|
حوار عن العلمانية في العراق المعاصر (1-3)
عقيل الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 3118 - 2010 / 9 / 7 - 07:49
المحور:
مقابلات و حوارات
حوار حول العلمانية في العراق المعاصر ( 1-3)
حوار اجراه يوسف محسن مجلة مدارك العدد الحادي عشر 2010
* سؤال هل هناك تاريخ للحركات العلمانية سواء أكان في الحقل الثقافي أو الحقل الفكري أو الحقل السياسي؟
*** قبل الخوض في الإجابة على هذه الأسئلة لابد من التنويه إلى ضرورة دراسة هذه الإشكالية ووضعها في الإطار الصحيح.. ويبدو أن هذه المساهمات هي جزء من هذا المسعى. كما أن هذه الضرورة تنبعث من مدى حاجاتنا إلى الفكر التنوير بغية شق طريق الارتقاء الاجتماعي لولوج المستقبل القائم على الركيزة العلمية بدرجة أرأسية والسيطرة أكثر فأكثر على الطبيعة وتوجيهها إلى خدمة الإنسان كغاية مثلى..وإذا كانت الفترات الماضية قد اتكأت حركة التنوير على المعادلة الثلاثية الأبعاد والمتمثلة في: الفرد – العقل- الطبيعة، فإن الحاضر والمستقبل ينطلق من ذات الأبعاد بعد لإضافة العامل الأرأس والمتمثل في العلم، ومنجزه اللا محدود. كما أن الضرورة تقتضي منا إرساء هذا المفهوم العلمي{العلمانية} والتعرف على مضامينه التي اختزلت لدرجة قتلت ماهياته الأرأسية دون أن تمنحه قوة التفاعل العضوي لصيرورة الارتقاء الاجتماعي وذلك عندما اختزلته بمعادلة بسيطة:{ فصل الدين عن الدولة} والتي لا تمثل سوى جانب واحد من مضمون المفهوم، الذي ينطلق من كونه، بالمفهوم العام، ينظم العلاقة بين أفراد المجتمع على أساس المواطنة والعقد الاجتماعي. وبالتالي سيشتق من هذا المضمون تبديد الفهم الخاطئ المتمحور في كون العلمانية تتنكر لما يلعبه الدين من دور اجتماعي، خاصةً في مثل ظروف بلادنا على الأقل. وعليه أرى ضرورة أن ننظر إلى العلمانية في إطارها الفلسفي، من ثم من خلال تاريخية صراعها مع نقيضه ألا وهو الفهم الديني، كحامل فكري لشرح الظواهر الطبيعية والاجتماعية، بصورة أرأسية، إذ ظهر مفهوم العلمانية مع بدء نشاط الحركات الفكرية ذات الطابع التنويري في أوربا القرووسطية (عهد التنوير) وتبلور أثناء الصراع مع الكنيسة والفكر اللاهوتي.. وقد أخذ هذا المفهوم يتطور بصورة تجريدية على وفق ماهية الصراع الفكري بين طرفيه المتناقضين، خاصة عندما اصطدم النظام الشمولي الكنسي، وما حمل من تبعات على مستوى المجتمع، بالواقع الموضوعي لهذه المجتمعات الصاعدة، حيث المطالبة بحرية الإنسان واعتباره ذات قائمة بحد ذاتها آنذاك من جهة، والتطور في المفاهيم الخاصة بالمجتمع وحدود حرية الأفراد بينهم (كذات فردية أو/و جمعية) وعلاقتهم بكل من: الفرد والجماعة؛ وعلاقة الجماعة بالدولة؛ وعلاقة الدولة بالدولة ومؤسساتها وحدود سلطاتها من جهة ثانية. وقد ساهم تطور العلوم عامة والتطبيقية خاصة في تأجيج هذا الصراع متخذاً من منظومة المفاهيم الاجتماعية والفكرية والسياسية حقلا له من جهة ثالثة. وأخيرا وليس آخر، أن فكرة العدالة الاجتماعية والصراع بين الخير والشر وتصاعد وتائره، نتيجة تعقد وتشابك العلاقات الاجتماعية، ليتضمن فكرة المواطنة والعقد الاجتماعي. اللتان مثلتا أحد جوانب تطور مفهوم العلمانية.
كان العالم البريطاني (جورج هولي أوك (George Holyoake أول من بدء بطرح هذا المفهوم في كتابه مبادئ العلمانية الصادر عام 1870.. وكما يبدو أن مضمون هذا المفهوم، قبل تبلوره في العصر الحديث، قد وجد صداه أيضا منذ أمد سحيق.. إذ يعود تاريخه، كما أرى، إلى بدايات المجتمعات البشرية بعدما عرف الإنسان ذاته وظهور الملكية الخاصة وما أعقبها من ظهور التفاوت الطبقي ومحاولات الجنس البشري آنذاك لفك ألغاز وطلاسم الظواهر الطبيعية وفهم كنهة ماهيتها، ومن ثم الاستمرار في عبادتها والتبرك بها والخضوع لها أو تركها.. وفي الأحقاب اللاحقة لتطور المجتمع الإنساني تكونت المؤسسة الدينية التي أخذت مكانتها المتميزة في التركيبة الاجتماعي وفي تنظيمها للعلاقات الاجتماعية وتقنينها حسب تصوراتها اللاهوتية، كما قامت بدور المؤول والمفسر لهذه الظواهر الطبيعية.. ومن ثم اتسعت مسؤوليتها إلى شرح وتفسير حتى الظواهر الاجتماعية التي كان يبرزها واقع الصراع الاجتماعي والفكري في بداياته لأولى.
وفي الوقت ذاته كان نشوء النظرة العقلانية هو المنطلق لبروز الإلحاد كبديل للخرافات والأساطير الميتافيزيقية، وعليه تكونت مؤسسة الإلحاد ونشأت تصوراتها للواقع وللعلاقات الاجتماعية وتنوعت فلسفتها وتفسيراتها.. إذ أخذ الإلحاد بالتبلور الأول منذ فجر الحضارات الأولى وكان يتمركز في البدء في رفضه للطرح الميتافيزيقي الذي تعبر عنه المؤسسة الدينية، من خلال تبنيه لفكرة أن {الطبيعة تُدرك بما هي عليه بناءً على الفهم الإنساني لها ولا داع لإسقاط التصورات من خارج الطبيعة أو من ورائها}. ثم اتسع المفهوم لنقد التصورات الدينية للوجود الاجتماعي.. وكان توماس هوبز أول من وجه نار النقد والتشكيك في مصداقية هذه التصورات منذ منتصف القرن السابع عشر. في حين بدأت الكتابات النقدية للتصورات والمحرمات الدينية في البلاد العربية والإسلامية منذ أن أخذت مؤسسة الدولة الإسلامية بالتبلور بعد ظهور الدولة الأموية واشتداد الصراع بين مختلف القوى الاجتماعية المطالبة بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية فإن بعض معارضي الدولة الأموية، مثلاً، عندما بايعوا معاوية خاطبوه بالقول:{ نحن للأمة في أمور دينها وأنت للأمة في أمور دنياها}. واستمرت مثل هذه الحالات طيلة الفترة اللاحقة حتى أخذت شكلاً آخر في الدولة العباسية وعلى الأدق منذ خلافة المأمون عندما شجع بقوة عملية الترجمات الفلسفية والعلمية الإغريقية..إذ بدأت تظهر القراءات المغايرة للنظرة الدينية وقد كانت بصورة غير مباشرة وغير حدية إن لم تكن بشكل مهادن.. ثم انتعشت هذه التوجهات في الأندلس حيث ظهرت تصورات فكرية من خارج الموروث الثقافي والسيسيولوجي الديني. وما قول المصلح محمد عبده { لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين}، إلا تعبير عن مثل هذه التصورات، حتى تأثرت بها الدساتير في الدول الإسلامية عندما تبنت فكرة المواطنة هي الأساس في الدولة الحديثة.
وهكذا يحدثنا التاريخ البشري بأن الصراع بين السلطتين الدينية والدولة (بغض النظر عن شكلها وماهيتها)، عَمَّ مختلف حقول المعرفة والإنتاج الاجتماعي وحدود الخيار فيها.. وأخذ هذا الصراع يتطور في مساراته من حيث الشكل والمضمون ويأخذ أبعاداً تنافسية مع تطور المجتمعات البشرية ورقيها الحضاري.. وكانت الفلسفة الحقل الأوسع والأوضح لهذا الصراع وخاصة التجريدي منه. لذا تطورت هذه المفاهيم وتلك الإشكاليات وكان منها موضوع العلمانية أو اللا دينية وعلى الأخص منذ أفول النظام الإقطاعي في أوربا ونمو التشكيلة الرأسمالية في رحمها.. حيث تم نقد ودحض الخرافات الميتافيزيقية وتفضيل ما هو عقلاني من تفسيرات للواقعين الاجتماعي والطبيعي. وكما قلت مر مضمون هذا المصطلح { العلمانية} المشتق من كلمة ( Seculatism) الإنكليزية، والتي تعني حرفيا (الدنيوية) أو بالأحرى قل أنها { تعني الارتباط بالعالم الحقيقي الذي نختبره بحواسنا وما نشتق منه قدراتنا على التفسير}، أما تعريف هولي أوك فهو: { شكل من الرأي يربط نفسه بالأسئلة والقضايا التي يمكن اختبارها من خلال تجربة هذه الحياة}. لكن هذا المضمون قد اكتسب في الآونة الأخيرة، في عالمنا العربي، بصورة خاصة، شكلا مقتضباً للغاية حُصر في ما معناه:{ فصل الدين عن الدولة وعدم تدخل الدين في إدارة الشؤون العامة}.هذا الفهم، كما قلنا، مختزل ومجحف لمفهوم العلمانية ويمكن أن نطلق عليه مفهوم العلمنة (Secularisation) وليس العلمانية المنطلقة، بالأساس، من حيث البعدين الاجتماعي والسياسي، من فكرة عدم تصنيف الناس حسب معتقداتهم الشخصية أو/و أصولهم العرقية أو/و الدينية والمذهبية وغيرها من الاختلافات بين بني البشر.
وتأسيسا على ذلك أمست العلمانية، شئنا أم أبينا، النزعة الفكرية التي استخدمت في الصراع مع واقع العلاقة بين مؤسسة الدولة وسلطة الكنيسة عندما (تفشت الظلمة بحلول العصور الوسطى وتشددها الديني الرهيب)، حسب تعبير الباحث الجاد رشيد الخيون، إذ كان الصراع محتدم بينهم طالما لكل منهم حقله الخاص المعرفي والوظيفي والاجتماعي، بما يتناسب ومدى الفهم للثابت والمتحول في الموقف الفلسفي من الوجود الاجتماعي (الحياة المادية للمجتمع والعلاقات المادية التي تتشكل بين الناس خلال ممارساتهم العملية المحسوسة للإنتاج الاجتماعي). وبما أن الإنسان هو في حالة تغيير ارتقائي مستمر في وعيه الاجتماعي وتجلياته، الفلسفية والمعرفية والجمالية والحقوقية بل وحتى الدينية منها.. وطالما أن وجوده الاجتماعي..هو الآخر في حالة تطور وتغيير مستمرين بصورة عامة، وهذا ما يدلل عليه تاريخية الإنسان منذ أن وعى ذاته الفردية والجمعية والى وقتنا الحاضر، هذا من جانب.
ومن جانب آخر يتحكم الثابت في حقل الدين.. في حين أن الذي يتحكم بالدولة (ومقومها الأرأس البشر) هو المتغير الدائم الحركة والمتوقف على طبيعة المواقف الأساسية الحامية لمصالح المجتمع والطبقات على وفق المنظور المحسوس وليس الغيبي. وهذا ما تعبر عنه مضامين الفتوى والتفسيرات الدينية بحد ذاتها (ما عدى الثوابت كالواجبات والنص القرآني) عن هذه الماهية.. حيث أنهما يتغيران بتغير المكان والزمان وخًرجت لهما بمقولة (للضرورة أحكامها) التي تعني في بعض مضامينها الاعتراف بالمتغير. وارتباطا بذلك يمكن التأمل بقول المفكر الكبير علي ابن أبي طالب عندما قال:{ إن معروف زماننا هذا منكر زمان مضى، ومنكر زماننا معروف زمانٍ لم يأت }. إذ تعبر هذه العبارة عن جدلية التغيير في القيم والمعايير والتحول الذي يصيبهما. هذه النظرة الجدلية لواقع الصراع المفاهيمي تعكس ماهية الحالة بين الثابت والمتحول، والموقف من المتغيرات التي تطرأ على الوجود الاجتماعي وهذا يعني، في الوقت نفسه، على المستوى السياسي أن العلمانية تضمن، ضمن ما تضمن، حرية الاعتقاد لكل فرد، بمعنى إنها لا تعني، كما يصورها مناهضوها، بأنها الكفر والإلحاد. بمعنى آخر ينظر المتدينون عامةً والسلفيون على وجه الخصوص، إلى العلمانية..(بوجه واحد ومقاييسها محدودة وذات طبيعة إقصائية، فما دامت تطمح إلى فصل الدين عن أمور تسيير الدولة وشؤونها تبقى تحمل فكرا خطيرا ومدمرا لكل النظريات الإسلامية (الدينية) في الحكم. وتحتم المواجهة والصدام) (ضياء الخالدي،الصباح في 9/9/2009). وإذا عدنا إلى صلب السؤال لقلنا أن للعلمانية كحركة ومفهوم، بالضرورة، تاريخيا في كل حقول المستويات السياسية والفكرية والثقافي وأزمنتها.. ولا تزال تنتج مفاهيمها العصرية أو/و إعادة إنتاج هذه المفاهيم بما يتلاءم مع المتغير في الوجود الاجتماعي، فعلى سبيل المثال.. لقد فرض واقع الصراع، إن لم نقل التناقض، الفكري بين الدينيين واللا دينيين في العالم العربي على استنباط مفاهيم جديدة، أو قل إن شئت، وسطية (وربما توفيقية) إستلزمتها الظروف الملموسة، كالقول بالعلمانية المؤمنة، التي تطالب في فصل الدين عن الدولة مع حفاظ المؤسسة الدينية والأفراد على ممارسة أنشطتهم الروحية ضمن الالتزام بحقوق الإفراد والجماعات المختلفة لحقوقها الطبيعية والمكتسبة.. ومن هذا المفاهيم الجديدة أيضاً: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ومنهم من حاول الابتعاد عن مضمونها الفلسفي وإحلال بديل عنها في عالمنا العربي واعتبار الديمقراطية الضامنة والحاضنة لحقوق الإفراد والجماعات على مختلف تنوعها، هي بمثابة المضمون العملي للعلمانية. جميع هذه المحاولات والإجتهادات في العالم العربي والإسلامي هي نتيجة للصراع الفكري المتبلور حول ماهيات أو/و سعة مديات المؤسسات الاجتماعية والسياسية الحديثة وفي درجة تفاعلها مع تغيير الواقع وتنظيم علائقه، طالما أن مؤسسات المجتمع المدني ترتكز على معايير: التسامح؛ التنوع؛ الإرادة الحرة المتطوعة؛ والإدارة السلمية، ومساحة فعاليتها وحقول ممارساتها، التي تفرضها طبيعة درجة التطور في الوجود الاجتماعي وحدة تناقضات علاقاته الداخلية. كان الاحتكاك بالعالم الغربي هو النقطة الأكثر بروزا في هذا الصراع.. لكن هذا لا يعني أن العالم العربي الإسلامي لم يشهد مثلك تلك الصراعات بين المدارس الفلسفية الإسلامية كإخوان الصفا والمعتزلة وغيرها من المدارس الفلسفية التي يتحدث عنها التراث العربي الإسلامي، والتي تشترك غالبيتها في الخط العام التي تحكمها رؤية أحادية الجانب وخاصة في العصر الوسيط للعالم العربي والإسلامي، عندما نظرت جميعها إلى ذاتها المتباينة كما لو أنها مستقلة بصورة مطلقة عن تاريخيتها، أي ظلت قاصرة عن كشف العلاقات الواقعية الموضوعية، غير المباشرة، بين القوانين الداخلية لعملية الإنجاز الفكري وبين القوانين العامة لحركة الواقع الاجتماعي، أي بقطع صلته بجذورها الاجتماعية.
من زاوية ثانية يمكن القول بأن ماهيات بعض الحركات الاجتماعية في تاريخنا العربي والإسلامي، كانت ماهيتها المعرفية والفلسفية أقرب إلى الفهم المعاصر للعلمانية كحركة القرامطة التي اعتبرها بعض الباحثين الجادين أول جمهورية عربية في العصر الوسيط، إن لم نقل في التاريخ العربي برمته.. فكانت دولة من طراز جديد من حيث: قواها الاجتماعية؛ ومضامين برامجها الاجتصادية؛ وآفاقها المستقبلية؛ ومطلقاتها الفكرية، خاصةً عندما انطلقت من {تأليه العقل} وأن الله هو {العقل الأعلى}. هذه المنطلقات تركت أثرا لدى جمهر من العلماء والمفكرين الإسلاميين.. لكنها لم تتطور بما فيه الكفاية لعوامل موضوعية وذاتية تنصب بعض ماهياتها في السؤال المتمركز حول استفهامية لماذا لم تتطور العلاقات السلعية النقدية في العصر العربي الوسيط وعدم قدرة هذه العلاقات على التطور لبلوغ النظام الرأسمالي عبر تطوير بناءه التحتي ليفرز لنا بناءً فوقيا يتلاءم وإياها.. وهذا حديثا ليس مجالا التوسع فيه هنا. وربما تكمن الإجابة المكثفة جدا، في قوة البناء الفوقي السلفي الذي ساد ويسود العالم العربي ونظرته إلى هذه القضايا التي تمس الأبعاد المادية ومن ثم الفلسفية والفكرية.
لقد أحدث مصطلح العلمانية وأثار جدلا واسعا في العراق، كما في بقية البلدان العربية، وكانت تخوم القرن العشرين (الفترة التكوينية أو الجنينية) للبروز العملي لهذا المفهوم في المجتمع العراقي، إذ كانت هذه الفترة بمثابة المرحلة الجديدة للعراق المعاصر لتسرب المفاهيم العلمية التي تدلل على الاستدلال بهذا المفهوم أو قريبة منه كمنظومة حداثوية وهدفا مستقبليا، ترجمت ذاتها عبر أنشطة فكرية وحركات ذات نظرة تغيرية اجتماعية وأحزاب ومؤسسات سياسية. لقد كانت الحرب العالمية الأولى، وما أعقبها من تغيرات في بنية الدولة وقوامها وقاعدتها الاجتماعية، واحدة من أهم المؤثرات في هذا التغيير الذي شهده المجتمع العراقي.
وفي هذا السياق وضمن هذه التناقضات لابد من الإشارة إلى ملاحظة هامة لها علاقة بموضوعنا استقيتها من واقع الأنساق المتعددة للفكر العراقي وتطوره وهي: أن العاملين في الحركات الاجتماعية والسياسية العامة وذات البعد التنويري خاصةً العراقية قد برزت وبرعت بصورة كبيرة في الجانب التنظيمي لهذه الحركات أكثر مما هو عليه في الجانب التنظيري التجريدي لها، لذا لم يستطيعوا تكوين: - بناء نظري لماهية الدولة العراقية وآفاقها المستقبلي، والمفروض أن تكون مرتكزة على الهوية الوطنية (الجوهر الأرأس للعلمانية) والخيار المشترك والعقد الاجتماعي؛ - ولا لبنية المجتمع عامةً والمدني، خاصةً ومكوناته ومعاييره باعتباره الوسيط بين الدولة والمواطن، وهو كما قيل مولد المجتمع السياسي الديناميكي، إن لم نقل الدولة ذاتها. ومن جانب أخرى أرى أن شيوع وتسرب الأفكار المساواتية (ببعديها الديني واللاديني) وتلك ذات المسحة (الاشتراكية) واللبرالية الحديثة التي شهدها المجتمع العراقي منذ مطلع القرن المنصرم وازدادت حدته بعد نشوء الدولة العراقية المعاصرة.. جاءت ليس من خلال الصراع الاجتماعي الداخلي للمجتمع العراقي، بل كانت ذات طبيعة فوقية استلزمتها: الظروف المادية لتأسيس الدولة العراقية ذاتها؛ وتدخل العامل الخارجي في تكيف الواقع العراقي على وفق مصالحه الاستراتيجية من جهة؛ ومتطلبات الوجود الاجتماعي ذاته من جهة ثانية. وأزعم أن أحد أسباب هذه الظاهرة يكمن في عمق التخلف الاقتصادي/الاجتماعي، وكان ضعف القوى المنتجة دلالته الأرأس في المجتمع العراقي.. منذ سقوط بغداد على يد هولاكو في شباط 1258، ومن ثم تعدد الاحتلالات الأجنبية وأخرها كان العثماني الذي دام أكثر من خمسة قرون. وما التطور الذي حدث في هذا المجال الفكري، في منتصف العشرينيات سوى تعبير عن الاستقلالية النسبية للبناء الفوقي عن البناء التحتي. وكان في رحم هذه الظروف صيرورة تتشكل بتراكمات كمية بصورة بطيئة، تحولت لاحقاً إلى كيفيات سياسية وفكرية ونظرية.. مَثل بعضها فواصل مهمة في تاريخ العراق المعاصر، كالتغيير الجذري في 14 تموز. تفسر هذه الصيرورات (مع مجموعة عوامل أخرى) إلى حد كبير سبب عدم الاستقرار العام في العراق باعتبار أنه يعيش في مرحلة انتقالية. أما طرق انسياب هذه الأفكار المعرفية الجديدة للعقول، وخاصة الشابة المتعلمة والمثقفة، فكان بصورة سرية في البدء وبطرق مختلفة منها من خلال: - الكتب والمجلات والصحف العربية والأجنبية التي بدأت تتوافد منذ مطلع القرن العشرين؛ - الصلات المباشرة التي أقامها بعض المثقفين العراقيين مع قوى تقدمية في الخارج؛ - الالتقاء ببعض مؤيدي الاشتراكية والراديكالية خاصةً، أثناء الحرب العالمية الأولى؛ - ما كان ينقله ويبشر به بعض زوار العتبات المقدسة والصحفيين والسياح الأجانب؛ - الصلات المنظمة التي أقامها رواد الفكر التقدمي (الاشتراكي) مع الأممية الشيوعية؛ - الجنود والفنيين الهنود وبعض البريطانيين العاملين ضمن جيش الاحتلال الأول؛ - خلال الطلبة العراقيون العائدون من الخارج والمتأثرين بالفكر العلمي واللبرالي.
بدأت هذه الأفكار تتسلل بهدوء وسرية إلى عقول المثقفين النيرة كوسيلة ومنهج للخروج بإجابات لما تطرحه الحياة من إشكاليات وتساؤلات من منظور علمي جديد يخالف ما هو متداول من أفكار غيبية وتفسيرات لاهوتية والتي كانت تعبر عما تطرحه المؤسسة الدينية والتقليدية، بحيث لم تعد مقنعة للجيل المتعلم. لقد أثارت هذه الظروف مكامن البحث ليس عن الاستقلال السياسي فحسب، بل اكتسبت قبل ذلك بسنوات لدى جيل الشباب مشاعر الشك والاستفهام حول التوجه السياسي وتركيبة السلطة وماهية قاعدتها الاجتماعية والمحيط الاجتماعي وما ينتابه من قيم أفكار، عادات وتقاليد من قدسية النصوص وتبجيل القديم بكليته حتى ظهرت مشاعر التمرد بينهم. كما تعمق الانزعاج الفكري الذي عبر أول ما عبر عن نفسه في سنوات مطلع القرن الماضي والذي كانت جذوره تمتد إلى استنفاد الإسلام، وأصبح ميل الشباب التعلم إلى الشك بالأمور التي يراها كبار السن مثالية أو يعتبرونها مسلمات وانحسر احترام هؤلاء الشباب للتقاليد. كما بدأ الناس يسمعون في هذا الوقت، كما رصد ذلك الباحث الأكاديمي د.عامر حسن فياض، صيحات تطالب بالنظام الجمهوري وتحرير المرأة ومساواتها بالحقوق (الطبيعية والمكتسبة) والمطالبة بالحرية الفكرية والاهتمام بالمشاكل الاجتماعية.. كان التحسس بواقعها في الحياة السياسية والاجتماعية قد بدأ بصورة جلية منذ بداية العقد الثاني، وتبلورت بصورة ممنهجة إلى حدٍ ما في العقد الثالث من القرن المنصرم، وما إشراك العمال والأجراء والطلبة والقوى المهنية والمتعلمين ( وهم يمثلون نواة الطبقة الوسطى) منذ نهاية العشرينات في الساحة السياسية والحراك الاجتماعي إلا دليل على ذلك. وتأسيسا على ذلك يمكننا أن نؤرخ للفكر المسترشد بمفهوم العلمانية في العراق، كمحصلة جماعية، من أنه كان مع بدايات النشاط العلني للرواد الأوائل للفكر المساواتي (الاشتراكي) التقدمي والذي عبر عن آرائهم حسين الرحال ومجموعته، الذين مثلوا النواة الناضجة لفئة المثقفين(الانتلجنسيا) العضويين الذين قرروا إصدار مجلة ناطقة باسمهم وتعبر عن توجهاتهم ونظرتهم للحياة على وفق منظور علمي.. وهكذا أصدروا مجلة (الصحيفة). لكن في الوقت نفسه علينا أن لا نبخس دور رواد الفكر اللبرالي الذين بدءوا منذ مطلع القرن العشرين بالنضال بالكلمة ونشر الرأي الجريء وخاصة بعد حركة المشروطة في إيران (1906) والانقلاب الدستوري العثماني (1908)، وكان الشاعر جميل صدقي الزهاوي من ابرز هؤلاء الرواد اللبراليين خاصة إذا علمنا أن الظروف الداخلية والخارجية وما تمخض عنها في تلك السنوات وما تلتها.. قد وِسمت بصفة التطرف السياسي حتى أصبح الاعتدال بغيضاً نتيجة للتململ والحراك للمحرومين والفقراء في المدن خاصةً والفلاحين المطرودين من الأرض على وفق تغيير واقع ملكيتها.. لذا قام الحزب السري العراقي، كما يرصد ذلك الأكاديمي حنا بطاطو، بتهديد طبقة التجار، ففي تموز عام 1924 قام بعض من أعضاء الحزب المسلحون باقتحام مكاتب بعض كبار الأثرياء وهددوهم بالموت إذا لم يدفعوا آلاف الروبيات. في مثل هذه الظروف ومن خلال هذا الاندفاع الفكري وتلك المؤشرات التأسيسية الفكرية التي نشأت ثم تطورت رويدا رويداً، بدأ الصراع الحقيقي على عدة مستويات: - الدولة ومؤسساتها والمكونات الاجتماعية؛ - الهوية الوطنية وصراعها مع الولاءات الدنيا؛ - الصراع من اجل تغيير الكثير من عناصر العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع؛ - السوق الموحدة والأنماط الاقتصادية وتلائمها مع الحداثة والعصرنة؛ - بين المؤسسات السياسية والمجتمع المدني وبين الصيرورة المادية لتأسيسها؛ - الصراع بين القيم والموروث الاجتماعي (ذو الطابع الديني) ومتطلبات التطور؛ - الطبقة الوسطى ودورها في عملية التغيير الاجتماعي والأفق التاريخي لمشروعها.
#عقيل_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في رحاب التغيير الجذري وأفقه المستقبلي-حوار
-
حوار هادئ مع الباحث عقيل الناصري 2-2
-
حوار هادئ مع الباحث عقيل الناصري 1-2
-
الفلكلور والنهوض به
-
ذكرى رحيل الروح المتصوفة
-
عن البناء الديمقراطي في العراق
-
سياحة فكرية مع الباحث في القاسمية
-
دردشة على ضفاف تموز
-
حوار عن تموز وقاسم
-
حقائق واسرار الصراع السياسي العراقي في حقبة الخمسينيات
-
ما يزال العراق يدفع ثمن إغتيال ثورة 14 تموز
-
الانتفاضات الشعبية.. إرهاصات مهدت للثورة الثرية:
-
مرثية الرحيل القسري- كامل شياع
-
من تاريخية مناهضة الأحلاف العسكرية:حلف بغداد- في ذكرى إنهيار
...
-
شخصية عبد الكريم قاسم تمثل شموخ الثقافة الشعبية
-
القاعدة الاجتماعية لثورة 14 تموز
-
- البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (4-4)
-
البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (3-4)
-
البيئة والمنطلقات الفكرية لعبد الكريم قاسم: (2-4)
-
- - البيئة والمنطلق الفكري لعبد الكريم قاسم: (1-4)
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|