|
معنى الاحتجاج وأبعاده في خطاب جوزيه بوفيه
ماهر اليوسفي
الحوار المتمدن-العدد: 202 - 2002 / 7 / 27 - 09:13
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
مع تحركات المناضل الفرنسي جوزيه بوفيه ورفاقه في مناهضة العولمة، ينبعث صوت القارة الاوروبية مجدداً على إحياء ثقافة الاحتجاج في صورة مشرقة مثلتها حركات التضامن مع كفاح الشعوب التي تعاني الاحتلال والاستعمار والاضطهاد العنصري، ومنها فيما مضى: حركات التضامن مع كفاح جنوب افريقيا ونيلسون مانديلا، ولجان مناهضة العنصرية <<الأبارتهايد>> ولجان الدفاع عن قضايا الانسان وحقوقه وحريته، في حين تستعيد اليوم هذه الظاهرة الاحتجاجية مناخات مرحلة الستينات والسبعينات من القرن العشرين التي كانت تقودها في اغلب الاحيان التظاهرات الطلابية في الجامعات الاوروبية الغربية والحركات اليسارية آنذاك، وان كانت على نحو مختلف في اختيار طرائقها في الاحتجاج. تذكرنا هذه الظاهرة برموز الثقافة والفكر الاوروبي المعاصر. مثلما يبدي اليوم الكثير من الكتاب والمفكرين في أوروبا امتعاضهم وانتقادهم للعولمة وعلى رأسهم جاك دريدا وغيره، إضافة الى ما تمثله كتابات غابريل ماركيز في أميركا اللاتينية وكتابات نعوم تشومسكي وإدوارد سعيد في الولايات المتحدة، ونجد ان ظاهرة الاحتجاج على إفرازات العولمة تتفاعل عالمياً وتعبر عنها حركات مناهضة العولمة التي تبنت في برامجها وخطابها قضية التضامن مع الشعب الفلسطيني. والمطالبة بالحماية الدولية للشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال. واليوم عندما يعلن جوزيه بوفيه تضامنه مع الشعب الفلسطيني في اطار مناهضة العولمة، فانه يضع أوروبا كل أوروبا والعالم، أمام الارث الكبير الذي أنتجته ثقافة حقوق الانسان، ويلقي بالمسؤولية الاخلاقية على مراكز القرار السياسي، وعلى المجتمعات الاوروبية ويخوض صراعه ضد الهيمنة الاميركية، ويقف محرّضاً أمام السياسات الغربية للحكومات والبرلمانات ليطال احتجاجه أناقة الخطاب الثقافي الاوروبي. وليس بعيداً عن هذه المناخات تحرك البرلمان العالمي للكتّاب وبيانات الاحتجاج والعرائض التي وقّع عليها العديد من الكتاب والمفكرين العالميين، تضامنا مع مأساة الشعب الفلسطيني واحتجاجا على جرائم ومجازر الاحتلال الاسرائيلي والدعم والمشاركة الاميركية لهذه الجرائم المروّعة. ومع تنامي هذه الظاهرة التي اختارت بطلها (بوفيه) نعثر على تلك البيانات المستنكرة للممارسات العنصرية الصهيونية الدموية، ونجد قضية التضامن تتفاعل في أكثر المنابر الاعلامية في الكتابات والنقاشات الدائرة اليوم في معظم أوروبا والعالم أجمع، مثلما نجد هذه القضية في بيان غابريل غارسيا ماركيز وخوسيه ساراماجو ونجيب محفوظ، وما كتبه وول سوينكا وراسل بانكس ونعوم تشومسكي ونورمان فينكلشتاين، وخوان جوتيسولو، وفيتشرو كونصولو، وروبرت فيسك وثمانية من هؤلاء الكتّاب ممن حازوا على جائزة نوبل كانوا باستضافة الشاعر محمود درويش في رام الله وزيارة مركز خليل السكاكيني الثقافي قبل اقتحامه بأيام من قبل جنود الاحتلال وهؤلاء الكتّاب أدلوا بشهادتهم وكانت صرختهم قوية اخترقت الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني وقالوا كلمتهم متضامنين ورافضين لمنطق الهيمنة الاسرائيلية الاميركية، اضافة الى العديد من مجموعات لجان الحماية المدنية الدولية التي كانت تتجول في مدن الضفة والقدس وبيت لحم ورام الله، والتي كان يقود تحركاتها المتضامنة في الطرف الآخر، المناضل جوزيه بوفيه وهي تتحرك بتنسيق مع المناضل مصطفى البرغوثي. لا يختار جوزيه بوفيه مواقفه وطريقة نضاله بمعزل عن القيم والمبادئ، مدافعا عن قضايا حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية. وبوفيه بصفته واحداً من أبرز مناهضي العولمة ورئيسا لكونفدرالية الفلاحين الفرنسيين، وواحدا من أكثر المتضامنين مع قضية الشعب الفلسطيني في أوروبا، دخل دورة الزمن المعاصر، واختاره القدر لكي يدافع عن النموذج الانساني للحياة، يخوض صراعه ضد العولمة الرأسمالية المتوحشة، وهو يعمّم مع رفاقه النموذج النضالي مذكّرا برموز الحرية في أوروبا. يرفض بوفيه منطق الاضطهاد وتسييد القوة على القانون، ويبادر في أكثر الامكنة حضورا ليكون مؤثرا في الاحتجاج على القوانين الظالمة التي أنتجتها السياسة الامبريالية وأنظمتها المتعولمة بوحشيتها، وهي ترمي به في السجن ليقضي محكوميته لمدة شهرين. وعندما يقدم رجل مثل بوفيه مع زملائه في حركة مناهضة العولمة على فعل احتجاج من نمط تحطيم واجهة أحد مطاعم <<ماكدونالد>> فهو بذلك يعبّر بطريقته عن رفضه للهيمنة الاميركية ورفضه الأمركة على ثقافات العالم، وهو بذلك يريد تحطيم السلوكات والعادات الحديثة المشوهة المتأثرة بموضة التسليع الاميركي للثقافة وتعليب العقل عبر ما تنشره البروباغندا الهوليوودية. وكمناضل سجل جوزيه بوفيه حضوره في أكثر من مكان وموقع فكان زائرا لأكثر البلدان التي عقدت فيها المؤتمرات الاقتصادية (سياتل جنوى) وغيرهما. كما كان في أكثر المناطق التي تشهد صراعا داميا (فلسطين) وحل زائرا في رام الله والقدس وبيت لحم، واعتبره جنرالات اسرائيل غير مرغوب به فأخرجه جنود الاحتلال محمولا على الدبابات ومعتقلا ومحتجزا في المطار ثم مطرودا من <<واحة الديمقراطية>> الصهيونية المزيفة. اعتادت المجتمعات الاوروبية ان تقدم صورة مضيئة عن قضايا حقوق الانسان والتضامن مع كفاح الشعوب التي تعاني ظلم العنصرية والاحتلال وهذا ما شهده العالم من تحركات تضامنية مع النضال الافريقي ومناهضة النظام العنصري (الابارتهايد) لكن بالمقابل لم ترتق الحكومات الاوروبية بسياساتها الى المستوى المتقدم الذي تمثله حركاتها المدنية في المجتمعات الاوروبية ذاتها وهي ليست بمستوى الخطاب السياسي الذي تحمله حركات مناهضة العولمة، وموقف دول أوروبا ما زال يدور في الفلك الاميركي، باستثناءات قليلة متمايزة عن الرؤية الاميركية، الا انها في الجوهر تصب في خدمة الموقف الاميركي وتابعة له وملحقة به. وبالمقابل نجد ذلك الامتداد الطبيعي للصراع الاسرائيلي الفلسطيني العربي وانتقاله سياسيا الى أماكن مختلفة. فأوروبا، على سبيل المثال، تحولت الى ساحات صراع سياسي وتجاذبات سياسية بين حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني من جهة واليهود الصهاينة المناصرين لإسرائيل، من جهة اخرى وامتدت هذه الصراعات والتجاذبات على مشهد الانتخابات وعندما نجد صورة الانقسام بين مؤيد لإسرائيل ومعارض لها من اليهود ايضاً، وبين المتضامنين الاوروبيين الذين خرجوا الى الشوارع في مسيرات التأييد لنضال الشعب الفلسطيني. ان تضامن حركات مناهضة العولمة في أوروبا وأميركا مع الشعب الفلسطيني تتم بوجود تحركات يهودية وملاحقة قضائية لمن يوجه الانتقاد لإسرائيل؟ ووجود دعاوى كتلك التي يتذرع بها الصهاينة مثل معاداة السامية والحض على الكراهية... الخ، وغير ذلك من الحوادث مثل: ملاحقة ومحاكمة الصحافي الفرنسي دانيال مارميه بسبب ترجمته قصيدة لطفل فلسطيني وإلقائها في إذاعة صوت فرنسا الدولية، ومثلها قضية روبرت فيسك، وملاحقة تصريحات زوجة طوني بلير ومن ثم اعتذارها، وانتقاد مدير شبكة CNN تيد تيرنر ومن ثم سحب أقواله واعتذاره، وتهديد رئيس البنك المركزي الاوروبي ديوزنبرغ بسبب تضامن زوجته غريتا مع الشعب الفلسطيني علناً ورفعها علم فلسطين فوق شرفتها في امستردام، والتي وجّهت اليها تهمة الحض على الكراهية. ونلاحظ ان مع كل ظاهرة احتجاج نجد بالمقابل عودة الى محاكم التفتيش والملاحقة القضائية التي يفتعلها الصهاينة تحت ذريعة <<معاداة السامية>> حتى وجدنا مع هذا الضجيج صورة بدأت المجتمعات الاوروبية الغربية تتحدث عنها علانية في الصحف ووسائل الاعلام وهي: <<اسرائيل فوق النقد>> وثمة الكثير من الكتابات والانتقادات التي رفضت هذه المسوّغات: ان تكون اسرائيل فوق النقد وفضحت الممارسات العنصرية والقمعية الاسرائيلية. فضلا عن النفاذ نسبياً الى بعض القوانين الاوروبية التي تدعو لملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب كما يحصل من رفع دعاوى لمحاكمة شارون كمجرم حرب في بلجيكا. ولقد وضع هذا التحرك الاحتجاجي الاوروبي اسرائيل أمام المساءلة والملاحقة القانونية لمجرمي الحرب كمحاولات اولى لم تعط نتائجها الا ان جنرالات اسرائيل ينظرون للمستقبل بقلق وحذر تجاه هذه القضية. من هنا، يمكننا ان ندرك قيمة العرائض المؤيدة لجوزيه بوفيه وهي تشيد فوقها الخطاب المعاصر لحقوق الانسان في منحى النضال السلمي التضامني، لدرجة ان هذا الفرنسي استطاع ان يمنح جنسيته لجنسية اخرى، ربما لأنه ينتمي الى ما هو أكثر قيمة وينتمي الى أعلى مراتب الانسانية، وهذه تضيف الى السجل النضالي لبوفيه قيمة معنوية، وتطرح سؤال هوية الفرد في الازمنة الحديثة وموقع الهوية الاوروبية في ظل العولمة: ان تكون إنسانا قبل ان تكون فرنسيا، او فلسطينيا، ولأن جوزيه بوفيه لديه تصميم على مجابهة التحدي فهو شديد الارتباط بالنضال ضد العولمة بما هي نزوع الى أمركة العالم. () كاتب فلسطيني.
جريدة السفير
#ماهر_اليوسفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-كان بمقدوري وضع سلاح نووي عليه ولكن اخترت عدم ذلك-.. لسان ح
...
-
زيلينسكي يثور غضبا على البرلمان بعد إلغاء اجتماعه إثر ضربة -
...
-
قتلى وجرحى في قصف ببيروت وعمليات الإنقاذ مستمرة
-
مودي سيستقبل بوتين بغضّ النظر عن امتعاض واشنطن
-
كمسومولسكايا برافدا: روسيا حذّرت كييف والغرب.. ماذا يعني تصر
...
-
ألمانيا تكشف عن دورها في الخطة العملياتية لحرب -الناتو- مع ر
...
-
ترامب يعتزم إقالة مكتب المدعي الخاص جاك سميث بأكمله انتقاما
...
-
كوريا الشمالية تتهم واشنطن بمفاقمة الوضع في المنطقة
-
إسرائيل تفكر بتزويد أوكرانيا بالسلاح
-
هل تعاني من الأرق؟.. طريقة بسيطة تسحبك إلى نوم عميق
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|