أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَزهر 13















المزيد.....

الأولى والآخرة : مَزهر 13


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3111 - 2010 / 8 / 31 - 12:19
المحور: الادب والفن
    





قبّة المَقام، الدّقيقة والمُلبّسة بالفسيفساء، القائمَة على أعمَدة أربعة، مُرخمَة، لاحَتْ لناظري عن بُعد فيما كنتُ أدلفً خلل بوابَة المَنزل الكبير، المَهجور. ولكنّ المَنظرَة، لدَهشتي، ما كانت في مَحلّها. ثمّة سجادَة دائريّة مُتألقة بألوان زاهيَة من الأبيض والأصفر والأخضر، كانت مُفترَشة تحت قاعدَة القبة. فما أن اقتربتُ أكثر، حتى أدركتُ أنّ السجادة إن هيَ إلا مَزهر ربيعيّ من أغراس النرجس. هذا المُنقلب ما عتمَ أن شملَ أعمدَة القبّة، المُتحوّلة إلى نسْوَة أربع رُحنَ يَنظرنَ إليّ بأعين لطالما افتقدّتُ ما فيها من بَريق وسحْر وفتنة. بأجسادهنّ العاريَة، الرّشيقة، كنّ يَسندنَ المَقام، فيما إفريزه كانَ محمولاً بوساطة تيجان رؤوسهنّ، المُذهّبة والمُجَوهرَة. الإفريز بدَوره كانَ على شكل دائريّ، يتخلل أضلاعه السبعة نوافذ طولانيّة، مُقوّسة، وبالعدد ذاك عَينه.
على غرّة، انبثقَ من كلّ نافذة رأسٌ بشريّ، ذو ملامح مُبهمة ومَألوفة في آن. فما أن تناهى صدى صرخة ما، حتى انبثق الدّمُ بغزارَة من رقاب تلك الرؤوس وأخذ بالتدفق فوقَ أغراض سبعة، كانت مُعلّقة بأسفل النوافذ المُقوّسة. عندئذ، دبّ على سطح القبّة حرَكة كائنات غريبَة الأشكال، راحَ كلّ منها يَتجسّد روَيداً على هيئة مَعروفة: تحتَ قمّة القبّة، المُكوّنة نحتَ الهلال، كانَ من بدا أنه زعيمهم يَجلسُ بعظمَة فوق عَرشه، المَكين، يُداعب خاتماً في خنصر كفه الأيمَن، له بريقُ الكوكب الدُريّ. إلى يسار الزعيم، كانَ ملاكٌ يَعتمرُ قبعة الانكشاريين ذات الريش؛ وآخر على يمينه بنفس الهيئة. ملاكان بملبس شيوخ الطريقة، كانا يرمقان بعضهما بشرر، مُتوعّد. وملاكان آخران، مُتبختران بعمّة الوَجاهة، يقبض كلّ منهما على خنجَره. ولكن، ما أعجبَ ذاكَ الكائن، المَمسوخ قرداً، المُتدلّي من سطح القبّة بوساطة ذيله الطويل، المُلتفّ على أحد ركائز كرسيّ العرش، وقد بدا سعيداً بقرنيْ إبليس اللعين.

" أواه، مَن له بفكّ كرْبتي..؟ "
هتفتْ بصوت مُنتحب، مُتوسّل، إحدى أولئك النسوَة الأعمدَة. فما أن نطقتْ كلمتها، حتى سكتتْ حرَكة الجالسين فوق سطح القبّة، كما وكفّ النجع عن السيلان. إذاك، انشقّ الغرَض الأوّل، المُجَسّم على شكل حجَر مَدميّ، عن فتىً حسَن الملامح. اقترَبَ هذا من المرأة المَلولة، المُلتفّ حَولَها أغصانُ تعريشة ياسمين. فما لبثَ وجهُ المَرأة أن أضيء ببَسمة مُقتضبَة، مُغتصبَة: " آه، أيّها الأخ الأوّل، القتيل. أواه، دَع فحولتكَ تلبّي مُرادي ". وكانَ قد بدأ يُمرّر حجرَه فوق ثدييْها، الناهضيْن، ليَصل فيه إلى بطنها الضامر، الناصع، ونزولاً حتى طيات الأعكان؛ أين تكمنُ قبّة العانة، الصقيلة.
" أواه، مَن له بتعجيل مُتعتي..؟ "، عادَتْ المرأة إلى شكواها بعدما غادرَها الفتى ليتماهي مع غرَضه، المُعلّق بأسفل النافذة الأولى. وإذا برجل كهل، ذي لحيَة رماديّة كثة، يتمَخضُ عن الغرض الثاني، المُجسّم شكلَ فأس برونزيّة. تناوَل هذا سلاحه، البدائي، ثمّ هُرع إلى نجدَة فتاتنا. وقالت له برقة: " لبيتني، يا أبَت. أنتَ، يا مَن حَطم أصنامَ نمرود ". وكانت قبضة الفأس، الخشبيّة، تجوسُ وقتئذ بينَ أعضاء المَرأة، البهيّة.
" آه، وأواه. ألا يُمكن أنّ تلبّى شهوتي حتى ذروَتها؟.. "، قالتها لحظة مُفارقة العجوز لها، راجعاً إلى غيبَته؛ ثمة، عند أسفل النافذة الثانيَة. وها هوَ فتىً آخر، على الأثر، جديرٌ جرمُهُ بالقرنيْن، العظيمَيْن، الذيْن يَحملهما بيدَيْه. فاستبشرَتْ المرأة برؤيته: " يا أخا التضحيَة. إليكَ بدَني، قدّمه للربّ قرباناً بدلاً عن الكبش ". وكانَ بَدنها، في هذه الهنيهة، يُداعَبُ بالقرنيْن من أمام و وَراء.
" آه، آه. كأنما فقدَتْ الفحولُ تحتَ سقف هذا العرش، الأعظم..؟ "، شيّعتْ شكواها الفتى الجَسيمَ، المُفارق إياها نحوَ نافذة مُستقرّه، الثالثة. إنّ مَن لبّى نداءَها عندئذ، لم يَكن سوى رجلٌ كامل القوام، كأنه تمثالٌ مَنحوت. جاءها وفي يَده مزمارٌ بديع الصنعة، راحَ يَجوس به خلل نهدَيْها وفخذيْها ورَدفيْها: " يا مَلكَ العَهد، القديم. اتلُ أناشيدَك، إذاً، فوقَ مَفاتني.. "، خاطبته المرأة بشبق شديد وهيَ مُرتخية بحركات أداته.
" أواه، يا لي من شقيّة. فمَن له أن يَردّ إليّ وصال الذكر، المُصنّع..؟ "، صاحَت بحنق في إثر صاحب المزمار، المُنضمّ لغرَضه الرابع. ثمّ جاءَ دَورُ كهل آخر، قسماته الحَسَنة تشبهُ المَلكَ ذاك، المُغادر تواً. وكانَ يُحرّكُ عصا في يَمينه، صقيلة المَلمَس: ": " أنتَ ذا هنا، يا رَجل المَتاهة. فلتسْحرْ عضواً إثرَ عضو أفعوانَ رغبتي"، قالتُ له بغلمَة. إذاك، التفّ الرّجل حَول المرأة، حتى صارَ وراءها. فرّجَ رَدفيها بيَديْه، جاعلاً أداتهُ بينهما ـ كجذع شجرَة مُنبثق بين شقيْ مَقدس، صخريْ.
" إيه، يا حَظ الحَرائر، ما أقلّ سُعودكَ. كأنما النيكُ هوَ أمنيَة، مُستحيلة..؟ "، عَقبَتْ مُتأسّيَة على رَحيل الكهل إلى صرح المَقام، لكي يعلّق عصاه بأسفل النافذة الخامسة.

كانت الحَسناءُ في حالة زريّة من الإحباط والقنوط، حينما أبصَرَتْ فتاة صغيرَة القدّ وحزينة المَلمَح: " أأنت عندنا، أيضاً، يا سَميّتي؟ أنت، يا مَن تعهّدَتْ ابنَ القدّوس..؟ "، رَحّبَتْ قرينة الياسمين بالفتاة. هذه الأخيرَة، كانت تتزيّن بقرطيْن، ذهبييْن، فما عتمَتْ أن سلّتهما من أذنيها مُحيلة ً كلّ منهما إلى أداة مُتعَة. في غمرَة العناق والبَوس والضمّ والشمّ واللثم، إذا على حين غرّة بصرخة مُريعة تثقبُ الأجواءَ. أعقبها من ثمّ خروجُ امرأة غضوب، هائجَة، خلل الغرَض المُعلّق بأسفل النافذة السابعة. فخاطبتْ الفتاة َ مُعاتبَة إياها: " ما هذه الفعال الفاحشة، يا أختاه؟. ما كانَ أباك امرأ سوء، ولا كانت أمك بغياً "، قالتْ ذلكَ وهيَ تفصلُ بالعنف بينَ العاشقة والمَعشوقة. فلما عادَتْ صاحبة حلقتيْ الأذْن إلى مَوضعها السابق، بأسفل النافذة السادسة، إذا بالمرأة الغضوب تتجرّدُ من ثوبها لكي تلبسُهُ بالقوّة لقرينة الياسمين: " إنّ الوَحيَ، لعلمك يا قحبَة، لم يأت رَجلي في ثوب امرأة إلا ثوبي "، أردَفتْ بنبرَة تشفّ وظفر في آن. وكانت الأخرى مَشلولة من الفرَق والجَزع، فما لبثْ بدَورها أن بدأت بالصراخ. ثمّ أخذ صوتها بالاضمحلال روَيداً، مَخنوقة بوطأة الثوب الضيّق المَحشور في رأسها. عند ذلك، تدخلَ المسخ فخاطبَ المرأة الغضوب، قائلاً: " وَيحك، يا جاهلة. ألا تعلمينَ أنّ سميّة العذراء هذه، هيَ أحد أركان السرّ الأعظم، الأربعة؟ لئن انهارتْ إحداهنّ لتقوَّضَ عَرشُ المَلكوت ولأطبقتْ السماءُ على الأرض؛ وللفظتْ الآخرة أنفاسها قبلَ ربيبتها، الأولى ". فما أن نطقتْ آخرُ الكلمات، المُنذرَة، حتى هزّ المَكانَ صوتُ نفير، عظيم. عندئذ، عمّت العتمَة كلّ شيء مُعلنة ً حلول أجَل الخواء والفراغ والعَماء والعدَم.

عندما أفقتُ من فجّ غفوَتي، العميقة، كانت أشعّة الشمس، الباهرَة، مُطبقة على أمّ رأس المَنظرة. رأيتني ثمّة، إذاً، في المَكان الأكثر نأياً عن المَقام ذاك، الياسميني. غطاء النوم، الخفيف، كان مُبتلاً نوعاً بفعل ندى الفجر. مساء أمس، وفيما كنتُ أتسكّعُ خلل أسواق المَدينة القديمَة، اشتريتُ هذا الغطاء مع قليل من الزاد وجرّة للماء. ثمّة، كانَ لهجُ الناس صاخباً، عالي النبرَة؛ كأنما هوَ صوتٌ واحد، وَحيد، يتعالى على ألسنة مُتعدّدَة: انتظار جيش الولايَة، الجرّار، المُترقب وصوله إلى الشام لصدّ عسكر مصر، الغازي.
إلا أنّ جَولتي تلك، في آخر المَطاف، ما كانت مَضْيعَة للوَقت. إذ توجّهتُ بعدئذ إلى البزوريّة، على أمل لقاء جار المهنة، القديم؛ ذلك العجوز المَغربيّ، العطار. مَحل تجارتي، السابقة، كانَ ما يفتأ مُغلقاً بالطبع. فلم ألق عليه حتى تحيّة فضول، عابرَة. لخيبتي، رأيتُ مَحلّ جاري ما زالَ مَهجوراً كعَهده، أيضاً. لم يَدُمْ همّي سوى قدَر هنيهة تفكير، مُبتسرَة. فقد تذكّرتُ أنّ آخرين من التجار المَغاربة مَوجدون في هذا السوق، هنا أو هناك. فمَضيتُ من فوري، لكي أتفقد أحدهم.
" مَن أنتَ، يا هذا، وماذا تفعل عندكَ؟ "، أيقظني من أفكاري صوتٌ شديد اللهجة. رفعتُ رأسي، وإذا هوَ ناطور الوَقف. بدَوره، عرَفني الرّجل وكما تجلّى ذلك ببسمته المُطمئنة. ثمّ أقبل يُحييني، مُعتذراً بلباقة وأدَب. كانَ الناطورُ في عُمْر سيّده، الشاملي، إلا أنه أكثر حيويّة وأوفر صحّة. " لقد حضرَ الرّجلُ في الوقت المُناسب، المَطلوبَ "، قلتُ في نفسي. بيْدَ أني سرعانَ ما استعدّتُ قنوطي، حينما تذكرّتُ أنه من حَيّ القنوات. إذ كنتُ مَهموماً بصعوبَة تكليفه بمُهمّة، مُلحّة: استدعاء تابعي، يحيى، إلى هذا المَنأى بغيَة سؤاله عن أمور الطبيب. فإنّ الناطورَ كانَ يَجهل ، ولا غرو، مَسالكَ رَبض الصالحيّة؛ أينَ مَزرعتي، الكائنة إلى الجنوب منه. ولكنه، إلى الأخير، تمكّنَ من حفظ ما لقنته إياه. قبيل تحرّكه دَعوته لمُشاركتي الفطورَ، إلا أنه شكرني قائلاً بحرَج: " لقد سبقتكَ، يا سيّدي. ولو كنتُ على علم بتشريفكَ لنا، لكنتُ جَلبتُ من منزلي ما تيسّر من زاده، المُتواضع "
" لا عليك، يا رَجل. بل إني أدعوكَ للغداء عندنا؛ هناك، في المَزرعة "، قلتُ له بودّ فأجابني مُمتناً بوَضع الكفّ على الرأس، المُعمّم. حالما سارَ الشيخ إلى مُهمّته، نهضتُ إلى الزاد شاعراً بالجوع يَنهش أحشائي.

" هيا، يا سيّدي. علينا بمُغادرَة المَكان قبل انتباه أحد لوجودنا هنا "
خاطبني التابع، المُخلص، وهوَ في وقوفه ثمّة، عند مَدخل المَقام. عندئذ ألقيتُ نظرة وداع، أخيرَة ربما، على أطلال المنزل؛ على مَنهل ذكريات لا يُمكن لمَسيله النضوب. للحق، فقد كنتُ إذاك استعيدُ مَشاهدَ مُبهمَة من مَنام الليلة الفائتة، الجليّ الشطح والأشبه بالرؤيا. ثمّ ما عتمتُ أن مَضيتُ مَشياً بمَعيّة التابع والناطور حتى مُقدمة الزقاق؛ أين كانت الكرّوسَة بانتظارنا. وبما أنّ العربَة وحوذيّها من طرَف مزرعتنا، فقد كانَ طريق الذهاب مَيسوراً وآمناً. لقد فضلنا الالتفافَ حولَ أحياء المَدينة، المأهولة، تجنباً لمُفاجأة غير سارّة. على ذلك أخذنا طريقاً، طويلاً نوعاً، يَمرّ بقبور البرامكة ثمّ بساتين المادنة والنيرَب، فصعوداً حتى أرباض أرزة ومَقرى والباعونيّة.
" ولكن، أطنّ أنّ العربَة تجاوَزتْ مَزرعتنا؟ "، التفتّ إلى التابع مُتسائلاً. فأجابني ببسمَة ماكرَة، قبلَ أن يُوضحَ الأمرَ: " إننا، يا آغا، في سبيلنا للقاء الطبيب ". وكنا على حدّ الظهيرَة، عندما توقفتْ كرّوستنا أمام منزل ريفيّ، بسيط، مُحاط بلفيف من الأشجار البريّة والمُثمرَة. ثمّة، وحال وصولنا، كان عددٌ من الرّجال بانتظارنا على مَدخل الكوخ. ومَيّزتُ، مُبتهجاً، ملامح ميخائيل البشوشة والتي لم تستطع إخفائها ملابس الفلاحين الصوالحَة، المُميّزة، المُكتسي بها. كذلك، فلم أخف سروري برؤيَة عشّاب قصر القاروط، سالماً: " أحمدُهُ تعالى، الذي جمَعني معكم مُجدّداً "، قلتُ مُجيباً ترحيبهم فيّ. لاحقا، أجيز لي مَعرفة، أنّ هذه المَزرعة تخصّ أحد أقارب العشّاب؛ وأنّ جماعة المُطارَدين كانوا يلوذون خفيَة ً في حماها.
" مَرحبا بصديقنا المُبجّل، الآغا العطار "، هتفَ فيّ صوتٌ من الخلف. فلما استدَرتُ تلقائياً، إذا بي وَجهاً لوَجه مع القاروط. وكانَ هذا صُحبَة رَجل في مثل عمره تقريباً؛ على هيئة مُهيبة تمتّ لأعيان الصالحيّة: " هذا صديقنا، محّو بك الكردي.. "، قدّمَ الرّجلَ إليّ ثمّ استطرَد: " أظنّ أنكَ رأيته، هناك في مصر؛ في جُملة حاشيَة العزيز ". وكنتُ ما أني أبتسم متأملاً في هيئة القاروط، المُموّهة بملبس أولئك الأعيان نفسه. فما أنْ علمتُ ماهيّة مُرافقه حتى حقّ لي الجمود في الحال. ولكنني قلتُ له أخيراً، مُتكلّفا الودّ: " يُسعدني رؤيتكم، يا أحمد بك. كما ويُشرّفني أن ألتقي جناب الضيف هنا في الشام ". إذاك، لحظتُ أنّ الطبيبَ كانَ يُراقبنا عن كثب وبشيء من القلق. إلا أنني، وفقَ خطة سبق لي أن نقشتها في رأسي، لم أسمح للمَشاعر أن تطغى على العقل. وإذاً، أخذتُ بتجاذب الحَديث مع القاروط، الماكر، حتى لحظة دَعوَتنا إلى الغداء. نعم. لقد بلغ فيّ التبسّط والمَرح، أن كدّتُ أسلو مَطلوبي من الماكر.

" ثمّة مَصطبَة، قريبَة، نستطيعُ تناول قهوتنا فيها "
قالَ لي القاروط، وعلى مَسمع من الآخرين. أدركتُ أنه قد حَدَسَ رغبتي في الاختلاء معه. وكنتُ واثقاً عندئذ من حقيقة، أن الطبيبَ غير ذي صلة بالمَوضوع؛ هوَ المَعروف بطبعه المُتحفظ والمُتكتم. ولم تكُ تلك المَصطبة سوى مَصنع من المياه، يَصل عمقه لوَسط رجل، تحيطه مساند ووسائد وبسط. حول المَكانَ، ثمّة خميلة خلابَة من مُختلف التعريشات والشجيرات والأزهار، يَكتنفها ظلال الأشجار المُثمرَة، من التوت الأبيض والشاميّ خصوصاً. جلستُ في رخاء الخلوَة، ورحتُ أمدّ بَصري نحوَ مَناظرها المونقة. حتى إذا فرَغ مُضيفنا، العشّاب، من تقديم القهوَة والحلوى والفاكهة، فإني استوقفته قبلَ أن يَمضي: " عُذراً، يا صديقي. بودّي سؤالكَ عن نوع من الأعشاب؛ يُدعى بالحَرْمَل "
" أتريدُ أن تتأكّد، يا آغا، من مَفعوله السام؟ "، أجابني من فوره مُقاطعاً. لبثتُ أنظر إليه في حيرَة، حتى كشر عن ابتسامة خبيثة مُردفاً بمَرَح: " قلتُ ذلك، لأنّ الأعشابَ في زمننا هذا، التعس، أضحَتْ مَنذورَة للجرائم، الغامضة ". فقلتُ له مُتسامحاً مع لجاجته: " آه، معكَ حق. ولكن، أردتُ مَعرفة ما يُحدثه الحرمل في الإنسان؛ طالما أنه ليسَ من أعشاب البهارات؟ "
" أجل، إنه عشبَة ضارّة، يُستخدَم غالباً في التعازيم والأحجبَة ". عند ذلك، لم أعُد بحاجَة له. فلما مضى المُضيف في سبيله، عكفتُ على التفكّر في المَوضوع. لأنني في مساء الأمس، وحينما عثرتُ على ذلك العطار، المَغربيّ، فإنه جَزمَ بأنّ من مألوف عادات بلاده أن يُستعمل الحرمل في حمايَة الأطفال من العَيْن؛ عن طريق وضع مَدقوقه ضمن حجاب، مثلاً.
" إنّ المَملوك المسكين، الصقليّ، ربما تهيأ له أيضاً مثل تلك الحمايَة من لدُن أبيه بالتبني؛ هناك، في طنجة "، قلتُ في نفسي مَغموماً. وكانَ القاروط يرتشفُ قهوته بلذة وتمهّل، عندما التفتّ نحوَه هذه المرّة مُستفهماً: " أهوَ محو بك، مَن نقل رسائل سَرْدار عسكر مصر، السريّة، إلى أعيان البلد؟ ". بوغتَ بالسؤال ولا رَيْب. ولكن ملامحه، كدأبها، لم يبدُ التأثر عليها قط. عينا الدّهاء حَسب، أجيزَ لهما أن ترمشا قليلاً: " كنتُ دوماً على رأيي؛ بأنكَ رجلٌ فطن وحادّ الذكاء "، أجابني بنبرَة غير مُكترثة. حانقاً، ما كانَ مني وقتئذ إلا الدخولَ في المَوضوع، المَطلوب؛ مَوضوع المجرم المَجهول والكناش المَفقود.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأولى والآخرة : مَزهر 12
- الأولى والآخرة : مَزهر 11
- الأولى والآخرة : مَزهر 10
- الأولى والآخرة : مَزهر 9
- الأولى والآخرة : مَزهر 8
- الأولى والآخرة : مَزهر 7
- الأولى والآخرة : مَزهر 6
- الأولى والآخرة : مَزهر 5
- الأولى والآخرة : مَزهر 4
- الأولى والآخرة : مَزهر 3
- الأولى والآخرة : مَزهر 2
- الأولى والآخرة : مَزهر
- الفصل السادس : مَجمر 11
- الفصل السادس : مَجمر 10
- الفصل السادس : مَجمر 9
- الفصل السادس : مَجمر 8
- الفصل السادس : مَجمر 7
- الفصل السادس : مَجمر 6
- الفصل السادس : مَجمر 5
- الفصل السادس : مَجمر 4


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَزهر 13