جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3100 - 2010 / 8 / 20 - 01:49
المحور:
الطب , والعلوم
كنا نصنع الصخب والإزعاج لأهالينا , وما زلنا كذلك , واليوم ليس بمقدورنا أن نفعل لهم شيئا , لأسباب تتعلق بالصحة وبالعافية أقصد صحتهم هم وعافيتهم , ولكنني أجزم بأنني استطيعُ أن أُوفر الهدوء قليلاً لهم كتعبير عن شكري لأمي طوال السنين التي فاتت, ولا أظن أن امرأة بعمر ال 65 عاماً تريد اليوم لوزا وعنبا وتفاحا وحلويات وشحوم ولحوم بقدر ما تريد أن ترى أبناءها آمنين في بيوتهم ومساكنهم ذلك أن المرأة التي تشبه أمي قد أكل الدهرُ عليها وشرب ونسيتُ أمي بسبب الآلام والأحزان والأوجاع والأمراض ما تشتهيه من أطعمة , واليوم لا تستطيعُ حاسة الذوق والشم عندها أن تحدد لها ما تأكله وما تشربه لأن الطبيب هو الذي يفعل لها ذلك , ولم يحرم عليها الله شيئاً بل الطبيب هو الذي يُحرّمُ عليها الدهنيات والسعرات الحرارية المرتفعة والموالح والنشويات لدرجة أنها أحيانا تبكي وتقول : شو أوكل هوى؟ زفت؟.
وفي الوقت الذي كانت فيه معدة أمي تهضم ما لذ وطاب لها من مأكولات شهية كانت في تلك الفترة لا تملك القوة الشرائية لِما تريده ,كان لا يستطيع أي طبيب أو أي إله أن يُحرم عليها أي شيء ومع ذلك كانت ظروفها الاقتصادية تُحرم عليها أكل الملذات والطيبات , وكنتُ أشعرُ بذلك وأحسُ به وكنت أقول وبكل حدة (بكره بالمستقبل راح أعمل كل شيء وأجيبلها كل شيء)ولم أكن أعلم بأن أحد الأطباء الباطنيين سيتدخل بالموضوع بيني وبين أُمي مستقبلاً ويظهر أنني بقيت عاجزا حتى عجزت معدة أمي عن قضم الحجارة التي كانت معدتها تستطيع هضمها بكل يسرٍ وسهلْ وهي اليوم لا تستطيع تمثيل السُكر ولا الدهون في جسمها وكل شيء يؤلم معدتها لذلك حين أمتلك النقود أشعر أيضاً بعجزي أمام تحقيق رغبات أمي .
وكانت أمي عليها السلام تجمعنا في ليالي الشتاء وتتحدث لنا عن مستقبلنا جميعاً , وكان المستقبل في نظر أمي عبارة عن حياة زوجية فقط لاغير لذلك تعلمنا بأن المستقبل هو الزواج , لذلك عندنا في مجتمعاتنا الزواج هو المستقبل وغير المتزوج ليس له مستقبل على الإطلاق .
وكانت أمي عليها السلام زمان وأنا طفل تجلسنا إلى جانبها وكنا لا نُفرط في جنبها سنة ًأو فرضاً وإخوتي من حولها جميعاً وكانت تتحدث لنا جميعاً عن المستقبل فكنت أنا دائماً أقول لأمي (بكره لمّا أتزوج) وكانت أمي أحيانا نبتسم في وجهي كلما سمعت بهذه الكلمة وأي شيء نتحدث عنه كنتُ أقول لأمي (بكره بس أكبر وأتزوج) وغالبية الأحاديث عن الفلاحين كانت وما زالت عن الطعام (الأكل والشرب)والزواج فكنت أقول (بكره لما أتزوج بجيب لأمي لحمه ) فكانت أمي تبتسم بسخرية وتقول : بكره بتصير اتجيب لزوجتك وبتصير أتسب عليّ وتشتم بي , وبتصير كمان مرتك تشكي عني وبتصير أتقول (عمتي أكلت اللحمات نيّات الله يلعن شيبتها) فكنت وبصراحة أحتدُ جدا وأقف إذا كنتُ جالساً أو أجلسُ على الأرض إن كنتُ واقفا وأقول وكلي حمية (شو؟والله غير أطخ مرتي بالفرد على شانك) فتقول أمي : اللي كانت أمهاتهم عليهم أغلى من غلاتي عليك كحشوا أمهاتهم من الدور أو استأجرولهن بيوت وسكنن لحالهن مثلهن مثل أي حيوان في أي زريبه , وأيضاً كنت أقف وأقول وكأني في معركة هاتفا(شو والله لألعن أبوها مرتي والله ...والله لألعن أبو أبوها ) فتنظر لي أمي وتقول : أقعد واسكت لا يطقلك عِرق اللي بسمعك بصدقك ألله أعلم مين يعيش ومين يموت بس تتزوج أي هو ألله كاتبلي أشوف أولادك؟. ومن ثم تمسك أمي منديلها بيدها وتضعه على عيونها ووجهها لتمسح دمعتها ومن ثم تنظر لي وترفع يديها إلى السماء قائلة: يا ألله تحييني بس عشان أشوف أولاده ومرته ومثل ما أنا بقدم لعمتي أُم زوجي يا ريت يا ألله تبعثلي كنه تعاملني بالمثل.
وأذكرُ مرة أنها قصّت على مسمعي حكاية عن رجلٍ عاق قال لأمه بعد مجادلة طويلة معها : أنت أرضعتيني من صدرك تنكة(سطل_كيس) حليب هسع بدي أجيبلك بدل التنكه عشر تنكات حليب وتحلي عني, فأستغربُ وأقول (ما أنذله وما أوقحه معقول؟).
وكنتُ ألاحظ بأن أمي عليها السلام تحب أكل اللحوم والفواكه الطازجة وخصوصا العنب والتين , وكان أبي ليس من الرجال الميسورين الحال وكنتُ أعرف ذلك وكنتُ أقول ُلأمي : بكره بس أتزوج بصير أجيبلك كل يوم لحمة عجل أو خاروف وكمان عنب وتين ورمان وأي إشي بتحبيه , وكانت أمي تنظر بوجهي وتقول : يا ريت يا حبيبي تجيب لحالك ألله أعلم هو أنا ألحق هذيك الأيام أو أموت قبل ما أشوفها ..ألله أعلم ..الله يمد في عمري عشان أشوف أولادك ومرتك .
وتقدمت بنا الأعمار وكنت أكبر في كل عام 10 سنتمتر وكانت أمي تقيس طولي بطول الشباك المستطيل في غرفتنا الوحيدة المبنية من الطين والقُصيب , وكانت تقول لي اقف عند الشباك على شان أشوف طولك , فكنت أقف وكانت ترفع بيدها فوق رأساً وتعد 1,2,3...إلخ بعد عليك كمان 4 أشبار حتى إتصير في طول أبوك , أبوك أكتافه ابتصل لهون , ومن ثم تشير بيديها إلى موقع أكتافه على النافذة, وكنتُ أنا أقول : بس يصيرن أكتافي عند آخر الشباك بتجوز وبصير عندي زوجه وبصير أجيبلك أي إشي بدك إياه ..لحمه..عصير.صير ..ببسي..تين..رمان..وكانت الدمعة تسيل من عيون أمي وهي تقول (سقالله على هذيك الأيام..علواه يا ميمتي تكبر وشوفك فاتح بيت وعندك مره وأولاد).
وتقدمت بي الأيام والسنون وأنا أعرف بأن الزواج هو المستقبل وبأن الرجل يجب أن يحضر لأمه كنه تتأمّر عليها وتطلب منها ما تريده وتتمناه وكأن الزوجة خادمة (سرلنكية) أو موظفة استقبال أو سكرتيرة.
وشاءت الظروف أن أتزوجت وأنا في سن ال 31 سنة من عمري حيث كانت أمي مصابة بمرض السُكري الذي لا تستطيع معه أن تأكل (الهريسة والكنافة والحلويات) فحتى كبرت وأصبحت رجلاً كانت أمي قد شاخت وأصبحت عجوز ومصابة بأمراض ضغط الدم والسُكري والقرحة , وكلما عملت عند أحد وقبضتُ نقودا أذهب إلى السوق لأشتري لأمي ما تتمناه وأرفع سماعة الهاتف وأسألها :
-ألو..
-هلا بالغالي .
-في بالسوق انجاص أجيبه؟.
-لا بوجع معدتي .
-طيب في لحمة بلدي أصليه ..ش؟.
-ما بديش جيب لحالك وبس أليوم حسيت حالي دايخه ورحت فحصت وكانت الدهون عندي عاليه وصدري بوجعني .
-طيب شو أجيب تين؟
-لا ما بديش جيبه إذا بدك أتجيبه لمرتك أنا السُكر مرتفع عندي إكثير , أمبارح أكلت حبتين حسيت ثُمي(فمي) جاف وناشف من السُكر المرتفع.
-طيب شو أجيبلك؟
-ولا إشي جيب لحالك ولمرتك ولأولادك.
وحين أعود إلى المنزل أسألها ليش ما بدكيش أي شيء ؟ فتقول: اللي طبع طبّع واللي ربّع ربع , أنا خلص راحت على اللي مثلي والدور عليكوا انتوا , لو ألله قاسملي آكل واشرب واتبحبح كان أكلت واشربت واتبحبحت من زمان , بس هسع خلص كل شيء لا يناسب جسمي ولا صحتي لا بقدر آكل أكل حلو ولا بقدر آكل أكل مالح , والدهون ما بقدر عليها ,خليها على ألله.
كانت أمي عليها السلام وما زالت تضعنا على رأس السلسة الهرمية الغذائية والإنسان فعلا على رأس السلسلة الهرمية الغذائية وهذا ليس تعبيرا مجازيا فهو أول من يأكل من المخلوقات وهو آخر من يجوع وهو يحدد ما يريده من طعام وهو المسيطر الوحيد على غذاءه وطبيعة معدته جعلته قادرا ومتكيفاً على أكل الخضار واللحوم والفواكه , وغيره من المخلوقات لا يتمتع بهذه الميزة إلا ما ندر , لذلك يستفيد الإنسان من الطبيعة ومكوناتها بالدرجة الأولى, ولكننا نحن الأبناء لا نستطيع أن نضع أمهاتنا على سلسلة الهرم الغذائي وذلك كما تقول أمي (اللي ربّع ربّع واللي طبّع طبّع) ونحن غير قادرين على فعل أي شيء لهم , وأعتقد اليوم أنني لا أستطيع أن أفعل لأمي شيئا غير الهدوء, فلنهدأ قليلا.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟