|
استبطان الذات بلقطة قريبة
احمد ثامر جهاد
الحوار المتمدن-العدد: 939 - 2004 / 8 / 28 - 09:56
المحور:
الادب والفن
مقدمة في علم نفس " الصورة السينمائية " [ إن السينما لا تُقدم لنا كما فعلت الرواية زمناً طويلاً ، أفكار الإنسان ، بل تعرض علينا سلوكه أو تصرفاته . وهي تقدم لنا بصورة مباشرة هذه الكيفية الخاصة في الوجود ، في العالم ، وفي التصرف بالأشياء وبالآخرين … ] *
ما انفكت " الموضوعة السايكولوجية " تشكّل على الدوام ، أغراءً طموحاً لصانعي الأفلام بشكل استثنائي . وبإلقاء مزيد من الضوء عليها ، تتبين قدرات الإخراج السينمائي على التقاط ( الإرتعاشات الجوانيّة للذات ، القلق غير المُتعيّن ، التخيلات الحبيسة والعالم الخفي للشعور ) . فقد يتسنى للبعض أحيانا أن يتابع بحرص العناصر المعزولة للظاهرة النفسية ، يلتقطها وفقَ لحنٍ لائقٍ مُؤثر ، ومهما استعصى عليه إدراكها " باللقطة القريبة " قوية التأثير ، يُمكنه محاولة إدماجها في شبكة الإدراك الحسي للظواهر والأشكال . ذلك بانتسابها ( أي الظاهرة ) إلى اتجاه المكوّنات الحاضرة في " الصورة السينمائية " كمجموعة من المعطيات البصرية والسمعية . تكمن مغامرة هذا النزوع التصويري وصعوبته ، في تخطّي المثبطات التي تقف حاجزا أمام تطويع هذه الموضوعات غير المرئية وعرضها على الشاشة . لتستمر الصعوبة بشدتها إلى حد تكتسب فيه " الصورة " صفة الإحساس بها ، أو الانفعال السريع بوهمِها على الأقل . وفيما يتعلق بأدوات المخرج السينمائي ( التي هي مجمل التطور الحاصل بالنسبة لوسائل التعبيرية والانطباعية في فن القرن الماضي ، من دون أن يعني ذلك بشكل أكيد اختلافا في المفاهيم والأوجه بينهما ضمن الحدود المتساوقة للتجربة الإنسانية ) ، بالنسبة لتلك الأدوات فان زَعَزعة الاعتقاد اليقيني بكمال ( الكلمات – الأدب العامة ) والاتجاه المتعاظم لاستجلاء عمق " الصورة " بعمق أخر يُماثل الأيمان اللاهوتي ببلاغة " الملفوظ " ، قاد المجربين الجدد بمختلف القابليات إلى عدم التمسك بما وقفوا عنده من تصور هندسي أو عبثي لحالات الحقيقة الداخلية للذات متغايرة الخواص . الفيلم السايكولوجي أنموذجا : بالنسبة لأحكامنا الحالية حول ما يستحصله " الفيلم السايكولوجي " - إذا صحت تسميته بذلك - من متعةٍ تَتسيّد ، لكنها مترددة أيضا قياسا للانجذاب السحري الذي حققه اتجاه الفيلم الكلاسيكي ( دكتور جيكل ومستر هايد مثلا ) بوحدة فنية زاهية من الضوء والعتمة ، أخذت بلباب متفرج لم يعتد بعد رؤية أحاسيسه وخلجاته - سليلة وحدته وانعزاله - معروضة أمامه ، باردة ومندحرة ، مهما بَدت قاسية محاولة فضّ قداسة ذاته " أي ذات أخرى " . وبمرور زمن طويل من الهستريا الجماعية المُؤيّدة لهذا السحر الجديد – الفيلم – اكتسبت " الموضوعة السايكولوجية " أكثر من غيرها قيمة مطلقة لدى جمهور عريض مكتوم الأنفاس لمعقولية ما يرى ، وأن تَخفّى أحياناً وراء أوهام عديدة ، تتناغم وشدة صراخه في صالة العرض ، خشنة الملمس ، ناعمة الإيحاء . سنفترض أن البعض من ذلك الجمهور لم يُعنَ تماماً بما يمكن للفيلم أن يقدمه ، فتلك خاصته . وفي المقابل لا أحد يستطيع التصـور أن العجـلة المجنـونة المسؤولة عن انتشار الفيلم وبراعته ، ستتوقف يوماً عن اقتحام عوالم جديدة موغلة في الخفاء أو عن اكتشاف غوامض أخرى . عندها لن نقول أن الفيلم وقف في حدود المكانة السابقة التي أمكنه اجتيازها بمعادلة شديدة التعقيد تُوازن بين جمهور منفعل وفنان يبحث عن سبل أخرى لتخليق ذاك الانفعال . إن تطور " الصورة السينمائية " – متعددة الألوان والنكهات – في زمن يمتد عقوداً متراكمة من التذوق الفيلمي ، يُمكنّنا من الحصول على وحدة إدماج المجال والصورة، التأمل الباطني وتعبيرية الملفوظ . فيَحلو لنا تصوّر الأمر بحسـب عبارة " غوته " : [ إن ما هو في الخارج هو في الداخل أيضاً .. ] خلالها تكتسب السينما بواسطة تنوع دلالاتها ، أعلى صفات الإدراك الحسي للظواهر المُشخّصة . برغم أن ذلك الإدراك لن يكون موجوداً أو مُعبّراً عنه بالتمام ، من غير التشبّع الشاعري بإيقاعية الفيلم ؛ تَمثّل سَكَناته وحركاته لمصلحة وحدة من الاندماج معه يُوفرها ، بُغية تسهيل قراءته. على هذا النحو ليس للفيلم معنىً خارجاً عنه . وكل فهم له سيكون لصالح الخيال المبثوث فيه . أما الوحدة التي يصرّ الفيلم عليها في ميدان تناظر الخطاب وتأويله ، فيمكن استنتاجها في عبارة " ميرلوبونتي " القائلة أن : [ معنى الفيلم مندمج بإيقاعه ، كمعنى الإيماءة الذي لا يمكن قراءته مباشرة في الإيماءة ذاتها ، فالفيلم لا يريد أن يعني شيئاً آخر غير ذاته .. ] . قيل أن السينما على نحو ما تُعبر عن مستوى معين من الأفكار ، ويتعيّن علينا لأجل أن لا نُسيء إليها ، عدم التوّغل في عرض هذه الأفكار أو تحليلها ، إنما الانتباه فقط إلى الإدارة التقنية للفيلم التي تُحركها إرادة فنية مستقلة . ذلك بوصف ( الفيلم ) الأداة الجديدة ، لكن البارعة في تصوير الحياة والأفراد والمعنى الذي يُوحدهم ، بطريقة خاصة تتيح لخالق الصور الفرصةَ المثالية لتأمل قوة رموزه وللفيلم قدرة التعبير عن نفسه . أليس لنا أن نستمتع بالمعنى الذي يُظهره الفيلم أو يخفيه ؟ ربما على الأوجه كافة ، توجد في الفيلم قصة ما ، وإن لم تكن ، ففكرة معينة يطرحها . وأي تحليل للصورة السينمائية عليه أن يمر بإدراكاته الأولى لها ، صعوداً نحو المعنى العميق فيها . بحيث لن يكتمل المعنى المُعطى بالنسبة لمن يتأمله بغير استبصار كافٍ لجمالية كل صورة ولقطة من صور الفيلم ولقطاته . فكيف سيتحدد الأمر لشخص يتطلع لذاك الفهم ، راغباً في قراءة الفيلم كطموح خيالي مشروع ؟ ليس من الواجب أن لا نحاول ذلك ، مع أن المنظر المعتاد للفيلم يُقرّب الإحساس أحياناً بالطابع التعليمي للسينما ، الذي يفقد توازنه عادة مع مُشاهد مُفترض يُجسّد البلبلة الدالة ( للمثقف ) الواجب مراعاتها للحفاظ على فنية الفيلم . وقد يكون في الاشتعال الحر على ( المُشاهد الفرد ) الفرصة المناسبة لأثارة بعض الأسئلة المتعلقة بإرضاء مختلف مستويات التلقي ، حينما يكون الصفة البارزة للفيلم أكثر من غيره . فبينما يميل المُشاهد العادي " للفيلم السايكولوجي " إلى الاعتقاد أن حياته تحتاج منه- أكثر من أي وقت – وقفة لتأملها بحسٍ مختلف ، باعتبار أن حقيقة الحياة ليست في تلك المظاهر اليومية الطافية على السطح والمنظورة دوماً . يذهب المُشاهد الحصيف إلى أدراك آخر يؤكد أن الحياة بشمولها على قدر كبير من الغموض ، وهي ما يستعصي إدراكه ببساطة ، بل لا يمكن لنا فهمها فهماً حقيقياً ! بشكل آخر يمكن القول : بينما يميل الانبهار إلى التلاقي مع " صورة الفيلم " ينأى الشك بعيداً عنها . إنها ليست أكثر من وصوفات ممكنة لأحاسيس المُشاهَدة ( بافتراض التدرّج في ثقافة الحواس ) تقود إلى الملاحظة المقلقة والمتعلقة بكون الفيلم ليس وجهة النظر الشخصية القابلة للإهمال والمغادرة ، بقدر ما أن وظيفته تجسدت اليـوم – باختيار غير معلن – في محاولته تبديل أُطر حياتنا والتدخل فيها بجرأة لا تقاوم ، تُظهر في النهاية ؛ أن غواية الفن هي بالضبط ما يتشكّل عبر قابليته الخاصة اللامحدودة ، ليتمثل تحديداً في تحويل المسارات الشخصية للأفراد ، لا عن طريق شيء ما مُشخّص وزمني ، إنما بتعاقبه الجمالي الملحوظ ، الذي يُضفي دلالة ما على مقطعٍ جوهري من حياتنا الخاصة . حينها تبدو حالات الألم واللذة ، الكراهية والحب ، العقل والجنون ، عالقة ومشعة في سماء ذاكرتنا ، ممكنة ومنحازة – كتعبير أوحد عن علاقة الذات بالعالم . أحقاً [ أن الفيلم لا يُفتكر ، بل يُدرك حسياً .. ] ؟ بتعبير " بونتي " . ليس مستبعداً هذا إذا نظرنا إلى الفيلم بوصفهِ نوعاً من الشعر المحض ، وسيلة تعبير خالصة ، لا يمكن الاتصال بعناصرها ، إلا من خلال محاولة استقبالها كطريقة جيدة للتنظيم الداخلي " للصورة السينمائية " بين مبتكرها ومتلقيها . الأمر الذي يجعل من الأشخاص متفاوتين في قدرتهم على إكمال الوهم السينمائي ، وفق تباين استعداداتهم الذهنية على التصديق ( الاندماج أو المراقبة ) بحيث لن يكون بوسع الفيلم – في الغالب – أن يتبنّى وصفة جاهزة يمكن تلقينها للجمهور لضمان مشاعره خلال العرض . فعناصر الفيلم المُكوّنة تشكّل في ارتباطها كًلا موحداً يُؤلف المعنى . ولو أمعنا النظر جيداً في الصورة ( فيلم الحاسة السادسة على سبيل المثال ) وهو أبرز الأفلام النفسية الرصينة ، لن نجد ما يدل على أن مُكّون الفيلم التأثيري يستبق مشاعرنا كمشاهدين ، من أجل تحقيق القصد العام للفكرة ، إنما يحاول فقط إرضاء فضولنا لمعرفة تنامي الأحداث في القصة . معنى ذلك أن الارتياب المبثوث في هكذا نوع من الأفلام ، يتحوّل تماماً إلى الإحساس العميق بالتكوين المتواتر للأسلوب ، فيَجعل الأشخاص – تدريجياً – يُصدقون في " الصورة الفيلمية " ما يَرفضوه في الواقع . رغم أن " الصـورة " على نحو ما ليست ببعيدة عن واقع الأشياء المُدرَكة ، ذلك إذا أعرنا انتباها كافياً لإحساسات المُمثّل وأفعاله الواقعية عند تأديته الدور المرسوم له . بالطبع دون تَمثّل جوانية الشخصية المُؤداة حقيقة ، إلا بشكل مؤقت يُزيد من وهم تصديقها والتأثر بها [ الأمر الذي يُبقى على الالتباس ، هو وجود واقعية أساسية فعلية للسينما .. ] لا أظن أن القارئ سيحتاج إلى التذكير ، إننا نستمع أيضا إلى القصص التي يرويها الأشخاص ، فنحاصر بقوة أسلوبهم على تصديقها ، ناهيك عن جديّة طرائقهم في الحديث المؤثر عبر براعة إيماءات الوجه ونظراته ، والاهم من ذلك ، حضور الراوي الواقعي . والحكاية نفسها تُؤلف هنا رباطاً وثيقاً مع المُشاهد ، حينما يتلقى الصور المسرودة في الفيلم من راوٍ مجهول ، أكثر جاذبية أحياناً . نميل معه برغبة دفينة إلى التصديق المُمعن بتلقائيته القريبة من استقبال الحُلم ، ذلك الذي يرفض – بشدة – عدم ابتكار تأويل مقنع لعناصره البارعة وصوره الطيفية ، خلال استعادته الواعية . إنه الضمان الأخير الذي يُبقي على العقل سليماً من نزعة التجريد التي تُحلّق فوقه ، فتستوجب منّا أشغاله بسحب الخيال البيض ، ريثما يُتقن الطيران الحر . خشيتنا إن لا توّفق افتراضاتنا حسب الكيفية التي تتحكّم بشمولية استنتاجاتنا في قراءة الفيلم ، لكنها على الأقل ، قد تسمح للبعض بالتقاط تفسير ما لبراعة ذلك التأثير المحايث لآنية استقبال الفيلم السينمائي ، الذي ليس إدراكه سوى متعة متحصلة من تَلقّي جمالية العلامات الحسية ( لّلقطة القريبة ) . حقاً إن الإنجاز الفذ للفن هو ما يُوصف بقدرته إلقاء الضوء الشديد على ظلاميتنا .
*ما بين الأقواس الكبيرة [ … ] نقلا عن " موريس ميرلوبونتي " – السينما وعلم النفس الجديد / ت : نهاد التكرلي .مجلة إسفار : 4 / 1986 – بغداد
#احمد_ثامر_جهاد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الآخر في الخطاب السينمائي
-
نصف ظلام ، نصف حياة
-
فرانكشتاين...صورة عن الواقع والخيال
-
في ورشة غابرييل غارسيا ماركيز
-
تراجيديا انتخابات الجمعية الوطنية
-
مَن أذلَّ الجواهري في كردستان !؟
-
مارتن سكورسيزي
-
بعيدا عن دائرة الحياة
-
متاهات بورخس والكتابة بالذاكرة
-
جوزيف كونراد سينمائيا
-
حصار هوليود ووعي الآخر
-
عودة كازانوفا
-
أفلام وأوهام وواقع افتراضي
-
بوابة رومان بولانسكي عالم من الأسرار والمتاهات
-
أفكار حول خطاب الثقافة العراقية وحسن قراءة العالم
-
حوار مع الناقد السينمائي أحمد ثامر جهاد
-
جحر الإمبراطور
-
سوء استخدام الحرية
-
صور الاستبداد من ثقافة الخوف إلى الخوف من الثقافة
-
الحرب من الواقع الى الصورة
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|