|
العلاقة التناسبية الجمالية بين الأنسان والأشياء.
حكمت مهدي جبار
الحوار المتمدن-العدد: 3128 - 2010 / 9 / 18 - 02:20
المحور:
الادب والفن
منذ ان وعى الأنسان على نفسه وبدأ يشعر بحاجته الى الجوانب المعنوية والأعتبارية فتن بالنسبة والتناسب بين الأشكال وادرك اهمية العد والحساب للأشياء من حيث حجومها واشكالها والوانها وحركتها والعلاقة بينها وبالتالي الأحساس بجمالها المادي النفعي والمعنوي الذوقي . وقد اعتبرت تلك النسب في بعض الحضارات ذات معان روحية (mystical) .ومن المعروف ان الفنون الكلاسيكية القديمة قد حوت نسبا دقيقة وأسرار قياسية مدهشة ومذهلة جرت محاولات لحل لغزها .مثل اسرار الجنائن المعلقة في العراق والأهرامات في مصر وغيرها كثير. ان التناسب proportion)) يعني : العلاقة القياسية المصممة .أي النسبة المخططة للمقادير والفواصل من نفس النوع ,كالوقت في المسرح والموسيقى او الحيز والفراغ والفضاء في فن العمارة و الجلاء(النصوع) و اللون في الفنون التشكيلية . وطول وقصر جسم الأنسان من خلال تعيين (الرأس) كوحدة قياسية و الكون من خلال حركة افلاكه وأقماره ونجومه وبحاره وجباله الذي يعطينا اروع مثال للتناسب والجمال والدقة . ففيما يخص التناسب في سطح اللوحة فأن احسن تقسيم ممكن للسطح هو ما يخلق الاساسين المهمين في العمل الفني – تصميم – رسم – زخرفة – وهما (الوحدة والتنوع) (unity and diversity ) .فعند تقسيم السطح الى اجزاء مختلفة ومتعارضة في الشكل والحجم بعلاقات تربط الاجزاء ببعضها مع الشكل الاصلي يمكن الحصول على الوحدة وجذب الاهتمام من خلال التنوع(وحدة تنوع)ويكون ذلك بأتباع اساس التناسب المستمر او النسبة المتكررة في ذلك الارتباط .اذ ان اللوحة الجيدة هي اللوحة التي تثير ذهن المتلقي من خلال نسبة وتناسب خطوطها وأشكالها والوانها .ومن خلال توزيع الكتل على السطح التصويري يراعى التناسب والا فأن اللوحة تكون غير متناسبة وتستفز المتلقي برداءتها. وقد ظهرت محاولات تحليلية في ذلك في فرع من الفنون التشكيلية وهو فن البناء(العمارة) . وظهر في طرز العمارة القديمة ان هناك (نسبة ثابتة) استخدكت في علاقات الابعاد في المنشأ , اي ان الابعاد وان اختلفت فان النسب فيها تبقى ثابتة وقد ساعدت الاستنتاجات منها على معرفة الاجزاء المهدمة من بقايا الاجزاء الاخرى بواسطة تلك النسب ففي العمارة الاغريقية والمصرية القديمة وجدت النسب متساوية 1:618/1 أي 618/0 والتي اشار لها (اقليدس) المهندس اليوناني الشهير في حوالي سنة 2400 ق م وسميت فيما بعد (بالوسط الذهبي)golden mean)) أو النسبة الذهبية golden section)) والتي كان اليونانيون قد وضعوا فيها النظريات العلمية الدقيقة للفنون كالرسم والنحت والموسيقى والبناء .وقد اهتموا برطها بالرياضيات فطوروا علوما مثل علم هندسة الاشكال geometry والذي يدمج بين الرياضيات والرسم. اذن فالنسبة الذهبية مضمونها جمالي ورياضي وهندسي .وفكرة النسبة الذهبية صارت فيما بعد تدوينة مهمة لكل الفنانين والمعماريين في التصوير والرسم والعمارة والديكور وحتى الموسيقى وكل ما له صلة بالفنون الجميلة وتذوق الاشياء وعدها وحسابها وجمعها وطرحها وهي بذلك تجمع بين الرياضيات والفن والجمال.انها تتناول الرياضيات تناولا حسابيا هندسيا جماليا ,أي انها نسبة رياضية بسيطة تخلق الاشياء الجميلة وتجعل الصورة جذابة والبناية جميلة . ان ملخص (النسبة الذهبية) يتضح من خلال رسم هندسي يتضمن مستطيلا يرسم بداخله مستطيل اصغر بواسطة الفرجال .حيث تثبت ابرة الفرجال في احد زوايا المستطيل الكبير ويرسم منحن يبدأ من الزاوية المجاورة للزاوية التي ثبت فيها ابرة الفرجال بأتجاه احد اضلاع المستطيل الكبير.ومن النقطة الجديدة نرسم خط يمثل احد اطوال المستطيل الصغير .وينتج من الرسم مستطيل كبير بداخله مستطيل صغير .الا ان نسبة الكبير تساوي نسبة الصغير حسب النسبة والتناسب .وان هذا لايعني ان النسبة والتناسب في هذا الرسم مرتبطة بالخطوط المستقيمة فقط.فهناك اشكال لولبية تقوم على النسبة الذهبية ودوائر ومثلثات وغيرها. لقد نظر اغلب الفنانين من رسامين ونحاتين وبنائين ومهندسين ومصممين ومن فنون جميلة اخرى ,في أن (التناسب الذهبي) هو الأجمل في تنظيم وترتيب اجزاء وعناصر العمل الفني بكل اشكاله . ولكن ..هل ان التذوق الجمالي الأنساني بكل تنوعاته يخضع دائما لذلك التناسب القائم على اساس رياضي ؟ بالتأكيد لا..لأن حركة كل الفنون هي حركة حرة لاتحدها ضوابط وقوانين ,الا بقدر تعلق الأمر بالتقييم وبعض الشروط المدرسية والاكاديمية كأسس تعليمية تربوية اولية سرعان ما يتحرر منها الفنان حال استقلاله بأسلوب فني معين.ثم ان اغلب الفنانين يقدمون منجزاتهم وقد لايعلمون بأنهم ينفذون النسبة الذهبية او بوافع لاواعية.فأننا نجد ان حضور النسبة الذهبية يظهر في فن العمارة في كثير مما يحيط بنا سواء بقصد من المعماري او بدون قصد .او نجده واضحا في لوحة تشكيلية او تصميم بلاوعي الفنان. فمثلا الأهرامات في مصر هي المنجز الأبداعي المذهل الذي خضع للتناسب الذهبي ولم يكن يعلم القائمين بأنجازها بذلك وهي بالمناسبة اي (النسبة الذهبية) لم تكن مكتشفة بعد.بينما اعتبر معبد (البارثينون) احد اشهرمعالم اليونان التي قامت على النسبة الذهبية عن قصد .ويأتي جامع (عقبة بن نافع) في القيروان ليكون العمل الأشهر من العمارة الأسلامية الذي مثل (النسبة الذهبية) في كثير من اجزاءه من المساحالت الكلية الى مساحة فناء المسجد الى التناسب المدور في المنارات . اما في الفن المعاصر فقد اشتهرالمعمار (لي كوربوزيه) (le korbozeahالذي وضع دالته الذهبية التي ربطها بالمقياس الأنساني عندما وضع جسم الانسان كمنظومة تناسبية للمعمار ,أي معيار لتحديد البنى المعمارية فقسم الجسم الانساني الى ثلاثة اقسام . شرط ان يبدأ التقسيم والانسان رافعا ذراعه الى الاعلى لكي تحسب قياسات البناء وحرية حركة الجسم معها فالقسم الأول يبدأ من اعلى الذراع الى قمة الرأس والقسم الثاني من قمة الرأس الى منتصف الجسم منطقة (السرة) ومن منطقة السرة الى اخمص القدمين.وأن اعتماد كوربوزيه على الذراع كجزء من القياس جاء منذ ان بدأ الأنسان بالفطرة اتخاذ الذراع لقياس الطول كوحدة قياسية وأعتباره اهم جزء في جسمه والذي يستخدمه دوما في عمله . ثم اصبحت قدرة وطاقة الانسان معايير لأيجاد الوحدات لأمور اخرى , فمسافة الادراج على سلم عمودي لأمكانية تسلقه ادى الى اختيار القدم كوحدة قياس,وحجم مقبض (يدة) الباب اتخذ كف اليد .وفي العمارة الاسلامية وجدت تلك النسبة 1:( 2 تحت الجذر) .وهذا من اختصاص المهندسين المعماريين.وهكذا نجد نسبا متكررة مختلفة استخدمت من قبل المعماريين والفنانين كل حسب اسلوبه الابداعي الذاتي من ناحية وبحسب التفاعل مع التأريخ الحضاري والبيئة من ناحية اخرى وفق رؤى تشكيلية قائمة وحدة التنوع. اننا نرى تطبيقات النسبة والتناسب في حياتنا العامة في بنيات وقوام الأشكال سيما الاشكال الحية منها في كتوزيع الاوراق في انواع الزهور والورود بتناسق رائع وجميل جدا حيث التقابل والتناظر والأتساق في اوراق الورود بصورة هندسية مدهشة , وحتى في عدم انتظام اوراق بعض الزهور فاننا نرى فيها تناسقا وتناسبا رائعا فضلا عن تناغم الوانها وأنسجامها وتضاداتها في وحدة تنوع روعة في الجمال.فمخروط الصنوبر والأناناس وزهرة عباد الشمس من الأمثلة الطبيعية الملحوظة للتناسب .حيث ان زهرة عباد الشمس وتوزيع البذور فيها علاقات تناسبية ممثلة بـ 34 حلزون و55 حلزون بالأتجاه المعاكس وتتمثل علاقتهابـ 21:34 أو 13: 21 وبهذا تكون حلزنة حبات زهرة عباد الشمس مثالا رائعا لجمال التناسب الطبيعي فيما يخص المنحنيات والتي يسميها الفنان المعماري (التناسب المكرر).ان توفرعنصر الجمال الفني في عمل المعمار كمنجز تشكيلي ابداعي هو الذي يفصله ويفرقه عن العمل الهندسي غير المعماري الرديء الخالي من الرؤية الجمالية التشكيلية .ان العلاقة التناسبية بين تلك الابداعات الفنية التشكيلية رسما وعمارة وفنون اخرى من الأمور الضرورية الواجب مراعاتها بغض النظر عن طبيعة المنجز الفني ونمطه ,وهي من المركبات الرئيسية لجودة العمل . ان التناسب يؤدي الى التماسك اذا ما استخدمت فيها اشكال سواء اكانت متوافقة ام متناقضة بتناسب ملائم ,لذا فالعمل يكون مبدعا وجميلا عندما يحوي وحدة متوازنة وفق مقايسس مقبولة اي كونه ليس اكبر او اصغر مما يجب ان يكون عليه. ان التذوق الفني والشعور بالجمال يكون عن طريق الاحساس به عادة بالعين او بالحس واللمس اللذين يعبران مكملين للعين .فالعين تبدأ اولا بالشعور بالعمل الفني رسما او نحتا او معمارا .فعندما يرضي العمل الفني العين التي تفتش عن الشيء الجميل والاشكال الساحرة انما هي تستمع بلذة التناسب بين تلك الاشكال. اما اذا جئنا للرسم (فالنسبة الذهبية) جاءت ضمنيا في لوحات واعمال اغلب الفنانين مثل (ليوناردو دافنشي) في رائعته (الموناليزا) واعمال (سلفادور دالي) ثم الفنان الكبير (بيت موندريان) الذي عشق النسبة الذهبية عشقا من خلال تجريداته الهندسية . وبرز جمال النسبة والتناسب في جسم الأنسان على يد (مايكل انجيلو) وما لحقه من فنانين ونحاتين ومعماريين.علما أن اول من وضع النسبة والتناسب لجسم الانسان هم المصريون قبل آلاف السنين, عندما وضعوا مبدأ تقسيم الجسم الأنساني الى 19قسما بأعتبار الأصبع الوسطى لليد كوحدة قياسية تناسبية.أما الأغريق فقد اعتبروا الرأس علامة من علامات الجمال , فجعلوه كوحدة قياسية عندما قسموا الجسم الى ثمانية مرات بقدر الرأس . لقد كانت اكثر التماثيل اليونانية تتراوح بيم (7 – 5/7 – 8) رؤوس ,ولكن المدارس الفنية الحديثة ترى ان يكون الجسم البشري يعادل سبع مرات ونصف بالنسبة للرأس.وبقي هذا الأساس الذي قام عليه فن الرسم وخاصة جسم الأنسان.ويعود الفضل في ايجاد تفاصيل النسب الثمانية للجسم الكامل (المثالي) والخالي من العيوب والعاهات للدكتور (بول ريشير) (bal resher)الذي وضع هذه النسب في دورته عن التشريح في مدرسة الفنون الجميلة في باريس. ان العلاقات بين الاشكال والانسان هي (تناسبية) قبل ان يضع الأنسان لها عنوانا.ذلك لأن الله تعالى قد خلق كل شيء بتناسب رائع وبلا اعوجاج وجعل كل شيء بقدروبشكل عام حتى تلك التي لم تكن تبعا (للنسبة الذهبية) وان تلك العلاقات التناسبية الجمالية بين الانسان والاشياء هي واحدة من اكبر اسرار الجمال والفن. فالوجه الجميل يكون جميلا بفعل العلاقة التناسبية بين اجزاءه من عيون وانف وأذان وشفتين خلقها الله بمقادير وقياسات ربانية روعة في الحسن. والجسد الجميل جميل بتناسق اعضاءه وفق تناسب حير قلوب وعقول البشر انفسهم .والسيارة تكون جميلة اذا ما جاءت اطوالها متناسبة بشكل يريح الناظر وحتى قطع الأثاث والأدوات الصغيرة وكل ما يحيط بنا سوف يغدو جميلا في حال كانت اطواله متناسبة . لم يتحدد التناسب على الأشكال المادية المرئية فقط بل تعداه الى الزمن فالتوقيت الزمني للأشياء يكون جميلا اذا جاء متواليا في تناسب مدروس .فيستحسن مثلا ان يتناسب طول مقدمة محاضرة مع المحاضرة كاملة لأن السامع سوف يخرج بأستنتاجه الزمني بمجرد سمكاع المقدمة وسوف يضطرب في حال كان طول باقي المحاضرة قريبا من طول المقدمة مثلا. ان العلاقة التناسبية بين الأنسان والأشياء في الطبيعة والحياة نعيشها في كل لحظة بل موجودة في تركيبة اجسامنا وفي تركيبة اجسام الحيوانات والنباتات من زهور وأشجار وحتى الجمادات بما يضفي على صورة الحياة صفة الجمال الذي لا ينضب.. مصادر: 1 – ماهية العمارة...رسالة ماجستير 2 – الرسم واللون ...محي الدين طابو.مدرس الرسم في ثانوية دمشق..1987 3 – النسبة الذهبية ...مقالة في احد المواقع الألكترونية . 4 – علم عناصر الفن...فرج عبو ...اكاديمية الفنون الجميلة ــ جامعة بغداد ــ 1982 5 - حوار الرؤية ..نوثان نوبلر... دار المأمون للنشر والترجمة..ترجمة فخري خليل..1986 6 – أصول تدريس الرسم ...بدون اسم المؤلف...معروض في المكتبات العراقية.
#حكمت_مهدي_جبار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العنصر الصوري (التخلي) في الإبداع الادبي و الفني
-
التناص في الفنون التشكيلية (نصب الحرية أنموذجا)
-
الفن التشكيلي المعاصر في العراق .تعدد المصادر وأختلاف الأسال
...
-
ألأنسان والتجربة الجمالية.
-
شخصية كلكامش ..
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|