|
إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (4)
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 3098 - 2010 / 8 / 18 - 03:03
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
رزنامة الأسبوع 9-15 أغسطس 2010
(19) تفنيداً لمزاعم صحيفة (التيَّار) حول النزعة الشموليَّة لدى الحزب الشِّيوعي السوداني، وفرية إعداده للانقلاب على الديموقراطيَّة الثالثة، عام 1989م، لولا أن استبقته الجَّبهة الاسلاميَّة، أبرزنا أهمَّ الدلائل التاريخيَّة التي تؤكد على المكانة العليَّة التي ظلت تشغلها قضيَّة الديموقراطيَّة في تكوينه الفكري، والسِّياسي، والتنظيمي، منذ بواكير نشأته؛ وأوردنا، في السِّياق، واقعتي انفراد الحزب وحده، وعلى مدى عامين كاملين (1958 ـ 1961م)، بتحمُّل تبعات التصدِّي لانقلاب عبود، ثمَّ طرحه سلاح (الاضراب السِّياسي) لإسقاطه، كدلالة، في حدِّ ذاتها، على استمساكه بالدِّيموقراطيَّة، في معنى وُسع المشاركة الجَّماهيريَّة المستقلة، حتى في مجابهة الديكتاتوريَّات وكسرها، رغم أن ذلك قد يبدو، للوهلة الأولى، فوق طاقته المحدودة، ورغم ورود ثلاث ملاحظات مهمَّة على ذلك الموقف، تتمثل أولاها في كون الانقلاب، من الناحية الشَّكليَّة البحتة، لم يسلب الحزب سلطة ما؛ وثانيتها كون ذلك الانقلاب قد أطاح بحكومة عبد الله خليل، وسياساتها المعادية لروح الاستقلال والديموقراطيَّة، أيْ سياسات الحزب نفسه والمنظمات الجَّماهيريَّة المتحالفة معه؛ وثالثتها كون الأحزاب الأخرى أجمعها سارعت لتأييد الانقلاب منذ ساعاته الأولى، الأمر الذي عرَّى ظهر الحزب، وجعل موقفه، في مواجهة نظام عبود، أكثر صعوبة وتعقيداً. فما تراها كانت دوافع الحزب لاختيار ذلك الموقف شديد الصعوبة والتعقيد؟! للإجابة على هذا السؤال، ليس ثمة ما هو أوضح مِمَّا أوردت وثيقة المؤتمر الرابع الأساسيَّة، بعد سنوات من تلك الأحداث (أكتوبر 1967م)، قائلة: "لقد أدَّى العجز الموضوعي للنظام .. في مواجهة قضايا ما بعد الاستقلال .. إلى أزمة حادَّة في البلاد. يقابل هذا نموٌّ متزايد للعناصر الثوريَّة، وخاصة الحزب الشِّيوعي .. وكان زمام المبادرة في يد القوى اليمينيَّة المتطرِّفة، فنقلت الصِّراع الطبقي من حيِّزه السِّلمي إلى دكتاتوريَّة عسكريَّة موجَّهة، في الأساس، إلى صدر القوى الدِّيموقراطيَّة. فما عجزوا عنه بالصِّراع السِّلمى أرادوا تحقيقه بالصِّراع الدَّموي" (الماركسيَّة وقضايا الثورة السودانيَّة، ص 108). وإلى ذلك كله، فإن ثقلاً معتبراً من الجَّهد الفكري والسِّياسي الذى ظلَّ الحزب يبذله، طوال تاريخه، وبخاصَّة في جبهة الصِّراع مع الاتجاهات التصفويَّة داخله، قد انصب على المنافحة عن ديموقراطيَّة الحركة النقابيَّة، كتنظيمات مهنيَّة تعمل على تحسين أوضاع أعضائها، بصرف النظر عن تباين انتماءاتهم السِّياسيَّة، والتفريق بينها وبين الأحزاب كتنظيمات طبقيَّة تستهدف السُّلطة بالأساس. وذلك، رغم الدَّور التاريخي الذى لعبه الحزب في تأسيس تلك النقابات، والمراكز القياديَّة المرموقة التى تبوَّأها الكثير من كادره فيها بالانتخاب الدِّيموقراطي، الأمر الذى كان من الممكن أن يشكِّل إغواءً حقيقيَّاً له باستسهال العمل على تجييرها لخدمة أهدافه الحزبيَّة المباشرة. لم يكن نادراً أن يشهد الحزب بروز مثل هذه الاتجاهات في تاريخه. فقد برز، مثلاً، عام 1970م، ضمن وقائع الصِّراع الذى احتدم داخله، عقب إنقلاب مايو 1969م، الاتجاه لدعوة السُّلطة (الثوريَّة!) للتدخُّل لضمان سيطرة القوى التقدميَّة على قيادة الحركة النقابيَّة (حاسم حاسم يا ابو القاسم) .. الخ! غير أن التيار الغالب وقتها (جناح عبد الخالق) تصدَّى لهذه الدعوة المنحرفة بحزم، حيث أكدت مجلة (الشِّيوعي): "أن تحرير الجَّماهير العاملة من نفوذ الطبقات الرَّجعيَّة لا يتمُّ بقرار إداري تصدره السُّلطة .. (و) أن التنظيمات الدِّيموقراطيَّة ليست أجهزة رسميَّة، بل أدوات شعبيَّة في يد الجَّماهير، ويجب أن تظلَّ كذلك، وقد ناضل الحزب الشِّيوعي فى كلِّ الظروف لتحافظ تلك التنظيمات على هذه الصِّفة" (م/الشيوعى، ع/134). بإيرادنا لهذه الواقعة، لا نرمي لتبرير سلوكيَّات سياسيَّة فاسدة ارتكبها أعضاء نافذون، وقتها، في قيادة وقواعد الحزب، أو إبراء ذمَّة الحزب، مؤسَّسيَّاً، من المسئوليَّة عنها بالكليَّة، بقدر ما نهدف إلى إضاءة جوانب من الصِّراع داخله حول إحدى أهم القضايا المركزيَّة في تاريخنا السِّياسي الحديث: قضيَّة الدِّيموقراطيَّة. لكن، لئن كان ضرباً من المكابرة الفجَّة الادِّعاء بأن موقف الشِّيوعيين السودانيين من الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة ظلَّ قائماًً بصورة إجماعيَّة، رأسيَّاً وأفقيَّاً، طوال الوقت، وباتساق لا يتغير أو يصيبه الوهن، فإن من فساد النظر اللاتاريخي، الذى لا يرتب درساً ولا يخلف عبرة، عدم تبصُّر المسبِّبات والعوامل التي طوَّحت بالحزب، فى بعض منعرجات تاريخنا السِّياسي المعاصر، بعيداً عن استمساكه القديم بتلك الدِّيموقراطيَّة. ومن أهمِّ مقاصد هذا المقال الحضُّ على الاعتبار بعبر هذه (المسبِّبات والعوامل)، ليس من جانب الشِّيوعيين وحدهم، بل ومن جانب كلِّ أطراف الحركة السِّياسيَّة فى بلادنا، إنْ كنا نروم، حقاً وفعلاً، فتح طريق سالكة لهذه الحركة صوب مستقبل وضئ، يستدبر أخطاء الماضي التي إنْ جاز تحميل الشِّيوعيين نصيباً منها، فإنه لا يجوز أن يعفي الآخرون أنفسهم من أيْ قسط فيها، اللهم إلا بالمصادمة لحقائق التاريخ الباردة ومنطقه الصارم! فمن بداهات الوجدان السليم انتفاء أيِّ قدر من الحكمة عن تصوُّر الدَّوح حراماً على بلابله، حلالاً على الطير من كلِّ جنس! وعبرة التاريخ التي لا بُدَّ قد (تجرَّعها) الجميع، الآن، حتى الثمالة، بما يكفي للاعتبار وزيادة، هي أن (الاعتداء) على الدِّيموقراطيَّة ليس (دوحاً) يمكن لعاقل أن يتفيَّأه، بل هو (حمَّارة القيظ) ذاتها!
(20) نعم، وبالصَّوت العالي، حدث أن تراجع الحزب، بالفعل، فى فترات مختلفة، سابقة على العام السِّياسي 1977 ـ 1978م، عن لغة ذلك الخطاب (الدِّيموقراطي الليبرالي) القديم، المتوطن في مبادئ الحُرِّيَّات العامَّة والحقوق الأساسيَّة، وانقلب يبحث عن (ديموقراطيَّة أخرى!) تتمتع بها، فقط، الجِّماهير الشَّعبيَّة في قاع المجتمع، وتحرم منها الطبقات والفئات المعادية للثورة الدِّيموقراطيَّة (الماركسيَّة وقضايا الثورة السودانيَّة، ص 132)، وأطلق على ذلك النوع من الدِّيموقراطيَّة مصطلحات (الدِّيموقراطيَّة الثوريَّة، الجديدة، الموجَّهة، الشعبيَّة .. الخ)، وما إلى ذلك من الطروحات التي سلفت إشارتنا إليها، والتى لطالما سحبت أقدامه، فى فترات معلومة من تاريخه، للتورُّط في تدبير انقلابات، ودعم انقلابات، والتعاطف مع انقلابات، مِمَّا كان ينسجم ورؤيته، خلال تلك الفترات، لإشكاليَّة الصِّراع السِّياسي، وسلطة الحزب الواحد، والشُّموليَّة، وذلك بفعل تلك (المسبِّبات والعوامل) التي أضحى يتوجَّب على الجميع، منذ وقت طويل، وعيها بتمكث، وتجرُّد، وموضوعيَّة! فمع أن تلك الرؤية لم تكن مفتقرة، أصلاً، إلى التأسيس النظري في قلب التربة الفكريَّة للماركسيَّة اللينينيَّة، وتحديداً طبعتها الروسيَّة التى سعت لتعميم هجائيَّات الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة من واقع خبرة ثورة 1917م، بظروفها الخاصَّة، فضلاً عن تأثيرات الحركة الشِّيوعيَّة العالميَّة، وحركة اليسار عموماً، فى العالم وفى المنطقة، بمحدِّداتها الموضوعيَّة والذاتيَّة، وأشراطها التاريخيَّة المعلومة، إلا أنه يقع صحيحاً، أيضاً، القول بأنها، وبرغم كلِّ ما أبداه الحزب من مقاومة لإغواء الانكفاء على النصوص، تسرَّبت إلى فكر الحزب، على نحو خاص، من بين ملابسات الخروقات المحبطة والمتواترة لليبراليَّة، باسمها، للمفارقة، هي ذاتها، من خلال الممارسة (الدِّيموقراطيَّة!) البرلمانيَّة السودانيَّة، حيث اتخذت تلك الخروقات شكل اعتداءات ومخاشنات تاريخيَّة ضدَّ الحزب، وضدَّ الحركة الجَّماهيريَّة المستقلة كلها، على يد ذات القوى التقليديَّة التي كانت قد أعلنت، حتى قبل الاستقلال، ارتضائها بنفس هذه الليبراليَّة منهجاً للحكم وللحياة السِّياسيَّة فى البلاد، وذلك على النحو الآتي : أ/ منذ مطالع الاستقلال عمدت تلك القوى لاختزال كلِّ قيمة له، وأيِّ معنى يمكن أن ينطوي عليه، فى محض (عَلم) يُرفع، و(سلام جمهوري) يُعزف، وربَّما (عملة وطنيَّة) أضحت دُولة بين الأغنياء بخاصة! ولم يكن شعار (تحرير لا تعمير)، فى تلك الفترة، غير صياغة شديدة الإحكام لتلك الرؤية الخرقاء. وكما لاحظ بعض الباحثين فقد ".. كان النظام البرلماني، بالنسبة للأحزاب التقليديَّة، وسيلة شرعيَّة لفرض سيطرتهم، وليس أداة لتأسيس الدِّيموقراطيَّة في السودان. وقد تبيَّن ذلك في المواقف غير المبدئيَّة، وتغيير التحالفات، وتحوُّل النواب البرلمانيين من معسكر إلى آخر" (حيدر إبراهيم علي؛ المجتمع المدني والتحوُّل الديموقراطي في السودان، ص 50). ولقد توَّجت تلك القوى، كما ذكرنا، مسلسل خروجها المتكرِّر على أسس الدِّيموقراطيَّة البرلمانيَّة الليبراليَّة، خلال الأشهر القلائل التي أعقبت الاستقلال، وفي سياق مكايداتها، في ما بينها، حول كراسي الحكم ، وبَرَمِها بمطلب توسيع الحُرِّيَّات والحقوق، كقضيَّة لا تنفصل عن النضال ضد تغلغل الاستعمار الحديث، وذلك بإقدامها على وضع السُّلطة ذاتها في أيدى كبار الجَّنرالات، بانقلاب 17 نوفمبر 1958م، حسب (تعليمات) عبد الله خليل الذى لم يجر حزب الأمَّة، حتى الآن، أية محاسبة أو مراجعة له تكافئ ضخامة (الكارثة) التى ورط حزبه والبلاد بأسرها فيها. ب/ وفى أعقاب ثورة أكتوبر 1964م لم يهدأ للقوى التقليديَّة بال حتى قطعت أمرها في ما بينها للإجهاز على حكومة الثورة الأولى. ثم سرعان ما أعدت كامل عدتها، وانقضَّت على الحزب، لتدبِّر حله، وتطرد نوَّابه من الجَّمعيَّة التأسيسيَّة، عام 1965م، بالاستناد إلى محض الأغلبيَّة الميكانيكيَّة داخلها، والمشاعر البدائيَّة المنفعلة بالتحريض الغوغائي خارجها، مِمَّا أسماه عبد الخالق (عنف البادية) الذى أطلقته القوى التقليديَّة من عقاله، مدجَّجاً بكلِّ ما أوتي من همجيَّة وأسلحة بيضاء، لمهاجمة الشِّيوعيين، ودور حزبهم، بهدف قطع الطريق نهائيَّاً أمام الاندياح الملحوظ، آنذاك، لنفوذه بين الجَّماهير، مستغلة، وقتها، حادثة معهد المعلمين العالي الشَّهيرة، والمشكوك في أمرها، والتي أريد لها أن تفجِّر الفتنة بحديثٍ مجترئ على الدِّين، لطالب مجهول الهُويَّة، جرت نسبته إلى الحزب في هستيريا من الغوغائيَّة، والعجلة، واللهوجة، وعدم الرَّغبة في التثبُّت، حتى أن نائب حزب الأمَّة، أيَّامها، محمد إبراهيم خليل لم يتورَّع، أو يجد في نفسه حرجاً، والغلُّ يمضغ صدره على التقدُّم والتقدُّميين، من أن يدعو إلى عدم إضاعة الوقت في أيَّة محاولة للتحقق مِمَّا إذا كان الطالب صاحب الحديث شيوعيَّاً أم لا، معلناً بملء فيه، وعلى رءوس الأشهاد، ودون ذرَّة من حياء، وهو، بعدُ، أستاذ القانون، أنه "ليس من المهم إنْ كان (ذلك) الطالب شيوعيَّاً أم غير شيوعي!" (ضمن القدَّال؛ معالم ..، ص 155)؛ وذلك في لحظة (صدق!) نادرة، من حيث كفايتها لفضح المسكوت عنه في مهرجان التباكي ذاك على الدِّين، والذي تمَّ نصبه في جلسة البرلمان تلك بتاريخ 15/11/1965م، وهو ما عبَّر عنه الشَّاعر الشِّيوعي الرَّاحل علي عبد القيوم، متسائلاً، بغضب حرَّاق، في إنشاده الرَّائع: "هَلْ رَأيْتمْ يَا قطيعَ الضَّأن يَوْمَاً/ كَفَّ عَجْز زَيَّفتْ تاريخَ أمَّة"؟! ومن عجب أن ذلك كله تمَّ تحت عنوان (الدستور) المغلوب على أمره، و(الدِّيموقراطيَّة) المفترى عليها! فبعد أن تقدَّم محمد احمد محجوب، رئيس الوزراء وزعيم الجَّمعيَّة، بطلب إلى رئيسها برفع المادَّة/25/8 من اللائحة الدَّاخليَّة، لمناقشة أمر (عاجل)، تلى الرئيس اقتراحاً تقدَّم به ستة أعضاء يقول: "إنه من رأي هذه الجَّمعيَّة .. ولتجربة الحكم (الدِّيموقراطي!) في البلاد، وفقدانه للحماية اللازمة لنموِّه وتطوُّره (!) .. أن تكلف الحكومة للتقدُّم بمشروع قانون يُحلُّ بموجبه الحزب الشِّيوعي السوداني .. الخ!" (نفسه، ص 154). هكذا، إذن، وبكلِّ بساطة، أحيلت أسباب كلِّ معضلات ما بعد ثورة أكتوبر، وكلِّ مصاعب إعادة بناء ما خرَّبته الديكتاتوريَّة العسكريَّة على كلِّ الأصعدة الاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة، وجبهة الحرب فى الجنوب، وجبهة العلاقات الخارجيَّة، إلى الحزب الشِّيوعي! وبحله وطرد نوَّابه من البرلمان سوف تستقيم الأمور كلها، وتتوطد تجربة الحكم (الدِّيموقراطي!)، وتكتسب المناعة المفقودة، واللازمة لنموها وتطورها!
(21) ما أن فتح باب (الخطب)، في تلك الجَّلسة، حتى انبرى (خطباء) المؤسَّسة التقليديَّة، يهرفون بما لا يعرفون، ويفرغون سموم كرههم للحزب، ويكيلون له تهماً إنشائيَّة لم يستشعر أيٌّ منهم وازعاً من ضمير كى يكلف نفسه بتقصِّي حقيقتها، ولو بالحدِّ الأدنى من قيم القسط والعدل مما يحضُّ عليه الاسلام الذى ما انفكوا يتحشَّدون باسمه، دع عنك أيَّ مستوى من المسئوليَّة تجاه الشَّعب والوطن. وربَّما يكفي أن نسوق، بالإضافة إلى مثال محمد إبراهيم خليل، مثالين آخرين ساطعين على ذلك الأداء البرلماني الذي اتسم بكلِّ ذلك القدر من التردِّي الفكري والسِّياسي والأخلاقي. فالترابى، مثلاً، لم يكن أقلَّ صراحة من محمد إبراهيم خليل في الاعتراف بالنيَّة المبيَّتة لحلِّ الحزب وطرد نوَّابه من البرلمان، بصرف النظر عن حديث الطالب الغِر، و"ما إنْ كان شيوعيَّاً أم غير شيوعي"! ذلك أن زعيم جبهة الميثاق الإسلامي، آنذاك، وجَّه إلى الحزب، بمنأى عن قضيَّة الطالب، وفي ما يشبه جرد الحساب الكلي، خمس تهم حول موقفه من الإيمان، والأخلاق، والدِّيموقراطيَّة، والوحدة الوطنيَّة، والاخلاص للوطن (نفسه، ص 155). أما نصر الدِّين السَّيِّد فقد جحد الشِّيوعيين، جهاراً نهاراً، حتى نضالهم ضدَّ دكتاتوريَّة عبود، ومشاركتهم فى استعادة النظام الدِّيموقراطي البرلماني الليبرالي، دَعْ استغراقه في مغالطة تاريخيَّة فجَّة، بقوله: "إن الحزب الوطني الاتحادي هو الحزب الوحيد الذى وقف ضدَّ الحكم العسكري من ميلاده إلى مصرعه"! ولم يفته، بالطبع، أن يدلي بدلوه فى بئر (التكفير) المحفورة تحت قبَّة (البرلمان الديموقراطي)، فراح، هو أيضاً، يتهم الشِّيوعيين السودانيين بأنهم ".. يلقنون أبناءنا بأن الله لا وجود له وأن هذا الدِّين خرافة!"؛ وعندما ألفى نفسه مضطراً لإثبات ما يقول، لم تسعفه ذخيرته المعرفيَّة باسم كتاب أو مفكر، فلم يتردَّد فى ارتداء بردة الخطيب المسجدي، ليخاطب نوَّاب الشَّعب المُنتظر منهم إصدار أحد أهمِّ وأخطر القرارات فى تاريخ البرلمانيَّة السودانيَّة، قائلاً: "هذا ما قاله لى أخ قادم من موسكو، قل أعوذ بالله من هذا .. وأطلب من الله عزَّ وجلَّ أن يحيينا مسلمين، ويميتنا مسلمين، إن شاء الله!" (نفسه، ص 156) صوت واحد ارتفع من وسط كلِّ (زفة) التهريج الغوغائي التى شهدتها تلك الجَّلسة، مشحوناً بكلِّ دلالات الحكمة، والشَّجاعة، وصدق المواجهة مع النفس، وأمانة النيابة عن الشَّعب. فلقد أتيح للمهندس حسن بابكر الحاج، نائب الدائرة (3) عن الوطني الاتحادي، أن يلمح وراء تلك التعبيرات الجاهلة، المخاتلة، الملتبسة، بشاعة الاتجار بالدِّين، وفساد المنطق الواقف على رأسه، فنهض ينبِّه الأذهان الغافلة، ويسدي النصح لكلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد، قائلاً: "إن هناك طالباً سفيهاً يقال إنه أساء للرَّسول الكريم، والدِّين الإسلامي، فقامت مظاهرات .. تطالب بحلِّ الحزب الشِّيوعى! فلنفترض أن أحد أعضاء الحزب الوطني الاتحادي تفوَّه بمثل ما تفوَّه به الطالب السَّفيه، فماذا يكون موقف الوطني الاتحادي .. رجائى أن تتركوا الحماس جانباً، وتحموا الدِّيموقراطيَّة التى عادت إلينا بعد تضحيات .. فتأكدوا أنها ستنزع برمتها منكم كما انتزعت في الماضي .. ولا أريد أن أسجَّل حرباً على الدِّيموقراطيَّة، فخير لأبنائي أن يدفنوني شهيداً من شهداء الدِّيموقراطيَّة من أن أعيش في عهد توأد فيه الدِّيموقراطيَّة" (نفسه). ثمَّ أدلى، في اليوم التالي، ببيان صحفي يدوي بصوت الحُرِّيَّة والأحرار، قال فيه: "وقفت بالأمس في الجَّمعيَّة التأسيسيَّة ضد قرار تعديل الدُّستور، وحلِّ الحزب الشِّيوعي، لا دفاعاً عن الشِّيوعيَّة، ولكن دفاعاً عن الوطني الاتحادي وجماهيره؛ وقفت دفاعاً عن الحُرِّيَّة والدِّيموقراطيَّة؛ وقفت بجانب أساتذة الجَّامعات، وهم منارات العلم، وطلابها رجال الغد المشرق؛ وقفت بجانب الصَّحفيين والمحامين، وهم الذين دافعوا عن حُرِّيَّة هذا البلد المنكوب في أحلك الظروف؛ وقفت بجانب العمَّال والمزارعين والكادحين الذين وقفوا في الماضى، وسيقفون في المستقبل، دفاعاً عن حقهم في الحياة، وهو حقُّ هذا الشَّعب؛ وقفت بجانب الموظفين، وهم الطبقة المستنيرة في هذا القطر، ولا يستطيع إلا مكابر أن ينكر دورهم العظيم في معركة الحُرِّيَّة الثانية، وسيقفون في معركة الحُرِّيَّة القادمة؛ وقفت بجانب كلِّ من له ضمير في هذا البلد بعقل لم تطمسه الأغراض، أو تحول بينه وبين الرؤية الصَّادقة؛ وقفت مع كلِّ هؤلاء لكي لا أسجِّل في تاريخ حياتي أنني كنت يوماً حرباً على الحُرِّيَّة والدِّيموقراطيَّة. عاشت الحُرِّيَّة، وعاشت الدِّيموقراطيَّة، وعاشت ذكرى شهداء أكتوبر، وعاش الأحرار في كلِّ مكان!" (الأيَّام، 23/11/1965م). ولكن الدِّيموقراطيَّة وُئدت، وما من سميع، وما من مجيب! وُئدت برغم الرأى العام الغاضب خارج البرلمان، وبرغم كلمة الحقِّ التي جهر بها حسن بابكر، وبرغم الكلمات الحارة لنوَّاب الحزب الشِّيوعي فى دحض التهم التى ما انفكت تتطاير، كفقاعات الصابون، فى أرجاء القاعة، ومن تلك الكلمات تأكيد نائب الخريجين، آنذاك، محمد ابراهيم نقد على أن الحزب الشِّيوعى برئ من تهمة الالحاد التى يحاولون إلصاقها به، وأن موقف الحزب من الدِّين واضح في دستوره، وفي تاريخه الطويل، وتاريخ أعضائه، وتأكيده، أيضاً، على أن الشِّيوعيين لا يقولون ذلك عن خوف، ".. إننا لا نخاف، فلم نتعوَّد الخوف في الماضي ولن نتعوَّده اليوم" (نفسه، ص 157).
(22) ومع أن الحزب أصرَّ على التمسُّك بالأساليب الدِّيموقراطيَّة، والتزم بالسير على طريقها حتى نهاية الشوط، فطرَق أبواب القضاء، ونجح، بالفعل، فى استصدار حكم ببطلان تلك القرارات، إلا أن القوى التقليديَّة، إمعاناً منها في مصادمة البداهة الدِّيموقراطيَّة، أعلنت، جهاراً نهاراً، رفضها الانصياع لكلمة القضاء المستقل، واصفة حكمه بأنه (تقريري) لا إلزام فيه (!) وأصدر الترابى، أحد أبرز وأنشط المنظرين لذلك الموقف، كرَّاسة كاملة سعى عبرها، حثيثاً، لنفي أيَّة قيمة لقضاء المحكمة العليا، الصادر فى 22/12/1966م، ببطلان مجمل (الإجراءات) التي اتخذتها الجَّمعيَّة التأسيسيَّة، فى 22/11/1965م، بتعديل الدُّستور، تمهيداً لحلِّ الحزب وطرد نوَّابه من البرلمان، باقتراح من د. الترابي نفسه، في جلسة 16/11/1965م؛ كما سعى الترابي، عبر كرَّاسته المشار إليها، لإثبات قيُّوميَّة قرارات الجَّمعيَّة التأسيسيَّة على أحكام القضاء، حتى لو قفزت تلك القرارات من فوق نصوص الدُّستور نفسه، أو صدرت بالمصادمة لضمانات الحُرِّيَّات العامَّة والحقوق الأساسية فيه (د. حسن الترابى؛ أضواء على المشكلة الدُّستوريَّة: بحث قانونى مبسَّط حول مشروعيَّة حلِّ الحزب الشِّيوعي، يناير 1967م). وكم كانت لاذعة، فى هذا الشَّأن، كلمة الأستاذ محمود محمد طه فى كتابه الذى أصدره، بالمقابل، وفى معرض ردِّه على د. الترابى، تحت عنوان (زعيم جبهة الميثاق الاسلامى فى ميزان: الثقافة الغربية ـ الإسلام، أضواء على المشكلة الدُّستوريَّة)، حيث وصف كتاب د. الترابى، رغم خلافه الفكري، هو نفسه، مع الماركسيَّة، بأنه: "لا قيمة له ولا خطر، لأنه متهافت، ولأنه سطحي، ولأنه ينضح بالغرض، ويتسم بقلة الذكاء الفطري" (ضمن القدَّال؛ معالم ..، ص 161). ولئن كانت المنطلقات الفكريَّة للترابي، ودوافعه السِّياسيَّة، معلومة بدرجة لا يعود معها ثمَّة سبب للدَّهشة بإزاء ما يصدر عنه في هذا الشَّأن، فإن المرء ليحتار كثيراً في موقف زعيم سياسي آخر، يختزل نموذجه مواقف كلِّ الدِّيموقراطيين الليبراليين إبان تلك الأزمة، لكونه أبرز من ارتبط، رمزيَّاً، بالدِّيموقراطية البرلمانيَّة الليبراليَّة في السودان، طوال حياته، بل وبعد رحيله، وهو المرحوم إسماعيل الأزهري. فعندما اتجهت المظاهرات الهستيريَّة التى دبَّرها وسيَّرها (الأخوان المسلمون) إلى منزله، عقب صلاة الجمعة 13/11/1965م، داعية إيَّاه، بوصفه رئيساً لمجلس السَّيادة آنذاك، للانضمام إلى (جردة) الاعتداء على الحُرِّيَّات والحقوق الدُّستوريَّة، لم يستنكر رافع العَلم، وزعيم الحزب الوطني الاتحادي، ورئيس أول حكومة وطنية تشكلت عبر صناديق الاقتراع، أن تدعوه الهتافات الغوغائيَّة للقفز من فوق كل المبادئ والأسس الدِّيموقراطيَّة، ولم يستنكف أن يبدي، على عكس المتوقع، استجابة مدهشة، وحماسة محيِّرة، حين وقف يخاطب حشود (الهتيفة) من شرفة المنزل، مؤكداً لهم أنه معهم (!) ومعلناً، بالاستباق لكل ما يمكن أن تتمخَّض عنه المداولات المؤسَّسيَّة من قرارات، أن الحكومة والجَّمعيَّة التأسيسيَّة "سوف تضعان حدَّاً لهذا الفساد!"، بل ومهدِّداً، فوق ذلك، وبكلِّ وزنه السِّياسي، وثقله التاريخي، وجاذبيَّته الشَّعبيَّة، بأن الحكومة والجَّمعيَّة التأسيسيَّة إن لم تفعلا ذلك، فإنه سوف "ينزل بنفسه!" مع تلك الحشود "إلى الشَّارع لتطهير البلد!" (المصدر، ص 153). فضُّ الحيرة بإزاء هذه المواقف المتناقضة نلتمسه في إحالة الأمر برمته إلى أزمة الشَّكلانيَّة في فهم وممارسة الدِّيموقراطية لدى الأحزاب السودانيَّة الكبيرة وقادتها المؤثرين، والزعيم الأزهري في مقدِّمتهم بلا ريب. وفى هذا الاتجاه نجد أنفسنا متفقين تماماً مع تحليلات د. حيدر إبراهيم علي الصائبة، والمنطلقة من فرضية مؤدَّاها أن "..الدِّيموقراطيَّة الشَّكليَّة التى تنسى جوهر ومبادئ الدِّيموقراطيَّة قد غلبت طوال تاريخ السودان السِّياسي؛ فقد انصبَّ الاهتمام على الحزبيَّة البرلمانيَّة، وقوانين الانتخابات، والدُّستور، وإجراءات النقاش، وفصل السُّلطات .. الخ. و .. إسماعيل الأزهري .. دشَّن هذا الاتجاه بكتابه (الطريق إلى البرلمان)، وامتدَّ هذا التصوُّر حتى الدِّيموقراطيَّة الثالثة .. (و) تظهر شكلانيَّة الأزهري في فهمه للدِّيموقراطيَّة من خلال غياب أيِّ تعريف أو تحليل أو محاورة لفلسفة الدِّيموقراطيَّة ومحتواها .. فهو يفتتح الكتاب بالحديث عن قواعد النظام البرلمانى، وليس عن أسسه وخلفيته الفكريَّة أو الاقتصاديَّة ـ الاجتماعيَّة التي أوجدته في التاريخ الإنساني. وكأنه يرى أن تقليد .. القواعد .. كفيل بخلق نظام برلماني ديموقراطي". ويمضى د. حيدر فى تحليلاته قائلاً: ".. في تلك الفترة من تاريخ الحركة الوطنيَّة السودانيَّة كان من المفترض أن تطرح القضايا الأساسيَّة التي تواجهنا اليوم، مثل الهُويَّة، العلاقة بين الدِّين والدَّولة، التنمية المتوازنة، الثورة الثقافيَّة والتعليميَّة .. (خاصَّة وأن) الحركة الوطنيَّة كانت تحت قيادة الخرِّيجين .. و .. كانت أندية الخرِّيجين .. منابر نقاش وحوار، ولكن مع اقتراب الاستقلال تغلب السِّياسوي والحزبي على .. الفكري والتنظيري". ويقارن د. حيدر بين حالنا وحال غيرنا من البلدان، حيث ".. عرف العالم زعماء مفكرين .. مثل نهرو .. ونكروما .. كانوا رجال دولة .. لهم إسهامات فى الكتابة السِّياسيَّة. من هنا يأتي التوقع الذى لم يتحقق بضرورة أن يرتكز كتاب مثل (الطريق إلى البرلمان) على تنظير ما، وتفكير تأسيسي لصورة سودان المستقبل". ثم يخلص الكاتب إلى أنه ".. رغم أهمِّيَّة الكتاب في توصيل قواعد النظام البرلماني لعامَّة الناس .. ولكن غاياته متواضعة، وتقلُّ عن واجبات الزَّعامة الحقيقيَّة في تربية شعبها، وإيقاظ وعيه، وتعميق هذا الوعي" (د. حيدر إبراهيم علي؛ ورقة في ندوة تقييم التجارب الدِّيموقراطيَّة ..، ص 33 ـ 35). (23) لقد أتمَّت القوى التقليديَّة، إذن، عمليَّة إجهاض الثورة، بزاوية انحراف كاملة، وارتكست بالبلاد كلها في حمأة تعانف عبثي انتهى بها، جدليَّاً، إلى إنقلاب البكباشى جعفر نميرى صبيحة 25 مايو 1969م، وذلك بإجهازها على حكومة ثورة أكتوبر الأولى، وفشلها في النهوض بالمهام التي طرحتها الثورة، وإدارتها الظهر لقضايا التنمية، وعجزها عن إيقاف الحرب الأهليَّة في الجنوب، وانصرافها عن تعميق الدِّيموقراطيَّة، تارة إلى شنِّ حربها (المقدَّسة!) ضدَّ الحزب الشِّيوعي، وقوى الدِّفاع الحقيقيَّة عن هذه الدِّيموقراطيَّة، وتارة أخرى إلى الانشغال بصراعاتها الداخليَّة، وانشقاقات أجنحتها المتشاكسة، ثم إلى الانغماس، تارة ثالثة، في ترتيبات ما أسمته بـ (الدُّستور الاسلامي)، متوهِّمة فيه حلاً لجميع مشكلاتها، بل وتأبيداً لسلطتها في وجه حركة جماهيريَّة أضحت تتهدَّدها، جدِّيَّاً، بالتجاوز. نتريث هنا، مثلما فعلنا في مناسبات سابقة، لنستعيد قول السَّيِّد الصادق المهدي بأن تحالف الجَّبهة الوطنيَّة المتحدة ضدَّ عبود استمر حتى ثورة أكتوبر، لكن بعدها ".. ظهرت قوى يساريَّة تريد أن تتجاوز التركيبة السِّياسيَّة الموجودة، فكوَّنت جبهة الهيئات .. خارج الجَّبهة الوطنيَّة المتحدة" (الرأى العام، 31/3/2001م). سياق هذا الحديث يفيد أولاً: بأن الأحزاب التقليديَّة المتحالفة في إطار الجبهة الوطنيَّة المتحدة هي وحدها "التركيبة السِّياسيَّة الموجودة"! وثانياً: بأن صفة وجود هذه "التركيبة" هى الدَّيمومة والثبات الأزليين! وثالثاً: بأن هذه (التركيبة) وحدها هي التي يحِلُّ لها تشكيل التحالفات، وليس أمام اليسار سوى الالتحاق بها، أو الانتحار، فيُحرَّم عليه أيِّ تحالف (يتجاوز) هذه (التركيبة)! فإنْ أضفنا إلى ذلك أن هذه المعادلة الاستبداديَّة، والتى لطالما تسبَّبت في الإضرار بمسيرة التطوُّر الديموقراطى في البلاد، بقيت قائمة بثبات لا يتزحزح ضمن شروط القوى التقليديَّة لممارسة (الشَّراكة الدِّيموقراطيَّة!)، سواء بمصطلح (التركيبة السِّياسيَّة الموجودة)، أو بمصطلح (الأحزاب الكبيرة)، فإننا لا نستطيع تفادي السؤال عن جدوى أيَّة حركة سياسيَّة، أصلاً، طالما كان محكوماً عليها بألا تطمح للانطلاق ، دَعْ (التخطي) أو (التجاوز)؟! وإلا، فأيَّة هِمَّة، بالحق، يمكن أن ترتفع تحت قبضة شرط خانق، كهذا، بأن يبقى الكبير كبيراً والصغير صغيراً إلى الأبد؟! من يقبل التواثق، مع كائن من كان، على التحاكم إلى شرط مستحيل كهذا؟! من ذا الذى يضع الأنشوطة بيديه حول عنقه؟! المؤكد أننا نقدِّر عالياً إقرار السَّيِّد الصادق، قبل ذلك، بالخطأ في قضيَّة حلِّ الحزب الشِّيوعي، والاعتذار عنه، ولو بعد عشرين عاماً، بقوله إن "ما حدث كان انفعالاً .. كان موقفاً سياسياً غير محسوب نتج عن موقف انفعالي" (من حديث لمجلة طلاب جامعة الخرطوم عام 1985م ـ ضمن القدَّال؛ معالم ..، ص 162). مع ذلك، بل وربَّما لأجل ذلك، لا يمكننا إخفاء حيرتنا من أن يأتي المجتزأ أعلاه من حديث الرجل عن (اليسار والتركيبة السِّياسيَّة الموجودة) لاحقاً على اعتذاره الجهير، المستقيم، المشار إليه.
(24) لم تحظ عبرة تلك الأحداث، حتى الآن، في ما يبدو، بما يكفى من الاعتبار. وسوف تبقى راسخة في ذاكرة التجربة الدِّيموقراطيَّة في بلادنا، كعلامة بارزة على أزمتها العميقة الدَّالة على طابعها الشَّكلانى، وارتهانها لشيوع مفاهيم القطاع التقليدي في أفق الفكر السِّياسي للأحزاب والقوى التى ما انفكت تفرِّط فى هذه الدِّيموقراطيَّة، المرَّة تلو المرَّة، كي تعود، المرَّة تلو المرَّة، أيضاً، لتسلخ أعماراً بأكملها في مناجزة الدكتاتوريَّات، بأفدح التضحيَّات وأبهظ الأثمان، ما بين صقيع المهاجر والمنافي، ووحشة السُّجون والمعتقلات، وقطع الأرزاق، بل .. والأعناق فى أقبية التعذيب، وساحات الإعدام، وطقوس الطمر الليلى في المقابر الجَّماعيَّة المجهولة! إن القوى التقليديَّة، باستهدافها لوجود الحزب الشِّيوعى، عقب ثورة أكتوبر، في محاولة لتحجيم نفوذه، والحدِّ من تأثيره، مستخدمة، من عجب، ذات آليَّات الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة، إنما كانت تسدِّد خنجراً مسموماً، لا لصدر الحزب وحده، بأرواحه التسعين على أيَّة حال، أو لصدر التجربة الدِّيموقراطيَّة، فحسب، بالمصادمة لكون استعادتها، المرَّة تلو المرَّة، قد استقرت كقانون ثابت للتطوُّر في بلادنا، بل، فوق ذلك كله، وقبل ذلك كله، لصدرها هى نفسها، ولمستقبل تبحبحها فى أكناف مقاصدها، حيث ضيَّقت واسعاً أمام حركتها لما ضيقت واسعاً أمام حركة الحزب، وأحبطت (ملاذاتها الآمنة) حين أحبطت قبوله القديم بأشراط الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة وقواعدها! وهكذا ما لبث أن ارتفع في أوساطه، بل وفي أوساط الحركة الجَّماهيريَّة، عموماً، وبخاصَّة بين جماهير الحضر وقواها الحديثة، السُّؤال المنطقى الوحيد، للأسف، والذي كان، قبيل انقلاب مايو 1969م، قد تشبَّع، حدَّ الاحتقان، بكلِّ (علقم) تلك التجربة، وهو: ما جدوى (الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة) أصلاً! (نواصل)
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (3)
-
إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (2)
-
إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (1)
-
الأَمَازُونِيَّات!
-
إِنْزِلاقَاتُ الصُّدُوع!
-
عَوْلَمَةُ الشَّعْرِ الهِنْدِي!
-
سَنَةُ مَوْتِ سَارَامَاغُو!
-
رَطْلُ لَحْمٍ آخَر لِشَيْلُوك!
-
الدَّوْحَة: أَبْوَجَةُ الذَّاكِرة!
-
مَنْ تُرَى يُقنِعُ الدِّيك!
-
مَوَاسيرُ الطُّفَيْليَّة!
-
حكاية الجَّماعة ديل! (4 4) أَحْلافُ النَّظَائِرِ والنَّقَائ
...
-
حكايةُ الجَّماعة .. ديل! (3) هَمُّ الشَّعْبي وهَمُّ الشَّعْب
...
-
حكايةُ الجَّماعة .. ديل! (2) إرتِبَاكاتُ حَلْبِ التُّيوسْ!
-
حكايةُ الجَّماعة .. ديل (1 2) الاِسْتِكْرَاد!
-
مَنْ يَرقُصُ لا يُخفي لحْيَتَه!
-
بَرَاقشُ .. الأَفريقيَّة!
-
السَّيْطَرَةُ الهجْريَّة!
-
رَدُّ التَحيَّة بأَحْسَن منْهَا!
-
لَيْلَةُ البَلاَلاَيْكَا!
المزيد.....
-
وسط جدل أنه -استسلام-.. عمدة بلدية كريات شمونة يكشف لـCNN ما
...
-
-معاريف- تهاجم نتنياهو وتصفه بالبارع في -خلق الأوهام-
-
الخارجية الإيرانية ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان
-
بعد طردها دبلوماسيا في السفارة البريطانية.. موسكو تحذر لندن
...
-
مراسلنا: مقتل 8 فلسطينيين بينهم أطفال في قصف إسرائيلي استهدف
...
-
مع تفعيل -وقف إطلاق النار.. -الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا عا
...
-
هواوي تزيح الستار عن هاتفها المتطور القابل للطي
-
-الإندبندنت-: سجون بريطانيا تكتظ بالسجناء والقوارض والبق وال
...
-
ترامب يوقع مذكرة تفاهم مع البيت الأبيض لبدء عملية انتقال الس
...
-
بعد سريان الهدنة.. الجيش الإسرائيلي يحذر نازحين من العودة إل
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|