صالح جبار محمد
الحوار المتمدن-العدد: 3117 - 2010 / 9 / 6 - 22:50
المحور:
الادب والفن
حينما أطلت لمحت في عينيها بريق من حزن أكيد , عندما استقرت في مكانها ,
كنت ما أزال أتابعها بنظرات غامضة , أيقنت أنها تعاني من مشكلة ما ...وهي
منشغلة بإخراج أشيائها من حقيبة اليد , بعصبية واضحة بادرتها : لقد أخطئت
في المجيء... هنا ... رفعت رأسها , نظرت حولها , استدارت باتجاهي , أحسست
أنها تثق بكلامي , فقالت : نعم.
حاولت تركيز انتباهي , عما يدور أمامنا , بدا الأمر مضجرا برتابة
مملة .... تطلعت للجدران , البيضاء اللامعة , تابعت بعيني , أقلب بطرفيها
الاضوية المعلقة في السقف , النور المنبعث منها , يأت باستقامة لمقعدينا
المتجاورين أراك عصبية المزاج .. أبدا ... ولم العصبية ..؟ قصدت أنك
متوترة ... صحيح .... استدارت الفتاة الجالسة في المقعد الأمامي , أرادت
مشاركتنا الحديث .. لكنها عزفت حين تصادفت , نظراتها مع نظرات جارتي
المتوترة.... رحنا نصغي باهتمام لمحاضرة الرجل القابع خلف شاربه
الأبيض ... كان يواجهنا بثقته المفرطة .. شعرت بالعطش , رغم جو القاعة
البارد ... مضيت نحو براد الماء , حين أندلق الماء في جوفي أحسست بفراغ
معدتي في مثل هذه الساعة من النهار ... عدت لمكاني , لمحت ساقيها , حين
فسحت المجال لي, لأمرق أمامها .. عدت لأجلس جوارها ... بدت منهمكة في
كتابة المحاضرة , وهي تمضغ اللبان , دون فتح فمها .... قلت لها : مادة
المحاضرة جافة ... لاخيار لنا سواها ... راودني شعور بكتابة قصيدة حب ..
فكرت بكلمات أخطها على الورق , بينما الجميع منهمك بتدوين المحاضرة ...
كتبت ببطيء : أنت لي مثل أنية الزهر أراها ... ولاتصل أليها يدي ... أنت
لي ... توقفت ..فكرت عميقا باختيار مفردة تليق بها , لمحتها تختلس
النظر , بين حين وآخر لترى ما أكتب : أتمنى أنت لي ولست لأحد حين وقع
بصرها على المفردة الأخيرة , اتسعت عيناها من الدهشة , أخذت الورقة
رفعتها أمام عينيها , أغمضتهما بشدة , من تحت نظارتها المدورة , سالت
دمعتها لاأحد يستأهل هذه الدمعة ... قلت لها ذلك .... نظرت إلي بإمعان ,
بدا أنها تفكر بشي آخر بعيدا عني .. قلت : الحياة أكبر من حبيب غادر ...
التفت بنصف جسدها , نحوي وفي شفتيها , سؤال ينطق بلهفة : ما أدراك ,
بالذي قلته ..؟! قرأته في عينيك سكتت بصمت مطبق , لم أحاول إثارة
مشاعرها , أكثر من ذ لك , بقيت أتابع ما يقوله الرجل , بشاربه المهتز في
فترة الراحة , كنت ألهو بالحديث مع بعض الأصدقاء , شعرت بتفاهة اللغو
معهم , فكرت بالعودة ومتابعة الحديث معها ... وقفت أمام الباب الموارب ,
لمحتها منشغلة بالحديث مع الفتاة التي كانت تجلس , أمامنا , لم أحاول
التطفل عليهما , لكنها تركت محدثتها وأقتربت مني , قائلة.
هل تظن أننا نستفد من الحضور هنا ... ؟؟ ليس الفائدة المرجوة ... أحسست
نظراتها , تخترقني بشدة , عدنا ثانية للجلوس متجاورين , بعد انتهاء
الاستراحة : لقد أثرت الصداع في رأسي لماذا .. ؟؟ كيف علمت , ما أخبرتني
به سابقا .. ؟! هل كان زميلا لك في العمل .. ؟! نعم ... أين هو ألان ..؟
لقد سافر إلى الخارج ... قالت ذلك بمرارة واضحة , شعرت أنها بحاجة لئن
تخرج . من الدوامة ... فقلت : هل أتصل بك ..؟ نعم ... ولمرا ت عديدة ,
لكني لم أكلمه ... لماذا ...؟
عادت للسكوت , أيقنت أن شيئا داخلها يتهشم , وهي بحاجة للبكاء ... حتى
أتدارك الحرج الذي وقعنا فيه .. حدقت بالمحاضر الذي ما فتئ يتحدث بجدية
مفرطة سعلت بشدة , حين التفتت الفتاة , الجالسة أمامنا , لتسألني : هل
تستطيع استنساخ أوراق المحاضرة ...؟ كانت تلوح بحزمة الأوراق التي بيدها
لا ... عادت لجلستها .. نظرت لجارتي , اكتست بالهدوء المعهود .. قائلة :
لقد مضى عام على سفره ... ألازلت تفكرين به ...؟؟ أحسست بأن هناك من
يراقبنا .. ونحن نهمس لبعضنا ... أدرت رأسي للوراء , شاهدت امرأة بدينة
تتطلع ألينا بعينين ناعستين , والابتسامة تعلو شفتيها , اعتدلت بجلستي ,
رأيت الغيرة في عيني جارتي , قالت : أحسست بالزهو داخلي ... رحت أتابع
المحاضر , الذي ما زال صوته مسموعا في القاعة .... بقيت تمضغ العلك ,
وتدون ما تسمعه.
وضعت ساقا على الأخرى , مضينا نستمع باهتمام , في لحظة مربكة , انحرفت
بوجهها المدهش اتجاهي همست : أريد السفر للخارج ... تحاولين الهرب من
معاناتك ... ! كتبت لها على قصاصة ... ( كوني كما أنت , ولاتكوني كما
يريدون ...) بهتت حينما أطلعت عليها ... أردفت : أمي دائما تحدثني
بإصرار , عن تغيير سلوكي , لكني أتساءل , كيف لك أن تعرف ذلك عني ...
أجبت والزهو يملئني : الحاسة السادسة ... بدا أنها غير مقتنعة بأجابتي ,
بعدها مضينا نهبط السلم تشابكت أصابعنا , سرت داخلي رعشة مخيفة , وميض
يتقد في تجاويفي , ارتجفت شفتاها مثل زهرة متوردة من الخجل ... سمعنا
أصوات أقدام تأتي من بعيد ... افترقنا مبتعدين , حتى نتلافى ارتباكنا
المضطرب قلت : ألديك جواز سفر .. ؟ نظرت مبتسمة وقالت لا... ولكن هناك من
وعدني بإحضاره لي ... في نهاية بئر السلم , شممت رائحة سيكارة .. أشعلت
في رغبة عارمة لتدخين لفافة ,سحبت نفسا عميقا .. وصلنا بوابة الخروج ..
قلت : أذن ... حلمك السفر .. نعم ... زعيق السيا رات , وهرج أصوات
الباعة , يملاء الفضاء .. الشمس المشرقة ترمي بقوة, أشعتها الذهبية , على
البنايات المكتظة.
الأشياء مبهرجة مثل قوس قزح ... ثمة بائع مرطبات , يحدق بنا من خلف
أوانيه زاعقا : تفضلوا لم نعره اهتمامنا , مضينا نقطع الشارع , شعرت أن
العالم ليس سوى رفقة طيبة , وعطر فواح , يأتي من امرأة تسحر لبي , تجعلني
مهووسا بالفرح آلاخاذ , الأزقة تهمي رذاذا من طيور تعانق الأمل
الجميل ... تأكد لي إني أعيش بخرافة أسمها الحب ... قلت مكررا سؤالي :
إلى أين ... ؟؟ رفعت كراسها .. خطت بقلم الرصاص: ( إلى أرض الله
الواسعة ... ) ضحكت بصوت عال , أثار انتباه المارة , ظلت مقطبة الجبين ..
تستفسر بملامح وجهها المحمر خجلا , عن سبب ضحكتي المفاجئة والمجلجلة ..
شعرت بها , هديل يرشح لحنا , لايعرف السأم ... أيقونة كتبت عليها تراتيل
محبتي صارت الزغاريد لحنا لفرح غامر يملئني .. أجتث داخلي أعواما
عجاف ... حسبت لحظتها , أنها لن تزول .. انبثق نهار يرسم البسمة , كإمضاء
خجول لامرأة كتبت أبجديتها على صدري اللاهث بحثا عن الذاكرة المنسية ...
ولكي أطرد وهم مخيلتي قلت لها أنك امرأة حالمة ... مترعة أزاهيرها
بالندى , تربتها الندية بذرة خصب لأله يطوي المسافات , بحثا عن يقين راسخ
في هيكلها المتنامي بأدغال سحيقة للود الطافح بعينيها قلت : أريني
كفك .. ؟؟
وماذا ستفعل به ...؟! كي أقرأ طا لعك ... من صوتها الضاحك سمعتها تردد
هذه موهبة أخرى .. ! كفها مشرع أمام عيني , مثل شراع صغير , لسفينة تائهة
في بحر , متناثر بوله مجنون ... يتمنى أن لا يفيق ابدآ .. قلت : أن خط
الحياة عندك طويل ... تأريخ جاثم منذ دهور... أنك تبحثين , عن كلمة فقدت
من قواميسنا .. ماهي ... ؟ ! الوفاء ... أشتعل في عينيها لهب يتأجج ليسيل
في جداول خديها ... ثمة اشتهاء لرؤية طفل روحها , الذي يثب في مكان ما ..
من ثنايا أضلعها , حيث يختبئ الإحباط المفرط من حبها الأول .... أنها
تستسلم لشيء يعلق بمجرى ذكرياتها , التي لازالت تحتل مساحة واسعة من
تفكيرها المر ... بعذابات الفراق , حين يتشح الزمن بعد الأحبة بلون
المساء ... هكذا كان طعم الكلمة عندها ... لما بادرتني : أرى أنك تقرأ
أفكاري ... وليس خطوط يدي ! ما وراء قضبان صدري , لمحت شخصا يبتسم , مثل
ثعلب ماكر , يهوي لعبة الاختفاء ... خلف ملامح وجهي الذي بقي مقطبا
وجديا ... قلت : هل تظنين ذلك .... ؟ كانت لاتقوى على السير , وأن
هودجا , لجمل تائه يحملها في صحراء , لاقرار لها يئن من هول الفراق ..
عجزت أن تكلمني .. وفي محاولة شعرت أنها ثقيلة عليها ... قالت :
أتمنى أن أختفي من الوجود .... هل بدأ اليأس يدب في مفاصلك ... الخيارات
أمامك متعددة ... ماذا تقول ... هل تريد أن أصبح حقلا للتجارب .. يكفي ما
عانيت. هل جربتي .. جرعات الأيمان .. ؟! في زوايا الروح , تسيل ببطيء
لزوجة من الرطوبة تدمر الجدران , لتوقد في ثنايا هياكلها ثقوب الخراب ...
عند نهاية الشارع افترقنا. احتجت ألتكلم معها ... كان علي أعداد أفكاري
بوضوح , بلا تردد .. أحدثها عن سبر أغوار الإيمان ... حيث الروح تكون
فراشة من نور ... تطير في سموات صافية الزرقة , بعيدا عن العذابات
الواهية ... هو نسمة تلامس بشرتك بحنو مرهف , ينسيك الجدب المطوق أسوار
أحلامك الممنوعة , وحبور رقراق , يتدفق مثل شلالات مترعة بالنفاذ الأبدي
نحو النهايات السعيدة.
الحقيقة المطلقة بلا مواربة ... تسقسق عليها عصافير شجرة السد ر ,
المزروعة وسط الدار , ولا ترحل مطلقا غبش يأتي بعد ظلمة , لم نتكيف
معها , يحمل أجراسه , لوقع رنينها يرقص المحال , لاشيء يمكث في سواحل
الروح , سوى الالق الطاغي , في عنفوان يمور , مثل غابات الثلج , تمتد في
أتساع لاتعرف الحدود كم أحتاج أن أراك ألان , من يأتيني بك الساعة .. !!
بيني وبينك تمتد أزقة وأحياء لاحصر لها , تلتف ملتوية بكل الاتجاهات ,
تضيع بملامحها , خرائط صماء لاتخبرني عن شيء يسعف رغبتي المتأججة في
الليل البهيم لاأجد غير طيفك يحل في مخيلتي , حورية تخرج من بحر لم تطرقه
الأحاديث ... ولا أحد غيري يعرف طريق الوصول أليه ... لم يسكن سواحله سوى
وهم الرمل , عن حكايا لفارس أرتحل صوب ميادين مغلقة النهايات , يتبدد في
أراجيح اللهو , ضحكات , أضاعتها وقع أقدام , تهرب نحو الأفق المطبق على
بوابة الشمس , بلا أمل في الرجوع
#صالح_جبار_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟