|
إسرائيل ك-لاعدل- جوهري مستمر
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3114 - 2010 / 9 / 3 - 17:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في جدولها الوراثي، تحمل إسرائيل التي "وُجدِت لتبقى" محرقة مستمرة. هناك نازع عميق متأصل في كيانها لإبادة الخصوم والأعداء المتصورين، أو (وهذا هو الشيء نفسه) خفض حياتهم إلى مرتبة وجودية أدنى. ولما كانت نشأت على حساب مجتمع آخر، لا ذنب له في سابق معاناة اليهود، ولم يُستشر في شأن مقامهم في وطنه، ولما كان المقام هذا فرض بالقوة وتمخض عن محنة إنسانية مستمرة يعانيها اليوم ما يعادل ضحايا الهولوكوست المفترضين عددا، وما يساوي عدد سكان إسرائيل اليهود الحاليين تقريبا، لما كان الأمر كذلك فإن من غير المتصور زوال حالة العداء لإسرائيل دون زوال الأعداء أنفسهم، أي الفلسطينيين الذين تكونوا كشعب واع بذاته في خضم هذه المحنة الأليمة. ليس هذا حادثة تاريخية حصلت وانتهت، إنه واقع جوهري غير قابل للتقادم. بالضبط لأنه مغروس في صلب الكيان الإسرائيلي، بل هو الطبقة الأعمق في الكيان، "لاشعوره" الدائم. ولعله من جانب آخر يشكل هولوكوستا مضادا، مُعادِلا تماما لذاك الذي بُرمِج الضمير الإسرائيلي نفسه عليه منذ ما بعد حرب 1967، وإن اختلف الأسلوب والإيقاع الزمني والتنفيذ و.. المُنفَِذون طبعا. وما يترتب على ذلك فورا هو أن هناك واحد فقط من حلين اثنين لهذه المشكلة: إبادة الفلسطينيين والتخلص منهم نهائيا، وإلا فزوال الكيان الإسرائيلي. ليست هذه الصيغة أو تلك من "الحل النهائي" النازي للمسألة اليهودية هوى إيديولوجيا أو انحيازا ثقافيا بقدر ما هي إلزام مفهومي، مُترتِّب على مفهوم إسرائيل لذاتها وعلى تجربتها المكونة (طرد الفلسطينيين من وطنهم دون ذنب أتوه، وإقامة كيان إسرائيل على حسابهم بالقوة). إسرائيل هي نفي فلسطين. وتاليا فإن تأكيد هذه نفي لتلك. إن الحليف الأقوى للفلسطيني والعربي الراغب في إزالة إسرائيل هو إسرائيل ذاتها التي تدأب على النضال من أجل إزالته (أو خَفْض مرتبته الوجودية، بما يُسهًّل إزالته). وهذا ما تُصادِق عليه مُراكَمتُها لأحدث وسائل العنف وأشدها فتكا، بما فيها الأسلحة النووية القادرة على جعل كل المدن العربية رمادا؛ وما يصادق عليه أيضا مسلسل تاريخي طويل غير منقطع، عمره من عمرها، من الحروب والاعتداءات والجرائم، مع الحصانة الدائمة من العقاب. وما تصادق عليه أيضا الاستثنائية الإسرائيلية، الأخلاقية والقانونية والكيانية، المُغطّاة والمكفولة من مركز القوة والحضارة في العالم الحديث، الغرب. أعني بالاستثنائية الكيانية أن إسرائيل دولة ليست مثل غيرها، لا تنضبط بالقيم لأنها القيمة مجسدة في عين نفسها وظُهرائها الغربيين، ولا تُحكَم بقواعد الشرعية لأنها معيار كل شرعية في نظرهم، فوق كونها مقدسا لا يُمَسُّ أمنه ووجوده من حيث كونها كيانا تاريخيا دنيويا معاصرا. من حق السياسي أن يتجنب إلزاما مفهوميا على هذه الدرجة من الصرامة، لكن ينبغي أن يحتاج أحد ما إلى الوضوح في هذا الشأن. وإذا طابق السجل التاريخي (والتاريخ مملكة الجواز) مقتضى التحليل المفهومي (الماهوي والحتمي) كان على السياسي بالذات أن يأخذ ذلك في اعتباره. أما المثقف، فالتزام الوضوح تعريفٌ له. والحال، لا يبدو أن مشكلة الفلسطينيين والعرب متولدة عن عدم تبيُّن ذلك، بل بالأحرى عن العجز عن ترجمته إلى سياسة عملية تحظى بفرص الاستمرارية والنجاعة. من هذا الباب كانت قضية فلسطين محرقة للسياسيين، فلسطينيا وعربيا. ولعلها ستبقى كذلك إلى أمد طويل. هذا لأن مقتضيات السياسة الصحيحة، الرفض الجوهري لإسرائيل، تتعارض مع الممكنات الواقعية التي لا تقوم سياسة دون اعتبارها. وهو ما يعني بكل بساطة أنه ليس هناك في الظروف الراهنة سياسة عربية صحيحة حيال المعضلة الإسرائيلية، وتاليا ليس هناك سياسيون صحيحون. وهو ما قد يصلح تعريفا للصفة المأساوية لهذه المحنة الفلسطينية العربية الإسرائيلية. *** ممرضٌ ومثير للاشمئزاز تفاعلُ القوى الغربية مع الجريمة الإسرائيلية الأخيرة في المتوسط في 31 أيار. بخاصة تلك التصريحات المشينة عن استخدام مفرط للقوة. ترى ما هو مقدار القوة المناسب لمواجهة قافلة مسالمة تحمل مواد إغاثة إنسانية لمجتمع مُحاصَر منذ سنوات؟ بحمايتها الخروج الإسرائيلي المستمر على القانون وفرض استثنائيتها وضمان حصانتها المستمرة مهما فعلت، تقوض القوى الغربية فكرة القانون ذاتها، فتفتح الباب لحكم الأقوى، أي البربرية. ومن شأن ذلك أن يرتد على دول الغرب ذاتها. ليس بالضرورة على طريقة تنظيم القاعدة، بل عبر تغذية التيارات الأكثر عنصرية وعدوانية في الغرب ذاته. إذ لا يمكن أن تثابر القوى الغربية على ممارسة التمييز واحتقار المبادئ التي تحمي العدالة والحياة دون أن يُستبطَن ذلك في ثقافتها ومؤسساتها. بتغطيتها جرائم إسرائيل، لا تُسمِّم القوى الغربية حياة العرب وثقافتهم فقط، وإنما هي تنصب فخا تاريخيا لنفسها، لا يبعد أن تقع فيه يوما. عادلٌ أن تقع فيه. هذا فوق أن إسرائيل بحد ذاتها استمرار للعلاقة الكولونيالية بين القوى الغربية والعالم العربي، بل هي استمرار الاستعمار بوسائل أخرى أشد فتكا، وهي خلاصة العصر الاستعماري الأشد عنصرية وعدوانية وامتلاء بالتمييز والكراهية في عالم اليوم. ولهذا فإن تلك القوى مسؤولة بصورة لا يمكن الانتقاص منها عن تعثر العالم العربي وتغذية كل ما هو استبدادي ومفوت وفاسد في بنى مجتمعاتنا وثقافتها. فحين لا يكون ثمة سياسة صحيحة لأية قوى فلسطينية وعريية حيال إسرائيل، بفعل ما تحظى به هذه من مساندة ودعم غربي مستمر، وحين تصطدم جميع خيارات العرب حيال الواقعة الإسرائيلية، بما فيها الأكثر خنوعا، بجدار صلب من الرفض والازدراء، فلا بد أن يثير ذلك في أوساطنا تفاعلات انحلالية. من هذه التسليم المستخذي، ومنها التحدي الأرعن، ومنها النفس المنقسمة دوما، ومنها الشعور الدائم بأننا ضحية، ومنها كراهية العالم وكراهية الذات، وإرادة تدمير العالم والذات. هذا فوق أن سد أبوابنا إلى المستقبل يمنع الماضي من الانصرام، ويبقي أبوابه وحدها مفتوحة. في هذا كله، إسرائيل وسندها الغربي ليسوا خصوما سياسيين عاديين، إنهم يعتدون على حياتنا ولا يكفون عن تمزيقها. لا ينبغي أن يُضطر المرء لقول شيء عن أسواء تفاعلنا الذاتية مع إسرائيل والغرب والعالم حتى يستطيع أن يقول ذلك. ولا ينبغي لنقد الذات الضروري أن يُسخَّر لإضفاء النسبية على الأذى الرهيب الذي ألحقه بنا هذا التمديد للشرط الاستعماري. لقد فاقم من أسواء تفاعلنا وشوّشنا إدراكيا (ماذا يجري؟) ووجدانيا (ماذا نريد؟) ووجوديا (من نكون؟). هذا غير عادل. وغير حكيم. ولا ينبني عليه غير الأسوأ للعالم ككل. المقالة كتبت في مطلع حزيران 2010، إثر الاعتداء الإسرائيلي على "أسطول الحرية".
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدولة، الدولة أيضا، الدولة دوما
-
في -السياسة الطبيعية- والمشكلات غير السياسية
-
أهي نهاية الحداثة السياسية العربية؟
-
في الخروج من بنية مغلقة لا مخرج منها
-
التدين الإسلامي والحاجة إلى أخلاقية عامة
-
في شأن النقاب وحركة التنقّب الاجتماعي
-
-المسألة النِّقابية- وعبء المرأة المسلمة
-
في تاريخية الإسلام المعاصر وحداثته - إلى روح نصر حامد أبو زي
...
-
هوامش مناورة.. الولاء كنظام وكعلاقة سياسي
-
في الواقع لا في النص: أيّ يسار، أين، وأية سياسات يسارية؟
-
أربع صيغ للنزعة المحافظة... ثلاث منها عالمة
-
من نقد الثقافوية إلى نقد الثقافة.. والدين
-
هل أوضاعنا جامدة بالفعل، لا تغيير فيها؟
-
في معنى أزمة الثقافة ووجوهها وحصائلها
-
محمد عابد الجابري ونهاية الموجة التراثية
-
هل من الممتنع تصور إيران نووية متفاهمة مع الغرب؟
-
في تقدم التجزؤ وشغور موقع العام في مجتمعاتنا المعاصرة
-
صراع على الألم بين أبناء الجواري، تعقيب على منهل السراج
-
ثلاث استقلالات.. مستقلة عن بعضها
-
من أجل نقد جمهوري وديمقراطي للقومية
المزيد.....
-
-حماس- تصدر بيانا بشأن فلسطينيين تتوقع الإفراج عنهم مقابل 3
...
-
عمدة مدينة اسطنبول أمام القضاء وسط هتافات المؤيدين ودعوات لا
...
-
أكبر تجمع للمسلمين بعد الحج .. مهرجان ديني على ضفاف نهر تور
...
-
مشغلو المسيرات الروس ينقذون جنديا روسيا معتقدين أنه أوكراني
...
-
لماذا يخشى ترمب تخلي -بريكس- عن الدولار؟
-
ترامب: سأفرض رسوما جمركية على السلع الأوروبية لأن بروكسل تعا
...
-
إسقاط 7 مسيرات أوكرانية فوق مقاطعة بريانسك الروسية
-
فرق الطوارئ الأمريكية تنتشل جثث 41 ضحية في حادث تصادم الطائر
...
-
زاخاروفا: روسيا قدمت بديلا للكتل السياسية العدوانية على السا
...
-
المغرب واليمن.. توقيع 7 اتفاقيات لتعزيز التعاون
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|