|
الوطن يسع الجميع نحو حقوق إنسان بمشاركة القادة الدينيين
ناجح شاهين
الحوار المتمدن-العدد: 942 - 2004 / 8 / 31 - 11:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تمهيد نتناول في هذه الورقة موضوعاً يطرق الأبواب في اللحظة الراهنة بمنتهى الشدة. إنه موضوع تأسيس حقوق الإنسان في مجتمعنا. ولأن بلادنا تعد متدينة في المقام الأول، فإن مشاركة القادة الدينيين في صياغة مفاهيم حقوق الإنسان ونشرها تبدو ضرورة واقعية جلية. صُغر العالم في السنوات الأخيرة بشكل لا نظير له في الماضي. لقد أصبح التواصل بين البشر يتحقق في ثانية، بل في جزء من الثانية. ومع انتشار الفضائيات وخدمة الإنترنت غدا الانعزال والانغلاق غير ذي موضوع. ومن هنا فإن من لا يريد ثقافة وأفكار الآخرين وأنماط سلوكهم لا يملك منها مهرباً. لقد سقطت الحدود بين الناس. وغدا ما يجري في أي مكان قابل لأن ينتقل ويشتهر في أرجاء العالم بسرعة البرق. وقد لا يعود من الممكن لأحد في العالم أن يزعم أنه لا يتأثر بغيره أو أنه لا علاقة له بفلان أو علان من باب الدفاع عن الخصوصية أو الأصالة أو ما أشبه. إن قضايا مثل حقوق الإنسان أصبحت بالفعل هماً إنسانياً مشتركاً. وحتى لو كان ذلك كلام حق يراد به باطل في أحيان معينة فإن المرء لا يستطيع إنكار أنه مضطر إلى التدخل ورفع الصوت عالياً تجاه فظائع أو انتهاكات لحقوق الإنسان في أصقاع بعيدة عنه كل البعد. حقوق الإنسان ما عادت شأناً داخلياً. ولكي ندلل على ذلك فإن دولة بعظمة وقوة وضخامة الصين الشعبية يمكن أن تتعرض للتدخل في شؤونها " الداخلية " عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان. وذلك أحرى أن يصدق على دول وكيانات هشة مثلما هو الحال في الدول العربية أو مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية. ليس السودان حراً في دارفور وليست سورية حرة تجاه الأكراد..الخ لذلك نزعم أن دول وشعوب هذه المنطقة مضطرون للتعامل مع الواقع الجديد سواء عن قناعة، وهو ما نرجوه، أو قسرا وهو الاحتمال الذي لا نحبه. في بلادنا ممنوعات لا يجهلها أحد. وهي كما يميل غالبية من المثقفين العرب الدين والسياسة والجنس. وإذا كنا نركز في هذه الورقة على الدين فهو من باب تأثيره في المواطن العادي الذي يتفوق فيما نتوهم على تأثير الساسة والدول. لكن ذلك لا يعني أن لا دور للدولة. فقط لغايات موضوع الورقة لا نتطرق إلا للجانب المتعلق بالحوار مع القادة الدينيين. لا نظن أبداً أن المهمة التي نناقش سهلة. وللتدليل على صعوبتها نشير إلى أن تجارب التاريخ والحاضر تؤشر على قسوة ومعاناة شديدة لمن " تورط " في هذا الأمر. إن عقلاً عبقرياً مثل ابن رشد قد باء بفشل ذريع في التأسيس لعلاقة متوازنة مع الفقيه العربي الأندلسي. وفي مطلع القرن العشرين كمثال معاصر شاهدنا الفشل الذي منيت به محاولة الحوار الطريفة بين فرح أنطون ومحمد عبده. ربما أن الزمن قد تغير للأفضل، أو لعلنا نرغب في أن نظن ذلك خصوصاً في مستوى تقبلنا بعضنا بعضاً. وعلى هدي من الأمل في أن تسهم هذه المحاولة المتواضعة في دفع مجتمعنا وشعبنا للأمام قرأنا الواقع منطلقين من تأسيس تاريخي للتلاقح الثقافي الذي شهدته المنطقة قديما بغرض بيان التعاون والتداخل والتعدد الذي تواجد طوال الوقت. وبنيا على ذلك أفكاراً عامة. ثم دخلنا في الخاص العربي وقرأنا بسرعة تاريخنا في غناه وتعدده الثقافي والديني والمذهبي. ومنه وصلنا إلى الحاضر ففحصناه بعيون تحليلية محايدة ما أمكن لنستخدمه فراشاً لفتح ملف حقوق الإنسان عامة ثم حقوق المرأة عامة. وختمنا ببعض الاقتراحات التي لا نزعم إلا أنها تخطيط أولي تماماً لفتح حوار واسع حول رؤية للإنسان تؤسس لإطار نظري وواقعي لحقوق الإنسان الفلسطيني. نتمنى أن تكون هذه المحاولة قد نجحت بالفعل في تحقيق بعض ما تصبو إليه. أولا:التلاقح الثقافي في المنطقة ربما يلزم في وضع أية مقاربة لموضوع الموروث الديني أن نتناوله في سياقه التاريخي، بغرض ملاحظة كيف وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. والواقع أننا نزعم أن مقاربة تاريخية هي في غاية الأهمية من أجل تحقيق هدفين عسيري المنال في ظروفنا الراهنة: ألا وهما الفهم والتجاوز. ولا بد أن ذلك شرطا ضروريا من أجل تواصل نمو المجتمع ومنع توقفه عند لحظة تاريخية معينة تم تجاوزها الزماني، دون أن يتم تجاوزها في الفعل الاجتماعي، وهو ما يدفع المجتمع إلى عملية إعادة إنتاج نفسه دون تغير يذكر، وقد أدى ذلك ببعض أصحاب الدعابة إلى التحذير من استمرار الوضع المذكور إلى ما لانهاية. ذلك الاحتمال للأسف يتجاوز مستوى الفكاهة ويصل حد تشكيل خطر فعلي على المجتمع-الوطن والأمة، بأن يهددها خطر الانقراض الحضاري، بل وحتى الانقراض الوجودي، والذي يمكن أن يصل إذا ما ساءت الشروط التاريخية حد الاختفاء البيولوجي ذاته. وهناك في الواقع سوابق ذات دلالة مثل حالة القارة الأمريكية. فما هي أصول الواقع التاريخية في حالتنا العربية -الفلسطينية؟ علينا في الواقع أن نعود بالذاكرة بضعة آلاف من السنين المنصرمة التي قد تصل إلى ما يزيد على ستة آلاف سنة. فهنا على هذه الأرض بدأت مسيرة حضارة الإنسان بشكل متلاقح ومتداخل منذ زمن طويل. وهنا في العراق والشام ومصر ولدت معظم أشكال الرؤى والأساطير والأفكار والديانات التي أثرت بشكل حاسم في تكوين فكر البشر، وخصوصاً فيما عرف بالعالم القديم. وقد اتضح أن هذه المنطقة أدت في مسيرة البشرية أدواراً أخطر مما كان معروفاً إلى عهد قريب. وُيعد الاكتشاف الهام المكرس بقوة منذ كتاب تومبسون: التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي فتحاً في قراءة ما جرى في هذه البلاد. فقد أوضح عالم الآثار الأمريكي اللامع أن هذه البلاد قد قامت بإنتاج الثقافة في ظل اشتباك حضاري عز نظيره. ومن ذلك أن معظم الأفكار الدينية والدنيوية قد تأسست في بيئة واحدة على وجه التقريب. لقد بدا من خلال قراءة ألواح أوغاريت المكتشفة قرب اللاذقية حدود عام 1927 أن الفروق بين الوثنية الكنعانية والسماوية العبرية ليست كبيرة بالدرجة التي كان يعتقد سابقا.ً وقد اتضح بشكل جلي أن اللغة الكنعانية هي ذات اللغة التي طورت بها شعائر اليهودية المختلفة. ومن اللافت للنظر بالفعل أن أسماء الآلهة والمدن والأشياء التي تقدمها التوراة هي في الواقع كنعانية من ألفها إلى يائها. ولعل من المضحك بعد أن اكتشفنا أن قصصاً من قبيل الصراع مع الأفعى -الأفعوان ذات الرؤوس السبعة، وكذلك قصص الرجل العقيم الذي لا ينجب الا كبيراً – إبراهيم واسحق في التوراة، في مقابل دانيال وأقهات في ألواح أوغاريت- نقول من المضحك بالفعل إصرار التوراة على أن تنسب نفسها والتراث الذي تمثل إلى أصول غريبة عن المنطقة مع التشديد على تمييز نفسها من الكنعانية، بل وحتى العداء التام لها. لكن الأمر في الواقع لم يكن أكثر من تمايز قبيلي في بدايته، فدفعه التاريخ اللاحق إلى مستوى قطيعة قومية. لكن ذلك سيبقى إلى الأبد مزحة طريفة يشهد عليها النص. ذلك أن مختلف القصص الذي يرد في التوراة هو في الواقع تكرار شبه حرفي لوقائع مكتبة أوغاريت، وأما ما تبقى من قصص فإن علينا أن نبحث عنه في عالم العراق وفارس. فمن العراق تأتي وقائع مثل الطوفان..الخ بينما التوحيد بمعناه الدقيق يتولد في فارس التي أنجزت نسخة توحيدية ربما تكون الأولى من نوعها في التاريخ منذ زرادشت في حدود القرن السادس قبل الميلاد، وكذلك تلميذه المتأخر ماني – القرن الميلادي الثالث- الذي جعل الصلوات خمساً تنتهي بالعشاء بينما كانت الصلوات عند المعلم خمساً تنتهي منتصف الليل. هذا الفهم الجديد يخبرنا أن الحضارة الكنعانية المتفاعلة مع حضارة العراق وفارس في مرحلة السبي هي من أنجز التراث الذي نعرفه اليوم. فقد كتبت التوراة في العراق-فارس بالذات مضفية على الأساطير الكنعانية روح التوحيد الفارسي مطعماً بقصص لا حصر لها مستقاة من تراث العراق السومري والبابلي والآشوري. يخبرنا المؤرخون ومختصو الآثار أن المنطقة التي تدعى الهلال الخصيب إضافة إلى فارس وكذلك بلاد العرب سواء اليمن الخصيب أو الحجاز التجاري قد تلاقحت ثقافياً ودينياً وحضارياً طوال الوقت. ليس صدفة أبداً أن بعل إله الخصب الكنعاني يحضر حضوراً كثيفا في كافة أرجاء المنطقة في صور متعددة. وربما ليس من قبيل المصادفة أيضاً أن يكون الأيل هو الغزال الوحشي، وكذلك الأيل هو الله في اللغات القديمة، ذلك لأن الكنعانيين صوروا الله في صورة ثور وحشي، ولذلك سموه ثر-إل أو ثر-بعل. ليس هنا من متسع للخوض في كافة تفاصيل المشهد الديني خاصة والحضاري عامة الذي يسم بختمه هذه المنطقة. لكنه في الواقع متيسر بكثرة لمن يرغب في الاطلاع خصوصاً في زماننا الراهن بسبب من إعادة تسليط الضوء على تاريخ المنطقة بغرض إعادة كتابته حتى من وجهة نظر مؤرخ منحاز حكماً كالمؤرخ الإسرائيلي. لنلاحظ أن باحثاً مثل الإسرائيلي فرنكلشتاين أوضح أن فكرة هيكل سليمان هي مجرد تكرار يكاد يكون حرفياً لقصة بناء هيكل بعل في جبل صافون التي توردها ألواح أوغاريت. إن تفاصيل البناء ذاته تكاد تتطابق بشكل مذهل، لا يدع حسب العالم المذكور مجالاً للشك في أننا نواجه أسطورة واحدة كتبت مرتين مع تغيير أسماء الأبطال لا أكثر. ثانياً:أفكار عامة قصدنا من هذه المقدمة الطويلة لتاريخ المنطقة أن نوضح اتكاء الأفكار والقصص والأساطير بعضها على بعض. تداخلها وترابطها وإن لم يكن جدليا أو بنيوياً بالمعنى المعاصر للكلمة، ولكنه تأثر وتأثير على نطاق واسع بالفعل. وقد زودتنا الدراسات الفيلولوجية للغات السامية بنتائج حاسمة في تاريخ شعوب المنطقة وعلاقاتهم بعضهم ببعض. ومن ذلك على سبيل المثال العلاقات التي لا لبس فيها والتي تجمع لغات مثل العربية والعبرية بالكنعانية. إن كثيرا من الباحثين يذهب حد القول بأن معرفة اللغتين العربية والكنعانية يجعل المرء قادرا على استعمال الكنعانية على الفور. ومثل هذه الكشوف أوضحت مثلاً أن الثقافة العبرية جزء لا يتجزأ من تاريخ المنطقة الكنعاني. وقد أصبح من العسير القول بأن اليهود القدماء قد جاءوا من خارج كنعان أو أنهم غزاة سيطروا على أرض كنعان. إن مثل هذه الأقاويل التي تحفل بها التوراة تعد محض أساطير من وجهة نظر الفكر التاريخي في نسخته الأخيرة. ونحن نؤكد هذه الوقائع بغرض بيان كم تبدو الأمور المسلمة قابلة للاختلاف، علما بأن الديانات السماوية تتعامل مع وقائع التوراة بثقة تامة. وهو ما جعل أتباع الدينات السماوية وهم مؤمنون يهود ومسيحيون ومسلمون يترددون كثيراً في قبول نتائج بحوث العلماء الأخيرة بمن فيهم علماء يهود ومسيحيون يميلون صراحة إلى نفي وقائع التوراة الأساس فيما يخص الجوانب التاريخية وليس العقائدية بطبيعة الحال؛ إذ ليس للعلم خصومة مع الدين بوصفه هديا وتشريعا إيمانيا وأخلاقيا أو حتى من النواحي الطقسية. كيف يمكن اليوم التعامل مع تراث الإنسان الزاخر بألف تنويعة وتنويعة متباينة متشابهة متعاضدة وأيضاً متناقضة؟ اقترح رجال مثل فيلون السكندري في القرن الأول الميلادي أن الوقائع غير المعقولة التي تأتي في الكتاب المقدس يمكن رفعها بالتأويل. ونحن نميل إلى أن منهج التأويل الذي يلقى رواجاً كبيراً في تاريخ المنطقة ودياناتها المختلفة ما يزال قابلاً للاستعمال في مواجهة ما يبدو تناقضاً بين الكتب المقدسة ووقائع زمانية دنيوية علمية-طبيعية أو تاريخية. وبالنسبة لتاريخنا العربي فإن معظم المدارس والمفكرين الدينيين قد اتفقوا على اعتبار التأويل طريقة للتفكير وطريقة لحل النزاع والتخاصم بين الفرقاء. كان فيلون فيما نتوهم محقاً في أنه لا يمكن أن يكون الله قد تصارع مع يعقوب قرب مخاضة يبوق، كما لا يمكن لله أن يقوم بزيارات بغرض البحث في إنجاب إبراهيم أو في تدمير سدوم وعمورة، ولذلك لا بد من تأويل هذه المجازات مع الاحتفاظ بروح الدين العظيم وأخلاقه العالية وتوحيده الرائع. ذلك يتأتى تماماً بتأويل النص لينسجم مع العقل بدل أن يبدو في تناقض صارخ مع شروط التفكير العقلاني بسماته المختلفة. لا بد أن غير المتخصص في تاريخ الفكر أو الديانات أو الثقافات القديمة وما أشبه من تخصصات يصاب بالدهشة عندما يواجه ببعض الوقائع المتعلقة بتاريخ الأفكار. إذ أن البشر لم يتركوا شاردة ولا واردة من احتمالات تفسير الحياة والوجود إلا وأتوا بها. ويجب التنويه خصوصاً بالمغزى من وجود الإنسان ومعنى حياته وغاياتها. ذلك يعني أن كومة ضخمة من الأفكار والأساطير والديانات والمعتقدات تملأ مجلدات قد لا تتسع لها مدينة بحجم القاهرة قد وجدت ووجد لها أتباع هنا أو هناك. ولا بد أن كل فئة من الناس تؤمن بما لديها إيماناً حقيقياً وأصيلاً، وليس إيماناً زائفاً يهدف فقط إلى التشويش على دين الآخر ومعتقداته. وذلك – وهنا المفارقة- يجد تجليه الأوضح في حقيقة أن كل ديانة تزعم أن الآخرين إنما يريدون تشويش عملها الحق بدياناتهم المزيفة. إن كل ديانة تدعي احتكار الحقيقة، مهما بلغت بساطة أو تعقد مستواها وبنائها الفكري. لا بد أن الكنعانيين كانوا يستخدمون نساءهم من أجل إفساد اليهود وإخراجهم من عبادة " يهوه " إله الجنود الغيور الذي يعاقب بني إسرائيل بشدة بسبب ذلك ويجلب عليهم السبي. ولا بد أن المسيحي الكاثوليكي يعتبر أنصار الطبيعة الواحدة للمسيح هراطقة وكفار، وقد أرسلهم الشيطان بغرض تخريب العقائد الصحيحة. وأما من أشعلوا النار في فارس فقد كان قصدهم تشويه عقيدة التوحيد وتحويل الناس إلى عبادة النار. وقد كانت لهم خطة ماكرة يقف وراءها الشيطان – الديفا – بالذات. ولو شئنا الآن متابعة هذه العملية فلا بد أنا سنحتاج إلى مجلدات عملاقة لكتابة كل الهرطقيات والزندقات التي جاءت على امتداد تاريخ كل دين ناهيك عن النزاعات بين الديانات الصحيحة الكثيرة بل قل التي لا عد لها ولا حصر. ربما يكون من الأفضل الإقرار بأن التعدد الفكري ممكن من حيث المبدأ. ولا بد أن بإمكان المؤمن من أي دين أو مذهب أو طائفة أن يحتفظ بإيمانه المطلق دون أي تحفظ أو تشكك ودون أن يمنعه ذلك من تفهم وجهات نظر الآخرين. والتفهم هنا بالضرورة لا يعني التبني، وإنما يعني معرفة متعاطفة تدرك أن الآخرين وإن " ضلوا " الطريق فإن من حقهم أن يعتنقوا ما شاءوا من أفكار ومعتقدات باعتبار أن حسابهم الأخروي آت لا محالة. المطلوب في هذه الحال هو فقط اقتناع الجماعة المعنية بمسؤولية كل عن أفعاله في حضور المطلق وعدم احتكار البشر أياً كانوا الصواب والحق معاً. لأن عواقب ذلك هي وخيمة بالفعل. لا بد أن يتوصل المؤمنون إلى أن الدوغما الوثوقية لا تمنع من حيث المبدأ أن يتظاهر المرء بأن الآخرين يمكن أن يكونوا على حق. إنه " تكتيك " يسمح بالاعتراف بإنسانية الآخر دون أن يلغي الإيمان الوثوقي بالمعتقدات. الواقع أن مجتمعنا العربي مميز تماماً من هذه النواحي. يتجلى ذلك في أن العربي المسيحي نفسه لم ينجح في التوصل إلى أية درجة من المرونة على مستوى التعامل علماً أن المسيحية الأوروبية اعترفت بالآخرين بل ووصلت الأمور بها حد الاعتذار عن الماضي منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي. لقد غدا الإلحاد ذاته وجهة نظر حرة يتحمل صاحبها مسؤولياته أمام الخالق دون أن يكون لنا على هذه الأرض حق مضايقته أو الإساءة إليه ولو بالكلمة ناهيكم عن التعذيب الذي قد يصل حد القتل مثلما كان شائعا في القرون الوسطى. ثالثا:التعددية في التاريخ العربي في بلادنا لم نصل حتى اللحظة إلى أية مقاربة واقعية أو فكرية أو حتى تصورية لما يمكن أن نفعل لحل مشكل الاختلاف. فالأرثوذكسية تريد طريقا واحداً لا حيدة عنه. وكل من يخالف ذلك الطريق هو بالضرورة مارق أو زنديق أو كافر أو مرتد. وهذا يعني بوضوح منع الحق في الاختلاف في داخل المعسكر الواحد. ودون أن نذكر أسماء أو فرقاً بالذات فإن البعض قد أفتى مثلاً بأن من يرفع صوته في النية للصلاة يستتاب، فإن لم يرجع عن " ضلاله " نفذ فيه حد القتل. طبعا هذا كلام مرعب بكل المقاييس، لكن هذا هو بالضبط المردود الحتمي لاحتكار فرد أو طائفة للحق والحقيقة بغرض فرضه على الآخرين. وهنا فرق هام بين اقتناع أي شخص الذي هو أمر عادي وطبيعي بالفعل بأنه إنما يتبع الصواب فيما يقول ويفعل، وبين أن يظن أي شخص أن من حقه فرض ما يعتبره الصواب على الآخرين حتى لو تطلب الأمر الاضطهاد والقمع والإرهاب الذي قد يصل حد القتل. يمكن القول إن مخططاً لما جرى في تاريخ بلادنا هو أمر ضروري بالفعل. وفي هذا السياق نزعم أن ديانات مقارنة وكذلك تاريخ مقارن ضرورية لتفتيح وعي الناس على الاحتمالات المختلفة للواقع: ماضيه وحاضره ومستقبله. فمنذ انطلاق الإسلام في القرنين السابع والثامن كان التعدد هو الأساس. وليس هنا رغبة من أي نوع في عرض نقاط الاختلاف لدى الجيل الأول ذلك لأننا نعتقد أن الاختلاف هو القاعدة في سلوك البشر وأنه ظاهرة صحية أساسا مصداقا للحديث الشريف الذي ينص على أن : " اختلاف أمتي رحمة " وعدم الاختلاف أمر غير ممكن إلا في حالة واحدة هو توقف المجتمع عن التفكير وتبنيه لأي جهة مرجعية تفكر للناس بالنيابة عنهم وهو بين الخطر لما يعنيه من تجمد المجتمع عند الرأي الواحد واستغنائه عن جهود بناته وأبنائه الكثيرة والتي يمكن أن تغير واقع الحال جذريا فيما لو تم استثمارها على النحو الأفضل. هناك في تاريخنا كما في واقعنا ما عبر عنه الحديث الشريف " بإيمان العجائز " وهو ما سيسجله فلاسفتنا وعلماء الكلام في بلادنا من بغداد إلى الأندلس باسم إيمان العامة. وظاهرة العامة ظاهرة مشروعة في كل مكان وزمان – على الأقل حتى اللحظة الراهنة ذاتها- ولكن العامة يجب أن لا تتحول إلى جميع الناس، يجب أن يكون هناك نخب مثقفة تمارس التفكير والاختلاف والجدل وتوليد المعرفة بالسجال وبالبحث الدؤوب الذي يثري ثقافة المجتمع وينميه في كل المستويات. سنة 420 للهجرة صدر المرسوم القادري بتحريم الاعتزال والقول بخلق القرآن وتم فرض المذهب الأشعري. وليس هنا مجال لتحليل الأسباب السياسية التي تقف وراء القرار. وهنا لا مجال بالطبع للتفكير في أن القرار كان قراراً دينيناً ولو اعتبرنا أن قرار الخليفة يمثل الدين الصحيح لكلفنا الأمر تجشم مشقة التوفيق بين قرارات الخلفاء المتضاربة فيما يخص الموقف من هذه أو تلك من القضايا الدينية بل إن الخليفة الواحد كان يغير رأيه مرة أو أكثر من القضايا موضوع الخلاف والاختلاف. لقد سبق للخليفة المتوكل ابن الواثق ابن المعتصم أن أوقف القول بالاعتزال لكن الهجوم كان على المختلفين أقل وطأة كان الخليفة المعتصم نفسه قد ورث عن أخيه المأمون القول بأن القرآن مخلوق وأن الإنسان يخلق أفعاله وهي أمور واجهها الفقهاء بالرفض والمعارضة ولكن الدولة وحراس دينها من المعتزلة بقيادة أحمد ابن أبي داود طاردوا المختلفين فامتحنوهم وعزلوهم من مناصبهم بل ووصل الأمر حد الحبس في ما اشتهر في تاريخنا بفتنة الإمام أحمد ابن حنبل. كان الاختلاف ممنوعا تقريباً من حيث المبدأ لكنه مع ذلك كان قائماً طوال الوقت. وبهذا المعنى فإن كل ما تستطيعه تجاه الاختلاف عند منعه هو " إنجاز " فتنة مجتمعية لا تبقي ولا تذر. أي تستطيع توظيفه من أجل حرب أهلية تقض أمن المجتمع ورفاهه وتصرفه عن البناء وعن تحقيق منعة الداخل الضرورية من أجل الحماية من أخطار الخارج. المهم نود هنا أن نؤكد أن الإسلام مثله مثل كل دين سماوي وكذلك مثل كل الرؤى والاعتقادات التي يؤمن بها بني البشر يصبح عرضة للتعدد وتباين وجهات النظر بمجرد أن يتوقف المقدس ويبدأ الإنساني ففعل الإنساني المعرفي تجاه النص المقدس يدعو إلى قراءة محكومة بالنقص الإنساني مهما ادعى صاحبها لنفسه من امتيازات وإن تكن امتيازات البابا بالذات وعلينا فقط أن نتذكر أن الباباوات قد اختلفوا بل إن المجامع الكنسية التي أسست الدين المسيحي في بدايته قد اختلفت حد أن يكفر بعضها بعضا. والواقع أن هذا ليس حكرا على المسيحية لأن تاريخ البشر يخبرنا أنه في كل العقائد والملل جرى ما يشه الذي جرى للمسيحية وما ذلك إلا لأن البشر حريون بأن يختلفوا، لكن الواجب أن لا يترافق الاختلاف مع الرفض التام الذي يسوغ التكفير والنفي والاستبعاد التام من حظيرة الإيمان. كان مجتمعنا العربي الإسلامي تعددياً على الرغم من أن الدولة انتصرت لهذا المذهب أو ذاك في لحظة من اللحظات التاريخية الحرجة، ولاعتبارات لم تكن متشابهة في كل لأحوال. والواقع أن علينا أن نصل المرحلة العثمانية في القرن السادس عشر لنشهد سيطرة أحادية بكل معنى الكلمة. وهنا لعل من المناسب أن نذكر بأن مناحي الحضارة العربية بالذات قد ذبلت إلى درجة أن أية إضافة لم تحصل وقد انكب الناس على تلخيص التلخيص في كل فن من الفنون فلم تعد القدرات القليلة للقراء تسمح بقراءة الأعمال الفنية أو العلمية في غناها وتعقيدها فاكتفوا بالشروح المبسطة. ولذلك فإن الميل إلى تبني طبعة شعبية مبسطة من كل شيء بما في ذلك الدين كان هو الأعم الأغلب. ولعل هذا هو ما واجهه المصلحون الكبار منتصف القرن التاسع عشر من شاكلة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا. كان المجتمع العربي قبل العثمانيين يعج بالأفكار من كل شكل ولون: ففي دائرة الدين كان هناك المتصوفة والشيعة والخوارج والأشعرية والمعتزلة وأهل الحديث، وكان هناك الفرق الفقهية بألوانها المتعددة. وحتى الفرق الاعتقادية كنت تجد داخل الفرقة الواحدة منها ألواناً وأشكالاً، ففي داخل الأشعرية مثلاً أو ربما على حدودها كنت تجد الطاوية والماتريدية وكنت تجد الغزالية والرازية والجوينية ..الخ وكذا بالنسبة للمعتزلة والشيعة. كانوا يتبادلون الآراء المختلفة. وكان ذلك يصل حد التكفير أحيانا، وهو ما لا نراه صحياً، لكنهم مع ذلك كانوا يعيشون معاً، وينتقل واحدهم من موقع فكري أو مذهبي إلى غيره. كأنما التطرف الكلامي في وصف " الخصوم " بالكفر لم يكن جدياً بقدر ما كان جزءاً من آلية الصراع والجدال و" الاستقطاب لجمع الأتباع والأشياع. وعلينا أن نتذكر أنه بجوار هذا التعدد الهائل كان هناك أصحاب الديانات الأخرى. ولعل من يبسط يتوهم أنهم كانوا أقلية، وما كانوا كذلك. ففيما يخص أبناء الشعوب المفتوحة قد ظل الأندلس مثلاً في غالبيته مسيحياً حتى خروج العرب منه. ولعل ذلك يفسر جزئيا سهولة تحوله إسبانياً من جديد. ويضاف إلى ذلك وجود الفلاسفة والملاحدة والمشككين من كافة الأشكال والأنواع. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر أبوبكر الرازي الطبيب الذي ينسب له كتب من قبيل مخاريق الأنبياء يشنع فيها على الديانات جميعاً. وكذلك أسماء مثل ابن الراوندي وكتاب ومثقفون كثر ليس هنا معرض ذكرهم ففي كتب التاريخ ما يغني عن ذلك. رابعا:واقعنا المعاصر وحقوق الإنسان دخل العالم العربي الحديث الدنيا بثقة لا بأس بها وتذكر من نواح عديدة بلحظة ابن رشد وما سبقها من لحظات مشرقة وواثقة. أوضح ابن رشد في فصل المقال أننا يجب أن نستعين بجهود الأمم الأخرى وأن نثمن جهدهم حين يصيبون بينما نلتمس العذر لهم عندما يخطئون، لأن الصناعة – يقصد العلم أو الفن – لا يمكن إتقانها والوقوف على دقائقها إلا بتعاون جهود البشر جميعاً. لم يكن الآخر قد أصبح " جربا" فتاكاً ومرعباً. ولم يكن الآخر – مثلاً الأوربي- يمثل الكفر الصراح. لقد كان العرب مستقلين وأقوياء وواثقين من أنفسهم. وهذا سر التبني دون خوف. على العكس، أوروبا في تلك اللحظة كانت تخشى الثقافة العربية. ولذلك صدر عن البابا غريغورس مرسوم تحريم الاشتغال بكتب الكفار العرب. اليوم تغير المشهد؛ ليس لحظة التفاؤل التي سادت تقريبا لحظة الصحوة في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، وإنما لحظة الإحباط عندما اتضح أن المشروع النهضوي العربي قد تباطأ، أو أنه قد فشل تماماً. في هذه الحال لم يعد من مناص من الانكفاء على الذات، والعودة بالتفكير إلى الأيام العثمانية القدرية والغيبية، والتي تلغي أي فرصة للبشر في الفعل الذي يخص حياتهم، فيسود مفهوم التواكل بدل التوكل، ويعتقد الناس أن الله يفعل كل شيء نيابة عنهم، وهو ما يجعل حركة التاريخ تابعة مباشرة للمقدس، بدل أن تمتلك استقلالية معينة تخصها. كان الطهطاوي وجمال الدين يدركان تفوق الغرب بوصفه تفوقاً دنيوياً لا علاقة له بالدين، كما أنه لا يترتب عليه تفوق ديني مسيحي أو غير ذلك. لقد كان حيز الإنساني الدنيوي محفوظاً في ذهن المرحلة وتفكيرها. ولذلك لم يكن غريباً أن يفكر الأفغاني في جامعة إسلامية أو حتى جامعة للشعوب الشرقية. شيء يستبق كتلة عدم الانحياز ويتفوق عليها في الطموح الأساس. مثل هذا التفكير ترك مكانه أخيراً لطبعة غريبة جداً من الإسلام المعاصر مثلها عهد طالبان البائد الذي قام قبيل رحيله القسري على يد الأمريكان بأشهر قليلة بحرب ضد تماثيل بوذا، علما أن أفغانستان لم يكن فيها بوذيون، لكنه التعصب الذي يفتعل حروبا لا مسوغ لها ضد طواحين الهواء، في الوقت الذي كان فيه سكان أفغانستان -وما يزالون في عهد حريات قرضاي- يعيشون ما قبل العصور الوسطى، بل إن المرء ليجرؤ على تشبيه ظروف حياته بالعصور التاريخية الأولى عند مرحلة الزراعة البدائية التي تكفي بالكاد حياة الناس. نحن لا نظن أن المسلم الفلسطيني هو من هذا النوع أبدا. وإذا كنا نميل بشكل أولي إلى تقسيم خريطة التدين في الواقع الفلسطيني إلى شعبي ورسمي ومسيس، فإننا والحق يقال لا نتوهم أن أياً من هذه الفئات يمكن أن يشبه طالبان في كثير أو قليل. نقول هذا بقسط لا بأس به من التفاؤل مع العلم أننا ندرك أن جزءاً من شعبنا شاركوا في الجهاد الأفغاني وتبوأ مكانة قيادية، لكن تلك قصة أخرى بالفعل وتسبق انهيار الاتحاد السوفييتي. المواطن الفلسطيني العادي في الواقع ليس عادياً، إنه متدين أساسًا. ومن هذه الناحية يوجد تشابه لا التباس فيه بينه وبين الإنسان المسلم في أنحاء كثيرة من العالم. لكن الإسلام الرسمي والمسيس يختلفان نسبياً. غير أن علينا الإقرار بأن الحوار مع التدين الشعبي ليس أسهل من الحوار مع الأشكال الأخرى من التدين. ونزعم أن ذلك يعود إلى وثوقية عقل الجماهير بشكل أكثر سذاجة وتعصبا من أية عقليات أخرى. ويضاف إلى ذلك أن الجماهير في بلادنا لا تقرأ، وتصاغ ثقافتها بشكل شفاهي من قبل مرجعيات محددة لا تحيد عنها. وهو ما يعني ثبات عقل الجماهير مقارنة بالنخب. وذلك مجرد افتراض يحتاج إلى بحث قائم بذاته. نفترض في مستوى النخب أن العقلية تتغير بحسب الفهم النظري الذي يتم تبنيه بشكل واع. وهو ما يعني أن النخب تحمل فكرا قابلاً للتطور والتغير بسرعة اكبر من الجماهير المتدينة، والتي ربما تتناقل شفهياً الكثير من الأفكار الراكدة خصوصاً في القرى. بالعودة إلى تجربة طالبان ومقارنتها بتجارب أخرى نستطيع الزعم أن الناس في بلادنا يزدادون تعصبا ورفضاً للفكر الحر بحسب درجة اندحارهم الدنيوي. وذلك يعني أن المشروع يزداد تعصبا بقدر إحباط أصحابه. وينبغي في الواقع أن نؤكد أن هذا الأمر ينطبق بشكل أكبر وأحد على المثقفين وليس على الجمهور المتدين. وذلك لأن الجمهور أقل تعمقا في فهم الواقع، وهو ما يسمح له غالباً بقراءات ساذجة وسطحية توهمه بأن الأوضاع أقل سوءاً مما هي عليه. أما في حالة المثقفين المؤمنين فإن إدراكهم العميق لصعوبات الواقع- الهزيمة والتخلف العلمي والتقني والاقتصادي والاحتلال والهيمنة الأجنبية والعجز عن توليد دولة عصرية موحدة- يقودهم إلى اليأس من دنيا لا تعطي إلا فتاتاً مغموساً بالذل. لذلك يشيح الناس بوجوههم عنها ويتجهون نحو عالم الغيب بوصفه الملاذ الوحيد. هنا يصبح الحوار صعبا إلى درجة كبيرة. وتتصف بالتعقيد أية محاولة للدخول في حوار حول سبل مد الجسور بين القوى المجتمعية المختلفة. ويقتضينا الاعتراف بالواقع أن نقول أن اللحظة التاريخية النموذجية في فلسطين هي في المابين: فمن ناحية تظهر في لحظات معنية إرادة شعبية دينية وعلمانية يتعاونان معاً للتغيير ودحر الاحتلال، وفي لحظات أخرى يسود الاعتقاد بتكسر الأحلام وانغلاق الطرق وهو ما يعني اليأس الذي لا يبقي فسحة الأمل. فيتوقف التفكير باحتمالات الواقع وآفاقه إلى رفضه عدمياً واختلاق العداوات مع المواطن في الداخل تحت مسوغ أن عدم تمسك البعض " بدينه " يؤدي إلى " هلاك " الجميع. لعلنا نظن أن المؤمن يعلم بأم رأسه أن توجه حزب الله وتوجه حماس يختلفان كثيرا عن توجه طالبان وكذلك عن تعامل قيادات الأنظمة العربية مع النص المعطى دينيا. ونود في هذا السياق أن نؤكد على الفرق بين التوجه الواقعي العملي وإن اتصف بالتدين في مقابل روح غيبية تواكلية تلح على أولوية دور المقدس. في هذا المضمار لنذكر كيف عبر " الفن " في الأردن عما جرى ويجري على مستوى السياسة-الحرب:"تسلم لنا وانصر من الله، يا قايدنا يا أبو عبد الله." لا بد من الإقرار بأن النص هنا يشي بمسؤولية الغيب عما يجري في المستوى الدنيوي. وهو ما تكرره الماكينة الإعلامية العراقية في حرب عام 1991 بعد اجتياح الكويت بقليل. كان الشعار: "يا محلا النصر بعون الله". وإذا كان ذلك النصر المزعوم غير ممكن في المستوى التاريخي الحسي أبداً، فلا بد من إسقاط الفعل كله على مستوى ميتا طبيعي يجعل الله وإرادته سبباً لتأخر النصر الموهوم. يمكن القول إن كل هذا الموضوع يجب أن يدور حوله حوار جدي ومحترم بين فئات الشعب المختلفة وخصوصاً القادة الفكريين العقديين في الميدان مثل الأئمة وأساتذة التربية الدينية. هنا أود أن أنوه أنه منذ غياب العمل التثقيفي لمنظمات اليسار الفلسطيني يمكن للمرء ملاحظة أن الجهة الوحيدة تقريباً التي تقوم بتثقيف جدي وعلى أسس واضحة وربما ثابتة هي التي تقدم الفكر الديني بتلاوينه المتعددة في مجتمعنا الفلسطيني كما العربي. وبصراحة تامة فإن الفكر الديني موجود بشكل حاسم في المجتمع الذي نحيا فيه اليوم إلى درجة أن أفكارا ساذجة متسرعة مثل تجاوز الدين أو تحويل المجتمع عنه أو التحول إلى فكر شيوعي أو علماني..الخ هو كلام لا معنى له بالفعل إذا كان المقصود بذلك غالبية الجماهير. وأما إذا كان المقصود خلق حفنة من أعضاء نخب طافية على سطح المجتمع هنا وهناك فيمكن حقا " التخلص " من حضور الدين في المجتمع الذي تعيش فيه. نظن بإخلاص وموضوعية أن الدين مكون رئيس من مكونات شعبنا الثقافية والنفسية وهويته التاريخية الحضارية الكلاسيكية والمعاصرة. وبناء على ذلك فإن بقاء الدين في الحاضر هو أمر لا نقاش فيه. ويجب أن لا يطرح بوصفه مشكلة حتى من قبل الملاحدة أو حتى ألد أعداء الفكر الديني. يجب صراحة أن يتجه التفكير نحو توليد طرق " للتعايش " بين مختلف المدارس الفكرية. وخصوص يجب أن تبنى طرقا منوعة للتواصل مع الفكر الديني دون أن يؤذن ذلك بتحول المجتمع نحو الظاهرة الغريبة المدعوة طالبان وما لها من أشباه. على رجال الدين في مجتمع شفاهي كمجتمعنا تقع مسؤولية كبيرة وهي كيفية الخروج من الأزمة التي نعيش. إن مشروع النهضة الآن قد تجاوزه التاريخ بالنسبة لنا. لقد أصبح قديماً جداً. ولا بأس من التحذير دون بكائيات من إمكانية خروجنا من التاريخ كما أوضح فوزي منصور في خروج العرب من التاريخ. نحن نزعم أن المتدينين في بلادنا هم من أكثر القطاعات جدية وأصالة في زمن الفضائيات الذي ينزع من الثقافة كل امتيازاتها. في هذا الزمن يبدو المدربون على الثقافة الدينية أقدر على استعمال العربية الفصيحة والسليمة في زمن يخشى فيه حملة الدرجات العليا في النحو من ارتكاب الأخطاء لدى أول جملة يتفوهون بها. لذلك لا بد من القول إن تحمل الشريحة المتدينة وخصوصاً القادة المتدينين لمسؤولياتهم قد يكون أحد المقومات القليلة للتغلب على مخاطر الذي سيأتي، والذي نخشى أنه قد بدأ فعلاً يمارس تأثيراته المدمرة. لكن من أجل أن ينجح أعضاء الشرائح المتدينة في القيام بدور إيجابي في حماية المجتمع-الأمة فلا بد من أن يكونوا دعاة وحدة وتسامح. وأما أن يكونوا دعاة فرقة واختلاف ورؤية أحادية لا تقبل أبدا أي تنوع فهو أمر في غاية الخطورة. أضرب أمثلة على ذلك. منذ بضع سنوات – في أواخر التسعينيات من القرن المنصرم- أقدمت مجموعة تزعم لنفسها تمثيل الدين الصحيح باقتحام مسجد في الخرطوم فقتلت بالرصاص حوالي عشرين شخصاً ممن كان يصلي فيه من " الكفرة ". لكن إذا كان هذا مثالها مع من يصلي فما هو يا ترى عقابها المحتمل للمسيحيين والعلمانيين والشيوعيين والملاحدة ومن لف لفهم؟ الجواب لا يحتاج إلى إيضاح. في حالة أخرى أذكر أن مواطناً من طولكرم قال رداً على سؤال للتلفزيون الألماني إنه مع القاعدة ضد أمريكا الاستعمارية والتي تحتل العالم وتدعم الاحتلال الصهيوني لفلسطين لكن لو تمكن طالبان أو القاعدة –جدلاً – من هزيمة أمريكا فإنه سوف ينضم في المعركة إلى جانب الولايات المتحدة لأن سيطرة هؤلاء " المسلمين " على العالم هي أمر لا يجعله مكاناً معقولاً، إنما مكاناً مجنوناً بكل معنى الكلمة. أظن أن لا أحد اليوم يوافق على إقفال محطات التلفزة والمدارس. هذا كثير بالنسبة للعقلاء أياً كان مذهبهم أو دينهم أو فلسفتهم. المكان يتسع لنا جميعا. تلك هي كلمة السر. الدنيوي هو دنيوي. والصراعات البشرية هي نزاعات من أجل متاع الدنيا الزائل. وللأسف فإن البشر لا يتنازعون من أجل المبادئ والأخلاق وما أشبه إلا فيما ندر، ولذلك فربما أن كل هذا يجب أن يتركه الإنسان المؤمن لله. وينهمك في تفكير القضايا المتعلقة بحياة أمته ومجتمعه على هذه الأرض بغض النظر عن اختلافه مع شرائح من مجتمعه بخصوص فهمهم للحياة ومنطلقاتهم النظرية الاعتقادية وما إليها. هل ذلك ممكن مبدئياً؟ نحن نظن أنه ممكن. بمعنى أننا نميل إلى القول أن كثيراً من الاتجاهات الدينية الأكثر عقلانية وإيمانا وتماسكاً وحرصا على مصلحة بلادها تفكر منذ وقت لا بأس به بهذا الاتجاه بعيدا عن افتعال الأزمات الداخلية والصراعات على مستوى الشعب-الأمة الواحدة. ربما علينا أن نكرر نموذج حزب الله الرائع في هذا السياق. لقد وضع ذلك الحزب ذو البصيرة النافذة وراء ظهره كل الاختلافات الداخلية في بلد سمته الأساس التنوع إلى درجة شل عقل الإنسان عن تعداد أو ذكر مفردات ذلك التنوع. في بلادنا يجب أن نسجل باعتزاز ترفع تجربة حماس والجهاد الإسلامي وآخرين بدرجة كبيرة عن الانسياق نحو النزاع الداخلي إن يكن في مستوى السياسة أو في مستوى الحياة الاجتماعية، وهو ما جنبنا حتى اللحظة دفع أثمان باهظة دفعت هنا وهناك في العالم العربي. لكننا على الرغم من ذلك نظن أن المزيد من المرونة الواجب تحقيقها هي أمر في غاية الأهمية. وبهذا المعنى ما يزال الكثير من المتدينين وحتى في مستوى الجمهور - الذي سبق أن أوضحنا طبيعته المتدينة من ناحية مبدئية- جاهزين للتدخل "لهداية" الآخرين وفرض وجهات نظرهم عليهم انطلاقا من فهم ساذج لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبهذا المعنى من المحزن القول إن الكثير من الناس يتوهم أنه من الواجب توجيه وإرشاد رجال مثل نصر حامد أبوزيد أو محمد أركون..الخ هنا في الواقع يجب العمل بشكل مكثف لتوضيح أن الحقيقة نسبية وأنه لا يجوز للفرد مهما بلغ من العلم أن يتخيل نفسه مرجعا نهائيا لا يتطرق إليه الشك. ولا يجوز للمرء أن يفرض وصايته على الآخرين بمن فيهم علماء كبار لا يشك الناظر أنهم أعلم بموضوع النزاع ممن يفترض أنه يتبرع لهدايتهم. في هذا السياق نتوهم أن نقطة يجب أن تحسم مهما كلفت من جهد. تلكم المتعلقة بنظرية المؤامرة. وهي نظرية تطبق للأسف في مستويين الماضي-التاريخ والحاضر-الواقع. ينطلق المؤمن العادي و" العالم " على السواء من قناعة مفادها أن المشركين الذي رفضوا الإسلام قد فعلوا ذلك من باب العناد على الرغم من قناعتهم بصحته. والواقع أن شروط تلك المرحلة التاريخية قد تجعل ذلك أمراً سائغاً بالفعل. لكن المشكلة تبرز عندما يصر المسلم المعاصر على أن أية صعوبات تاريخية واجهها الإسلام أو المسلمون أو العرب هي نتاج مؤامرة مدروسة ومقصودة لتدمير الإسلام. وقد سبق لنا الإشارة إلى هذه الفكرة التي تقول بها معظم الديانات على وجه العموم. واليوم يقع البعض بسذاجة في وهم أن كل ما يجري في الكون خصوصاً ما يتعلق منه بالعرب والمسلمين فإن أساسه اليهود أو المستشرقين ..الخ في هذا السياق يحضرنا الميل لتبسيط تفسير التاريخ الإسلامي في فجره برؤية أحادية تلقي باللائمة على كاهل رجل قد لا يكون له وجود فعلي في تاريخنا يدعى عبد الله بن سبأ الذي ينسب له تأجيج الفتنة- الحرب الأهلية- التي وقعت في خلافة عثمان ثم علي وهما الخليفتان الثالث والرابع من الراشدين على التوالي. اليوم أيضاً يتم تفسير كل ما يجري بنظرية المؤامرة. وتنتشر في هذا الإطار كتب مثل أحجار على رقة الشطرنج التي تتجاوز شعبيتها كتب التنجيم والأبراج وكتب الطهي وكتب الجنس المتفوقة. هنا يتم ترتيب مؤامرة تتجاوز الفعل الإنساني المتاح ويتحول الواقع إلى سلسلة مطلقة من الدسائس التي لا سبيل لمواجهتها. إن مثل هذا الفهم يجعل كل ما يجري في الكون معد من أجل الإضرار بالإسلام وأهله. وذلك للأسف يتجنى على الواقع في صلابته وثقله. إنه يتطلب منا أن نظن أن الحرب الباردة لم تشهد صراعا بين معسكرين كبيرين وأن البلاد العربية والإسلامية هي المحور، مع أنها لم تكن أكثر من حجارة صغيرة في ذلك النزاع الكوني الرهيب. إن فكرة المؤامرة اليوم تريدنا أن نصدق جورج بوش الذي يزعم أحياناً مع بضعة متطرفين من التيار المحافظ أن الصراع يدور ضد الإسلام، وننسى النزاع مع الصين وننسى التنافس بين المستعمرين. إن هذا الفهم للأسف يستند إلى "رؤية" لا ترى الواقع إلا مجزأ مبتورا ومقطع الأوصال، فيتسنى تركيبه انسجاما مع قناعة ماهوية لا تتغير ولا ترتكز على المعطى الوقائعي وإنما على النص الجاهز من الأزل إلى الأبد. من الواضح أن المؤمنين في حاجة إلى التبصر بتاريخ الآخرين: مثلا كيف ينسجم موقفهم من النزاع بين الناس القائم على ثنائية مؤمن-كافر والذي يتمحور حول فكرة العداء للإسلام، مع واقع قتل القارة الأمريكية بأكملها؟ أو مع تدمير أفريقيا جنوب الخط وتحويل سكانها إلى عبيد في القارة الجديدة؟ كيف نفسر القصف الوحشي لليابان بالقنابل النووية، وكيف نفسر الوحشية اليابانية ذاتها المنقطعة النظير ضد الصين، أو الوحشية النازية تجاه اليهود والمسيحيين والشيوعيين والمسلمين؟ نرى أن المؤمنين الأشد موضوعية وإخلاصاً لا بد وأن يقبلوا انطلاقا من قراءة التاريخ بأن هناك مسارا لحياة البشر منفصل عن الجوانب الدينية. ولكن ذلك لا يلزمهم بالتخلي عن إيمانهم، وإنما يستدعي فقط أن يتقبلوا الدنيوي بوصفه دنيوي والأخروي يبقى أخرويا لا يضيره ما يعتور حياة البشر الفعلية من مثالب ومنقصات. ليست "ملة الكفر واحدة " على هذه الأرض. ربما تكون كذلك في ملكوت الله، لكن هنا ملة الكفر تتباين مصالحها واتجاهاتها بل ومبادئها وأخلاقها. وبعضها معاد للعرب والفلسطينيين خصوصاً، بينما بعض آخر يجد له مصلحة أو تدفعه أيديولوجيا ونسيج فكري معين إلى مؤازرة الفلسطينيين والعراقيين ..الخ نظن أن كثيراً من المسلمين الفلسطينيين المخلصين قادرون بالفعل على رؤية الاختلاف بين الموقف الذي تتبناه الولايات المتحدة بخصوص فلسطين والعرب وبين الموقف الذي تتبناه فنزويلا هوغو شافيز أو برازيل لولا. ولا بد أن رجلاً مثل جورج جالاوي مختلف جذرياً في موقفه من قضايا العرب عن مواطنه ورئيس وزرائه توني بلير. هذه أمور واضحة بذاتها، ومن المحزن أن البعض يمكن أن ينكر حقائق بدهية تحت مزاعم أن هناك مؤامرة كلية مطلقة وكاملة التخفي يشارك فيها كل " الكفار ". ذلك لسوء الحظ منطق " سري " لا يمكن لأحد أن يثبته أو ينفيه. إنه ببساطة يقع في دائرة الغيب على الرغم من انتسابه إلى عالمنا الحسي المعاش. الواقع أن هذه نقطة جوهرية لتأصيل التعايش القائم على قبول الآخرين على قدم المساواة. ونحن في الحقيقة نعتقد بضرورة الاعتراف بمبدأ المساواة في زماننا الحالي. وإلا فإن مواطنة منقوصة هي دون شك تعامل تمييزي لا علاقة له فيما نتوهم بروح الإسلام التي ترتكز على تساوي البشر في نسبتهم لآدم وحواء وفي نسبتهم إلى التراب. نظن بصراحة تامة أن التخلي عن فهم متطرف بخصوص "الكفار" وما إلى ذلك من مصطلحات هو أمر ضروري للمسلم المعاصر لكي ينسجم مع الحدود الدنيا لموضوعات حقوق الإنسان وعلى رأسها موضوع التساوي في المواطنة. إنه أمر غير قابل للتسويغ أن يكون بإمكان الفلسطيني والصيني والعراقي والمكسيكي أن يعيشوا في بريطانيا مواطنين بريطانيين يحق لهم ما يحق للإنجليز ويجب عليهم ما يجب على الإنجليز بينما يكون العربي المسيحي الذي يعيش في اللد أو بيت لحم منذ آلاف السنين منقوص المواطنة. هنا أود أن أوضح دون مجاملة أنني أظن أن الدين الإسلامي، الذي أعتقد دون دبلوماسية بأنه مبدئياً دين متسامح بالفعل لا بالقول، يمكن أن تتسع تعاليمه لتجاوز " سيناريوهات" الماضي تجاه ما كان يعرف بأهل الذمة، لأنهم في الواقع ما عادوا أهل ذمة. لقد تحولوا إلى مواطنين، وإنني أزعم أن بالإمكان التوصل إلى فهم فعلي لحق الاختلاف بمعنى يتلاقى مع فكرة حرية الفكر بكافة مالها من دلائل. يبدو أن الجاحظ قد قال شيئاً من قبيل أن الإنسان الصالح الذي يفعل الحسن ويترك القبيح لا يضره أمام الله أن يكون مؤمنا بمبادئ الدين، أي دين. إذ أن المهم هو الأعمال وليس الأقوال أو حتى الاعتقادات. وهذا الرأي هو رأي على طرف نقيض مع وجهة نظر جماعة كلامية معروفة نسبيا هي المرجئة التي ظنت أنه: لا تضر مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة. فاعتبرت أن المهم هو الإيمان وأما العمل فلا قيمة له. نحن ربما – مع أنه ممكن بالفعل- لا نريد أن نطلب من المفكر المسلم المعاصر أن يقول ما قال الجاحظ بخصوص الموقف من المخالفين في الدين. إنما نريد فقط موقفا يترك الحساب لرب الحساب، ويقبل في هذه الدنيا من جميع المواطنين الالتزام بشروط المواطنة تاركين الجوانب الروحية ليحاسب الله عليها الناس جميعا يوم القيامة. نريد أن نؤكد أن روح الاجتهاد غدت ضرورية تماماً بالمعنى الفعلي للكلام. ولا بد من الإلحاح على وجهات نظر جريئة وعلمية مثل التي يعبر عنها العلامة المعروف الدكتور يوسف القرضاوي الذي يؤكد أنه ما من محدث أو فقيه أو عالم كلام أو مفسر إلا وفي آرائه جملة من الغرائب التي لا يمكن الدفاع عنها بحال من الأحوال، والتي لا تنسجم أبداً مع روح عصرنا. ومن ذلك أن بعض الفقهاء المفتين أفتوا أن مدة الحمل أقصاها سبع سنين(القرضاوي:1998 الثقافة العربية الإسلامية،ص59). إن كثيراً من المسلمين لا يرغب في الاعتراف بمثل هذه الوقائع. لكننا نتوهم أن نسبة عالية منهم تريد بالفعل أن تتناول الأمور في موضوعية وهدوء، وأنها ترغب بالفعل في تغيير الكثير من المسلمات القديمة لتنسجم مع روح أمة وعصر مختلفين. في حقوق الإنسان المعاصر سيبدو غريبا جدا الإصرار على أن " من بدل دينه فاقتلوه ". ودون أن ندخل في إسناد الحديث وقوته وما إلى ذلك، فإننا نؤكد أن المسلم المعاصر يستطيع إذا أراد أن يلح على النص القرآني الصريح والواضح: " لا إكراه في الدين " علماً بأنه لا يوجد أي نص قرآني يتحدث عن عقوبة من أي نوع لمن يترك دينه. كل ما هنالك نصوص تطالب بالسماح بحرية المعتقد. الواقع أن المسلم هو الذي كان محروما في تلك اللحظة من حقه في الاعتقاد والتعبد..الخ حرية الإنسان الفكرية وحقه في الاعتقاد اليوم، مكون أساس على مائدة حقوق الإنسان، وقد تكون ملح الحقوق بالذات. فكيف يمكن التوفيق بين حد "الردة" ذاك وبين حرية تبني الأفكار والآراء والفلسفات بحرية؟ نزعم أن بإمكان المسلم المعاصر أن يجد حلاً إذا أراد. ونحن نصر على هذه النزعة الإرادوية هنا لأننا ندرك أن النص، وسجل الأيام الطويل احتوى كل ألوان الآراء والمعتقدات والاجتهادات..الخ فقط من يجهل تاريخنا أو ديننا بشكل تام يتوهم أن الوحدة هي الأساس. نعم، الاختلاف هو الأساس. وهو اختلاف يجد أساسه على الأرجح في النص المقدس بالذات. وهو ربما ما نقرأه في تعليمات علي بن أبي طالب لمساعده وابن عمه ابن عباس حبر الأمة عندما أرسله لمحاورة المعسكر الذي خرج عليهِ. قال: " ولا تجادلهم بالقرآن فإنه ذو وجوه" أي أنه حمال للمعاني المختلفة مما يعني صعوبة حسم الخلاف عبر اللجوء إلى الدليل القرآني. وهو على الأرجح نفس السبب الذي سمح في تاريخنا لمختلف الفرق أن تستند للقرآن لتسويغ وجهات نظرها. فأنصار القدر والحرية والجبرية والصوفية والأشعرية وغيرهم..الخ وجدوا جميعا في القرآن أساساً ينطلقون منه لإثبات آرائهم المتعارضة. لذلك لا نتردد كثيراً في القول بأن بالإمكان حقاً التوصل إلى حالة يمكن فيها التعايش مع الاختلاف في وجهات النظر دون أن يستدعي ذلك تغيير الرأي في القضايا الدينية الاعتقادية مثل وجود الله وصفاته وأركان الأيمان الأخرى وحتى العبادات وقضايا الفقه الأساس. لكن على صعيد بعض الأمور التي يمكن تصنيفها في دائرة الحريات الشخصية أو الفردية والتي أصبحت مناط حقوق الإنسان، نظن أن دائرة فتوى واسعة العلم والاطلاع على الماضي والحاضر، على الديني والدنيوي يمكن أن تجد مخارج معقولة للكثير من القضايا بحيث لا يفنى الذئب -على رأي المثل الشعبي- ولا تموت الماشية جميعا. خامسا:قضية المرأة والأمر في الحقيقة يتعلق بالكثير من الوقائع التي تراكم عليها الزمن. لكن ربما أهمها على الإطلاق الجانب المتعلق بموضوعة المرأة ففي بلادنا سبق لوضع المرأة أن وصل الحضيض إبان الحقة العثمانية التركية. وهو ما يكتشفه المرء بسرعة عند المقارنة بين أي عصر عربي-إسلامي وبين العصر العثماني. فلقد كانت المرأة العربية حتى في الزمن الموسوم بالجاهلية حاضرة بدرجة كبيرة في الحياة العامة وهو ما يجعل عوائل وقبائل تدعى بأسماء نساء. كذلك لا نستغرب مشاهدة شاعرات ونساء يعملن بالتجارة مباشرة كالخنساء وخديجة زوجة الرسول(ص) بالذات. وفي صدر الإسلام سوف نرى المرأة هنا وهناك تتواجد في النشاط المجتمعي العام. أقل من الرجال، لا شك في ذلك، لكنها موجودة طوال الوقت. نشاهد تراجعاً ملحوظا في مكانة المرأة في العصر العباسي، على الأغلب بسبب تكريس وضعيتها متاعاً للرجال في السهرات: في الرقص والطرب، وحتى لغايات الجنس. وذلك يعني أن المجتمع تخلى إلى حد معين عن رؤية المرأة إنساناً إلى جانب أو حتى خلف الرجل ( على حد تعبير أغنية فلسطينية تتغنى بالجهاد وتضع النساء خلف الرجال: برزت لهم والنار سيل جامح، ونساؤها خلف الرجال تكافح). لقد تركت المرأة شؤون الحياة للرجال واكتفت هي بدورها دمية يلعب بها الرجل. لكن بالطبع لا بد أن الوضع استمر في الانحدار تماما حتى إخراج المرأة نهائيا من الحياة العامة. ولذلك فقد استغرب رفاعة رافع الطهطاوي أول المطلين على حضارة الغرب في تخليص الإبريز جرأة المرأة الفرنسية التي تصل حد أن تقول للرجل: "مرحباً كيف حالك." مع العلم أن المرأة العربية في الجاهلية كانت تقول للرجال "عمتم صباحاً كيف أنت يا قوم؟" لكن الحال ساء بالعرب إلى درجة أن الطهطاوي في نفس الكتاب يستغرب أنه لا يوجد في باريس قمل أو براغيث. ومرة أخرى نقول إن بيوت الأغنياء قد خلت من القمل في بغداد وقرطبة ودمشق في العصور الذهبية. من الصحيح بطبيعة الحال أن النص والتشريع الإسلامي يسمح بتعدد الزوجات. وهناك الكثير من النصوص التي تضع المرأة في منزلة أقل من الرجل، وهو ما يسمح للبعض بالقول إن المرأة لا تساوي الرجل في نظر الإسلام والصيغة النموذجية (التي تقدمها المرأة المتدينة نفسها) هي أن الإسلام أعطى المرأة الحقوق الكاملة التي تليق بها والتي تتلاءم مع طبيعتها، لكن ذلك بالضبط يعني أن لا تكون مساوية للرجل لأن ذلك يتناقض مع " طبيعتها". وهنا لا بد أن المرء يواجه بما يسميه الفلاسفة الإنجليز الأغلوطة الطبيعية: أي افتراض وجود ماهية ثابتة للبشر تتعالى على التاريخ. وهو أمر مشكوك فيه كثيراً، ويمكن بقليل من التحري التاريخي الحصول على نتائج واضحة تشير إلى أن التاريخ يقولب المبادئ والمعتقدات لتنسجم مع التغيرات التي تجري فعلياً على أرض الواقع المعاش. من هنا فإن النظرة إلى المرأة والإنسان بعامة في القرون الوسطى الأوروبية المسيحية تختلف عنها في بداية تكون الديانة في الزمن الروماني وفي القرون الميلادية الأولى. كذلك فإن النظرة إلى المرأة في المجتمع الإسلامي تباينت على الرغم من لافتة الإسلام الموحدة من مكان إلى مكان، ومن مجتمع إلى مجتمع، ومن زمن إلى آخر. وغني عن البيان أن المرأة في المجتمع الإسلامي اليمني ليست هي هي المرأة في المجتمع الإسلامي الماليزي حيث درجة أعلى بما لا يقاس من التقدم التقني والثقافي والعلمي السياسي ..الخ إن المرأة المسلمة بوصفها جزءاً من أقلية في الولايات المتحدة وكندا لا يمكن أن تشبه في قليل أو كثير المرأة في الهند بوصفها جزءاً من أقلية مسلمة. كلا إن الوهم بهوية ثابتة للإنسان وهم يجافي العلم كثيرا. ومن البين بذاته أن لأمور تتغير مع الزمن كثيراً. ومن الواضح أن ما كانت تقبل به المرأة في الماضي لا تقبل به اليوم. مثلاً من المعروف أن بعض الفقهاء قد أفتى بأن الرجل إذا جامع زوجته مرة واحدة على الأقل فإن ذلك كاف لاعتبارها زوجة وأنها أخذت حقها من هذه الناحية إلى الأبد. واضح أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون مقبولا الآن في كثير من المجتمعات. ونشك أن المرأة المسلمة في أوروبا أو حتى مناطق معينة من العالم العربي كمصر والشام يمكن أن تقبل بذلك. لقد تغير الزمن كثيرا ولعل مواجهة الواقع الراهن تقتضينا أن نغير الكثير من أفكارنا. ومرة أخرى نؤكد قناعتنا الراسخة والمنطلقة من إيمان جاد بانتماء أبناء بلادنا لوطنهم وأمتهم أنهم يبحثون حقاً وجديا عن سبل للنهوض ببلادهم، وأن إخلاصهم يجعل التعصب غير ذي موضوع عند النظر في هموم حياتنا الراهنة وما أكثرها. من هنا نظن أن مواطننا الفلسطيني المتدين لا يمكن أن يتجاهل التغيرات التي تحصل في العالم الراهن وفي المنطقة التي نعيش بها من باب المكابرة فحسب، أو من باب التمسك بالرأي مهما بدا منافياً للواقع. نؤكد أن حالة طالبان المنفصمة العرى عن حياة البشر المعاصرة لا مكان لها في هذه البلاد، وذلك تحديداً بفضل وعي أبناء شعبنا وعلى رأسهم الغالبية المتدينة. يدرك المواطن المتدين أن المرأة الفلسطينية لا تنقصها أية أشياء لكي تكون كالرجل. إنها في الواقع فعلت كل شيء بما في ذلك العمليات الإستشهادية. وقد كشف ذلك عن عدم وجود فروق جدية في فاعلية الجنسين. أذكر في هذا السياق أنني كنت أحاور مجموعة من الصبايا والشبان، فألمح أفراد من الجنسين إلى أن المرأة اقل من الرجل في عقلها. ثم أضافوا مع سخرية بريئة إنهم يقولون ذلك على الرغم من أن الشواهد تؤكد أن الصبايا في الجامعة الفلسطينية يحققن نتائج أفضل بكثير من الشباب، وهذا ينطبق على نتائج التوجيهية. وقد قالت لي إحدى الفتيات إنه مع ذلك فلا بد أن عقول الرجال هي الأفضل، لكنها لا تعرف كيف تثبت ذلك. من الواضح أن مسلماً أكثر موضوعية، وخصوصاً إذا كان من الرجال –لأن النساء لاعتبارات تربوية أقل جرأة- لن يتمكن أمام ضميره وحسه بالمسؤولية من طرح المسألة على هذا النحو. وعلى العكس نتوقع أن يتم إعادة تفسير الأحكام والاجتهادات أو حتى إعادة الاجتهاد لإعطاء المرأة فرصة المساواة التامة بعد أن اتضح بشكل حاسم في هذا الزمن أنها يمكن أن تكون كالرجل تماماً سياسية ناجحة أو فاشلة ومؤلفة مبدعة أو متواضعة وعالمة فلك أو كيمياء أو مدرسة أو موسيقية. لا نعرف حقلاً على الإطلاق لا تعمل فيه المرأة هذه الأيام. والحجة التقليدية بخصوص أن جسد المرأة أضعف و ما أشبه حجة متواضعة بالفعل. فهل صحيح أن كل الرجال تتساوى أجسادهم في القوة ومتانة العضلات؟ إن الإجابة فيما نزعم لا تحتاج إلى إعمال التفكير مطولا. لا نريد أن ينساق القارئ إلى توهم أننا نوجه اللوم إلى الإسلام في خصوص وضع المرأة. والواقع أن حقوق المرأة الاقتصادية عنوان لتكذيب أي ادعاء بمسؤولية الإسلام المباشرة عن وضع المرأة. فالحقيقة أن المجتمع الفلسطيني وخصوصاً الريفي يرفض منح المرأة حقها في الميراث، وعلى وجه الدقة حين يتعلق الأمر بحقها في ميراث أهلها من الأراضي والعقارات. ومن الطريف بالفعل أن المجتمع الفلسطيني المسيحي يتفق في ذلك تماماً مع نظيره الإسلامي. إنها مسألة انتهاك مجتمعي ذكري لحقوق المرأة لا علاقة له بالديانات من قريب أو بعيد. بالعكس تلجأ بعض النساء إلى تذكير المؤمنين بغضب الله ممن يأكلون حقوق غيرهم كما يتم اللجوء للمحكمة الشرعية لتساعد في إعادة الحقوق لصاحباتها وإن كان ذلك يفشل في معظم الأحيان بسبب تغلب بنية المجتمع العشائرية ونظام الحمولة على القضاء والحق العام. وذلك في الواقع يقودنا إلى القول بأن الإسلام بوصفه دينا لا يهيمن بشكل تام على بنية تفكير الناس من نواح معينة على الرغم من طول المدة. إذ ما يزال المجتمع العربي بما فيه الفلسطيني قبليا وعشائريا من نواح متعددة. وهذه مسألة معقدة وتحتاج إلى بحوث معمقة قائمة بذاتها. لكن في هذا السياق نلاحظ مثلا أن فترات النهوض القومي والنضالي الوطني كتجربة الثورة الجزائرية وحقبة عبد الناصر وفترة الانتفاضة عندنا قد شهدت تراجعا في العشائرية والفردية لمصلحة الوطني والعام، لكن بعد أوسلو عدنا إلى سابق عهدنا. وهو ما يعني أنه في أحوال كالانتخابات تتغلب هوية المرشح القبلية أو المناطقية على هويته الحزبية أو العقائدية..الخ بالطبع هناك نقاط حساسة وتثير الكثير من المشاحنة والجدال الذي لا ينتهي. وعلى رأسها بالطبع قضية تعدد الزوجات. وهنا نبدأ بالقول أن النص القرآني يسمح فيما نتوهم باستخلاص حكم مفاده أن الأصل في الزواج واحدة فحسب. وقد ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى ذلك الرأي بالفعل. لكن ما يزال هذا الرأي معزولاً نسبيا وعلى الرغم من أن النقاش النظري للمسألة يشهد موقفا متقدما جدا يأخذه بالعادة الفقهاء والأئمة وخاصة في بلدان كمصر والشام وفلسطين والعراق والمغرب العربي إلا أن ذلك لا يتسع ليشمل التفكير في وضع قوانين شرعية تحدد بالفعل عدم إمكانية تعدد الزوجات دون إبداء أسباب، على الرغم من أن ذلك أصبح يلقى قبولا واسعا بوصفه فكرة حتى في أوسع الدوائر تدينا. ويكفي أن نلقي نظرة على الأسرة الفلسطينية لنجد أن معظم الأسر ما عادت تشهد تعدد زوجات لكن مع ذلك لا بد من حماية الأسرة بشكل حازم من ميل بعض الرجال إلى اتباع أمزجتهم وشهواتهم كي لا تبقى عرضة لظروف مصطنعة وغير طبيعية من أجل تلبية نزوات الرجل. إن بيت القصيد في تعديل الأوضاع القائمة بالنسبة لحقوق الإنسان في فلسطين وخاصة موضوعة المرأة هو الموقف الذي يمثله القادة الدينيون. ودون أن يأخذ القادة المشار إليهم موقفاً قوياً ومخلصا في مساندة حقوق الإنسان، نعتقد أن تطويرها صعب للغاية إن لم يكن محالاً. وربما أن موضوع حقوق المرأة بالذات يشكل شاهداً دامغا على ذلك. إذ أن تدخل الأئمة القوي لإعطاء المرأة حقوقها الاقتصادية التي يقرها التشريع الإسلامي قد يكون أفضل مدخل للضغط على الذكور الذين يصرون على حرمان النساء من حقوقهن. صحيح بالطبع أن وجود دولة القانون يسهل كل ذلك ويعززه بقوة. لكن ذلك رهن بالسياسة والتحرر الوطني وتلك قصة أخرى ربما أكثر تعقيدا وتشابكا وصعوبة. إن حواراً جديا بين قيادات العمل الديني وقيادات العمل المجتمعي الأهلي والحزبي والأكاديمي أمر ضروري للغاية على الرغم أننا لا نعرف صيغة جاهزة لذلك. ولكنها بطبيعة الحال قابلة للتوليد إذا تم تبني الفكرة. من الواجب أن يتم الحوار على أرضية وطنية فكرية ودون الحاجة إلى جلب فئات من الخارج لفرضه علينا- وهو للأسف ما يحدث هذه الأيام في قضايا تعم الإصلاح العربي وتخص الحوار السياسي الفلسطيني الداخلي جميعا- وذلك بالطبع أجدى لتمتين البيت الداخلي ولوضع أسس مجتمع حداثي قادر على تلمس طريقه في هذا الزمن الذي يصدق عليه التعبير القرآني الكريم " إذا أخرج يده لم يكد يراها ". ماذا يمكن أن نفعل؟ ربما أن من الواجب التأكيد على جملة أفكار ومبادئ توجه أي نقاش أو حوار بين أصحاب الرؤى المختلفة: 1. تركيز الضوء على فكرة الاختلاف التعددي القائم على مستوى إنساني شامل. إن البشر يختلفون إلى درجة مذهلة. أذكر أن مسؤولاً يابانيا زار رام الله وأتيحت لي الفرصة لمشاهدته تساءل في سياق معين: هل سمعت بالفكرة المسيحية الغريبة التي تقول بأن هناك إلهاً في السماء، وأنه سوف يحاسب الناس فيما بعد ويضع بعضهم في النار..الخ؟ فضحكت وقلت إن لدينا نفس الفكرة، فرفع حاجبيه في دهشة تامة. 2. تخصيص وقت كاف لمناقشة الفكرة التي أصبحت في عداد الكلاسيكيات والتي تقول بأن هناك مؤامرة كونية ماسونية شاملة تستهدف الإسلام والمسلمين دون سكان الأرض جميعا. ولا بد من مناقشة الفكرة بسعة صدر من الجميع لما لها من أبعاد خطيرة تؤثر في مواقف أخرى من الآخرين ومن أنفسنا على صعيد السياسة والعقائد والأخلاق..الخ 3. إجراء مناقشات واسعة حول شروط ولادة الفكر " واللاهوت " الإسلامي في العصور الكلاسيكية. إن ذلك يسهم على الأرجح في توضيح الطابع التاريخي النسبي للوقائع التراثية. مثلا يصاب المسلم المعاصر بالدهشة عند إخباره إن فكرة من قبيل أن الإنسان هو الذي يفعل " أفعاله " اعتبرت بدعة في العصر الأموي من قبل رموز الصحابة والتابعين. اليوم هذه الفكرة بالطبع تعتبر بدهية ومسلم بها من قبل الغالبية. 4. إجراء مناقشة حول التعددية الفكرية التي اصطبغ بها تاريخ الاعتقاد الإسلامي وربما أن الحديث الشائع والذي يقول بأن الأمة تنقسم إلى ثلاث وسبعين فرقة مؤشر دال على ذلك الاختلاف. إن استعراض مبادئ اتجاهات فكرية من قبيل الخوارج والمعتزلة والأشاعرة وكذلك استعراض تاريخهم وعلاقاتهم ببعض أمور مهمة لتوكيد أن التعدد كان القاعدة والاتفاق التام لم يتوافر في أية لحظة تاريخية. 5. مناقشة الوضع الاعتقادي الراهن الذي يكرس تعددية يكتنفها صمت غير واضح الأسباب: فالمغرب ما يزال أشعرياً مالكياً والمشرق طحاوياً حنفيا أو شافعياً، وأما اليمن والعراق فشيعة بألوان متعددة والسعودية مهد الإسلام وهابية تيمية حنبلية بينما عمان خوارج..الخ يؤسس النقاش الذي يتعلق بتاريخ وحاضر الفكر الإسلامي لتوليد رؤية معاصرة باعتبار أن ذلك لن يكون سابقة أولى يقدم عليها القادة الإسلاميون المعاصرون دون غيرهم من الأزمنة. 6. إلقاء أضواء كاشفة على تعقد الحياة المعاصرة واختلافها الجذري عن كل الأزمنة التي سبقت الزمن الحداثي مما يعني استحالة تناولها بمنهج تقليدي كلاسيكي مهما كانت أهمية ذلك المنهج. لا بد للوفاء بمتطلبات العصر وخاصة في الجوانب العلمية والتقنية المذهلة من الارتفاع إلى مستويات جديدة في طرق التفكير. 7. إجراء مناقشات موسعة بخصوص حقوق الإنسان بغرض بيان أنها تتطلب موقفاً تطوريا: فكما أن أحدا من المسلمين لا يمكنه المطالبة بالرق اليوم على الرغم من مشروعيته الفقهية كذلك ربما يمكن التفكير في أحكام من قبيل قتل "المرتد" الذي ينظر له اليوم على أنه قتل بسبب الاختلاف في الرأي، وهو أمر يصدم التفكير المعاصر بشدة. 8. الخوض التفصيلي في هموم النهضة بوصفها شأنا دنيويا يحتاج إلى خطة واضحة ومفصلة لتغيير الأوضاع على صعيد العلم والاقتصاد..الخ وليس مجرد كلام عام من قبيل طلب العلم..الخ ونحن هنا لا نحمل القادة الدينيين وزر واقعنا المعاصر. فالصحيح أن الجامعات العربية والفلسطينية بشكل أكثر بروزا تخطب عن التعليم المبدع والفاعل بينما يتضح أنها تقدم نماذجاً في التعليم المسطح والقائم على التلقين. الخطابة في واد والممارسة في واد آخر بعيد، والسبل بينهما منقطعة ومتعذرة. في هذا السياق نقول إن أبناء شعبنا من المتدينين وغير المتدينين يجب أن يدركوا أن المهمات صعبة وأن حلها يحتاج إلى جرأة وصدق وفاعلية. مثلا لا يمكنك منع الناس من حرية التفكير ثم الإدعاء بأنك تشجع الإبداع والتفكير العلمي. هذا أمران يستبعد أحدهما الآخر. 9. مناقشة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإيجاد صيغة معاصرة تستند إلى توجه يراعي حرية الفكر والحق في الاختلاف. في هذا السياق الصيغ التقليدية الموروثة تبدو عسرة التطبيق لأنها تفترض أن الآخرين عليهم أن يتلقوا ويقبلوا أو يناقشوا بغرض الفهم أو بغرض الاعتذار لكن دون الحق في الاحتفاظ بالرأي الآخر في آخر المشوار. 10. لا بد أن خصوصية الوضع الفلسطيني تسمح بالتفكير أن الوطن-الشعب مفاهيم أساس لبدء مشروع ديمقراطي قد يكون مدخلا معقولا في الظرف التاريخي الراهن للتغيير. يجب البحث هنا في السبل التي تسمح بأن لا يعتبر القادة الدينيون أن هذا السلوك موجه لإضعاف الدين بالضرورة أو تقويض هيمنته. نود هنا أن نلمح أن الثقة في الواقع والمستقبل تيسر على الجميع ابتكار سبل أكثر عقلانية وتفتحاُ بينما شدة الهزيمة وتعمق حالة اليأس تدفع الجميع باتجاه التطرف والعدمية وعدم قبول الاختلاف. وهو ما يمكن أن يقود في ظروف معينة إلى عواقب وخيمة جداُ، نأمل أن يتم العمل على منع وقوعها بشكل نهائي. 11. يجب أن تدخل المرأة بشكل مقنن ومشروع في نسيج الحياة بشكل يمكنها من حقوقها الكاملة بوصفها إنسانا غير منقوص الإنسانية، وبشكل يمكنها من أداء أدوارها الضرورية بوصفها نصف المجتمع لتساهم في بناء نحن نحتاج فيه " مراق الطريق "، وهو التعبير الشعبي عن شدة الاحتياج. لا يجوز أبداً إبقاء نصف أهل البيت معطلين عن العمل. هنا ربما يمكن على الرغم من حساسية الموضوع الشديدة فتح باب الحوار بصراحة وثقة وتسامح حقيقي وليس مؤقتاً أو لغايات المجاملة العابرة. نقول ليفتح الباب للنظر في قضايا المرأة باشتراكها القوي بطبيعة الحال. من ذلك قضايا تعدد الزوجات والميراث خصوصاً كما يطبق في الواقع الفعلي، وعلاقة المرأة بالرجل في جوانبها المختلفة بما في ذلك جوانب شديدة الحساسية اليوم على الرغم أنها كانت ممكنة في الماضي. ومن ذلك حقوق المرأة على مستوى الحياة الجنسية. لدينا في الواقع الكثير من النصوص التي ترد على لسان الرسول(ص) وصحابته والتي تتحدث في الموضوع بوضوح وبشكل ينصف المرأة ودونما تحفظ. اليوم الوضع انعكس تماماً. وذلك دون شك مجال حيوي يمكن للقادة الدينيين أن يسهموا فيه بشكل واسع في طرق موضوع ربما لا أحد يستطيع طرقه افضل منهم. وفي الواقع إن كثيراً من القضايا في حاجة إلى أن تفكر بصوت عال، ونزعم دون أن نمل من التكرار أن دخول الفقهاء في معتركها يغنيها بشكل كبير ويملأ الحديث فيها بالحيوية والفائدة الجمة. لا نميل للإدعاء أبداً أن الاقتراحات الأخيرة أو " الدراسة " ككل قد استنفذت الموضع أو حتى تعمقته بدرجة معقولة، نقول دون تواضع زائف أنها بالفعل محاولة أولية من ألفها إلى يائها ولا بد أن تتبعها جهود أخرى كثيرة إن كان لها أن تثمر شيئاً.
#ناجح_شاهين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عذاب الجسور تحية لشرطي المعابر على الرغم من المعاناة
-
المرأة والعنصرية
-
الماء أولاً، الحريات الغربية أخيرا
-
يقتلون ويبتسمون
-
إرهاب الاحتلال وإهاب المقاومة ومجموعة ال55
-
ما جرى في أبي غريب ليس بغريب
-
ماذا بعد الرنتيسي؟
-
حقوق المرأة كل لا يتجزأ
-
أولاد آرنا
-
المرأة إنسان في المطلق لا في النسبي
-
لماذا لا نغلق المدارس والجامعات؟
-
أغنية - الكليب - وحقوق الإنسان
-
حول الفرق بين الإرهاب والمقاومة إلى إبراهيم وبقية الضحايا
-
حقوق الإنسان لا تكون إلا اشتراكية
-
العقيد القذافي
-
في فلسطين شهادة عليا لكل أسرة نظرة إلى التعليم ما بعد أسلو
-
الليل وآخره
-
العولمة، المتوسطية، والشرق أوسطية
-
رحلة البحث عن المعنى
-
حساب الأجيال
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|