مجلة الحرية
الحوار المتمدن-العدد: 3115 - 2010 / 9 / 4 - 22:34
المحور:
الادب والفن
أعلام
من الذاكرة
محمد مهدي البصير
جليل الخزرجي
الدكتور محمد مهدي البصير أحد أبرز رجال الحركة الوطنية في العراق ومن الذين بذلوا جهودا كبيرة في حث أبناء الشعب العراقي على مقاومة الاحتلال البريطاني للعراق وقد اعتبر شاعر الثورة الوطنية , ولد في مدينة الحلة عام 1895م في محلة الطاق وهي من محلات مدينة الحلة وأخذ يدرس على يد أبيه الذي كان أحد ابرز رجال مدينة الحلة في قراءة المآتم الحسينية وقد أخذ يعمل فيما بعد في مجال عمل أبيه , مارس العمل السياسي عام 1919م حيث انتمى إلى (جمعية حرس الاستقلال) وكان أهداف هذه الجمعية هو المطالبة باستقلال العراق ورفض الاحتلال البريطاني.
أصبح البصير فيما بعد رئيسا لفرع هذه الجمعية في مدينة الحلة وبقى رئيسا لها الى أن غادر مدينة الحلة إلى بغداد للمشاركة مع رجال الحركة الوطنية هناك لحث الجماهير للمطالبة بالاستقلال , وصل إلى بغداد عام 1920م أي قبل إعلان ثورة العشرين بعدة أشهر , وعند وصوله إلى بغداد نزل ضيفا على السيد محمد الصدر الذي كان رئيسا لجمعية حرس الاستقلال في مدينة الكاظمية , بعد أن استقر البصير شرح للسيد الصدر عن سبب مجيئه إلى بغداد وهو القيام بحملة دعائية واسعة ضد حكومة الاحتلال البريطاني على أن تكون الحملة ذات طابع ديني حتى لا تمنعها حكومة الاحتلال , رحب السيد الصدر بهذه الفكرة ووعد البصير بأنه سوف يعرضها على اللجنة التنفيذية (لجمعية حرس الاستقلال).
بعد اجتماع الجمعية ومناقشتها للفكرة وافقت عليها بالإجماع وعليه قررت عقد الاجتماعات الجماهيرية على أن تكون بالظاهر سلسلة حفلات للمولد النبوي الشريف ثم يتخللها ذكر مقتل الحسين(ع) , أُختير جامع الحيدر خانة وجامع السيد سلطان علي في شارع الرشيد وهما من أكبر جوامع بغداد في ذلك الوقت , فأقيمت فيهما اجتماعات جماهيرية عديدة وألقيت في هذه الاجتماعات الخطب والقصائد الوطنية التي تطلب من الشعب العراقي توحيد الصفوف من أجل طرد الاحتلال وإقامة حكومة وطنية.
كان من أهم القصائد التي ألقيت في هذا الاجتماع قصيدة سياسية حماسية للشاعر الشاب عيسى عبد القادر الديزلي تكونت من أربعة وعشرين بيتا دعا فيها إلى الاتحاد وعدم التفرق وقد ختمها بالبيتين الآتيين :
وبعد أقول للجاسوس منا
تجسس ما استطعت الحاضرينا
وبلغ من تريد فقد بنينا
لاستقلالنا الأس المتينا
بعد انتهاء الاجتماع ألقت قوات الاحتلال القبض على هذا الشاعر ونفته إلى مدينة البصرة , وفي 25 / آذار / 1920م أقيم اجتماع جماهيري في جامع الحيدر خانة للاحتجاج على اعتقال الشاعر المذكور , وبعد انتهاء الاجتماع خرجت الجماهير في مظاهرة كبيرة الأمر الذي أزعج حكومة الاحتلال فأمرت بإطلاق النار على المتظاهرين فأصيب أحد المتظاهرين , وسقط شهيدا , على إثر استشهاد المواطن عمت بغداد مظاهرات جماهيرية واسعة وقامت هذه الجماهير المنحشدة بتشييع الشهيد الذي لقب بشهيد الوطن.
في اليوم الثاني لهذا الحادث استدعت السلطة البريطانية كل من محمد مهدي البصير , جعفر أبو المتن , علي البزركان , أحمد الشيخ داود , وهؤلاء هم أبرز رجال الحركة الوطنية في بغداد , وبعد اجتماع الحاكم السياسي لمدينة بغداد مع هؤلاء الرجال حملهم مسؤولية هذه الأحداث وأنذرهم بضرورة ترك هذه الأعمال وإن لم يتركوها فأنه ستتخذ عقوبات شديدة ضدهم.
لم يعر البصير وجماعته اهتماما لتهديد الحاكم الانكليزي بل استمروا في حث الجماهير على الاستمرار بالمطالبة بالاستقلال.
ثم دعي إلى عقد اجتماع أخر في جامع الحيدر خانه وبعد أن عقد هذا الاجتماع قام محمد مهدي البصير بإلقاء قصيدة حماسية جاء فيها :
إن ضاق يا وطني علي فضاكا
فلتتسع بي للأمام خطاكا
أجرى تراك دمي فإن انا خنته
فلينبذني أن ثويت ثراكا
بك همت بل للموت دونك في الوغى
روحي فداك متى أكون فداكا
أتراك تضمن لي كرامة مصرع
فيه أبيت مجاورا صرعاكا
هب لي بربك موتة تختارها
يا موطني أولست من أبناكا
عند قيام ثورة العشرين في 30 / حزيران / 1920م واستيلاء الثوار على مدن كربلاء والنجف والكوفة وبعقوبة والرميثة وبقية المناطق الأخرى أخذ البصير والعديد من رجال الحركة الوطنية الاستمرار في حث الناس على الانضمام الى صفوف الثورة ونظم والقاء القصائد الحماسية التي تزيد من همة الثوار , بعد انتهاء الثورة وهروب معظم قادتها الى خارج العراق واعتقال من لم يتمكن من مغادرة العراق قرر البصير الاختفاء من أعين سلطات الاحتلال لأنه يعلم بأن سلطات الاحتلال ستعتقله لا محالة لأنها تعرف أن له يدا في إثارة الناس وتأليب قلوبهم ضدها .
بعد مبايعة الملك فيصل ملكاً على العراق وتوجهه الى العراق عاد معظم قادة الثورة الذين كانوا قد لجؤوا إلى الحجاز وكان من هؤلاء جعفر أبو التمن حيث عاد بعد أن تخلف عن الملك فيصل لأنه كان غير راغب أن يأتي معه على نفس الباخرة وتظاهر بأنه يريد أداء الحج وبالفعل بقى هناك الى أن أدى فريضة الحج بعدها عاد الى العراق ولما كان أبو التمن من أصدقاء محمد مهدي البصير المقربين فقد نظم البصير قصيدة ترحيبية بقدوم جعفر أبو التمن منها هذه الأبيات :
طرقت بغداد والإقبال مقتبل
فعش لشعبك وأسلم أيها البطل
سافرت أمس فكم هز الحشا وجل
وقد سفرت فكم هز الحشا جزل
هي الجوانح كم قد شفها ألم
واليوم أنعشها في قربك الأمل
يصفق الشعب والأحشاء راقصة
وكلنا بك من خمر الهنا ثمل
هجرت بغداد حيناً ثم عدت
وقد تقلص ذاك الحادث الجلل
كان البصير قد عمل في جريدة الاستقلال في بغداد والتي تعتبر من الصحف الوطنية في تلك الفترة وقد كان يكتب فيها مقالات تنتقد سياسة السلطة المحتلة ويطالب بخروج قوات الاحتلال البريطاني من العراق الأمر الذي جعل السلطة المحتلة تقوم باعتقال محريرها واصدار أمر بتعطيل الجريدة على أثر اعتقال محريري الجريدة قدم هؤلاء ومنهم البصير الى المحكمة فحكم عليهم بعقوبات مختلفة , أما عقوبة البصير فكانت بقاءه تحت المراقبة لمدة سنة وتقديم كفالة نقدية إضافة الى مكوثه عدة أشهر في المعتقل.
في 13 / آب / 1922م صادف الذكرى الاولى لتتويج الملك فيصل فقرر رجال الحركة الوطنية في بغداد أن يقوموا بمظاهرة سلمية تتجه الى البلاط الملكي لتهنئة الملك فيصل بهذه المناسبة ومن ثم تقديم مطالب الشعب وقد تم اختيار البصير أن يكون ممثلا للحزب الوطني والسيد محمد حسن كبة ممثلا لحزب النهضة وهما الحزبان اللذان أشرفا على تنظيم هذه المظاهرة .
بعد وصول المظاهرة الى الشارع القريب من البلاط الملكي قام البصير بالقاء كلمته في هذا الاحتفال , وفي اثناء إلقائه الكلمة جاء المندوب السامي البريطاني والمسز بيل لتقديم التهاني الى الملك فيصل بهذه المناسبة , ولما شاهد المتظاهرون المندوب السامي أخذوا يهتفون (بسقوط الانتداب) .
في هذه الفترة مرض الملك وأجريت له عملية جراحية الأمر الذي مهد للمندوب السامي البريطاني أن يفعل ما يشاء حيث أصبح هو الذي يحكم البلاد بعد خلود الملك الى الراحة أثر العملية الجراحية التي أجريت له .
فقرر المندوب السامي إغلاق حزبي النهضة الوطني وغلق جريدتي الرافدين والمفيد اللتين كانتا صوت الحركة الوطنية كما قرر المندوب السامي البريطاني اعتقال كل من محمد مهدي البصير , جعفر أبو التمن , عبد الرسول كبة , حمدي الباججي , أمين الجرجفجي.
بعد اعتقال هؤلاء قررت حكومة الاحتلال نفيهم الى جزيرة هنجام , أمضى البصير ورفاقه في المنفى مدة أثنين وخمسين يوماً زارهم خلالها القنصل البريطاني العام بندر عباس وهو يحمل معه اوراق تعهد كانت على النحو التالي (أقسم بالله أن أتبع سياسة حكومة جلالة ملك العراق واتحاشى كل حركة تخل بالامن العام وتهيج الافكار ضد الحكومة) .
طلب القنصل العام من محمد مهدي البصير , عبد الرسول كبة , أمين الجرجفجي , وحبيب الخيزران وسامي خوندة التوقيع على هذا التعهد إلا أن البصير وحبيب الخيزران رفضا التوقيع على التعهد , بعد فترة قصيرة جاء القنصل العام الى مرة أخرى الى الجزيرة وخاطب البصير بأن الحكومة قد أنذرته بالبقاء في هنجام إن لم يوقع على هذا التعهد .
بعد كلام طويل مع زملائه الأخرين والحاحهم عليه بضرورة التوقيع على هذا التعهد لأن صحته لا تمكنه من البقاء في هذه الجزيرة النائية قرر البصير التوقيع على هذا التعهد .
بعد توقيعه على التعهد غادر الجزيرة مع زملائه بعد أن أمضوا أكثر من أربعة أشهر , بعد عشرة أيام وصل البصير وجماعته الى البصرة وتم تسفير جماعته الى محطة القطار اما البصير فقد تم ادخاله الى سجن البصرة حتى يوم 24 / مايس / بعدها سمح له بالعودة الى بغداد .
عند عودته الى بغداد استقبل استقبالا منقطع النظير من قبل الشخصيات السياسية ورجال العلم والأدب في بغداد وأقيمت له حفلات عديدة كما زاره العديد من الشخصيات الأدبية من المدن العراقية الأخرى وقدموا له التهاني بسلامة العودة .
استمر البصير في مواقفه الوطنية حيث كان من أشد منتقدي المعاهدات الجائرة التي عقدتها الحكومة البريطانية مع العراق وأستمر في نظم القصائد الوطنية العديدة في انتقاد سياسة الانكليز تجاه العراق واستمر على منهجه هذا الذي كان قد سار عليه ايام الاحتلال وبعد قيام الثورة العراقية الكبرى حتى أطلق عليها لقب (مير أبو العراق) وهكذا بقي الشيخ البصير مناهضا لسياسة الاستعمار الى أن قامت ثورة 14 / تموز / 1958م فكرمته الثورة ورعته وبقى موقع اعتزاز وتقدير احترام الدولة والشعب الى أن توفى عام 1974م .
أقيم حفل تأبيني كبير في كلية الأداب بمناسبة أربعين يوما على وفاته وحضر هذا الحفل العديد من الشخصيات السياسية ومسؤولي الدولة وألقيت القصائد والخطب التي تشيد بمواقفه ضد الاحتلال البريطاني ومواقفه الوطنية ضد المعاهدات البريطانية العراقية وجهوده الأدبية ودوره في النهضة الأدبية في العراق ومن القصائد التي ألقيت في هذا الحفل التأبيني قصيدة طويلة للدكتور هادي الحمداني منها هذه الأبيات :
ما ضاق من وطن عليه فضاء
أرض تفتح صدرها وسماء
إن مدت الدنيا عليك ظلامها
فجميعنا من حولنا ظلماء
ما عاد يبصر باطن عن ظاهر
إلا بمن تتبين الاشياء
والعين ما عادت بصيرة مبصر
إلا بما يتذرع الجهلاء
يغشى الظلام المبصرين وظلمه
تطوي على ألم بها الاحناء
أيقال أعمى والضمير بريقه
من خطفه تتبدل الانواء
ويقال أعمى والقريحة غضبه
قد ذاق حر جحيمها الدخلاء
هذا وقد ألف البصير كتبا أهمها كتاب القضية العراقية في ثلاث أجزاء وقد اعتبر هذا الكتاب مصدرا مهما للباحثين في الثورة العراقية الكبرى كما ألف كتبا أخرى منها بعض الشعر الجاهلي , المختصر , الموشح في الاندلس وفي الشرق , نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر وكتب أخرى اضافة الى ديوانه الشعري حيث اعتبر البصير من الشعراء الكبار وهكذا كان الشيخ محمد مهدي البصير مكافحا وثائرا ناضل ضد الاحتلال البريطاني للعراق ومن ثم شاعرا واديبا مرموقا أرفد المكتبة العربية بالعديد من الكتب الأدبية في عراقنا الحبيب وهكذا كان البصير ذا ميول قومية أمن بها وضحى من أجلها سواء بموافقة الوطنية أو بأفكارها التقدمية .
#مجلة_الحرية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟