|
الأفعى
ماجد عاطف
الحوار المتمدن-العدد: 939 - 2004 / 8 / 28 - 09:58
المحور:
الادب والفن
(1) في جدار ساحة البيت، الجزء الترابي وبجوار شجيرة غريبة معطّرة، ثقب بحجم القبضة المضمومة كثيراً ما استقطب فراخ الأفاعي في فرارها منّي، عندما كنت ألاحقها صغيراً. بل والأفاعي البالغة أيضاً، ذوات الأطوال والأنواع المختلفتين، من ثلث المتر حتى المتر وقليل، إلا أن تكون "حنيشاً" مرعباً بقدراته الاعتصارية، أسود، يمرّ ككابوس ببطء السرعة، فكنت أخشى أن يلاحقني في واقعه، وسيكون عندها أكثر طولاً. ولأنّها كائنات لا تمكث في مكان واحد، متنقّلة مكانياً من ربيع إلى آخر، كانت تتبدل باستمرار، وكنت أرى دائماً فرخاً أو أفعى، يلج أو يخرج من الثقب الذي صار يخطر لي الآن أنه يحتوي في الأعماق شيئاً جذابا، أمناً أو دفئاً أو غذاءً حيّاً، طالما يجذب بهذه الصورة. ربما خطرت لي فكرة إغلاقه والاستراحة من شاغله، ولم أفعل. في الطفولة، كان موضوعاً ملهّياً خطراً، وفي شيخوختي الحالية مبعثاً للتسرية، منذ عام ونصف. وكأية حياة أخرى، دارت حياتي دوراتها المختلفة صراعات، ارتطامات، ثم إلى الهدوء مآلنا كلّنا. فأجلس في الساحة قد مضى ما مضى، أتأمل، قد هدأت روحي. ورأيتها. لا أعرف عن أنواع الأفاعي الكثير وإن كنت أميّز أشكالها وأستطيع وصفها، لكنها كانت مختلفة عمّا عرفت. تقارب المتر طولاً، بقامة تستدق أولاً عند الرأس بلطف وتزداد عرضاً لكن بانسياب ثم تستدق ثانية كنصل السيّف وهو يمضي لنهايته. الألوان جذّابة جداً، خطرة جداً، بالأحرى منذّرة محذّرة: بُني لامع يتدرّج حتى الأصفر ثم يتقلّب بين لون ثالث لا أعرف كيف أصفه: أحمرة توحي بالسواّد أم سواداً قانياً؟؟
وباستثناء الألوان السابقة التي تتكرر مثل إيقاع منتظم، متناسب، زيادةً ونقصاً، كانت ألواناً صافية جميلة، وأليفة، على الأقل لشيخ هدأت روحه. وخلال العام والنصف، باستثناء الخريف والشتاء، كنت أراها تزحف جانبياً والجةً بتخفٍ وخارجةً بتسارعٍ، إلا أن تقف للحظات تطرق رأسها للحركة والنسمة تستكشف، فتمضى فيما يشبه الدرب الخفيف في الحشائش والأعشاب الخضراء والجافّة على حد سواء، بمعدّل مرّتين أو ثلاث مرّات في الأسبوع الواحد. على الأغلب كانت تذهب لتصطاد، لأنني كورت فجوة في الأرض زرعتها بنصف زجاجة بلاستيكية سفلية فجنّبتها هي - والعصافير - عناء البحث عن الماء. وكنت أحياناً ألقي ما سيفسد من بيض بعد أن أثقبه، أو فاضل طعامي، فكانت تزدرد ما تزدرده إن رأيت تلك "الدروب" الناعمة من التراب، متموجّة في العمق والسطح كنهيّر، حين تمرّ متمايلة بثقلها، فأعرف أنّها تناولته؛ أو متكوّرة في ذرات من هضبة إن تلوّت على نفسها متوقّفة تشمُّ، فأعرف أنّها تركته لتتخطفه قطط سائبة، كرهتها بشدّة. ربما وحدتها، مثلي، ما شدّني إليها رغم خطورتها أو ما يصلني منه عبر اللون. أمر غريب أن يستأنس أحدنا بالخطر (لكنه مألوف إن عاش المرء وحده). حتّى إذا مضيت يوماً على عادتي لأضع شيئاً لها، غافلاً عما أمامي، فإذا بي أدوسها عند الذيل جاهلاً وجودها سائباً في فكرة ما، فتلتفّ على قدمي حول الكاحل وتلدغني في ظاهر القدم لأنني كنت أرتدي حذاء المنزل. وأظنّها همّت بي لتلدغني ثانية لولا أنني ألقيت عليها الإناء ورفعت قدمي، فتحررت وفرّت تلج الثقب بسرعة. وخفت وشعرت بكل ما فيّ يضطرب. شرطت مكان الناب واعتصرته قدر ما استطعت وخرجت إلى الشارع أعترض سيّارة نقلتني إلى المشفى. وهناك، بعد المصل السريع والدواء والفحص، كانت المفاجأة: لا سمّ في عروقي، مع أنّها لدغتني، والمكان جليّ.
(2) - والأعراض التي شعرت بها؟؟ - ربما ضربة شمس أو مخاوف. سكتّ أمام صنف من المهن لا يريد صاحبه، حتى عندما يريد، أن يدعك تفهم أو يشرح لك شيئاً، بل أن تسلّم أمرك له ولو كان جزّاراً. - هل كنت تعرف عن الأعراض مسبقاً؟ كنت فعلاً، لأنني وإن كنت شيخاً استأنس بالخطر، فذلك لا يجعل منّي غبياً، فقد طالعت كرّاسات، وعرفت ما يتوجّب عليّ عند اللدغ. - نعم. - ربما أوحيت بها لنفسك.. - هراء أطباء! بعد قليل يوصي بي إلى بيت للعجزة. فكّرت في احتمال آخر: أن تكون الأفعى من النوعية الخطرة لونياً، شكلاً وتقليداً، تُشعِر أعداءها بالخطر عبر اللون فقط. لما أخبرته استَخبَرَ عن وصفها، فوصفتها له، فتمتم بكلمتين انجليزيّتين طويلتين قدرت أنهما فصيلتها أو اسمها. - يستحيل. هذا النوع لا مقلّد له. ولم أقتنع. أنفقت الأسبوعين التاليين أتفحّص مجلدات من الصور، وأشفقت على البشر من هذا التنوع الضخم فقط في الأفاعي، فكيف الحال بالنسبة للكائنات الخطرة الأخرى. خيراً فعلت عندما لذّت بنفسي، لأن البشر فصيلة أكثر تنوعّاً من كل المخلوقات بفصائلها المتنوّعة. كان كلامه، حسب الصورة، صحيحاً: لا مقلّد لنوعها. مع ذلك لم أقتنع، لأنني لم أقتنع بشيء بهذه البساطة من قبل، سأستبعد كل الاحتمالات غير المنطقية: نوعية سامة لا مقلّد لها، مع ذلك لم تسممني. أمر حميد بالطبع، لكن الفضول أعظم. خطرت لي أشياء كثيرة، لكن البرد كان قد حلّ واختفت في الثقب تغفو غفوة طويلة أو ماتت. دعوت ربّي ألا يقتلها حتى أختبر أفكاري.. وكان عليّ أن أنتظر طويلاً.
(3) وفعلتها: قيّدت فرّوجاً صغيراً، اشتريت دزينة منه رعيتها لهذا الغرض، وغلّفته بشبك يتيح اللدغ ولا يتيح البلع، وكمنت داخل البيت خلف زجاج الشباك لا رائحة تتسرّب منّي ولا حركة تُخيفها، أرقبُ. انتظرت ساعات حتى رأيتها تخرِج بحذر رأسها، قد جذبها الصوت، فيتخابط الفروج المسكين قد أحسّ بها، بدوره. وزحفت -أخيرا-ً بعد محاولات استكشافية كأنّها تفترض الرقيب افتراضاً (ولو لم يكن!). ووصلته لكنها لم تلدغه بل مضى لسانها المتراقص يتفحّصه، وأحسبها قد "ذاقت" المعدن فرجعت عن سعيها كسلى، مثلما أحسب الطير ميّتاً من الخوف. ارتابت في المعدن إذن لكنّها لم تلدغه؟ عدت إلى الطير وحررته من شبكه لكنّي أبقيته مقيّداً من قدميه، فعادت، عندما عادت بعد وقت، وعضّته وازدردته. وسجّلت في رأسي الملاحظة: تعتمد على البلع ازدراداً! لكن الطير ولج إلى معدتها الآن، ولن أتحقق من الأمر الآخر، فربما لدغته عندما أطبقت عليه في المرّة الأولى فقتلته. وفعلتها ثانية بعد أيّام: قيّدت طيراً آخر على أن يكون رأسه، هذه المرّة، في مأمن، لأنني أريده ملدوغاً وحياً. لهذا صنعت من الخشب شيئاً كمصيّدة من صندوق صغير يحمى الرأس ومجرى ثبتّ إليه جسد الطير، متحرراً عند ساقيه، حيث أردتها أن تلدغه أو تبتلعه. استبدلت الطير مرّتين لأنّها تأخّرت وإن حصل ما أردته في النهاية: ما إن أطبقت عليه، متوثّبة بنذائر الخطر الملوّن، حتى نقرتُ الشبّاك وجررته على سكّته، فرأيت كيف تناضل لانتزاعه. كان مقيّداً جيّداً ما عدا الجزء المتحرر فيه، فاضطرت إلى تركه، مسحوقاً. كان قد مات إن ليس من الإطباق أو السحق أو اللدغ فمن الخوف، وحمّلته إلى المختبر البيطري لتأتي النتيجة ثانية تؤكّد نتيجة المستشفى: لا سمّ. بقي أن أتأكد من احتمالين آخرين: هل هي من نوعية غير سامّة وغير معروفة، أم أن خللا عضوياً طرأ عليها يجعلها لا تفرز السمّ؟ وفعلتها ثالثة بعد أسبوع أو أكثر قليلاً: الطير الثالث مقيّد وداخل قفص، يؤدّي إليه ممر من أنبوب يصل بين كوّة باب القفص والفجوة، على صعودٍ لأعلى، بمجرد أن أسحب خيطاً متيناً دقيقاً يمتد إلى الشبّاك، يصير القفص قفصاً للاثنين: الأفعى والطير. وتأخّرت طويلاً هذه المرّة أربعة أيام كدت أنصرف عن فضول لا يتناسب مع الشيوخ (ولا حتى مع الصبيان)، وخشيت أن تكون قدّ ماتت. بعد عناء لمحتها تلج القفص عبر الأنبوب المخفي وترتد في تلك المحاولات الاستكشافية، وصبرت ما استطعت الصبر وأنا أراها قد دخلت ينسل ذيلها ويستدق أكثر كلما انسل. ولم أطق صبراً أكثر فأطبقت الباب على بقية ذيلها فانسل.. إلى الداخل. وفعلتها رابعة: حملت القفص إلى جانب المستشفى ومددت يدي داخل القفص وتحرّشت بها، فلدغتني. وكالمرّة الأولى أخذت المصل أرنو إليها كيف تتلوّى و "تفخ" خلف شبك القفص في وجوه الممرضين المتمرّنين الشبيبة يثيرهم الخطر مأسوراً (حيث لا خطر)، فيضحكون مع ذلك مذعورين. وأتت النتيجة ثالثة: لا سمّ في عروقي. بقي أن أتأكّد من الاحتمال الأخير. مضيت على بطء إلى المختبر البيطري فعرضت عليهم القفص ورجوتهم ألا يشرّحوها بل أن يتأكّدوا من عطل سمّيّتها حيّةً. ثرثروا كثيراً عن صعوبة هذا دون تشريح، فوافقت على تنويمها و"شرحها" دون قتلها. وأتت النتيجة مألوفة مذهلة معاً: لا غدد سميّة لها..
وعدت بها، مبقياً عليها في الأسر الذي كنت أوسّعه لها بالتدريج من قفص إلى آخر أكبر، إلى صندوق من الزجاج أوسع. وتأكدت من شفائها، فقد اندمل "الشرط" بأثر كالخط، فأعدتها إلى الثقب، فوكرها، حيث أقامت طويلاً، على غير عادة الأفاعي. وخشيت بعد أسرها أن تفرّ هي أنيسي أنا الشيخ (ونسيت القول أنّها أفعى أنثى)، فحرصت أيضاً على "التدرّج" في عكس عملية اصطيادها. وحانت اللحظة التي تعود فيها إلى ما كانت عليه، أغذيها كما كنت أفعل بفاضل طعامي، ثم قطعته لأجبرها على الخروج. استغرقت وقتاً أطول هذه المرّة لتخرج، أي بعد أسبوعين فسعدت بها، وإن لم أعد ألمحها كما كنت. أفعى لا خطر منها، رغم نذائر الخطر الملوّن.
(4) أما ما حدث بعد وقت فأربك حساباتي كلّها، وأنا أفتح باب منزلي ذات صباح. بجوار الشجيرة المعطّرة كانتا، اثنتين لا أفعى واحدة، لكن الأخرى عادية بُنية لولا رقش أصفر طفيف، وأكثر طولاً: أفعى الحقول ربما، تتلويّان على نفسيهما. داخلتني بهجة شديدة، من النوع المخيف أيضاً، فقد وَجَدَت وليفاً إذا كانت وحيدتي قد وجدته فلم لا أجده أنا، أو هكذا حسبت، لأنّه لم يكن "غزلاً" تلتف "الساق" فيه على الساق، بل كان صراعاً مريراً، مليئاً بـِ "الفخيخ" والارتداد والتوثب والتهديد الرطب. وكدت أتدخل لأفض الصراع عالماً أن أفعاي خاسرة مسبقاً، لكن الفضول، فضول الشيوخ العنيد، راودني مجدداً: "لأدع الشيء المحدوس يحدث فأراه بعينيّ". وتصرّفت كأفعى سامّة فعلاً، فاتصل الرأسان بالأنياب على منتصفيّ الجسدين كأن حساباً رياضياً، بمعادلة قدرية مبهمة، قام بتحديد أماكن اللدغ، بتساوٍ.
ورأيت كيف اختلجت الألوان وكيف تباطأت وكيف تراخت نهائياً، وكيف انسلّت الأخرى إلى الأعشاب التي لم أعد أهتم بحصدها، جريحة، غير أنّها تتحرّك. جررتها ودفعتها في الثقب الذي أقامت فيه طويلاً كأنها كانت تعلمه قبرها. وكيلا يُسكن ثانية، حشرته بحجر وأكملته بالماء والتراب ممزوجاً.
(5) عدت، كما كنت، وحيداً يتفرّج على شجيرة برائحة ستذهب، وساحة معشوشبة بجفاف واخضرار لا شيء فيها، قد مضى ما مضى، أستعيدها أحياناً، أتفكّر، فأحاول أن أعرف جواب السؤال: إذا كانت تعي نفسها ولا سُمّيتها (ولدي التجارب تؤكّد)، فلماذا تصرّفت هكذا؟
#ماجد_عاطف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|