|
أهي نهاية الحداثة السياسية العربية؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3104 - 2010 / 8 / 24 - 00:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تبدو مؤسسات الحداثة السياسية التي عرفتها بلداننا في القرن العشرين مُعتلّة التكوين اليوم. الدولة والحزب السياسي والإيديولوجية التغييرية العامة والمثقف والمواطن. وهي ليست معتلة قياسا إلى نموذج حداثي مفترض، محقق في الغرب، بل حتى بالمقارنة مع صورها لدينا قبل ربع قرن فحسب. كانت الدولة استبدادية أو تسلطية، وكان يحرك أربابها البقاء في الحكم حتى الموت، بل كان ظاهرا في غير "جمهورية" أن الزعماء يعتزمون البقاء بعد الموت، أي عبر تأسيس سلالات حاكمة. لكن في السنوات الأخيرة فقط، أخذ يظهر المدى الواسع لتحول الدولة هذا، بخاصة التشكل الأهلي المجزأ للمجتمع المحكوم، وظهور طبقة جديدة فائقة الثراء وقوية الارتباط بالحكم وأرستقراطية أنماط الحياة والوعي الذاتي، واتساع دائرة الفقر وتكاثر حالات الفقر الأسود، وظهور أكبر للدين والرؤساء الدينيين في الفضاء العام. في الوقت نفسه تدهورت المدرسة العامة، وهي أهم مؤسسات الدولة الحديثة في بلداننا وأكثرها عمومية، وارتد التعليم إلى تلقين معلومات، وصار مقر العملية التعليمية مساكن المعلمين، ما يعني انفصاله التام عن فكرة الدولة والمواطنة وامتلاءه بمحتوي أهلي. واستقرت الأمية على نسبة تقارب ربع السكان، ولعلها ليست مرشحة اليوم إلا للزيادة. كانت سيادة القانون محدودة دوما في بلداننا، لكن السيادة اليوم للعرف. وعمليا لما يحدده الأقوياء من أهل السلطة والثروة والوجاهة. وليست الأحزاب السياسية أحسن حالا من الدولة. كانت أحزابنا ضعيفة على العموم، متخاصمة في الغالب، لكنها كانت نشيطة، تناضل وتتعرض للقمع، تفكر على المستوى الوطني العام، تحلل أوضاع البلاد وتضع رؤى وبرامج سياسية عامة. اليوم الحزب السياسي في حالة تقارب الغيبوبة. كل ما جرى من أنشطة سياسية مستقلة ومعارضة في بلدان مثل سورية ومصر وتونس في العقد الأخير نهض به مثقفون أو منظمات حقوقية أو ائتلافات سياسية فضفاضة، قلما كانت الأحزاب السياسية هي نواتها الصلبة. وحيثما استمر الحزب السياسي وقام بدور عام، في سورية مثلا، لم يسجل خصوصية تميزه عن الأنشطة الثقافية والحقوقية. ولم يستطع أي حزب أن يشكل ظاهرة استقطاب اجتماعي، ولو على نحو ما كان تحقق في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته. وبالمثل تراجعت الإيديولوجيات التغييرية العامة كالقومية والاشتراكية والديمقراطية، وفقدت قدرتها على شرح الواقع أو توجيه العمل فيه أو حشد الأنصار من أجل الهدف التغييري العام. وما هو أسوأ من التراجع انقلاب إيديولوجيات العمل تلك إيديولوجيات هوية، نظمٍ رمزية تضمن تعارفَ مجموعات متضائلة وتمايُزَها عن غيرها. كانت هذه الوظيفة الرمزية لإيديولوجياتنا نامية دوما، لكن كان يعدل منها نضال عملي يقوم به معتنقوها، وأنشطة نظرية أو تفسيرية يسهمون بها. اليوم يكاد يرتد دور تلك الإيديولوجيات إلى مواثيق تُميِّز مجموعات عن غيرها. وبهذا تشكل هذه المجموعات أحد وجوه التجزؤ الاجتماعي، وتتعايش معه. وبالفعل، لا نتبيّن أي جهد نقدي أو عملي من معتنقيها للانفصال عن البنى العضوية المتجددة. وإلى الدولة والحزب والإيديولوجية ينضم المثقف. دون أن ينخرط بالضرورة في حزب سياسي، كان هذا مناضلا أو شريكا في النضال التقدمي العام. إنه منخرط في العمل العام، ناقد للأوضاع القائمة، مدافع عن الحريات، معارض مبدئيا، ومناهض للقوى المسيطرة، دوليا وإقليميا. وهو حتما تقدمي ويساري، وربما ثوري. ودوما عامل على توحيد الوعي العام في بلده. أعني اقتراح رؤية أو تحليل شامل لأوضاع مجتمعه وبلده. المثقف اليوم يدير ظهره للسياسة وللعمل العام، صاحب اختصاص ضيق، يوجه نقدا جزئيا لجانب من أوضاع بلده، لا يدافع عن الحريات، وإن لم يكن مواليا للنظام فإنه لا ينتقده، وإن انتقد القوى المسيطرة عالميا فليس على أرضية ديمقراطية وتحررية عامة. "المثقفون العضويون" اليوم أكثر عددا مما سبق، لكن بمعنى ارتباطهم بالبنى الاجتماعية العضوية القائمة، وليس بشعب أو طبقات أو جماهير. ويتقاطع مع هذا المثقف العضوي الجديد نموذج المثقف السائح المتزايد الانتشار. هذا الذي لا يكف عن المشاركة في مؤتمرات وندوات وملتقيات من كل نوع وفي كل مكان، ويعد أوراقا عجلى يلقيها فيها (ينشرها لاحقا في كتب)، ويلتقى مثقفين سُوّاحا مثله في فنادق النجوم الخمسة والمطاعم الباذخة، ويجد نفسه على قرب من الرسميين في كل البلدان. ينتهي أن يكون مثقفا أملس، مستديرا وبلا ملامح. لكنه مُنعَمٌ وميسور. لا وجود بعد للمثقف النقدي المتدخل في الشأن العام، لا كمثال مهيمن، ولا كنموذج مشخص. وليس المواطن خارج قائمة الاعتلال العام. كان نكرة ورقيق الحال دوما. فلا هو كادر حكومي، ولا هو مناضل سياسي، ولا هو مثقف معروف. وقلما حظي بالحماية القانونية، أو أتيح له أن يسمع صوته أو يستقل برأيه. ولم يتح له تدرب من أي نوع على المواطنة. على أنه كان متحمسا لقضايا وطنه العامة، يريد أن يخدم بلده، وينظر بازدراء إلى العشيرة والطائفة. لكن حتى وجوده الإيديولوجي هذا اكتمل تلاشيه في العقدين الأخيرين. انسحاقه الاقتصادي والمعنوي يكمل مفاعيل حرمانه السياسي والحقوقي العريق. فإن لم يكن تساقط من كل إطار منظم، وترك لهوامش السكن العشوائي وثنايا القطاع الاقتصادي غير المنظم، فإنه يلوذ بحمى الجماعة الأهلية. هذه مظاهر انحلال عام تعود في تقديرنا إلى أزمة الدولة الحديثة في بلداننا، وقد تفجرت بعنف في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته دون أن تنفتح على تحويل ديمقراطي كان مطلبه مهيمنا حينها. لم يجر لأسباب متنوعة من أهمها التدويل العميق للمنطقة، المرتبط بالعاملين الإسرائيلي والبترولي، لكن منها الافتقار إلى قوى ديمقراطية وازنة. الأزمة التي لم تُحَل تتحلل. تتحول البنية الاجتماعية الكلية باتجاه عضوي وعرفي ومجزأ، لا تنبت عليه الدولة والأحزاب والمثقفون والمواطنون. يزولون أو ينقلبون إلى خواص. وبحكم انخراطها الدولي ووظائفها الأمنية الداخلية تبقى الدولة، لكن تعرض وجها خاصا ومشخصا وعضويا أكثر وأكثر. تغدو "دولة" خلدونية، لا تصنع التاريخ بل تستهلك عمرها. ندخل ما بعد حداثة تعاصر العالم بنسبتنا ومقدارنا، وتشبه ما قبل حداثتنا. رغم هذا كله لا نرى مبررا للتشاؤم والقنوط. ليس فقط لأن ما نراه يتحلل ليس جديرا بالحياة في الواقع، ولكن أيضا لأن التشاؤم بات قالبا نفسيا صلبا، تنتجه وتعيد إنتاجه صناعة تشاؤم مندمجة في الأوضاع الراهنة، ومحتاجة لها كي تدوم. ولعلها ستقاوم بشراسة أي تغير لها. الشيء الوحيد الذي ينبغي لوم أنفسنا عليه هو قصورنا في الإحاطة بهذه العمليات وتقصي أوصلها ومساراتها ومآلاتها المحتملة.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الخروج من بنية مغلقة لا مخرج منها
-
التدين الإسلامي والحاجة إلى أخلاقية عامة
-
في شأن النقاب وحركة التنقّب الاجتماعي
-
-المسألة النِّقابية- وعبء المرأة المسلمة
-
في تاريخية الإسلام المعاصر وحداثته - إلى روح نصر حامد أبو زي
...
-
هوامش مناورة.. الولاء كنظام وكعلاقة سياسي
-
في الواقع لا في النص: أيّ يسار، أين، وأية سياسات يسارية؟
-
أربع صيغ للنزعة المحافظة... ثلاث منها عالمة
-
من نقد الثقافوية إلى نقد الثقافة.. والدين
-
هل أوضاعنا جامدة بالفعل، لا تغيير فيها؟
-
في معنى أزمة الثقافة ووجوهها وحصائلها
-
محمد عابد الجابري ونهاية الموجة التراثية
-
هل من الممتنع تصور إيران نووية متفاهمة مع الغرب؟
-
في تقدم التجزؤ وشغور موقع العام في مجتمعاتنا المعاصرة
-
صراع على الألم بين أبناء الجواري، تعقيب على منهل السراج
-
ثلاث استقلالات.. مستقلة عن بعضها
-
من أجل نقد جمهوري وديمقراطي للقومية
-
ما الذي يكفل صحة كلامنا؟
-
العراق بعد سبع سنوات... مضطرب، متقلقل، لكنه حي ومتجدد!
-
لا شعب ولا شعبوية.. خطط نخبوية فقط
المزيد.....
-
إليسا تشيد بحملة هيفاء وهبي ونور عريضة في مواجهة التحرش الإل
...
-
ماذا قال أحمد الشرع في أول خطاب له كرئيس لسوريا؟
-
حماس تؤكد مقتل القائد العسكري محمد الضيف، فماذا نعرف عنه؟
-
عاصفة قوية تضرب البرتغال وسيول من رغوة بيضاء حملتها الفيضانا
...
-
ما دور الهلال الأحمر المصري في دعم غزة؟
-
أمير دولة قطر في دمشق للقاء الشرع وبحث التعاون بين البلدين
-
تدريبات قوات الحرس الوطني الخاصة
-
مصر.. وزارة الطيران المدني توضح سبب تصاعد الدخان في صالة الس
...
-
العراق يؤكد دعم مصر ويرفض مخطط تهجير الفلسطينيين
-
ترمب: نتواصل مع موسكو حول كارثة الطائرة
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|