|
نقد التصوف في كتاب - وصف إفريقيا - للحسن الوزان 1
ابراهيم ازروال
الحوار المتمدن-العدد: 3109 - 2010 / 8 / 29 - 10:05
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
1- معاينات ميدانية : يبدو الفضاء الثقافي المغاربي ،من خلال سرود ومحكيات الحسن الوزان ، منشغلا بالفكرية العرفانية ، متماهيا مع "صور المعنى " ، ومع كارزمية وكرامات الصوفية . يقول عن مدينة العباد : ( ...و بها دفن ولي كبير ، ذو صيت شهير ، يوجد ضريحه في مسجد يصل الزائر إليه بعد نزول سلم من عدة درجات ، ويعظم أهل تلمسان والبلاد المجاورة لها هذا الولي كثيرا ويستغيثون به ويتصدقون عند كثيرا لوجه الله ، ويسمى سيدي مدين . ) ( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا – ترجمه عن الفرنسية – محمد حجي ومحمد الأخضر – دار الغرب الإسلامي –بيروت – لبنان - الطبعة الثانية – 1983-ج2 ص.24). والملاحظ أن الحسن الوزان لا يستفيض في الحديث عن الغوث أبي مدين شعيب ،رغم قوة تأثيره في الواقعات المغاربية وتأثيره النافذ في صياغة الوجدان الصوفي بالمغارب وتشكيل الوعي الجمعي ، بما يوافق تمثلات العرفان المنفلت من سياجات العقل البياني الفقهي . يتناول الحسن الوزان المرابطية المغاربية بكثير من الحذر والتحرز ؛ ولا غرابة في هذا المسلك ، خصوصا إذا أدركنا مصائر المرابطية والفكر الكرامي ونتائجهما المؤثرة عمقيا على مصير الاجتماع المغاربي وعلى البنية السياسية لشمال إفريقيا عموما منذ القرن السادس عشر . فقد شكل الفكر الصوفي بنية تصورية ومؤسسية قوية ، متأصلة في مفاصل هذه المجتمعات وثقافاتها التحتية رغم مظهره اللانسقي واللانظامي المتشظي أحيانا . وهذا ما دفع الكثيرين إلى اعتبار التصوف إحدى تجليات النبوغ الأمازيغي وإحدى علامات التثاقف بين المخزون الرمزي الأمازيغي والتصوف العربي – الإسلامي . يقول صاحب ( مفاخر البربر ) : (و أما الأولياء ، والصلحاء ، والعباد ، والأتقياء ، والزهاد النساك الأصفياء ، فقد كان في البربر منهم ما يوفي على عدد الحصى والإحصاء ، وقد ألف الشيخ الفقيه ، العالم الصالح ، الشهير أبو العباس العزفي نزيل سبتة ، في كرامة الشيخ أبي يعزا ما هو مشهور عند الناس ، وكتاب الشيخ الفقيه الراوية المحدث أبي يعقوب التادلي رحمه الله شاف وكاف في أخبار صلحاء المغرب .....) ( - مجهول – مفاخر البربر – دراسة وتحقيق – عبد القادر بوباية – دار أبي رقراق للطباعة والنشر - الطبعة الأولى – 2005- ص 175) . ولئن مالت ملاحظات ومحكيات الحسن الوزان عن أولياء المغارب إلى الوجازة وسرد المعاينات البرانية ، فإنه سيتحول إلى شاهد ومختبر لسلوك صوفي شهير هو أحمد بن يوسف الراشدي.مما لا شك فيه أنه يميل إلى التحقق من المسلكية المعرفية والعرفانية لمتصوفة زمانه ، نافيا عن الكثير منهم الهالة الكارزمية والقدسانية المنسوبة إليهم في الأدبيات المناقبية والكتابات الكرامية ( كتب التادلي مثلا) وفي الوعي الجمعي الميال إلى الترميز المضاعف خصوصا في المنعطفات التاريخية الحادة . ويتبع الحسن الوزان نفس المسلك المعرفي في تفكيك كارزمية أحمد بن يوسف ،وذلك بإرجاعه إلى تهوس العامة باللامعقول وميلهم إلى عزو شتى ضروب الكرامات والمناقب لأناس لا يحتازون جدارة استثنائية خارج الهوامات والاهتيامات العامية . لقد قدم الوزان اضاءات هامة عن كيفية تحول الرأسمال العرفاني أو الغنوصي إلى رأسمال مادي والى رأسمال سياسي . فالواقع أن الصوفي الكارزمي كما قدمه الوزان من خلال نموذج أحمد بن يوسف ، لا يكتفي بالسباحة في بحر العرفان والتأله والانقطاع عن الأغيار والتغني بالفقر والتوبة وفضائل الموت، بل يطور اجتماعا صوفيا ذا خصائص اجتماعية وسياسية متميزة . فالولي أحمد بن يوسف،يعيد الحياة إلى سهول مدينة البطحاء ، ويقيم أسس اقتصاد فلاحي ، موجه لتعزيز لحمة الجماعة العرفانية ولتقوية الروابط الاجتماعية والسياسية بين مريديه ودعم موقعهم في خريطة التدافع السياسي بين القوى السياسية ، والتصارع الثقافي حول الملكيات الرمزية بين الجماعات العرفانية من جهة ، وبين أرباب الفقه والشريعة وأرباب الطريقة والحقيقة من جهة أخرى . ( وظل السهل خاليا تماما من السكان إلى أن جاء احد النساك على طريقة أهل البلاد ، فأقام به مع عدد من أتباعه الذين يرون فيه وليا صالحا . فأمر هذا الرجل بحرث الأراضي ، وتكاثر بقره وخيله وغنمه إلى حد أن أصبح هو نفسه لا يعرف عدد رؤوس تلك الماشية ، إذ لا يؤدي هو ولا ذووه أية إتاوة للملك ولا للأعراب ، لأنه كما قلت يعد من الأولياء .) ( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –-ج2 ص.28) فالصوفي مثال للشخص الكامل ، لأنه يستمد من كاريزماه وضعا فريدا لا يتمتع به محتازو الرأسمال السياسي والخيرات المادية أنفسهم. فأحمد بن يوسف لا يدفع الإتاوة للملك ولا للأعراب ، ويتمتع بتقدير كبير وبتقديس من قبل الأمازيغ والأعراب ومن قبل مسلمي أسيا وإفريقيا ؛ كما يستفيد من النذور والصدقات الآتية من الآفاق البعيدة . لقد امتلك هذا الولي ، قدرة كبيرة على تطويع رأسماله الثقافي وعلى استثمار افتتان الذات الأمازيغية بالمقدس وبالمعاني الرمزية الباطنية ، لترسيخ قوة الجماعة وتصليب انتمائها والاستجابة لحاجة الأفراد إلى الوثوق واليقين والمعنى المكتمل ، في زمان اخترمته تناقضات المؤسسة الفقهية البيانية ، واهتزازات السلطة السياسية و انشطارات البنية الاجتماعية . لا يحصر الحسن الوزان محكيه على الوظائف الاجتماعية- النفسية ، لسلوكيات الولي الاقتصادية والاجتماعية ، بل ينقب في أرضية الكاريزما الكرامية للصوفي ، ويبحث في المسكوت عنه في الفكر الكرامي والأدبيات المناقبية . ( يعظم الأعراب هذا الرجل ويقدرونه إلى حد أن الملك أصبح يخشاه ، ورغبت في التعرف عليه فأقمت عنده ثلاثة أيام كاملة ، كنت أخلو به كل ليلة وأتناول معه طعام العشاء في حجرة خاصة . ومن الأشياء التي أطلعني عليها بعض الكتب الخاصة بالسحر والكيمياء ، محاولا أن يبرهن لي على أن السحر علم لدرجة أني جعلت اتهمه بأنه ساحر ، وذلك لأني رأيت الناس يبالغون في تقديسه وتعظيمه دون أن يفعل أو يقول أو يخترع شيئا آخر غير ما وصفته من دعاء الله بأسمائه الحسنى . ) ( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا –-ج2 ص.29) ينطق هذا المخرج بميل الحسن الوزان إلى ربط كاريزما الصوفية لبعض أولياء المغارب بالعوالم اللامعقولة للفكرية الهرطوقية . فالكرامة الصوفية في اعتباره ، هي في الغالب نتيجة تلبيس وتدليس محكمي الصوغ ، من قبل أناس متمكنين من المعارف الباطنية . ليست الكرامة، والحال هذه ، دليلا على الولاية وصحة الارتقاء في معارج التسامي الروحي ، بل هي قرينة وأمارة دالة على التعلق بالعوالم السفلى للعقل البشري.فبدلا من أن يكون العرفان ، تجاوزا لآفاق البيان ولعقله الاستدلالي ، فإنه لا يعدو أن يكون عودة متماوجة إلى أحضان اللامعقول السحري . ونجد نفس الإطار التفسيري عند إدمون دوطي، رغم اختلاف منطلقاتهما الابستمولوجية ومقاصدهما الفكرانية . يقول دوطي في الفصل الأول المعنون ب" السحرة والكهنة والعرافون "من ما يلي : zététique دراسته "الزطيطيقية" ( و أخيرا فما يطلبه الولي من الله هو نعمته وبركته ، وهي أمور لا تتحقق آليا بالضرورة ومن خلال قوة الشعيرة فقط ، كما هو الحال في السحر مثلا . بيد أن لا شيء من كل هذا مطلق ، والفصل بين الولي والساحر لا يتم بشكل جيد ، ذلك أن السحر بعد أن تم إقصاؤه من الدين يسعى للاندماج فيه مجددا . ) (- إدمون دوطي – السحر والدين في إفريقيا الشمالية – ترجمة : فريد الزاهي – منشورات مرسم –الرباط-ص.40). ويشكل الفضاء الثقافي الأمازيغي ، أرضية خصبة لانتشار الأفكار التحاجية والممارسات القدسانية الكرامية ، النافية للانتظام العمراني والاتساق السياسي والتماسك الإناسي .ويثير محمد زنيبر نفس الفكرة في معرض تناوله لشخصية كاريزمية من نفس الغرار وهي شخصية المهدي محمد بن تومرت . ( وتتأتى هذه الخصوصية من استعداد نفسي يمكن العثور عليه عند أهل المغرب ، إجمالا ، عبر التاريخ ، ألا وهو التماس الحل الخارق . فالمغرب ، الذي هو بلد لا يفي فيه المطر بمواعيده ، وحيث يمكن للنزاع القبلي أن يحتفظ بحالة من اختلال الأمن والأزمة الاقتصادية ، قد صنع تاريخه في أحرج اللحظات وهو يسلم أمره لزعماء لدنيين يمكن لهيبتهم أن تحتفظ بصداها مدة طويلة من الزمن وتغطي حياة دولة كاملة من الدول . ) (- محمد زنيبر – المغرب في العصر الوسيط – الدولة – المدينة – الاقتصاد – تنسيق محمد المغراوي – منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الرباط – الطبعة الأولى – 1999-ص 135) . والواقع أنه لا يمكن تفسير الشغف باللامعقول واللامرئي بالحتمية الجغرافية ولا ببنية المؤسسة القبلية ؛ كما لا يمكن تخصيص المغارب باللامعقول ؛ إذ هو بنية انثروبولوجية كونية ، منداحة بين الثقافات والحضارات والتواريخ بما يمنع من حصرها في حيز أو جعلها خصيصة ماهوية لبعض الثقافات اللامركزية كما يعتقد مدبرو اللوغوسفير المركزية .بل إن العرفان الصوفي المغاربي ، ليس في الغالب إلا استعادات مبيئة بطريقة أو بأخرى للعرفان الشرقاني المستوحى من أكثر من تراث ومن تقليد ثقافي . فالفقه معتز بتماسكه ، النظري والمؤسسي ، علما أنه قائم على اللامعقول أصلا ، وعلى حيثيات غيبية ، لا تكاد تختلف عن حيثيات المقدس اللاارثوذكسي في العمق .وعليه ، فإن مقاربة الوزان البرانية للعرفان ، غلبت الاعتبارات التنظيمية والسياسية على المقتضيات الابستمولوجية ؛ فهو لا يعتني بتفكيك المنهجية العرفانية ولا المنظورية الميتافزيقية للعرفاني ، بقدر ما يعتني ، برصد المخالفات ولا معيارية السلوك الصوفي . والغريب في موقف الوزان ، هو استبعاده للموقف الفكري –الصوفي لأحمد بن يوسف الراشدي .فرغم خلفيته الزروقية( نسبة إلى الصوفي أحمد زروق الفاسي ) ، فإن أحمد بن يوسف صدر عن موقف صوفي منزاح عن مقتضيات التسنن وعن الأنموذج النبوي المحمدي ، وقريب من متصوفة الاتحاد ( البسطامي ) والحلول( الحلاج ) . ( أما أحمد بن يوسف فلا يرى ، في هذا المقام ، إلا موقفا واحدا تجاه الألوهية والربوبية على حد سواء ، وهو موقف الحب الخالص ، الذي يصرف القلب عن مشاهدة تجليات الجمال والجلال في الكونين الدنيوي والأخروي ، ويصون العقل عن الافتراق في عالمي الملك والملكوت ، فتنتفي أسباب الخشية والرجاء وتزول دواعي العمل طمعا في الجنة وخوفا من النار . وهكذا تكون النظرة إلى طبيعة العلاقة بين المعرفة والعبادة جوهرالخلاف بين أحمد زروق وأحمد بن يوسف ، فالأستاذ يصل ما بين المعرفة والعبادة ويرى بأن يقين المعرفة في صدق العبادة ، أما التلميذ فينحو إلى القول بالفصل بينهما .) (-عبد الله نجمي – التصوف والبدعة بالمغرب –طائفة العكاكزة،ق16-17 – منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية- الرباط – الطبعة الأولى – 2000-ص. 179). فأحمد بن يوسف المتأله ، يذهب بعيدا في الاهتمام بدقائق التوحيد و الحب الإلهي وفي تغليب المعرفة على العبادة ،وتفضيل همة العارفين على همة العابدين والارتقاء من الإجارة إلى الإمارة ومن طلب الحور والقصور إلى "رفع الستور ودوام الحضور" وغير ذلك مما يناقض التسنن والتصوف المتسنن مناقضة شبه جذرية . فلئن ربط التصوف السني بين الأرثوذكسية والأرثوبراكسية وبين المعرفة الذوقية والتكاليف الشرعية ، فإن تصوف احمد بن يوسف يروم الفصل بين الأرثوذكسية والأورثوبراكسية أولا ،وتعديل اتجاه التروحن داخل الأرثوذوكسية نفسها ثانيا. يقول التهانوي ما يلي : ( قال الإمام الرازي في التفسير الكبير ، في تفسير قوله تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) الآية : اختلف العلماء في معنى المحبة ، فقال جمهور المتكلمين : إنها نوع من الإرادة ، والإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات ، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته ، فإذا قلنا : نحب الله ، فمعناه نحب طاعته وخدمته أو ثوابه وإحسانه . و أما العارفون فقد قالوا : العبد قد يحب الله تعالى لذاته ، و أما حب خدمته أو ثوابه فدرجة نازلة ، وذلك أن اللذة محبوبة لذاتها وكذا الكمال .) ( التهانوي – كشاف اصطلاحات الفنون – وضع حواشيه : أحمد حسن سبيح – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 1998-الجزء 1 –ص. 368).
وللتعرف على فكرية أحمد بن يوسف ، نقدم الجدول التالي :
المنزلة المقام الصلاة اليقين المنهج العقل العالم الفئة المستوى أسير مقام التوحيد صلاة الجباه علم اليقين النظر أو الاستدلال العقل الخشن أو الكثيف عالم الملك العامة (أبناء الدنيا ) المستوى الأول أجير مقام التفريد صلاة القلوب عين اليقين الدليل والبرهان القلب أو العقل المخيف عالم الملكوت الخاصة (الأولياء) المستوى الثاني أمير مقام التجريد صلاة الأرواح حق اليقين الاستدلال بالصانع على المصنوعات العقل اللطيف عالم الجبروت خاصة الخاصة (العارفون ) المستوى الثالث
فما يعني العارف الراشدي هو مقام التجريد والإمارة الروحية ،لا البقاء في حدود الأسر الفقهي والإجارة الشرعية وما يسميه طه عبد الرحمن بعقل التجريد .ولبلوغ هذا المقام ، لا بد من الانصراف حصرا إلى المحبوب . ( ورأى الراشدي في الأعمال أنها مخلوقة ، وملاحظتها تصرف عن النظر إلى المعمول له ، و أنها بذلك حجب تحول بين المعبود والعبد . وقال بالقيام بها دون اعتماد ، ونصح بالتوجه الخالص إلى خالق الأعمال ومبدعها .وهذا يؤدي إلى النتيجة الخطيرة ، التي يحذر منها الشيخ عبد الوارث( الياصلوتي ) ، وهي القول بالفصل بين العبادة والمعرفة ، والتصريح بأن الاشتغال بالعبادة يبعد عن المعرفة ، و أن الاشتغال بالمعرفة يغني العبادة . وما تقول به الطائفة المذكورة في " المسلك "( يقصد رسالة " المسلك القريب الموصل إلى حضرة الحبيب "للياصلوتي ) ،ينسبه " البستان "( يقصد كتاب " بستان العارفين الأزهار في مناقب زمرة الأخيار ومعدن الأنوار سيدي أحمد بن يوسف الراشدي النسب والدار " للصباغ القلعي) إلى الشيخ أحمد بن يوسف .) (-عبد الله نجمي – التصوف والبدعة بالمغرب –-ص. 230). فكيف يتحول متصوف متفلسف خلخل بنية التصوف الجنيدي – الغزالي ودافع عن اهتيامات انسية في زمن استشراء القياميات ، إلى مجرد متمرس بالعلوم السحرية كما هو مسطور في ( وصف إفريقيا ) ؟ ألا يمكن تفسير ربط سكوت الوزان عن النحلة الراشدية وعن اختراقاتها الفكرية ، بقناعته باستحالة اصطناع النحل المتفلسفة بله الهرطوقية في وسط بدوي زياني أمازيغي ؟ كيف يقدم الوزان أحمد بن يوسف كمدبر سوسيو- اقتصادي مقتدر ومتضلع في الممارسات السحرية وهو الموصوف بالعرفانية والبدعية والقطبانية ؟ كيف يتمفصل التحاب العرفاني مع التمرس بالاخفائيات والعلوم الباطنية ؟ أليس الفقه تصوفا "مقوننا" أو عرفانا مقرونا بلغة المؤسسة السياسية الظافرة؟ ألا تشترك النبوة والتصوف في القاعدة العرفانية ولا تختلفان إلا في تدبر الوساطة ؟ ألا يطال الاختلاق الوسائل والوسائط والسمات الشخصية فقط فيما تتحد المصادر والمنابع ؟ ألا يمكن تتبع أثار العرفان الهرمسي والغنوصي في النصوص المؤسسة نفسها ؟أليس التفسير السلفي للتصوف اللاسني بالتحتيات ، مرادفا للتفسير العقلاني – النفاتي للنبوة ( مثل مخاريق الأنبياء لمحمد بن زكريا الرازي ) أو للتفسير الكنسي القروسطي لانبثاق المحمدية ؟ والحاصل ، أن الوزان يغيب الاختيار الابستمولوجي والانطولوجي والانتساب العرفاني الهرطوقي ، لأحمد بن يوسف ،ويكتفي بإرجاع حضوره السوسيولوجي والسياسي إلى ممارسات لاعقلانية –سحرية إجمالا بدون تقديم تدقيقات مفهومية ونظرية عن تجدد حقل القداسة والتنافس المحاكاتي بين الفاعلين الدينيين في ظرف تاريخي انعطافي . وفي نفس السياق ، يقدم نقدا مخارجا لتجربة عمرو السياف . ( أسست هذه القلعة في أيامنا هذه من قبل عمرو السياف الثائر رئيس المبتدعة . وكان في بداية أمره شيخا متصوفا ، ثم لما جمع حوله عددا كثيرا من المريدين و أطاعوه صار جبارا عنيدا ، ودامت سطوته اثني عشر عاما كانت سبب خراب هذه البلاد . وقد قتلته إحدى نسائه حينما وجدته يضاجع ابنة لها من زوج آخر ، فأدرك الناس حينئذ أن الرجل فاسق لا إيمان له ولا دين ، وثار الشعب بعد موته وقتل كل من كان يتبع طريقته . ) ( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا - ج1-ص.107-) يقدم الوزان نماذج لحالات الانتقال من التصوف إلى" التبدع"و "التهرطق " من حقل القدسانية إلى حقل" البدعانية" ؛ تكمن خطورة التصوف في الاجتماع المغاربي حينئذ ، في قدرته على تشويش الوضع المعرفي والأخلاقي للسياق العام ، وعلى بناء حقيقة سياسية جديدة خارج الزامات الفقه والمؤسسة الفقهية .ليس التصوف تعاليا في كل الأحوال ، بل كثيرا ما مثل مجالا لمعانقة متجددة ، للسلطة والمرأة، وتجاوز اكراهات الشريعة والتقنينات الفقهية للسلوك الفردي والجماعي .لا يعني التصوف هنا ، الانقطاع عن الخلق والانشغال بالزهد والرقائق والتفرغ لمحبة الواحد ، بل توطيد الصلة بقوى الهدم والتفكيك والفوضى .فبدلا من سد ثلمات السلطة السياسية ، ينبري المتصوف لتهيئة شروط الفوضى ، والانفلات السياسي ، عبرهلهلة نسيج سياسي- اجتماعي متفكك أصلا ، وخرق المواضعات الشرعية والمواثيق الجماعية ، وتقويض معيارية الجنسانية الشرعانية .فالجنسانية المتحللة للصوفي المتهرطق ، تمس الاجتماع الشرعي في أعماقه ، وتطال النسق في أكثر مفاصله جوهرية ومعيارية . وقد قدم عبد الوحد المراكشي ابن قسي كنموذج للمتصوف الهرطوقي، مما ينم عن تشكل نسق هرطوقي ، قادر على الاشتغال وعلى إثارة المتخيل القيامي للجموع : (وقام مغرب الأندلس دعاة فتن ورؤوس ضلالات ؛ فاستفزوا عقول الجهال ، واستمالوا قلوب العامة ؛ من جملتهم رجل اسمه أحمد بن قسي ؛ كان في أول أمره يدعي الولاية ، وكان صاحب حيل ورب شعبذة ، وكان مع هذا يتعاطى صنعة البيان وينتحل طريق البلاغة ، ثم ادعى الهداية ؛ يلغني ذلك عنه من طرق صحاح . ثم لم يستقم له شيء مما أراد ، واختلف عليه أصحابه .) عبد الواحد المراكشي – المعجب في تلخيص أخبار المغرب – شرحه واعتنى به : صلاح الدين الهواري- المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – الطبعة الأولى-2006-ص.155-156). إلا أن الوزان لا يركن دوما إلى تسويد ملامح تصوف زمانه ؛ فهو يقدم أحيانا ، حالات عرفانيين لا يرومون التقويض والهدم والافتتان ، بل يسعون إلى توطيد النسق السوسيو-سياسي والحفاظ على التوازنات السياسية بين القبائل والأحلاف اللفية من جهة ، وبين القبائل والمخزن المركزي من جهة أخرى. ( وفي الوقت الذي مررت فيه بهذه البلاد كان الآمر بهذه الهدنة شيخ زاهد مشهور عندهم بالصلاح(يقصد الصوفي محمد بن مبارك الأقاوي) ، وكان المسكين أعور لم أر منه في الواقع غير الصفاء واللطف والإحسان . ) ( -الحسن بن محمد الوزان الفاسي – وصف إفريقيا 1983- ج1-ص.145-).
#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 2
-
القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة 1
-
العلمانية الرخوة واستقالة العقل النقدي 2
-
العلمانية الرخوة واستقالة العقل النقدي 1
-
الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 6
-
الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 5
-
الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 4
-
الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 3
-
الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية 2
-
الاعتراب في واقع انسداده-نقد تصور الجابري للأمازيغية
-
تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان
...
-
تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان
...
-
تمثل الفضاء الثقافي الأمازيغي في - وصف إفريقيا -للحسن الوزان
...
-
الانسداد النظري لما بعد العلمانية -نقد تفكيكية علي حرب 4
-
الانسداد النظري لما بعد العلمانية - نقد تفكيكية علي حرب 3
-
الانسداد النظري لما بعد العلمانية -نقد تفكيكية علي حرب 2
-
الانسداد النظري لما بعد العلمانية نقد تفكيكية علي حرب 1
-
مفارقات المثاقفة بسوس –الجزء الرابع
-
مفارقات المثاقفة بسوس –الجزء الثالث
-
مفارقات المثاقفة بسوس- الجزء الثاني
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|