أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَزهر 11















المزيد.....


الأولى والآخرة : مَزهر 11


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3107 - 2010 / 8 / 27 - 21:00
المحور: الادب والفن
    





كم مرّة عليّ كانَ أن أردّد المُفردات، المُشتقة من مَصدَر " الآخرة " أو المُرادفة لها، والمَرهونة لوقائع العامّية، الشاميّة؛ المفردات، المُسجّلة هنا، في هذه التذكرَة التي تتناهى رويداً إلى فلك ختامها.
عامٌ كاملٌ، كانَ قد مضى مذ أن أقحمْتُ في مَفازة العامّية، الموديَة إلى متاهَة المجرم المَجهول والكناش المَفقود. كنتُ كمَن وَضعَ رأسَه داخل خليّة نحل طلباً للعسَل، فلم يَنبْهُ سوى اللسعات، السامّة. إلا أنني سأكونُ جاحداً بنعمَة الربّ، ولا غرو، ما لو أنكرتُ حظوتي منها بالشهد، الأشهى. إنه بدَنُ نرجس، وليسَ غيرَه، من كانَ جديراً بصفتيْ النعمَة والحظوَة، السالفتيْن. ولكنّ صاحبَته، في آخر المَطاف، مَنحتني ما هوَ أجدى وأبقى: قلبها الكبير. أجل، لقد كنتُ حبّ نرجس، الأوّل؛ وربّما أكونُ الأخيرَ، أيضاً، ما لو صحّتْ الأنباءُ التي شاعَتْ مؤخراً: لقد غابَ أيّ خبَر من لدُن الأفندي وحفيدَته، طوالَ أشهر ثلاثة من وقت سفرَهما إلى بيروت. اللهمّ إلا الأقاويل، المُتأتيَة من هنا وهناك، والتي كانت تروّعني كلّ مرّة على أثر سماعي لها؛ الأقاويل، الزاعمَة إغراق البوارج البريطانيّة لهذه السفينة المصريّة أو تلك الروميّة.

" أتعدُني، يا صديقي، بتحقيق هذا الطلب، الأخير؟ "
توجّهتْ إليّ الحفيدَة الحَسناء في غروب يوم الرّحيل ذاك، البعيد. ثمّ أردَفتْ بعدما أومأتُ برأسي إيجاباً " أريدُكَ أن تهتمّ، دوماً، بقبر روشين.. "
" روشين؟ "، سألتها مُقاطعاً. إلا أنني استدركتُ في الحال " أجل، إنكَ تقصدين المَرحومة شمس ". وكانت عيناها، الآسرتان، قد توسّعتا قليلاً لدى بتري كلمتها. على ذلك، استأنفتْ هيَ تقول: " في الآونة التي سبقتْ موتها، كانت تفضل أن أدعوها باسمها هذا، الأصليّ "
" لك ما تشائين، يا عزيزتي. سأقومُ في الربيع باصطحاب تابعي إلى التربَة، لكي نحدّد مَقاسات القبر ومن ثمّ إحضار معماريّ لبنائه بشكل مُعتبَر "، قلتُ لها بتوكيد. على أنني تذكرتُ على غرّة مسألة ضروريّة؛ وهيَ تحديد مكان الضريح. فلمّا بثثتُ لنرجس المسألة، فإنها أجابت ببساطة: " إنه في جهة مَقام مولانا، المُظللة بالأشجار. ولن تتيه عن المَدفن، ربيعاً، طالما أني استبتّ فيه العديد من أزهار النرجس ". عندما نطقتْ كلمتها الحَفيدَة، الجَميلة، كانَ الجوّ ما يفتأ مُتجهّماً، مُمطراً، ثمّة خارجاً خلفَ زجاج نافذة حجرَتها.

" لديّ أمانة إليكَ من صديقتنا، الراحلة "
عادَتْ الحبيبة للقول، راسمَة هذه المرّة ابتسامَة على شفتيْها. وحينما تطلعتُ فيها مُستفهماً، فإنها مدّتْ يَدها إلى الطاولة، المُحاذيَة للسرير. استلّتْ من أحد الأدراج لوحَة مُربعَة الشكل، بحجم ذراع تقريباً، كانت ملفوفة بالقماش: " إنها صورَتكَ، بريشة وألوان فنانتنا، الحاذقة "، قالتها وهيَ تجرّد اللوحَة قدّام عينيّ. ولم أبدو مُباغتاً، عندئذ، طالما أنّ المَملوك، الصقليّ، سبقَ أن أفادَني علماً بأمر اللوحة. وكأنما الفكرة كانت مُشترَكة بيني وبين نرجس، فإنها ما لبثتْ أن تركتني أتأملُ تفاصيلَ الرّسم، المُتقنة، لتهرعَ إلى درج آخر في الطاولة: " وهذا رسمُ مَملوكنا الراحل، الصقليّ "، قالتْ لي بالنبرَة ذاتها، المَرحة. حينما كنتُ أحدّقُ باللوحَة هذه، فلم أهتمّ كثيراً بالشخص المُجسّد فيها قدرَ اهتمامي بالخلفيّة الغامضة، المُبهمَة التفصيل.
" إنّ الرّسمَ، على ما يَبدو، قد أنجزَ قربَ الصارَة؛ هناك، على سطح المَدرسة؟ "، تساءلتُ وفي ذهني الغرفة العليا المُخصّصة لتربيَة الحَمام. فصدّقتْ نرجس على ذلكَ بهز رأسها، ثمّ عقبَتْ قائلة: " كانَ الصقليّ، رَحمه الله، مُعتاداً على إهمال واجبات الخدَمة ثمّة لأجل اهتماماته، الغريبَة؛ ومنها دربَته في إطلاق الحمام الزاجل، المُحَمل بالرسائل ". شاركتُ فتاتي في التعبير، المَرح، بتحريك رأسي يُمنة ويُسرَة: " يا لذاك المَملوك، الماكر "، عقبتُ بالقول. بيْدَ أنّ داخلي، الرَخيّ، ما لبثَ أن فزعَ على غرّة: " رسائل..؟ ". حينما ردّدتُ في سرّي هذه المُفردة، فإني تفكّرتُ عندئذ بسبب غضب الوالي على بعض أعيان المدينة.
" إنّ الصقليّ، إذاً، كانَ بدَوره يُطوّعُ الزاجلَ لغايَة ما "، قلتُ لنرجس في ريبَة. نظرَتها المُتسائلة، عليها كانَ أن تتملّى فيّ لبعض الوقت، قبلَ أن تستفهمَ: " أتعني، أنه كانَ آنذاك يُراسل أحدَهم سرّاً؟ "
" هذا ما أودّ مَعرفته، حقا "
" ولكنكَ حتى الأمس، القريب، كنتَ تشكّ بتورّطه مع رفيقه في القتل ؛ خصوصاً، وأنّ الجرائمَ لم تتوقف بعدَ إعدامهما؟ ". فلما قالت لي ذلك، شئتُ الإجابَة بمُصارَحتها عما جرَى من أمور، في الآونة الأخيرَة، والمُتصلة بالبحث عن جثة ياسمينة، المَفقودَة.

" تباً لها من سيرَة، مَشئومة "
علّقتْ نرجس على ما سَرَدته على مَسمَعها، من حكايَة المَقام. إذاك، انتبهتُ إلى أنها أعادَتْ، حرفياً تقريباً، كلمَة الشاب السّجين؛ الذي كانَ أحد عشاق أختها. ولكنني لم أنبسَ بشيء، بل تركتُ الفتاة تسترسلُ في حنق: " لو كنتَ تثقُ فيّ، فعلاً، وصارَحتني أولاً بأول عن تقصّيكَ أمرَ الجثة، لوفرتَ على نفسكَ الكثير من العناء كما والوقت المُضيّع "
" لأني لم أمحَض من لدُنك بالثقة، في سالف الوقت. لقد أخفيت عني ما كانَ من أمر ياسمينة مع عشاقها، اليوميين. لا بل وكنت، بالمُقابل، تزعمين أنني حبّها الحقيقيّ. علاوة على أنك على علم، مسبق، بكون أختك من غطى على جريمَة قتل الوَصيف "، قلتُ لها بنبرَة مماثلة. إنّ كلمتي، ولا رَيْب، جرَحتْ مَشاعرَها. إلا أنها كانت أنوفاً ـ كأبيها سواءً بسواء. وإذ نحّتْ أيّ تعبير دَخيل عن قسماتها، البهيّة، فإنها أجابتني بقوّة: " أولاً، إنّ تجاهلي أمرَ قتل الوَصيف، مُرتبط بما دَعوته أنتَ بأمر ياسمينة مع عشاقها اليوميين. لقد كانَ الأمرُ سراً ، تقاسَمته أنا والصقليّ والروميّ. فإذا كانَ خلق المَملوك، الخصي، من السموّ أن يرفض الإفضاء بالسرّ وبالرغم من الضغوط والعذاب؛ فهل يَجوز لخلقي ، أنا الحرّة وسليلة الوَجاهة، أن يكونَ أقلّ من ذلك ". ثمّ أضافتْ بنوع من التهكّم " وإذاً، فلم أكن بحاجَة أيضاً للكذب، فيما يَخصّ شعور أختي المَرحومة تجاهكَ "
" المَرحومة..؟ فأنت إذاً ما تفتئين على إصرارك، بأنّ ياسمينة هيَ صاحبَة الجثة، المُتفحّمة؟ "، قلتُ مُتسائلاً وفي نيّتي إغاظتها وَدفعها من ثمّ للبوح بما تعرفه عن المَوضوع. إلا أنّ نرجس، كما قدّرتُ لاحقا، كانت في سبيلها حقا لفعل ذلك ودونما حاجة لاستفزاز. هكذا، حدّقتْ فيّ بعينيْن راحَ الحزنُ يغشاهما، لتجيبَ على الأثر: " إنّ أختي ، لعلمكَ، مَدفونة مع أمّها في قبر واحد؛ هناك، في تربَة الدَحْداح ".

لبثتُ جامداً مثل الصّنم، مأخوذاً بالخبر العجيب، الأكثر جدّة. فما كانَ من نرجس، إزاء صَمتي، سوى مواصلة القول " إنكَ على حقّ، ولا غرو، فيما إذا استرَبتَ من قولي. لقد تأخرَ والدي بإعلامي خبرَ ياسمينة لأمر في نفسه؛ ولحين مَعرفته بحضور الجند في تلك الليلة، للقبض عليه وأخذه للقلعة "
" كيف وُجدَ الوقتُ لدفنها، بحقّ السماء. فإنّ أباك كانَ قد غادَر معنا، كما تذكرين ولا شكّ، إثرَ تعرّض الدار لقنابر الانكشاريّة؟ "
" إنّ ذلكَ الآمر، المَرحوم قوّاص آغا، كانَ يَعشقُ ياسمينة بجنون. فإنه هوَ من حثّ أبي على مُغادرَة المنزل، بعدما تعهّدَ له بنقل جثة المسكينة بمُساعدَة بعض مُعاونيه، المُتواجدين ثمّة ". هممتُ بسؤالها عن ماهيّة " الأمر "، الذي جعلَ الشاملي مُتكتماً عن مَوضوع الدّفن. ولكنها فاجأتني إذاك بالقول، وكما لو كانت قد قرأتْ ما جالَ بخاطري: " لم أدَعَ أبي يَتملّص من الإجابَة، عندما ألححتُ عليه مستفهمة عن سبب تأخره في إحاطتي بأمر ياسمينة؛ أنا أختها، الوَحيدة. عند ذلك، تغيّرَت ملامحه بصورَة غريبة وطفقَ في شرود. ثمّ ما لبثَ أن تنبّه إلى الوقت القصير، المُتاح له لتوديعي. فراحَ عندئذ يقصّ عليّ حكايَة خاتم، مَسحور ، قالَ أنه سبقَ وأجازَ لنفسه أن يَستلّه من مَوضعه، السرّي "
" أهوَ الخاتمُ، هذا؟ "، قاطعتُ مُحدّثتي عارضاً عليها الغرَضَ، المَطلوب. ومع دهشتها، الجلية، المتأثرَة برؤيَة خاتمَ أختها، إلا أنها هزتْ رأسها نفياً: " لا، ليسَ هذا هوَ المَقصود "، قالتها ثمّ ما عتمَتْ أن أردفت مُتسائلة بشيء من الإنكار " ولكن، كيفَ حصَلتَ على خاتم ياسمينة في آخر الأمر؟ "
" سأخبركُ بذلكَ، تواً. إنما أودّ، أولاً، أن أسمَعَ منك خبرَ الخاتم، الآخر "، أجَبتها بهدوء. وكانت هادئة أيضاً، حينما قلت لي بنبرَة فيها ما فيها من تصميم وعناد وإخلاص: " لا يُمكنني تلبيَة رغبتكَ، حتى مع علمي أنها ليسَتْ من الفضول في شيء. كلّ ما أستطيع الإفاضة فيه؛ أنّ الخاتمَ كانَ مُتحرزاً عليه مع أشياء أخرى، قدسيّة، دَعاها أبي بكنز النبوّة "
إذاك، وكنتُ مع الحبيبَة في ساعة الفراق، الدانيَة، شاء داخلي أن يهمُسَ إليّ؛ بأنّ لعنة قد حلّتْ على منزل الشاملي، مذ أن حلّ فيه كناشُ الشيخ البرزنجي.

قبلَ أن أمضي لمُقابلة الأفندي، تاركاً حفيدته لتتدبّر حَزم حقائب السّفر، فإني رَجوتها أن تسمحَ لي الاحتفاظ بخاتم ياسمينة. أومأتْ برأسها إيجاباً، إلا أنها طلبتْ صورَة رَسمي مُقابل الخاتم: " أرغبُ بأن تكونَ أنتَ معي، ولو كصورَة على الأقلّ، لحين العودَة من البندقيّة "
" يُسعدني ذلك، بطبيعة الحال. كما أني سعيدٌ أكثر حينما تعربين عن الأمل بالعودة للشام "، قلتُ لها مُبتسماً. ثمّ ما لبثتُ أن قطبتُ وَجهي عندما سألتها: " ولمَ تريدين أخذ صورَة الصقليّ، إذاً؟ ". بعدَ وَهلة من التردّد، أجابتني بحُزن: " لأنه كانَ شقيا، تعساً، فقد مُلت إلى صُحبَته. إنّ ذكاءَهُ خارقٌ، للحق. ولكنه، مع الأسف، لم يَرد استعمالَ مواهبَه بشكل حَسَن. ولقد أدهشني ذاتَ مرّة، حينما كنا في مَدرسة الحديث، بقوله أنّ الخصيَ باستطاعته أن يكونَ من أعظم رجال العصر؛ طالما أنه قرأ في أحد الكتب بأنّ بونابرته كانَ عاجزاً في الفراش " . وكنتُ إذاك أقدُح ذهني بأمر آخر، فما لبثتُ أن سألتها عنه: " هل سبق للصقليّ أن استفهمَ منك ، مباشرَة أو مُداورة، عن حزمة الأوراق، المفقودة؟ ". أخذها السؤال على غرّة؛ إلا أنها لم تتردّد في الإجابة عليه: " نعم، حتى أنه كانَ يعتقدُ بأنّ أحدهم سرَق الحزمة ولم تقع منك بشكل عارض أثناء عبورنا المَمرّ ذاك، السرّي "
" بمَن كانَ يرتابُ، إذاً؟ "
" كانَ يعتقدُ بأنّ قوّاص آغا هوَ من فعل ذلك. أظنُ أنّ الضقليّ كانَ يَفترض ذلكَ، وبالرغم من عدَم مَعرفته بسرّ جثة ياسمينة. وبهذه الحالة، يكونُ الآغا قد شاءَ أن يَتبعنا إلى القبو لكي يفرّ من الدار، بعدما ضمنَ أن رجاله سيقومون بنقل إلى المقبرَة لدفنها ". عند ذلك تذكرتُ هذياني باسم القوّاص، على أنه القاتل، في مًحاورتي مع الزعيم قبَل أن يُغشى عليّ في بحران الحمّى. " إذا صحّ حَدَسُ الصقليّ وقتئذ ، فإنّ آمرَ اليرليّة إذ رآني مَرمياً على الأرض فإنه انتبه إلى الحزمَة التي كانت، على الأرجح، مُتدليّة من فتحة كرزيّتي بسبب سقوطي "، قلتُ في نفسي.
وبما أنني لم أعلّق بشيء، بَعدُ.، كانَ على نرجس أن تودّعني بهذه الكلمات: " لم أشعر مرّة، قط، بالغيرَة من أختي. كانت فتاة بسيطة ومتواضعة وطيّبَة. حتى سَحابة أمّها الراحلة، القاتمة، فلم يكن عليها أن تحجبَ إشراق صورَة ياسمينة تلك؛ المُرَسّخة في وجداني. وأبي، من ناحيَته، كانَ شغوفاً فيها للغايَة وعظيمَ القلق على صحّتها. إنّ موتها الفاجع، بالتالي، قد هدّه هداً. ثمّة، في حجرَته بمدرسَة الحديث، فتحَ لي ذاتَ يوم قلبه. أخبرَني، بأنه ارتابَ مرّة بكون ياسمينة حُبلى. فلم يُشعرها بشيء، وإنما جلبَ للدار امرأة قابلة، غريبَة عن الحيّ، بزعم أنها عارفة بالطبّ العربي. فطمأنته المرأة بعدما كشفتْ على الابنة، الأثيرَة، بأنها عذراء. وقال لي، أنه طلبَ بعدئذ مَعونتكَ ، كونكَ عطاراً؛ طالما أنه اشتبَهَ بأنّ وَصيفه ذاك، المَقبور، ربّما يكون قد دسّ لها السّمَ ".
رأيتُ أنه من النافل، قطعاً، أن أتساءلَ عن سبب نعتها ذاك، المَشنوع، لوَصيف أبيها الراحل: ففي لحظة فراق، مُشابهة، فإنّ الشاملي على الأرجح كانَ قد أخبرَ نرجس بحقيقة موت والدتها والمُتورطين فيه.
أما كون ياسمينة " عذراء "، فإنّ ميخائيل شرَحَ لي لاحقا ما دعاهُ بالسبب العلميّ لحالتها: " إنّ ماء الرّجل من المُمكن أن يُحدث الحَمل، حتى بدون إيلاج ". وقد أعرَبتُ له عندئذ عن دَهشتي؛ طالما أنّ فعلَ المُضاجَعة في شرعنا ـ نحنُ المسلمين ـ يُصبح ناجزاً بالإيلاج الكامل ، حدّ التأكّد من مسّ عانة المَرأة لعانة الرّجل.

لم آبه بقرص البَرد، المؤذي، المتغلغل في جلدي وعظمي، حينما شئتُ المشي في المَمرّ، المُحَجّر، المُفضي للحديقة الخلفيّة. نظراتي المُشفقة، تنقلتْ عندئذ بينَ أشجار الحمضيات، المُحتمية بأبنيَة الدور الأرضيّ، والأشجار الأخرى، المُثمرَة، المَحروسة بالمُقابل من لدُن أسوار الدار، العاليَة. ثمّة، عند طرَف الحديقة، جمَدَتْ عيناي مَصدوَمَة بمَشهد المُحترَف؛ الذي كانَ جديراً بمَوت صاحبَته، الفاجع. وما كانَ يُضافر من الفجيعَة، أنّ أعمالَ رسامتنا كانت قد أضحَتْ حطباً للحريق ذاك، فلم يبقَ من إرثها سوى لوحتان، حَسْب؛ لوحتان، عليهما كانَ بدَورهما أن يتيها لاحقاً في مَجهلة مَصير نرجس وجدّها.
" يجب أن أختلي بعبد اللطيف أفندي، ما أن يَفرَغ من أمر ضيفه "، قلتُ في سرّي وأنا أنفخ بنفادَ صَبر. على ذلك، تابعتُ التوغلَ في برزخ الليلة الشتويّة، مثل خفاش حزين ومتوحّد. نعم. إنّ نذيرَ الوحْدَة والوحْشة كانَ يهتفُ في أذني؛ أنْ وَدّع مذ اللحظة أنسَ الليالي الفائتة، المُبهجَة والمُثيرَة في آن ـ كما ودّعكَ الخلانُ والسمّارُ واحداً إثرَ الأخر.
" ما وفرته العامّية من أرواح من أولئكَ المَعارف، حصدَه سمّ القاتل أو خنجره "، خاطبني الهاتفُ من جديد. بيْدَ أنني كنتُ على مَعرفة، شبه أكيدَة، بأنّ أكثرَ من قاتل من تناوَبَ على تنفيذ الجرائم تلك، المَعلومة. إنّ مَعرفتي هذه، لحقيق فيها أن تعزيني نوعاً؛ في هذه الليلة الحزينة، على الأقل. في اللحظة نفسها، تناهى لسمعي صوتُ حرَكة عربَة، متأتّ من الطرَف الآخر من الحديقة؛ أين مَدخل المَنزل. عندئذ أدركتُ بأنّ آغا يقيني قد غادرَ قاعة الضيافة، وأنّ عليّ أن أعودَ إليها من فوري للاختلاء مع الأفندي.

الخلوَة المُقرّرة، حتمَتْ علينا نقل مكانها إلى حجرَة المُضيف، بما أنّ ميخائيلَ سينضمّ إليها. فما هيَ إلا هنيهة من الانتظار، وكنا ثلاثتنا نتدابرُ مع مَوقد النار، الكبير، والمُلبّس القرميد بالمرمر الطليانيّ الأسوَد. قبيل حضور الطبيب، فهمتُ من الأفندي أنه مُلمّ بأمر بحثنا في منزل الشاملي، علاوة على أمر وَرقة الكناش، المَطلوبة. على ذلك، رأيتُ أن أضعهما كليهما في الأمر الثالث، المُستجدّ. فقصَصتُ عليهما حكايَة الشاب السّجين، وما يُمكن أن تمنح من عبَر بخصوص ألغاز جريمَة قتل الوَصيف.
" من حُسن الحظ، أنّ مَوت ياسمينة أصبحَ حقيقة مُبرَمة، بعدما عرَفنا أنها كانت هيَ صاحبَة الجثة تلك، المُتفحّمة، وأنها مَدفونة الآنَ في مَقبرة عائلة الشاملي "، بدأتُ أقولُ بانشراح كانَ غريباً عن داخلي قبل قليل. ثمّ أردَفتُ على الأثر " إنّ المَملوك الراحل، الروميّ، قتلَ الوَصيف دونما نيّة مُسبَقة؛ بما أنه لم يكُ على علم بوجوده مع ياسمينة، ثمة في القبو. أما رفيقه، الصقليّ، فإنه قامَ بتخطيط وتنفيذ قتل كلّ من القوّاص والعشّاب "
" ولكنكَ، يا آغا، نسيتَ الجريمَة الأولى: قتل آغا أميني بالسمّ.. ؟ "، قالَ لي ميخائيلُ مُقاطعاً. فالتفتّ إليه بابتسامَة العارف، المُبتسرَة، ثمّ أجبته مُستفهماً بدَوري: " كيف هذا؟ إننا ومنذ البدء، عوّلنا على اشتباه الزعيم بكون وَصيفه من اقترَف الجُرم، بأمر من القاروط ". فما كانَ من المُضيف إلا التعقيب على كلامي: " يَفهم المَرءُ من ذلك، أنّ الصقليّ قامَ أيضاً بتسميم القوّاص باتفاق مع البك المصري؟ ". ابتسامتي، اتسَعتْ هذه المرّة. فقلتُ مُجيباً السؤالَ، الذكيّ: " بالضبط، هذا ما توصّلتُ إليه من قرائن عدّة، سبقَ أن عرَضتُ لها حينما قبضنا على المَملوك مُتلبّساً بمُحاولة دسّ السمّ لآغا يقيني. وإني أشتبهُ بأنّ القاروط استخدَم الصقليّ بعد مضصرع رَجله؛ الوَصيف. إنهما كاناَ، لبعض الوَقت، على صلة بوساطة حَمام الزاجل. والشبهة ذاتها، أسوقها بخصوص المَرة الأولى التي تمّ فيها سرقة حزمَة أوراق الكناش. فإنّ المَملوكَ، الذكيّ، أدركَ بأنّ قوّاص آغا هوَ من سرقها "، قلتها وأتبعتها بسَرد ما كانَ نما لعلمي حولَ ذلكَ عن طريق نرجس.

" ولكن، مَن الذي أستعادَ حزمَة الأوراق تلك، من قبضة القوّاص؟ "
سألني ميخائيل باهتمام. كنتُ قبلاً، ولا غرو، قد تفكّرتُ طويلاً بالأمر. على ذلك، قلتُ بنبرَة يقين: " إنه الشاملي، على أغلب ترجيح. لأنه كانَ يُصرّ، ومنذ البدايَة، على أنّ خليلة للمَرحوم آغا أميني هيَ من دسّ السمّ للقوّاص؛ على أساس أنّ هذا الأخير، كما نعرف، كانَ مُستحوذاً على الدار بالقوّة: فكيفَ عرَفَ الزعيمُ بوجود هكذا خليلة، لولا أنه ذهبَ بنفسه إلى منزل آمر القول، في صبيحَة اليوم نفسه؛ الذي وَرَدَ فيه خبرُ مَوت القوّاص؟ ". قلتُ ذلك ثمّ أضفتُ مُختلساً نظرَة من الأفندي " إنّ حفيدتكم ، في الواقع، هيَ من عثرَتْ على حزمَة الأوراق في حجرَة أبيها؛ ثمة، في مدرسَة الحديث. ولكنّ نرجس ، من ناحيَة أخرى، كانت غير مُتيقنة من تحديد الوَقت الذي مَكثتْ فيه الحزمَة عند أبيها. وبكلّ الأحوال، فإنّ أمرَ إزاحَة كلّ عليم بسرّ الكناش، كانَ في ذهن مُدبّر الجرائم تلك. إنّ آغا يقيني، أيضاً، كانَ هدفا للقاتل. لأنه كانَ مَرؤوساً لدى الكنج الكردي، في فترَة تولي هذا حكم الشام، فكانَ على علم، مؤكّد، بأمر ثروة رئيسه، المَدفونة في مكان ما من القلعة ". هنا، تساءلَ ميخائيل مُجدّداً: " في هذه الحالة، فإنّ مَصرع العشّاب العجوز تمّ اتفاقا ـ كما كانَ مَصرع الوَصيف؟ ". فأكّدتُ الأمرَ، بقولي: " أجل، على الأرجح. لقد جرى ذلكَ في وَقت ما من الفجر. ولقد سمعتُ وقتئذ صرخة ً من تلك الأنحاء، غيرَ أني اعتقدتُ أنها مُجرد صَدىً لحلم ". ولم أقل لهما، بطبيعة الحال، أنّ المُشرفة كانت إذاك قد غادرَت حجرتي، بعدما قضت معي ليلة حافلة، حمراء.

" إنّ الصقليّ كانَ يَسعى لتدبير كميّة من السمّ، من خزين العشّاب "
أضفتُ مُكرراً مَعلومَة ً، كنا ثلاثتنا قد أجمَعنا فيما مَضى على صحّة احتمالها. ثمّ تابعتُ القصّة، التي لا جديد فيها " كانَ يعتقدُ هوَ بأنّ الكوخ خال في تلك الساعة؛ بما أنّ العشّابَ انتقل للخدمَة في الحديقة. ثمة، إذاً، تصادَفَ والعجوز وَجهاً لوَجه، فما كانَ منه إلا أن طعنه بالخنجر "
" إنّ جرائمَ أربع، مُتواشجَة مع سرّ الكناش، قد أضحَتْ الآن مَحلولة ألغازها بهذا الشكل أو ذاك. فماذا عن الجريمَتيْن، اللتيْن وقعتا هنا، في منزل الأفندي، وفي ذات اليوم ؛ الذي شهَدَ فيه اعتقال آغاوات الانكشاريّة؟ "، سألني ميخائيل. هنا، أجزتُ لنفسي الالتفات إلى ناحيَة المُضيف مُنتظراً مُساعدَته في حلّ هذا اللغز، الأخير. وكانَ الرّجلُ مَشغولَ الذهن عندئذ، فلم يتأخرَ في نجدتي: " لديّ ما أقوله بشأن مَصرَع خادمي، المَرحوم عصمان أفندي. أما بالنسبة لدسّ السمّ لزينيل آغا، فإنكما أدرى بالأمر مني على ما أعتقد "، قالها وقد عمّ الحزنُ قسماته المُتناسقة. ثمّ أردَفَ مُوضحاً ما يَعرفه " إنني مُتيقنٌ مما رأيته بعيني، حَسْب. إنّ الزعيمَ، سهّلَ الله ضيقتهُ، كانَ أوّل من هُرع من جماعتنا إلى مَدخل القبو. فحالما لاقاني وتحقق من سلامتي، فإنه عانقني بحرارَة. عند ذلك، لحظتُ أنّ البك، المصري، دَلفَ إلى داخل القبو مُباشرة ً ثمّ تبعه الآخرون. إنّ الخنجرَ ذاك، المُستعمل في قتل الخادم، كانَ من جُملة الأسلحَة التي تزيّن حجرَة مكتبي. فلا يُستبعَد، إذاً، أن يكونَ البكُ قد استلّ السلاحَ في غمرَة انشغالنا جميعاً بأمر أسرى الوجاق. والمَرجوحُ لديّ أنّ هدَفَ الرّجل من قتل مُربّي ابنتي، كما ومن اعتماده خنجراً من مُمتلكاتي كأداة للقتل، إنما لشدّ الشبهة باتجاه الشاملي: فالزعيم، من المُفترَض أن يكونَ الهدَف الأوّل للقاتل، بما أنه صاحبُ الكناش. ولكن لسبب أو لآخر، فقد اختارَ القاتلُ توقيتَ الإيقاع بالزعيم في فترة تنفيذ خطة الخلاص من قادَة الانكشاريّة. ولابما يكونُ ذلكَ السبب، المُقترَح، أنّ البك قد استعادَ أخيراً ما فقدَه من أوراق الكناش. أجل، إنّ حزمَة الأوراق، المَعلومة، قد فقدَتْ من بيتي في الفترَة التي حلّ فيها الصقليّ عندنا بمعيّة مَخدومه. ولقد أدركنا، أنا وصهري، اللعبَة الشريرة، المَحبوكة، فأشعنا أنّ مَصرع الخادم قد تمّ على أيدي أحد الانكشاريين. أما مَوضوع تسميم زينيل آغا، فكما قلتُ في مُستهلّ كلامي، أنّ حلّ لغزه مَرهونٌ بما جدّ من بحثكما عن ورقة الكناش، المَفقودة "، قالَ كلماته الأخيرَة وهوَ مُتوجّه إلينا؛ نحنُ ضيفيْ داره .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأولى والآخرة : مَزهر 10
- الأولى والآخرة : مَزهر 9
- الأولى والآخرة : مَزهر 8
- الأولى والآخرة : مَزهر 7
- الأولى والآخرة : مَزهر 6
- الأولى والآخرة : مَزهر 5
- الأولى والآخرة : مَزهر 4
- الأولى والآخرة : مَزهر 3
- الأولى والآخرة : مَزهر 2
- الأولى والآخرة : مَزهر
- الفصل السادس : مَجمر 11
- الفصل السادس : مَجمر 10
- الفصل السادس : مَجمر 9
- الفصل السادس : مَجمر 8
- الفصل السادس : مَجمر 7
- الفصل السادس : مَجمر 6
- الفصل السادس : مَجمر 5
- الفصل السادس : مَجمر 4
- الفصل السادس : مَجمر 3
- الفصل السادس : مَجمر 2


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَزهر 11