|
رجل سلطة يفلسف تاريخ القمح
إبراهيم منصوري
الحوار المتمدن-العدد: 3101 - 2010 / 8 / 21 - 10:04
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
كان رجل سلطة يمارس مهامه بإحدى القرى الكبيرة في بلد عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي. التقيته ذات يوم فدعاني إلى تناول طعام العشاء بمعية خليفته ومطرب شعبي. كنا في تلك الليلة نتعشى جميعا ونتبادل أطراف الحديث حول مواضيع شتى. من بين الأغذية الموضوعة على منضدة الأكل كانت شرائح خبز مصنوع من قمح صلب ذي جودة عالية. قبل أن ألتهم إحدى الشرائح، أثار انتباهي الشكل المذهب لذلك الخبز الطري ونسمته المدوية في أرجاء الصالون المنقوش بعناية فائقة والذي يذكرك بحكايات ألف ليلة وليلة. قلت للحاضرين: "هذا هو الخبز وإلا فلا ! كفى الله شرا من الخبز الذي نبتاعه عند البقال والذي يشبه مستحضرات من المطاط!". قال رجل السلطة معقبا: "هذا الخبز من قمح طبيعي مئة بالمئة يا سيدي! لم يحتج في إنتاجه لا لأسمدة كيماوية ولا لتقنيات بيوتكنولوجية؛ لذلك تراه مذهبا أصيلا ومثيرا للشهية".
شكرت حضرة رجل السلطة وواصلت استهلاك شرائح الخبز الذهبي الممزوج بالخضر واللحوم الحمراء. فجأة، قبل أن أبتلع لقمتي، بادرني الرجل بالسؤال: "ولكن يا سيدي، ما هو لغز هذا القمح؟ من أين أتى؟ ما هو أصله وفصله؟ من أين حصل عليه الإنسان وكيف سخر لخدمة عيشه وأمنه الغذائي؟". كان يلقي أسئلته الشائكة بطريقة تعطي الانطباع أنه يعرف الأجوبة حق المعرفة وأنه يريد التعجيز. تناسلت تلك الأسئلة في عقلي فعالجت الرجل بالسؤال: "ومن أين أتى هذا القمح يا سيدي؟ سؤال مهم جدا يجب علينا أن نجيب عنه حالا". واضب الحاضرون كلهم في صمت القبور حتى اخذ رجل السلطة المبادرة قائلا: "عندما خلق آدم وحواء وأنزلا إلى الأرض وكبر أبناؤهما وأحفادهما، تفضل الله سبحانه وتعالى بإلقاء حفنة من القمح من أعلى عليين؛ بلغت الحفنة أديم الأرض فتلقفها الآدميون وتذوقوا منها بعض الحبات فأعجبتهم نسمتها وقدرتها على الإشباع؛ تخلوا عن الحبات المتبقية فهطلت الأمطار فأنبتت قمحا طريا! من ذلك الوقت، أصبح آدم وذريته يزرعون القمح ويتغذون به حتى اليوم!". قلت في قرارة نفسي: "طبيعي أن يتمسك هذا الرجل بالرأي القائل إن القمح يأتي حفنات من أعلى عليين ما دامت كل الغلات تأتيه مجانا من رعاياه الفلاحين القرويين المستضعفين. إنه لا يعرف كيف يتعب المزارعون لحرث الأرض وزرع القمح وحصده وجمع الحصيد ودرسه وذره... ". كان الحاضرون يرددون: "سبحان الله، سبحان الله، الحمد والشكر لله على نعمه التي لا تزول!".
التهمت آخر لقمة وسكتت لفترة حتى استدار رجل السلطة نحوي متسائلا: "أليست هذه هي قصة القمح يا أستاذ؟ ما رأيك في ما تفضلت بقوله عن هذه النعمة الإلهية؟". عقبت على الرجل قائلا: "يا سيدي، جوابي عن هذا السؤال هو من فصيلة الأجوبة العلمية والعلمانية ويستقي أصوله من تاريخ الوقائع الاقتصادية والاجتماعية، فهل تتفضلون بالإنصات لما سأقوله؟". حتى قبل أن أشرع في التعبير عن آرائي، شعر رجل السلطة بنوع من الهزيمة وكأنه لا يحب من يجاريه في تفلسفاته الشخصية. طلب منه المطرب الشعبي ويبدو أنه لا يخاف سلطته، أن يعطيني الكلمة لأعبر عن أفكاري في الموضوع على أن يناقشني من بعد. شعر الرجل بالاختناق فتجهم وأزبد: "ألا تعرفون أن الأخذ بالعلمانية كفر بالله والعياذ بالله وأن الشروح العلمية تدخل سافر في خلق الله ومشيئته؟". قلت ببرودة دم: "لا يا سيدي، العلمانية ليست بالضرورة مرادفا للكفر بل هي محاولة لفصل الدين عن السلطة والسياسة والعلم؛ الدين مطلق والعلم نسبي يا سيدي، وللعلم مناهجه وطرقه".
دعاني بمرارة إلى الكلام فقلت: "أوائل البشر يا سيدي لم يكونوا يعرفون القمح بل لم يكونوا يعرفون الفلاحة أصلا؛ لقد كانوا بدائيين يقتاتون مما تجود عنهم الطبيعة المتوحشة". ربع رجل السلطة يديه ثم رجليه مبديا اهتمامه فأضفت: "لم يعرف بنو آدم فن الزراعة إلا في حدود الألفية العاشرة قبل ميلاد المسيح فكيف يتصور أن يكون أولو البشر من أكلة خبز القمح الذي لم تعرفه البشرية إلا في الألفية الثامنة قبل الميلاد أي بعد حوالي ألفي سنة بعد اكتشاف الفلاحة؟". واصلت الكلام والساعة تقترب من الثانية صباحا: "في بادئ الأمر يا سيدي وكان ذلك في القرن الثمانين قبل الميلاد، لاحظ بنو البشر أن عشبا متوحشا كان ينبت بمنطقة الهلال الخصيب بالعراق الحالي. كان ذلك العشب المتوحش ينتج حبوبا من نوع خاص. تذوق الناس تلك الحبوب فأعجبهم طعمها وقدرتها على إشباع حاجاتهم الغذائية؛ لكن طعمها لا يشبه في شيء طعم الخبز الذي التهمناه هذه الليلة في هذا المنزل الموقر. دجن العراقيون القدامى ذلك العشب الوحشي وبدؤوا يزرعون حباته العجيبة ومن تم بزغ عصر القمح الذي نعرفه اليوم. تطورت زراعته وتوالت فوائضه فصدرت منه كميات إلى بلدان أخرى وانتشرت زراعته في أرجاء مختلفة من العالم".
استلقى رجل السلطة على متن كرسيه الفخم الفاره المزركش ثم أردف قائلا: "إذن فبنو آدم الأولون لم يتلقوا حبات القمح مباشرة من أعلى عليين ولا هم يحزنون!". "نعم يا سيدي بل إن بني البشر اللاحقين لم يكتشفوا عشب القمح المتوحش إلا بعد مرور آلاف السنين ولم يكن ينبت إلا في الهلال الخصيب ببلاد العراق. دجن العراقيون القدامى القمح وطوروا إنتاجه بجهد جهيد فتبعتهم شعوب وأمم آخرى بعدهم. إن هذا القمح الذي نصنع منه خبزا ذا جودة عالية وحلويات رفيعة ومعجنات لذيذة ونشبع بها حاجاتنا الغذائية هو ثمرة لكدح الفلاحين وتفانيهم في العمل على مدى العصور والأزمان. علينا أن نشكر ونشجع هؤلاء الكادحين الذين يدودون عن أمننا الغذائي بما أوتوا من قوة عوض أن نستغلهم أشد استغلال". شعر رجل السلطة كأن الكلام متعمد ويعنيه عن قرب لأنه يعرف أن لا حبة قمح ولا حفنة دقيق ولا شريحة خبز كدح من أجلها ولا حتى دفع مليما واحدا ليوفر الخبز الكافي في قصره الموقر. رعاياه القرويون الأوفياء هم الذين يمدونه بقناطير القمح كما يقومون بطحنه وخبزه مجانا لقاء سلطته التي تطال كل شيء وتسطو على الأخضر واليابس. هذا الرجل لا يعرف حتى أسعار القمح وجميع نعم الله في الأسواق لأنه بكل بساطة ليس مجبرا على شرائها كباقي عباد الله: الكل يتكلف به رعاياه الأوفياء، الكل منهم وإليه! فهمت من هذا الرابط العجيب لماذا يصر رجل السلطة على ربط تاريخ القمح بالحبات التي تنزل من أعلى عليين منسابة بشكل بديع ليتلقفها آدم وذريته ويستهلكوها بلا جهد ولا سعي ولا كدح. هكذا يفعل رجل السلطة ولكن مع العلم أن الآية انقلبت على عقبيها: أصبح القمح كما دقيقه وخبزه يأتي من أسفل سافلين، من الدرك الأسفل للمجتمع، من الفلاحين الكادحين المغلوبين على أمرهم.
سكت رجل السلطة فجأة وأحس بالغبن وبدأ يسبح في بحر من ظلمات تاريخ القمح وإمام المسجد القريب يؤذن لصلاة الفجر وكان اليوم عطلة. فجأة، دخل قط ضخم إلى الصالون الفخم يبحث عن بقايا اللحم فأردفت قائلا: "حتى هذا القط الضخم يا سيدي كان في غابر الأزمان حيوانا متوحشا حتى دجنه الإنسان القديم في نفس الفترة التي اكتشف فيها القمح!". استفاق الرجل مذعورا من غفوته كأن به مسا من الجنون ونهض من على كرسيه المتعالي: "هاه! هاه!...أين القط الضخم وما علاقته بتدجين العشب القمحي الوحشي؟ لقد أخفتني يا سيدي وكنت في غفوة كلها هواجس وكوابيس!". ناديت القط باللغة التي يفهمها: "بس، بس، بس!" حتى اقترب مني ثم أضفت : "هذا القط يا سيدي دجنه الإنسان القديم منذ أن استطاع إنتاج كميات قمح تفوق حاجاته الاستهلاكية مما حتم عليه تخزين الكميات المتبقية. لاحظ الإنسان القديم أن الفئران والجرذان تعيث في فائضه القمحي فسادا واكتشف أن القطط تهوى من فرائسها تلك الكائنات المفسدة فاستقبلها إلى مخازن القمح فألفت الأجواء مادامت الفئران والجدران متوفرة بكثرة وأصبحت أليفة ونسيت وحشيتها الأزلية! كانت القاعدة يا سيدي أن من يفسد نعم الآخرين يدجن له من يقضي عليه! هذا هو القانون الطبيعي يا سيدي! أما في العصر الحديث يا حضرة رجل السلطة، فمن يفسد نعم الآخرين ندجن ضده القانون الطبيعي حتى يعم العدل وتتكافأ الفرص! هذا ما نسميه في قاموسنا الحديث دولة الحق والقانون التي لا يمكن تركيز دعائمها إلا بالعلمانية! أفهمت يا سيدي؟". أخذته غفوة جديدة ثم استفاق فجأة فلقي القط الضخم يلتهم ما تبقى من لحم ملصق بعضم فاستولت عليه رعدة حتى ليخيل للناظر أنه لاقى هزبرا في البراري. ضحك المطرب الشعبي حتى بانت أضراسه واستلقى على ظهره مرددا: "أتخاف يا سيدنا رجل السلطة من القط وأنت الآمر الناهي في قريتنا الكبيرة؟ أم أن القط يذكرك بوحشيته في افتراس الفئران والجرذان المفسدة لقمح الآخرين؟ ها...ها...ها!". سيطرت على خليفة رجل السلطة نوبة من الضحك فغطى وجهه بمنديل حتى لا يثير غضب رئيسه. عاد الرجل السلطوي إلى غفوته فأطللت من النافذة وإذا بأشعة الشمس تمتد عبر الحقول. ناديت الرجل فاستفاق وشكرته على دعوته الكريمة وودعته. خرجت من ذلك القصر الفسيح وأنا أحس أن كل شيء فيه حرام في حرام، فمتى يدجن القانون ليحاكم المتسلطين على رقاب الناس كما دجن القط ليقضي على الفئران والجرذان مفسدي حبات القمح؟
د. إبراهيم منصوري، أستاذ الاقتصاد، جامعة القاضي عياض، مراكش/المغرب
#إبراهيم_منصوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحمق يهزم عاقلا
-
عندما يحتضر الفرس وتلام المرأة
-
...وسار على الدرب عاما حافي القدمين
-
أربع وعشرون ساعة في أمستردام
-
قصة قصيرة ولكنها من الواقع: (الفحام الوقح الجريء: زوجته وأتا
...
-
بوكماخ في بلاد السنغال
-
ذكرى الوالدة
-
في مدح النمو: أشعار في مفهوم غير مفهوم
-
قصيدة شوق جديدة: من اللسان الأمازيغي إلى لغة الضاد
-
في مدح صاحب الجلالة أصل النمو: حفنة أشعار في مفهوم الادخار
-
شركات الأمن الخاص بالمغرب: احترافية متدنية واستغلال بشع للعم
...
المزيد.....
-
سفير الإمارات لدى أمريكا يُعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي:
...
-
أول تعليق من البيت الأبيض على مقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
حركة اجتماعية ألمانية تطالب كييف بتعويضات عن تفجير -السيل ال
...
-
-أكسيوس-: إسرائيل ولبنان على أعتاب اتفاق لوقف إطلاق النار
-
متى يصبح السعي إلى -الكمالية- خطرا على صحتنا؟!
-
الدولة الأمريكية العميقة في خطر!
-
الصعود النووي للصين
-
الإمارات تعلن القبض على متورطين بمقتل الحاخام الإسرائيلي تسف
...
-
-وال ستريت جورنال-: ترامب يبحث تعيين رجل أعمال في منصب نائب
...
-
تاس: خسائر قوات كييف في خاركوف بلغت 64.7 ألف فرد منذ مايو
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|