أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : الخاتمة















المزيد.....


الأولى والآخرة : الخاتمة


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3112 - 2010 / 9 / 1 - 08:14
المحور: الادب والفن
    




هذا السّفرُ، المَخطوط، آنَ له أن يَصلَ إلى مُنتهاه.
إلى نهايته وليسَ إلى كماله؛ فإنّ أوراقَ الكناش، على أيّ حال، قد شارَفتْ على النفاد. لم يبقَ في دَفتري، إذاً، سوى أربعة أوراق بيض حَسْب، بعدما سبقَ لي أن سَودّتُ أخواتهما بخطي المُتأني، الكبير. لن أفتحَ دفتراً ثانياً، كيلا يُسْحرُني من جديد إغواءُ الكتابَة.
من ناحيَة أخرى، لن أسمَحَ لريشتي هنا بتسجيل أيّ عبرَة من أحداث العامّية، التي تعرّضتُ لذكر تفاصيلها في كناشي. لأني ما أفتأ على يَقيني، بأنّ أحداً غيري لن يتسنى له أن يَقرأ ما دوّنته في هذه الأوراق، الكثيرَة، المَنذورَة كما أتمنى للنسيان والهَباء والعدَم.

" من حقكَ، يا سيّدي، ألا تجشمَ نفسكَ عناء الإجابَة؛ بعدما نلتَ مُرادكَ أخيراً "
خاطبتُ البك عن قرب وبلهجَة من جُرحَتْ كرامته. ضحكة خافتة، ندّتْ عنه مَصحوبَة بهزة من رأسه: " وأنتَ، يا آغا، ألم تنل بَعدُ ما كنتَ تريده؟ "، تساءلَ بشيء من التهكّم. وإذا بي، مَدفوعاً بألم الجُرح، أخوضُ في عَرْض ريبتي بمَسلكه؛ بكلّ ما جدّ من أمور، مُلغزة، مُذ ليلة الأورطات قبل أكثر من سنة. هادئاً دوماً، أنصَتَ إلى كلامي المُتهوّر، المُتصاعد وَقع حدّته. حتى إذا ما سكتّ، فإنه شاءَ أيضاً الاسترسال في الصّمت ودونما أن تكفّ شهيّته عن التلذذ بالحلوى والفاكهة. خمّنتُ إذاك بأنه يُتيح لذهنه حَبكَ شبكة خداع، أكثر جدّة.
" من مُجمل ما طرَحته جنابكَ من كلام، فإني أتوقّفُ عند نقطة أساسيّة؛ وهيَ نيّتكَ في مُبادلة مُخطط الكنز باعتراف مني، صريح، بكوني من اقترَف الجرائم تلك، المَعلومة "، استهلّ البكُ كلامه ثمّ أضافَ " أقول ذلك، لأنكَ تبدو غير مُقتنع بما تملكه من أدلّة ضدّي؛ هذا إن وَجدَتْ هكذا أدلّة حقا "
" يَكفي دليلاً، ما وصلتْ إليه اليومَ أحوالُ حاضرتنا "، هتفتُ باتراً كلامه في حَسم. احتفظ بالهدوء، لما أجابَ: " هذا هراء. اعذرني إذ أتكلّم هكذا. وعلى كلّ حال ، فإنّ قولكَ عاطفيّ ولا يَصلح أن يكونَ وثيقة اتهام "
" ولكنكَ تعلّقُ على جملتي الأخيرَة، ولم تجب عما عرَضته أمامكَ من شبهات بحق شخصكم؟ "
" اسمح لي، يا عزيزي، بالقول: إنكَ تخشى فضح شخص القاتل، المَجهول "
" فلمَ لم تسمّه أنتَ، عوضاً عن استرسالكَ باللامُبالاة؟ "
" إنه الشاملي، الزعيم؛ إذا كانت تسميتي إياه تريحُكَ. وكنتُ مُنتظراً منكًَ أن تبادر أنتَ إلى الإشارَة إليه "، قالها بغير انفعال أو تأثر. من جهتي، صدّقتُ على الجملة الفائتة؛ التي تفترضُ خشيتي من تسميَة القاتل. ولكنني لم أستسلم لظاهر القول، فعدتّ أحثه على الاعتراف: " وأيّ أدلّة تملكها أنتَ، بالمُقابل، ضدّ الزعيم؟ ". طفقَ مُتردّداً هنيهة، ثمّ عادَ إلى التدفق بالقول: " إنّ الجريمَة، عموماً، بحاجَة إلى دافع جليّ وناصع. والزعيم، كما نعرفه جيّداً، لم يكُ شخصاً مهووساً بالقتل أو متعطشاً للدّم. إنّ الحرصَ على كناش الشيخ، البرزنجي، هوَ دافعُهُ الرئيس لتلك الجرائم. أجل، كانَ يَخشى أن يَقعَ المخطوط في يَد الوزير؛ لما كانَ من شبهة نيّته بتدمير الجامع الأمويّ. إنني لا أنكرُ تورّطي في أمر سرقة الكناش، والتي دَفع وَصيفُ الزعيم حياته ثمناً لها. إنّ ما سردتهُ أنتَ تواً، عن قصّة ذلك العشيق، فيها ثغرَة واضحَة: فإنه اضطرّ للزعم بأنّ دليله، الروميّ، هوَ من قتلَ الوَصيف بالخنجر؛ طالما أنّ ذلك المملوك قد أعدمَ وانتهى. وإلا، فإنّ قوله الحقيقة بأنه تسلل من الدار عبر القبو، وقبل حضور الوَصيف مع ابنة الشاملي، كانَ سيجعلكَ توجّه التهمَة له ".

" ولكن، ما أدراهُ إذاً بمَصرع الوصيف؟ "
قاطعتُ مُحدّثي، مُتسائلاً. فهز رأسه بخفة، قبل أن يُجيب " ولكنكَ أنتَ، بنفسك، من أكّدَ لي بأنّ ذلكَ الشابّ هوَ من قاطني حيّ القنوات. فهل أنّ الأمرَ بقيَ سراً، خاصّة ً أنّ المَملوكين أعدما بتهمة تنفيذ تلك الجرائم؛ ومنها مَقتل الوَصيف؟ ".
نعم. كنتُ فيما مَضى من زمَن، قد تفكّرتُ باحتمال قيام الزعيم بالتسلل إلى القبو، بُعيدَ فكّ أسره مع جماعتنا بأمر من الدالي باش يقيني. وربما كانَ الوَصيفُ قد تركَ ياسمينة لمَصيرها؛ فاختبأ بمكان ما، عندما اقتحمَ أحدُ الأنفار القبو وعثرَ عليها. كما أنّ ثمة احتمالاً آخر، لا ينفي الأوّل؛ وهوَ توجّه الوَصيف إلى الباب السرّي، المموّه جيّداً، لمُحاولة التخفي عن أنظار المُهاجمين. فلما قامَ الزعيمُ بقتله، فإنه رمَى المفاتيحَ قرب جثته، لكي يتهمه لاحقا بأنه كانَ في طريقه للهرب من الدار، وَحيداً.
" فماذا عن دسّ السمّ لآغا أميني، صديقكَ؟ "، قطعتُ سلسلة فكري بهذا السؤال، الموجّه للبك. فأجابني بخبث: " كانَ صديقَ الشاملي، قبل أيّ كان؛ ومنه حصل هذا على الكناش ". ثمّ أردَف بهمّة " إنّ دافعَ القتل هنا، واضحٌ كرابعَة هذا النهار: إزاحَة أحدُ العالمين بأمر المخطوط. خصوصاً، أنّ آغا أميني كانَ قد أعلمني بخبَر إهداء الكناش للزعيم. ولنلاحظ بأن ذلك السبب، المَوسوم، يكشف أيضاً لغز موت قوّاص آغا "
" أتعني، بأنّ الزعيمَ كانَ قد كلّفَ مَملوكيْه، أو أحدهما، بدسّ السمّ لكلّ من آمرَيْ الانكشاريّة؟ "
" لا، فهذا ليسَ من شيمَة القاتل، الذكيّ. فلمَ سيوكل ذلكَ للآخرين، ما دام كانَ قادراً على فعله بنفسه؟ ". فلما أنهى البكُ كلامه، فإني عدتّ إلى مسراب ذهني، كي أنبش فيه. نعم. اعترفتُ بسرّي عندئذ بأنه كانَ ثمّة ثغرَة خطيرَة في روايتي لمقتل القوّاص، والتي سرَدتها على مَسمع الأفندي والطبيب: وهيَ تجاهلي لحقيقة أنّ نرجس كانت قد عثرَتْ على حزمة أوراق الكناش في حجرَة أبيها، بُعيدَ مُغادرَته دار الحديث توارياً عن عينيّ شيخ الشام، وليسَ قبلها.
على ذلك، رأيتني أطلبُ مَعونة القاروط. فعرَضتُ عليه شكوكي، في علاقة القوّاص بسرقة الحزمة. ثمّ تساءلتُ ما إذا كانَ جنابه على علم بحركات الزعيم ثمّة، في دار الحديث. فأجابني البكُ فيما كانَ يحكّ ذقنه بيده: " القوّاص ، حينما تخفى لديّ في القصر كانَ على صلة بالزعيم، مُباشرَة أو عن طريق المُراسلة. وأشارككَ الظنّ، بأنّ القوّاصَ ربما يكون قد حاولَ ابتزاز الزعيم؛ هوَ من سبق له فعل ذلك، حينما تقدّم لخطبَة ابنته، الراحلة ".

آه إنّ نرجس، فكّرتُ بحزن، قد أخفتْ عني، ولا غرو، أشياء كثيرَة تعلمها.
بيْدَ أنني، بطبيعة الحال، تكتمتُ بدَوري عن أمرها قدّام البك، الماكر. " إنّ جرائمَ، خمس، ربّما تكونُ قد وَجَدَتْ حلاً لألغازها؛ وفيها الجريمَة الأخيرَة، التي أودَت بحياة شمس "، ردّدتُ ساهياً وبصوت مَسموع. فبدا الارتياحُ على ملامح البك، فعلّقَ بالقول: " بل الجرائم جميعاً، وبضمنها مَقتل كبير خدَم عبد اللطيف أفندي ". رفعتُ رأسي وحدّقتُ في عينيه، ملياً. ثمّ ما عتمتُ أن كرّرتُ على سمعه ما كانَ جَدُّ نرجس قد أفادَني به في شأن مَصرع خادمه. فلم يكن من البك، على دَهشتي، إلا إطلاق ضحكة مُجلجلة.
" عُذراً، يا صديقي. ولكنني تذكّرتُ بلمحَة مَشهد تيْهنا خلل مَسالك القبو؛ قبيلَ عثورنا على جثة عصمان أفندي "، قالها وقد تضرّجَ وَجهه قليلاً. ثمّ لبثَ مُتفكّراً لوَهلة قبل أن يَستطردَ بالقول " أجل، لقد كانَ الزعيمُ خارجاً حينما دَلفتُ أنا للقبو، أوّلاً، ثمّ تبعتموني على الأثر. إلا أنّ جهلي بالمَكان أفضى فيّ لتتبّع أضواء الشموع، المَبثوثة في زوايا القبو، مُتوهّماً أنني في سبيلي لحجرَة الخزين؛ أينَ كانَ آغاوات الوجاق مًحجوزين ثمّة. إنّ إضاءة القبو بتلك الطريقة، إنما لتحسين شروط تخمير النبيذ؛ الذي كانت جرارُهُ مَركونة هناك، على طرَفيْ المَكان ". ثمّ توجَّهَ إليّ مُتسائلاً: " فكيفَ غابَ أمرُ المَتاهَة عن ذهنكَ، عندما كنتَ أنتَ تتحادَث مع عبد اللطيف الأفندي بخصوص مَصرَع خادمه؟ "
" لقد سَهَوتُ عن ذلك، فعلاً. وقد حقّ لي تأكيد شُبهة الأفندي، طالما أنّ الشاملي لم يكُ قربَ الجثة حينما دَخلنا إلى حجرَة القبو "، أجبته فيما كنتُ أعدّ سؤالاً في رأسي " ولكن، لمَ عَمَدَ الزعيمُ إلى جَندَلة خادم، عجوز؟ "
" إننا غير قادرين، مع الأسف، على إثبات شيء مُحدّد ودامغ. وإذاً فجواباً على سؤالك، أفترضُ أنّ الزعيمَ هوَ من بادرَ إلى دسَ السمّ لزينيل آغا. فعلَ ذلكَ، عندما أدركَ خطورَة آمر القلعة المُكلّف بالتحقيق مع المَملوكيْن، المُتهمَيْن بالقتل. فالشاملي كانَ أكثر الناس مَعرفة، ولا غرو، بما يُتبَع من أساليب لكي يُجبَرَ المُتهم على الاعتراف. فهوَ كانَ مُتيقناً، والحالة تلك، بأنّ زينيل آغا أضحى على علم بلغز الكناش، علاوَة ربما على لغز الجرائم. فما كانَ منه، سوى دسّ مَدقوق السمّ في فنجانَ الآغا، والتأكيد على عصمان أفندي بتقديمه بنفسه. هذا الخادمُ، لسوء حظه، قد يكونُ أبدَى علامَة شكّ بيّنة بُعيدَ مَوت آمر القلعة مَسموماً؛ وبالتالي، فإنّ اسمه كانَ سيُنقش في لائحَة القتل، السَوداء.

" بحَسَب ما سَبَق، فإنكَ لم تكن على صلة بالمَملوك ذاك؛ الصقلي؟ "
سألتُ البك، وكانت ريبتي فيه ما يفتأ لها ما يُبرّرها. وكانَ عندئذ يرسلُ بَصرًه عبرَ البستان المُجاور، المُتصل مع المَصطبَة بقناة ضيّقة، حجريّة الجانبيْن، مُنبثقة عن المَصنع المربّع الشكل والمملوء بالماء. إلا أنه استردّ نظره من تلك الناحيَة، لكي يُثبّته فيّ: " لا، بكلّ تأكيد. بل إنه كانَ يَتجنبني، عندما حلّ في قصري بمَعيّة سيّده. ومن خلال حديثكَ عن هذا المَملوك، الماكر، يجوز للمرء أن يستنتجَ بأنه كانَ يَعملُ لحسابه، الخاص. وربما كانَ يَتسلّى، في حقيقة الأمر "، أجابني بثقة. وحقّ لعجَبَي أن يَتفاقمَ، بما أفادَني به البك: فإنّ نفس الاستنتاج، تقريباً، كانَ لديّ بخصوص ذلك المَملوك، التعس.
بيْدَ أن وَصف القاروط له بالمَكر، جلبَ ابتسامَة طارئة إلى فمي: " إنه لم يَعدُ عن كونه مُريداً، بسيطاً، في حضرَة شيخ بمَقامكَ "، خاطبته في سرّي. لم أكن مُقتنعاً بما أفادنيه؛ عن عدَم تخديمه للمَملوك الراحل. فاستفهمتُ منه عمّن يَكون، إذاً، قد سرَق حزمَة الأوراق، التي كانت بعهدَة عبد اللطيف أفندي. فالتمَعتْ عيناهُ ببَريق خبيث، ثمّ قالَ بنبرَة مُبيّتة: " لقد كنتُ مُتيقنا، منذ الرحلة المصريّة، بأنكَ تعرف أكثر من الآخرين عن أمر الكناش. وبالنسبَة للحزمَة، المُستلّة منه، فإنّ الشاملي هوَ من سرَقها على أغلب تقدير "
" كيف، لو سَمَحت لي؟ فإنه صاحب الكناش، الأصليّ، وليسَ سارقا "
" سمّ ذلكَ، بما شئتَ. المهمّ، أنّ الرّجلَ استعاَدَ ما يَعتقدُ أنه ملكه. ولعلمكَ، فإنّ الحزمَة تلك ما كانت همّاً بالنسبَة لي؛ لأنها خاليَة من مُخطط الكنز "، فلما قالها، فإني قاطعته على الفور: " ولكن، من أين لكَ مَعرفة ذلك، طالما أنكَ كنتَ تنفي علمكَ بأمر الحزمَة؟ ". إذاك، كنتُ أعتقدُ بأنّ لسان البك قد ارتكبَ هفوَة، فادحَة. بيْدَ أنّ مَلامَحَه، المَعدومَة التعبير، لم تؤيّد ظني. ولم يتأخر، على كلّ حال، بإجلاء الأمر: " لأنّ آغا أميني، المَرحوم، سبقَ له أن أفادَني بذلك. وإلا ، فلو أنّ المُخطط كانَ مَوجوداً في الكناش، الأصل، لما كانَ قد تنازلَ عنه للشاملي "
" لقد لحظتُ بأنكَ كرّرتَ وَصفَ المَخطوط بالأصلي، أكثر من مرّة؟ "
" آه، نعم. إنّ لديّ نسخة أخرى من الكناش، سبقَ لي أن أمرتُ أحدهم بإنجازها. أما تلك، الأصليّة، فقد أعدتها للزعيم مُعتذراً حينما كانَ في ضيافتي مؤخراً، إثرَ إصابته في الهجوم "، نطقها ببساطة ويُسْر. ثمّ ما لبثَ أن سألني بلهجة أخرى، صارمَة " إنكَ تملكُ مُخطط مخبأ الكنز، كما فهمتُ. ولكنكَ لا تحتاجه، على ما أظن. إنّ ما تحتاجه أنتَ، في الواقع، هوَ الحمايَة من غدر الوالي بدرجة أولى "
" وفي الدرجة، الثانية؟ "
" لا يهمّ، يا عزيزي. فإني سأقدّمُ لكَ بمُقابل المخطط الأمانَ ، لحين استقرار الحال في الولايَة الشاميّة "
" هل تريدُ إرسالي في سفارَة أخرى، إلى مصر؟ "، سألته بسخريَة. فما كانَ منه إلا رسم بسمَة مُبتسرَة، مُتسامحة، على شفتيْه: " إنها سفارَة، كما حزرتَ يا آغا. ولكنها إلى كردستان؛ إلى أميرها بدرخان باشا. إنّ محو بك الكردي ذاك، سينطلق في الغد إلى حلب ومنها إلى بلاد الجزيرَة، لكي يُسلّمَ رسالة، سرّية، من عزيز مصر إلى الأمير الكرديّ. وستكونُ في مَعيّة البك، مع صديقنا ميخائيل، لو شئتَ قبول اقتراحي ".

بيْدَ أني، فيما تبقى من كلمات، أجدُني مُنجذباً بالمُقابل إلى وَصف يَومي الشاميّ، الأخير.
كانَ يَوماً طويلاً، مُستطيراً. حقّ لي يومئذ التوهّمَ، بأنّ همّي انتهى بالكشف عن ستر المُجرم، المَجهول، كما ولغز الكناش، المَفقود. ولكن سُرعانَ ما كان عليّ الإياب إلى حقيقة سَلوتها في غمرَة المُفاجآت، المُتواليَة؛ حقيقة كوني مُطارَداً من لدُن الدّولة وبتهمَة خطيرَة، مُهلكة. تشديدي على المُفردَة، الأخيرَة، إن هوَ إلا من واردات ما استجدّ من أحداث ذلك اليوم نفسه. وكنا، أنا والقاروط، قد عُدنا إلى مَنزل مُضيفنا، لكي ننضمّ لجماعتنا المُتواجدين ثمّة. بعدئذ، رأيتني مع الطبيب في خلوَة أخرى، عارضة. فقبل حين، همّ البكُ في التحرّك من المَكان على عجلة، مُصطحباً الضيفَ مَعه. إذاك خاطبني بمَودّة، فيما كانَ يَتفقدُ الغدّارة المَشكوكة في وَسطه: " لنا لقاءٌ قريبٌ، يا آغا، هناك في القلعَة "
" هل في نيّتكَ اجتياحها، لتخليص أصدقائنا من الأسر؟ "، أجبتُ تحيّته بهذه الهَمزة. فما كانَ منه إلا مُفاجأتي بالقول: " إنّ أصدقاءنا، كما علمتُ للتوّ، أضحوا أسرى في مكان آخر؛ في مكان، يُسَبّح رخامُهُ لمَلاكيْ الثواب والعقاب ". استسلمتُ للوجوم، طالما أنّ كلامَهُ لا يُمكن أن يَعني شيئاً آخر، سوى أنّ زعيما القنوات والعَمارة قد ماتا في السجن. ولكنّ البك، المُتأهّب للمُغادرَة، لم يَجد بأساً في إعلامي بحقيقة الأمر: " إنّ الشاملي والعريان، كما علمتُ منذ بعض الوَقت، قد شنقا بأمر الوالي عندَ ظهيرَة هذا اليوم. إنّ توقيتَ تنفيذ الإعدام، على ما يبدو، قد توافقَ مع ورود خبر أثارَ حنق الباشا ونقمَته؛ وهوَ رفضُ عسكر الأورطات التوجّه إلى البقاع، مُتحجّجين بعدَم وصول جيش الولايَة بَعدُ من حمص ". وكانَ بودّ القاروط الإسهابَ في ربط الأمور بعضها ببعض، إلا أنه لحظ زهدي في الإنصات إليه. عندئذ، شعرتُ بدوّار خفيف وضيق في التنفس.فأشحتُ وَجهي نحوَ ميخائيل، طالباً منه أن يُرافقني إلى البستان.

حالما صرنا عند المَصطبة، نصحَني صديقي، الطبيب، أن أغطسَ في ماء المَصنع علّ ذلك يُنعشني ويُحسّن مزاجي. وقد أطعته في ذلك، خاصّة أنّ الحرّ أيضاً ضافرَ من سوء حالي. بعد خرَوجي من الماء، رأيتني أفضلَ ولا غرو. ثمّ قعَدنا في صمت الهاجرَة، المُبكرة، المُتخللة بأناشيد الطيور وطنين الهوام. أحياناً، كانَ صوتُ بقرَة ما، مُتأت من الأنحاء القريبة، المُخضوضرَة، يَطغى في أسماعنا على تلك الأصوات الأخرى. بيْدَ أنه صوتُ القاروط، ذو اللحن المصريّ الطريف، من كانَ آنئذ يهزّ سكينتي. أخيراً، فاض داخلي بسيل من المُفردات المُتدَفقة دونما عائق، طالما أنّ أحداً لم يشأ إيقافها. نعم. لقد أنصتَ إليّ ميخائيل لساعة أو يزيد، دونما أن يَفقدَ صبرَه.
" إنّ إبليس، سواءً باعتقاد الإسلام أو النصرانيّة، كانَ بالأصل ملاكاً. وإذاً، فإنه بتلك الصّفة، يستطيع دوماً خداع الناس بحقيقة شخصه. أقول هذا، لأنني غير مُتيقن بعدُ من براءة القاروط؛ وربما سأبقى كذلك أبداً. شيء واحدٌ، مؤكّد: أنّ كلاً من المَملوكيْن، الروميّ والصقليّ، كانَ بريئاً "، اختتمتُ كلامي دونما أن أجرؤ على اتهام الشاملي، المَرحوم. هنا، شاءَ صديقي أن يُعلّق على ما سبق: " منذ البدايَة، كنتُ أشكّ بكونه مُذنباً؛ ذلك المَملوك، الصقليّ. وأعتقدُ مَعكَ، في أنّ خاتمَهُ لم يكن يَحتوي سمّاً. إنّ مَدقوق الحرمل، ذا اللون الأسوَد، كانَ من الطبيعيّ أن يَتحوّل بمرّ الأعوام إلى لون آخر، يُشبه الطحين. فبما أن خاتمه فضيّ، فقد تعرّضَ المَدقوقُ إلى ما نسميه علمياً بالأكسَدَة. على ذلك، فكان من الطبيعي أنّ أرنب التجربة الصغير، المسكين، سيتسمّم من فوره بذلك الحرمل المُؤكسد. أما السمّ، الحقيقيّ، الذي استعمله القاتل، المَجهول، فإنه كانَ من طبيعة أخرى، غالباً. فإنّ الضحيتيْن، أميني والقوّاص، ماتا بعد تناول السمّ بساعات عدّة "
" إنكَ ما تني عن نعت القاتل بـ " المجهول "، مع علمنا الآنَ بشخصه، الحقيقيّ؟ "، قلتُ لميخائيل بنبرَة مُتهكّمة. فهزّ رأسَهُ مُردّداً بأسى دَعوَة المُسلمين، المَألوفة: " رَحمه الله، على أيّ حال ".

" لقد اقترَفَ جرائمَهُ، العديدة، من أجل كناش لم يَفده بشيء "
قلتها بأسف، ثمّ واصلتُ بالنبرَة ذاتها ".كانَ يَعتقدُ هوَ بأن الكتابَ يَحوي مُخططاً، مَزعوماً، يودي كشفه بأجلّ رمز أسلاميّ للشام الشريف. فيما أنّ القاروط يَجزمُ بأنّ الكناشَ يَحوي مًخططاً آخر، يؤدي إلى كشف كنز أبيه؛ الكنج ". فتردّدَ ميخائيل قليلاً، قبلَ أن يباغتني بالقول: " بل إنّ الزعيمَ، بدَوره، كانَ مُتيقناً بأنّ الكناش يُشير إلى كنز آخر، أكثر قيمَة وإجلالاً؛ كنز النبوّة. إنّ الرّجلَ، إذاً، كانَ مُتعلقا بالآخرَة لأنها أبقى من الأولى ". إذاك، استعدّتُ في ذهني ما كانت نرجس قد أخبرتنيه، عما أسمته هيَ بـ " كنز النبوّة ". إلا أني استغربتُ من مَعرفة ميخائيل بالأمر، وبالرغم من عدَم ذكري له بعدُ. فسألته بشكّ: " أيّ كنز تعني، بحقّ السماء؟ "
" إنه ذلكَ المَذخر، الخشبيّ، المَدفون في أرض المَقام، الياسميني "
" ولكن، ما أدراكَ بأنه كنز النبوّة؟ "
" لأني قرأتُ يومَ أمس، عن آخره، كناش الشيخ البرزنجي ". لبثتُ مُنبهتاً فيه لوَهلة، قبل أن استدركُ مُستفهماً: " أهيَ نسخة القاروط، التي تسنى لكَ قراءتها؟ "
" بل هيَ هذه؛ النسخة الأصل.. "، قالَ ذلكَ فيما كانَ يمدّ يدَه إلى جراب الدواء، الذي يُرافقه دوماً. ثمّ أخرجَ كتاباً حائل الأوراق، ذا عبق قديم ومألوف. إلا أنّ جلده كانَ من الجدّة، أني طفقتُ أتأملُ فيه هنيهة لكي أتأكّد بأنه كناش الشيخ البرزنجي، فعلاً. كانَ العنوانُ، المَنقوش بخط جميل، غريباً على عينيّ: " أريجُ الفرْج ". على ذلك، رَمقتُ صديقي بنظرة ريبَة، قبل أن أعمد لتصفح المخطوط. فأوضحَ ميخائيلُ، وقد حدَسَ مَبعث استغرابي وشكي: " إنّ الجلدَ مُستحدَثٌ، كما ترى، وليسَ أصلياً. كذلك أمرُ العنوان؛ المُحيل لكتب الباه والعطارَة. إنّ الشاملي، على الأغلب، هوَ من فعل هذا التغيير بغيَة تمويه الكناش عن أعين الفضول ".
من ناحيتي، صدّقتُ على استقراء صديقي؛ بما أني تأكدّتُ بأنه الكناش الأصل ، من شكل أوراقه كما ومن قراءتي لبعضها: إذ كنتُ، بطبيعة، قد سبقَ واطلعتُ على حزمة الأوراق، المُستلة منه. ضممتُ الكتاب لصدري، مُخاطباً ميخائيل بسهوم: " أرغبُ بأن يكونَ رفيقَ سفرتنا؛ أن أواظبَ على قراءته حتى ختامه ".

أوبسالا 1997 ـ 2000



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأولى والآخرة : مَزهر 13
- الأولى والآخرة : مَزهر 12
- الأولى والآخرة : مَزهر 11
- الأولى والآخرة : مَزهر 10
- الأولى والآخرة : مَزهر 9
- الأولى والآخرة : مَزهر 8
- الأولى والآخرة : مَزهر 7
- الأولى والآخرة : مَزهر 6
- الأولى والآخرة : مَزهر 5
- الأولى والآخرة : مَزهر 4
- الأولى والآخرة : مَزهر 3
- الأولى والآخرة : مَزهر 2
- الأولى والآخرة : مَزهر
- الفصل السادس : مَجمر 11
- الفصل السادس : مَجمر 10
- الفصل السادس : مَجمر 9
- الفصل السادس : مَجمر 8
- الفصل السادس : مَجمر 7
- الفصل السادس : مَجمر 6
- الفصل السادس : مَجمر 5


المزيد.....




- مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
- اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار ...
- كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل ...
- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : الخاتمة