أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم منصوري - عندما يحتضر الفرس وتلام المرأة















المزيد.....

عندما يحتضر الفرس وتلام المرأة


إبراهيم منصوري

الحوار المتمدن-العدد: 3094 - 2010 / 8 / 14 - 13:46
المحور: الادب والفن
    


حدثت هذه الواقعة في يوم من أيام شهر مارس في منطقة قصية من جبال الأطلس المتوسط بالمغرب. كان فصل الربيع يرفل في أزهاره البهية وغلاله المعطاء إذ كانت السماء سخية ذلك العام وهطلت الأمطار مدرارا بعد حول كان شحيحا وسنوات كانت عجافا. كان إبراهيم، ذلك القروي الأمازيغي الفقير المعتز بنفسه، يحب ركوب الخيل والمشاركة في الفنتازيا التي تنظم في شهر مارس من كل سنة في إطار موسم القبيلة السنوي الذي يخلد لذكرى أحد الأولياء الصالحين المدفونين هناك. تأتي فرق الخيالة من كل فج عميق وينتظم الفرسان على شكل خط أفقي حاملين بنادقهم المحشوة بالبارود وهم على ظهور جيادهم ينتظرون إشارة خاصة من زعيم الفرقة ليطلقوا العنان للركض في تناسق بديع قبل أن يفرغوا في نهاية السباق ما تحشوه بنادقهم مما يحدث دويا يزعزع آذان الناس.

هذا ما كان يحبه إبراهيم حبا جما إلى حد الاستلاب. ولكن من أين له هذا الفرس الذي يمكن أن يجاري أعتى الفرسان وأشدهم مراسا؟ من أين له المال لشراء فرس تتعدى قيمته السوقية سعر سيارة محترمة وهو لا يملك من شظى العيش إلا اللمام بعد سنوات عجاف أهلكت النسل والحرث؟ فكر إبراهيم كثيرا وتناسلت الأفكار في ذهنه فلم يجد حلا. تملكه القلق وتوترت أعصابه فأصبح يضرب أخماسا في أسداس ولم تسلم حتى ذريته وقرينته من دكتاتوريته المتعالية وتقشفه الزائد. لم يعد يدري حتى إن كان الأطفال يذهبون كما العادة إلى مدرستهم البعيدة. زادت أعصابه توترا في ذلك الصباح فخرج إلى المسجد المحاذي لمنزله الآيل للسقوط ليلتقي في رحابه ثلة من أبناء القرية. بادره أحدهم بالقول: "ألا تشرفنا يا سيد إبراهيم بمشاركتك البطولية في فنتازيا الفرسان هذا العام؟ إننا نراك هذه المرة أقل استعدادا للحدث السعيد !". لاحظ إبراهيم حركات الهمز واللمز والغمز على وجوه أبناء القرية فأثر فيه ذلك تأثيرا كبيرا وأحس بالغبن وشعر كأن جوانب فناء المسجد تدور به إلى حد الغثيان. نهض إبراهيم من على حصيرة الدوم التي كان جاثما عليها فنفض الغبار عن مؤخرته وولى خارجا دون أن ينبس ببنت شفة. شق طريقه حالا صوب بقال القرية فطلب كوب ماء وشرب حتى ارتوى. بلل العرق لحيته المخضرمة فجلس على كرسي صغير لعله يرتاح ويستجمع قواه. "ما لي أراك يا إبراهيم مهموما مغموما عرقانا خائر القوى؟"، هكذا سأله بقال القرية. "آه يا حسين، قدر لي أخيرا أن تتغامز علي شرذمة من أبناء الشرموطات!". "ألا تفصح يا هذا؟ ماذا حدث؟ ألا تقلها بدون لف ولا دوران؟". "أه يا حسين، تغامزوا علي وهم مجتمعون في المسجد؛ لقد ارتكبوا ذنبين، ذنب التغامز وارتكاب الذنب في المسجد وإنما المساجد لله، أليس كذلك؟ هذا ما يقوله فقيهنا العظيم الجليل!". "ولكن يا إبراهيم، لم تقل لي لماذا تغامزوا عليك، ألست من فحول القبيلة؟ ألا يضرب بك المثل في الكرم وحسن الضيافة؟ ألست سيد الفرسان وزعيمهم؟". "كنت سيد الفرسان وزعيمهم يا حسين، لكني لا أكاد أكون الآن حتى بعوضة تحت ضلال خيولهم!". "ويحك يا إبراهيم! ما لي أراك متشائما حتى النخاع؟". "ولم لا أتشاءم يا حسين وأنت تعرف أني لا أستطيع حتى شراء حمار تعبان وما بالك بحصان أدهم يسر نظر الأصدقاء ويثقب عيون الأعداء وأدخل به غمار الفنتازيا السنوية وموسم الولي الصالح على الأبواب؟". "ولم لا تطلب من أخيك الأستاذ الجامعي بالرباط أن يمدك بالنقود الضرورية لتحقيق مبتغاك؟ لم يصلح الأشقاء يا إبراهيم إذا لم يؤازروا إخوانهم في السراء والضراء؟". "آه يا حسين، لن يرق لي قلب شقيقي بالرباط هذه المرة لأنه اختبرني منذ ثلاث سنوات عندما قام لصالحي بتمويل استثمار هام في قطعان بقر وغنم بعت كل رؤؤسها رأسا بعد رأس!".

فكر البقال طويلا قبل أن يطلب من إبراهيم هاتفه المحمول فنادى شخصا من معارفه طالبا منه أن يأتي إلى الدكان حالا. اتفق الثلاثة أن يتجهوا صباح اليوم الموالي عند أحد المزارعين العرب الأغنياء بسهول "تادلة" لعله يعيرهم أحد خيوله حتى يتمكن إبراهيم خوض غمار فنتازيا الولي الصالح برحاب قبيلته. أخذوا كيسا كبيرا من السكر المخروطي كهدية للمزارع العربي واتجهوا إلى مقامه طالبين راغبين مناشدين. استقبلهم المزارع الجليل بحفاوة كبيرة ولبى نداءهم بكل تلقائية فعاد إبراهيم إلى قريته وهو يطل على الناس من على ظهر فرس أدهم قل نظيره حتى عند علية القوم في قبيلته. كان الكل يهمس: "من أين له هذا الفرس الخرافي؟ أيكون أخوه الأستاذ الجامعي المرموق قد رق قلبه لحاله فاشتراه له؟ ياله من حصان رشيق القوام يركب على ظهره رجل لا يملك حتى عشاء ليلته بعد أن بذر ألأموال التي أغدقها عليه أخوه!...". كانت تفصله عن موسم الولي الصالح أربعة أيام ضل خلالها يروض الحصان ويتباهى به أمام الملإ حتى أجهده أيما إجهاد لا سيما أنه تفنن في تجويعه تجويعا قل نظيره. دخل الحصان الأدهم غمار الفنتازيا للاحتفال بذكرى الولي الصالح وتحمل وزر الكر والفر والإقبال والإدبار لثلاثة أيام متتالية رغم أنه لم يكن يأكل إلا الفتات والنذر القليل من الطعام في حين كان إبراهيم يلتهم ما دسم من النعم حتى حد التخمة.

مرت أيام الموسم الثلاثة فجمع إبراهيم أغراضه عائدا إلى قريته على ظهر الفرس المعار المنهك. كان كعادته يطل من على ظهر بهيمته مزهوا بنفسه ومتعاليا على القوم كأنه ملك جبار. استسلم للنوم باكرا حتى أيقظته زوجته في الهزيع الأخير من الليل منذرة أن الحصان يئن ويتنفس بصعوبة وربما حدث له مكروه جلل. وصلت الرسالة بوضوح إلى أذني إبراهيم ولكنه لم يكلف نفسه عناء الاستيقاظ والنظر في الأمر فعاد للغرق في سباته العميق. استفاق الفارس العجيب وقد مدت الشمس أشعتها في رحاب القرية فتوضأ ثم صلى بعض الركعات. توجه بعد ذلك نحو الإسطبل الضيق فوجد الفرس في حالة صحية حرجة جدا وأعلن في أرجاء القرية حالة الطوارئ القصوى. حضر الجميع رجالا ونساء، فتيانا وفتيات وبسرعة مذهلة لم يعرفها تاريخ القرية قط حتى في أحلك اللحظات. جلست النساء في جانب وجلس الرجال في جانب آخر مقابل وكلهم يطلبون جهرا من الله الصحة والعافية وطول العمر للفرس الأدهم. كان يتوالى نحيب النساء ويخترق الآفاق بينما كان إبراهيم منزويا في ركن ضيق وهو يبكي حظه العثر في صمت.

كان الحصان الأدهم يحتضر ببطء فما عسى للبكاء أن يفعل لفك لغز الاحتضار؟ في ذلك الوقت، بزغ من ثنايا الحضور شيخ طاعن في السن فوقف فجأة على الخط الفاصل بين الجمعين الذكوري والأنثوي وولى وجهه نحو النساء مناديا: "أيتها النسوان، ألتمس من الله تعالى أن يهدي كل واحدة منكن سواء السبيل وأن يجعل منكن خير الزوجات وأصلحهن؛ أما بعد فإن الحصان الأدهم يحتضر ولا مناص لشفائه من أحدكن! فقد حضرت في يوم من الأيام درسا من دروس أحد الفقهاء المتضلعين الصناديد في منطقة من مناطق جنوب المغرب، يقول فيه إن مرض حصان يكفي لشفائه أن تتخطاه امرأة تعرف عن نفسها أنها لم تزني أبدا على بعلها ولو كان الحصان قد وصل به الداء إلى حد الاحتضار! ولذلك أعزكن الله، نريد من إحدى شريفاتكن أن تتفضل بتخطي الفرس الأدهم المحتضر حتى يشفى ونجنب بذلك على أخينا إبراهيم صرف أموال طائلة لتعويض مالك الفرس وهو كما يعرف الجميع، يعيش ضائقة مالية كبيرة". كان كل واحد من الرجال الحاضرين يترقب بتوتر تطوع زوجته للقيام بالمهمة الصعبة. لم تستجب أي من النساء الحاضرات لطلب الشيخ وطأطأن كلهن رؤوسهن معلنات عن عجزهن عن المبادرة في ذلك الوقت الحرج. انتابت كل رجل من الحضور هستيريا عارمة حامية وكان الكل يضرب بالأيدي على الأفخاذ حتى ليخيل للرائي أن بهم مسا من الجنون. كان كل رجل يردد سرا أو علانية:"يا ويلي! مالي والفرس الأدهم؟ فليمت الفرس الأدهم وليذهب إلى الجحيم ما دامت كل النساء فاسدات! بكيت حيوانا أعجم وكان أولى بي أن أبكي نفسي وشرفي!". مات الفرس وتفرق الجمع واقتنع الكل أن النساء كلهن سواسية في الفاحشة والمنكر ما دمن ينحدرن من ضلع أعوج لآدم ولم يكلف أحد نفسه عناء سبر أغوار ذلك الحدث بتبصر وبعد نظر ومن أين لهؤلاء بصيرة والجهل ينخر عقولهم ويلقي بها في إجازات طويلة جدا؟

بقي إبراهيم وحيدا يبكي شرفه وفرسه المعار بعدما نفض الجميع من حوله. في اليوم الموالي، جاء عنده بقال القرية واقترح عليه التوجه عند مالك الحصان لإخباره بالمصاب الجلل والتفاوض حول طريقة التعويض. تفاجأ الاثنان لما حافظ صاحب الفرس الراحل عن هدوئه معلنا أمام الملإ أنه يتنازل عن حقه في التعويض متبعا في ذلك خطى أجداده الذين لم يعرف عنهم قط أن أغرموا أحدا. انفرجت أسارير إبراهيم فشكر المزارع الكريم وعاد مع صديقه البقال إلى قريته النائية. انزوى في ركن من أركان منزله واعتكف به لعدة أيام كأنه يريد أن يفجر معجزة خارقة. في ليلة من لياليه الاعتكافية، وسوس له شيطانه أن يضع فخا محكما لأخيه الأستاذ الجامعي فهاتفه وهو يذرف دموع التماسيح: "يا أخي يا ابن أمي وأبي، أغثني حالا قبل أن أشيب في السجن! مر موسم الولي الصالح مر الكرام ومات الحصان المعار يا أخي! سيموت أطفالي يا أخي وسيفرح الأعداء! طلب مني مالك الحصان الأدهم ثمانية آلاف درهم يا أعز أشقائي !". تأثر أخوه بذلك الخطاب الممنهج وتلك التوسلات المحتارة بإتقان فوعده أن يتدبر أمره بعد ثلاثة أيام. اتصل الأستاذ الجامعي بإحدى شركات التمويل وطلب قرضا لحل مشكلة أخيه المزعومة. توصل إبراهيم بالمبلغ المطلوب ليبذره تبذيرا عشوائيا غافلا أن أخاه سيظل يؤدي أقساط القرض لسبع سنوات طوال. بعد مدة، سقط خبر أكاذيب إبراهيم على الأستاذ الجامعي المغفل كالصاعقة فقرر حالا أن يقطع عنه حبل السند إلى الأبد. فسد إبراهيم فهل النساء كلهن حقا فاسدات؟ مجرد سؤال...



#إبراهيم_منصوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ...وسار على الدرب عاما حافي القدمين
- أربع وعشرون ساعة في أمستردام
- قصة قصيرة ولكنها من الواقع: (الفحام الوقح الجريء: زوجته وأتا ...
- بوكماخ في بلاد السنغال
- ذكرى الوالدة
- في مدح النمو: أشعار في مفهوم غير مفهوم
- قصيدة شوق جديدة: من اللسان الأمازيغي إلى لغة الضاد
- في مدح صاحب الجلالة أصل النمو: حفنة أشعار في مفهوم الادخار
- شركات الأمن الخاص بالمغرب: احترافية متدنية واستغلال بشع للعم ...


المزيد.....




- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم منصوري - عندما يحتضر الفرس وتلام المرأة