية وإما إلى الرأسمالية، ثم سيضيف، إنه حيثما وجد شباب وعمال، فهناك تطلع إلى التغيير، وعلى العالِم أن يتنبأ طبقا للمعطيات العامة باتجاه هذا التغيير، وعلى المناضل أن يجعل نصب عينيه، اكتشاف إمكانية جعل هذا التغيير، لصالح طبقته". ويقول أيضا: "سيبادر فلاديمير لينين إلى القول بأن الله، كان دائما وأبدا حليف الفقراء والمساكين والمضطهدين، وإنه من حق، ومن واجب هؤلاء، أن يلتجئوا إليه، طالما ضيقت البرجوازية عليهم الخناق، وكلما عجز المناضلون عن إحداث التغيير السياسي، أو عن تحقيق ما وعدوا به. (ص 115). وأخيرا يقول: (ص 115): "ما يضير، إذا كان قطع خطوة إلى الأمام مستحيل، العودة إلى الوراء ومحاولة الذهاب إلى الأمام من جهة الخلف". ويقول (ص ¬116): " السؤال الذي سيطرحه فلاديمير لينين، هو هذا: ماذا ستخسر الطبقة الكادحة إذا ما انتصر الفقراء وشيوخهم باسم الله؟ "ماذا ستربح إذن؟ تربح وقوف الله إلى جانبها. تتساوى مع الجميع، كأسنان المشط، وتمد يدها إلى حقها".. وفي (ص153) يقول: " أسوأ إمام في هذا البلد يحافظ على الهوية، ولا أحسن عالم يؤدي بالأمة إلى متاهات الاغتراب. . . يُجهز على هاته الأمة وعلى ما تبقى منها". وطار بقي حاقدا مع شيء من التذبدب أملته المستجدات، حتى وفاته. قال في حوار معه بباريس حيث كان يتعالج منذ عام (!)، قبيل عودته ليموت في الجزائر: http://www. al-fadjr. com/ar/culture/158499. html "اختياري لأيديولوجية الصراع الطبقي في وقت لاحق لم يقف عائقا في وجهي، لكي اختلف مع الرفاق الذين يعادون الدين، والدين مسألة حساسة وكنت دائما حذرا في تناول مفهومه بعيدا عن روح الدوغمائية والتعصب الأيديولوجي، والكلام نفسه ينسحب على تحفظي حيال عداء الماركسيين العرب لعبد الناصر وللإسلاميين كما حدث في الجزائر وأنت تعرف الضجة التي حدثت بسبب موقفي من الاستئصاليين الذين يعتبرون أنفسهم ديمقراطيين. ورغم كل ما كتبت وعايشت من تجارب سياسية في وقت مبكر ما زلت اعتبر نفسي في البداية، وأحاول التعلم وأقرأ باستمرار اعترافا مني بمحدودية تكويني ومعاناتي من أثار البداوة، وأقول هذا الكلام دون عقدة أو خجل وبكل روح صادقة". نعم، قد تكون البداوة قد أثرت عليه، لكن هذا لن يشفع له أبدا وقوفه مبررا همجية الإسلاميين الإرهابيين. أما أغلب المثقفين الذين عارضهم وطار واستعدى ضدهم الإرهابيين فقد اغتيلوا في الجزائر وهم يصارعون الظلاميين بفنهم وقلمهم لا غير. ومع ذلك قال عنهم زورا وبهتانا وهو في باريس: "والجزائر التي أعترف بها أنا ليست جزائر الطاهر جاووت أو صنصال ولا هؤلاء الذين يطلّون علينا من دور النشر الفرنسية وأنا أتحمل مسئوليتي التاريخية ولا أخضع أبدا للاعتراف بأن هؤلاء الكتاب الذين ليس لهم وجدان وطني وليس لهم وجدان جزائري إطلاقا. هؤلاء يكتبون لأسيادهم في أوروبا وفي فرنسا بالذات، فليبقوا هناك. وكما قلت في أول الحديث أرفض حتى أن يطرحوا علي كموضوع مفصول فيه بالنسبة إلي. أنا كاتب في بلد يستعمل اللغة العربية مائة بالمائة في شارعه وفي ثقافته وفي مدرسته ويقرأ اللغة الفرنسية كأي لغة". المتأمل الآن لنتائج السياسة اللغوية التي انتهجت في الجزائر لا بد أن يشعر بمرارة كبيرة: المربون عندنا يتفقون على فشلها الذريع، فلا أجيالنا الجديدة أتقنت العربية ولا أتقنت الفرنسية. لغتنا اليوم، ليست كما زعم وطار "بلد يستعمل اللغة العربية مائة بالمائة في شارعه وفي ثقافته وفي مدرسته". بل نحن إزار لغة خليط من كل هذه اللغات المحلية والعربية والفرنسية وحتى اللهجات المشرقية الوافدة عبر المسلسلات، ويصعب على غير الجزائري فهمها..
#عبد_القادر_أنيس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطاهر وطار: الوجه الآخر
-
رد على مقالة الدكتور طارق حجي
-
هل العلمانية ضد الدستور؟ حوار مع القرضاي 10
-
هل العلمانية ضد الدين؟ حوار مع القرضاوي 9
-
حوار مع القرضاوي 8
-
حوار مع القرضاوي 7
-
حوار مع القرضاوي 6
-
إلى ذكرى رفيقي النقابي ن ف.
-
حوار مع القرضاوي 5
-
حوار مع القرضاوي 4
-
حوار مع القرضاوي 3
-
حوار مع القرضاوي 2
-
حوار مع القرضاوي 1
-
نفاق الطبقة السياسية الجزائرية
-
خرافة التوفيق بين العلم والإيمان
-
قمة الخداع والانتقائية في الفكر الإسلامي (تتمة)
-
قمة الخداع والكذب والانتقائية في الفكر الإسلامي
-
هل للمرأة حقوق في شريعة الإسلام؟
-
أيهما الأكثر إبداعا: الرجل أم المرأة؟
-
الفكر الإسلامي بين التحايل والخداع والسذاجة 9: محمد الغزالي
...
المزيد.....
-
لحظة لقاء أطول وأقصر سيدتين في العالم لأول مرة.. شاهد الفرق
...
-
بوتين يحذر من استهداف الدول التي تُستخدم أسلحتها ضد روسيا وي
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جندي في معارك شمال قطاع غزة
-
هيّا نحتفل مع العالم بيوم التلفزيون، كيف تطوّرت -أم الشاشات-
...
-
نجاح غير مسبوق في التحول الرقمي.. بومي تُكرّم 5 شركاء مبدعين
...
-
أبرز ردود الفعل الدولية على مذكرتي التوقيف بحق نتنياهو وغالا
...
-
الفصل الخامس والسبعون - أمين
-
السفير الروسي في لندن: روسيا ستقيم رئاسة ترامب من خلال أفعال
...
-
رصد صواريخ -حزب الله- تحلق في أجواء نهاريا
-
مصر تعلن تمويل سد في الكونغو الديمقراطية وتتفق معها على مبدأ
...
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|