|
هي
محمد نبيل
الحوار المتمدن-العدد: 3111 - 2010 / 8 / 31 - 02:48
المحور:
الادب والفن
هي تعشقني، لكنها لا تريد التخلي عن “فيليب”، رجل أشقر اللون، قامته طويلة، و صدره غزاه الشيب بشدة. يفتخر دوما بمشاركته في الحرب، وخروجه ناجيا من بين أشلائها. تزوجت به لأنها لم تجد غيره. “فيليب” يملأ الأقداح ويقدمها هدية لها كل عشية، قبل أن تنام معه في لحظة انتشاء مغرية. و في كل يوم، أحس أكثر بأنها تحب فقط أن تنظر كيف أمشي مائلا من شدة التعب.
غرفتي غير بعيدة عن بيتها الشاسع. أعشق مشاهدة الورد الذي يزين حديقة بيتها، فأشم رائحته . لا أنهار عندما أمسك وردة، أو أضع يدي على حائط بيتها القصير، أو حتى عندما أجمع بعض أوراق الشجر الذي ينتحر قافزا من أعلى الأغصان، ليسقط في مهب الريح.
هي مهووسة، و تعاني من وسواس قاتل . غالبا ما كانت تردد على مسامعي إعجابها بكل شيء يؤثث غرفتي: - “عيناك توحي لي بأشياء ما، عند كتابة قصائدي الشعرية، عن أحلام زوجي، ونظرته إلى الآخرين، و كيف تورطت معه في حكاية غرام مجهولة. أجهل مصدر هذا الإلهام ؟”.
في تلك الصبيحة، لم تكن تئن أو تبكي، عندما سقط “فيليب” بين ذراعيها. أصيب بالتهاب رئوي حاد فدخل المستشفى. كان كلبه ينظر إليه بعينين مغرورقتين بالشفقة. ربما تكون قد تأثرت بركام الثلوج التي كانت تكسو غرفتها الموجودة في الطابق العلوي من البيت، أو ربما رأتني أبتسم خلف الغرفة التي ينام فيها زوجها فظنت أنني أترقب نهاية لزوجها الشقي. في الحقيقة، كنت متعبا، وأردت استغلال لحظات راحة عابرة، كي أتكلم مع نفسي. أنا على يقين، بأنها دخلت معي في لعبة مجهولة العواقب. كانت عندي في شقتي، فسألتها ذات مرة: - لماذا تداعبين شعري المشعت، و صدري المبلل بماء الورد؟ -شعرك و عينيك و أنفك الخشن، و بشرتك الداكنة، وحتى رائحة الورد، هي من صنع خيالي.
لم تكن على علم بأن خالتي التي أهدتني قارورة ماء الورد، ماتت وهي نائمة بين ذراعي. قارورة ماء الورد وضعتها قرب سريري، حتى لا أنفلت من قبضة الماضي. منذ أن عشقت الترحال، تذكرت أشياء كثيرة، وتزاحمت في ذهني ذكريات لا مفر منها في تاريخي. قلت لها دون أن أتردد: -جسدي مقبرة .
مرت الأيام، وجاءت تلك الأمسية المغبونة. كنت مرهقا. الشمس انسحبت، وحل ظلام دامس أخفى عني بيتها. مرت هي أمامي كشبح يقفز فوق الأرض. نظرت إليها من النافذة. و كعادتي، كنت أحاول أن أرسم بقعا صغيرة لخريطة بيتنا القديم. وبعد دقائق معدودة، دقت على الباب ثم على التو دخلت. بدأت تحكي لي عن صراعها الأبدي مع “فيليب”. اقتربت مني، بعدما اكتشفت أنني أحاول اختلاس بعض اللحظات الخاطفة، لقراءة ما دونته أمس، من حكم صينية على ورقة بالية، تملأها الثقب من كل جانب. الحكم القديمة تغريني كثيرا، بالرغم من أنني لست كائنا تراثيا . طاردتني المرة الأولى،ثم عاودت الكرة . سألتها : - وهل في القلب يسكن حبان ؟ -في قلبي حب، و عشق جنوني .. -وكيف يلتقي الحب و العشق في نفسك ؟ -لا مفر من العودة إلى أصل الأشياء. -لقد ضاع الأصل منذ بداية التاريخ . -لا تسأل عن دموعك التي راحت…
كانت تراوغ . لم تكن تتجرأ على البوح بنظرتها الغريبة لي. جسدي لا يحتمل أي شيء.”فيليب” في المستشفى . أنا اليوم في حديقته، أتنزه و أحاول أن أرحل مرة أخرى. كانت هي تمرر يدها بهدوء يلامس واسطة جبيني. استسلمت في لحظة ضعف قاهرة . الإنسان يضعف مهما قاوم، لأن طبيعته كذلك. هناك من ينهض من كبوته، و هناك من يصير عبدا لهزات الزمان.
أحسست أنها على استعداد للإنصات إلى حكاياتي . أزلت يدها التي وصلت حد شعيرات أهدابي، ثم قلت لها بصوت خافت: -ليتك تعرفين ما يسكنني …ليتك تستنشقين رائحة تلك الأرض .. - لم أصل إلا متأخرة …عيناك جدار …جسدك جدار …
لا أدري لماذا في تلك اللحظة، كانت أفكار كثيرة تستنطقني. تذكرت “المعلم بوشتى” وهو يردد عبارته الملعونة ” إنهن بنات القحاب “، و “فطومة” التي طردت الرجل من حياتها، و أزالت بكرتها بنفسها في غرفة نوم أبيها . و عائشة ، زوجة مسجون معروف في الحومة، يدعى” امبارك” ، كانت تصرخ كل صباح: “المرأة مثل الشيطان” . آه من كلام “المجدوب با احمد” القاسي، و أمثال العطار “حمدون” الطائشة.
رحلت دقائق، و لم أعد إلى مكاني، إلا بعدما سمعتها تمطرني بوابل من الأسئلة: -أين كنت ؟ أين ذهبت؟ هل تفكر في “فيليب” ؟ هل تحس بتأنيب الضمير ؟هل استيقظ ضميرك ؟ -لا أدري …ربما “فيليب” يفكر فينا نحن الاثنين . -هل تحب “فيليب” أم أن ضرورة علاقتنا هي التي تجمعك به؟ -أحبه لكني أحاول أن أنساه حتى ينساني.. -إنه يوحي لي بالشعر و القلم و أشياء أخرى، و أنت ؟ -يذكرني بقسوة لا مفر منها، و عطف ملتبس.. - هل تريد أن تعود إلى قريتك ؟ -لا أفكر في العودة حاليا . - لماذا يا صديقي ..؟ -البعض رحل من هناك، و البعض مات من شدة الألم. انتزعوا منا الدكان الذي كنا نبيع فيه الطين، و حولوه إلى نفق يمر منه القطار السريع. -لماذا لم تتزوج ؟ -الجميع يأكل و يشرب، و يمارس الجنس، لينجب أطفالا ثم يموت.. -هذا أمر طبيعي . -وهل الطبيعة عجزت أن تكون مرنة؟.
اجتاحني إحساس مرعب يوحي لي، بأن الحجرة التي كانت تجمعني بها قد ضاقت. قررت الانسحاب، لكنني لم أتجرأ على طردها من البيت. هي في أمس الحاجة إلى حكاياتي . لم أكن أرى فيها غير سفر مؤقت، أقتل فيه ما تبقى من رائحة الورد التي كانت تفوح من كتبي، و أوراقي الموجودة على الرفوف.
عندما انتشر الحديث عن علاقتي بها في الحي كالنار في الهشيم، أضحت نظرات الجيران تغتال في نفسي كل شيء. كانت هي تجهل أفكاري، لكنها تستلهم من قصصي، الكثير من الأحاسيس التي أجدها في أشعارها الرومانسية. المسكينة ربما تكون ضحية لقلقي، وراحتي المفقودة. لقد اعتقدت أن عيني تظهر لها ما في جوفي من بقع كئيبة. هي تحاول أن تغامر بلسانها وفمها البلوري لجس نبض شهواتي. أرى في أحمر الشفاه بعضا من أطلال بيتنا. كنت هائما في زمن غير واقعي . حاولت أن ترقص معي، عندما كانت تستمتع بموسيقى شرقية، تنبعث من قرص، تركه لي صديق رحل إلى مدينة أخرى. هي وحيدة الآن، و زوجها يرقد في المستشفى. لم تفلح في كشف المستور تحت قدمي، فهوى جسدها على جسدي، وتحت وطأة الاستغراب، رقصت كطير مذبوح. كان عجزها باديا، وكأنها تقف مذهولة أمام صرخة آتية من أعالي الجبال. خنقت الحقيقة في رحم أنفاسي. لم تسل الدماء، بل انتفخت عروقي، ثم قلت لها: -يا لك من عاشقة لحب مستحيل.
#محمد_نبيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المرأة العربية و الرهان الإنساني
-
من أفلام مهرجان برلين السينمائي : -المُرْبِكَة- أو اللعبة ال
...
-
-الرجل الذي باع العالم- أوضياع بين السينما و المسرح
-
حكايات نسائية، من هنا و هناك
-
لماذا الختان ليس تقليدا إسلاميا ؟
-
موت بحر البلطيق
-
دانسك مدينة بولندية بروح ألمانية
-
-العين- المخيفة
-
قراءة في أحوال المجتمع المغربي
-
حكاية يوسف
-
بعد عرض فيلمه - غرب عدن- ، كوستا غافراس ينتقد تعامل أوروبا م
...
-
صباحات برلين السينمائية
-
في حوار مع المخرجة المغربية -سيمون بيتون- : أنا لست متفائلة
...
-
قراءة فرحة لحوار الأديان في فيلم -نهر لندن- و المخرج لم يقنع
...
-
في حوار مع السينمائية المغربية -سيمون بيتون-
-
مخرجة مغربية تتناول قضية -راشيل كوري- التي سحقتها جرافة إسرا
...
-
انطلاق مهرجان برلين السينمائي الدولي
-
حسب هيئة أممية ، ألمانيا لا تحترم حقوق المهاجرين و اللاجئين
-
حول فيلم -السلاحف يمكنها أن تطير- : الموت كلغة للتعبير عن ال
...
-
كتاب : لماذا تقتل يا زيد ؟ أو الحقيقة الغائبة في العراق
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|