|
العقل والجنون
صاحب الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 3093 - 2010 / 8 / 13 - 20:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يعدّ العقل منظومة ضبط وتحكم للجسد والسلوك حيث يفرض ضوابطه المستمدة من ضوابط النظام الاجتماعي ليكتسب الفرد اعترافاً اجتماعياً بذاته للعيش مع أقرانه من البشر داخل النظام الاجتماعي الذي يضمن حقوق الأفراد والجماعات، بذلك يعدّ العقل الجمعي الوحدة الكلية الجامعة لعقول الأفراد والجماعات داخل النظام الاجتماعي. والعقلانية تعدّ اجتهاداً من الاجتهادات العقلية المعبرة عن مجموعة أفراد في نظام اجتماعي ما، وبما أن أداة التحكم الذاتي للكائن عقله، فيجب أن يكون سلوكه متوافق مع الايعازات اللاشعورية التي يفرضها العقل على الفرد ليكون منسجماً مع محيطه، لكن عند حدوث أي اضطراب في آلية العقل يختل سلوك الفرد فيخالف أعراف المحيط وقيمه الذي يقسره بآليات القانون والضبط الاجتماعي على استعادة توازنه. على الضد من ذلك حين يكون الاضطراب مزمناً في آلية العقل يصبح السلوك المختل خطر، ليس على الفرد ذاته وإنما على أقرانه من البشر في المجتمع ما يتطلب اخضاعه للعلاج الطبي. تعود أسباب اختلال العقل إلى أمراض وراثية أو نفسية، حيث يتعرض الفرد خلال محطات عمره المختلفة إلى مشكلات صعبة تفوق قدرته العقلية على تخطيها فيصاب بأمراض نفسية وتختل آلية التحكم الواعي لصالح آلية التحكم اللاواعي. يعتقد (( ميشيل فوكو )) " أن الجنون عقلاً يشوبه قدراً من السلبية، بعدّها العنصر الأقرب إلى العقل الذي لا يمكن تخطيها أو العقل الذي تلازمه قرينة لا تمحى من اللاعقل ". لا يشتغل النظام العقلي بآلية الوعي وحدها وإنما يستعين أحياناً بآليات اللاوعي لادراك الأشياء التي يصعب عليه إدراكها أو اصدار الأحكام الدقيقة بشأنها. كما أن العقل اللاواعي غالباً يختزن الأفكار المعقدة التي يصعب على العقل الواعي إدراكها لأن نظامه يشتغل بآليات غير منفصلة عن العقل الجمعي للمجتمع وسياق عمله يخضع إلى النظام العام أكثر من النظام الذاتي للفرد. أما نظام العقل اللاواعي وآلياته فبعيد كل البعد عن نظام العقل الجمعي وآلياته، وتعدّ آليات اشتغاله مستقلة وغير مرتبطة بآليات تحكم أخرى. فحين تنساب الأفكار تجري حرة، طليقة غير مقيدة بنظام تحكم، فقط العقل يقسرها الانصياع إلى النظام كونه آداة التحكم والضبط والمرتبط بآليات العقل الجمعي فيوصمها بالأفكار المجنونة، أي أنها متعارضة مع العقلانية وأصحابها مجانين. إن حالة الجنون على الرغم من وصفها حالة مرضية، حالة انفصام بالشخصية ، لكنها قد تكون حالة غير مرضية بعدّها عقلاً آخراً يرفض الانصياع للعقل الجمعي الذي يقر بأعراف المجتمع وقيمه أو بوصفها حالة رفض الفرد على نحو غير عقلاني لقيم محيطه. وحين يكون الرفض لقيم المحيط لا يسبب الأذى للفرد نفسه والآخرين، يمكن عدّه استقلالاً للذات عن المحيط وليس جنوناً سلبياً وإنما هو عقلاً آخراً يرفض الانصياع للعقل الواعي المرتبط بالعقل الجمعي. يقول (( ميشيل فوكو )) : " أصبح الجنون مرتبط بالعقل بصلة أبدية لا فكاك منها، فلكل جنون عقلاً يحكم عليه ويتحكم به. ولكل عقل جنونه الذي يخفي بداخله حقيقيته المفترضة، وبمعيار قياس المرجعية المتبادلة ذاتها يرفض بعضها بعض ولكنهما لا يتأسسان إلا استناداً إلى هذه الصلة ". الجنون المرتبط بآلية لا إرادية يعدّ جنوناً مرضياً، والجنون المرتبط بآلية إرادية يعدّ جنوناً غير مرضي يختاره الفرد بإرادته طوعاً لرفضه عالم المحيط. فالجنون اللا إرادي حالة لا عقلية لاختلال وظائف الوعي بفعل عوامل وراثية أو مرضية لكن الجنون الإرادي حالة عقلية لرفض آليات الوعي بفعل عوامل نفسية خارجة على العقل الجمعي لعالم المحيط تلجأ خلالها الذات إلى عالم مجهول ذات قوى خفية يستمد منها الفرد آليات جديدة تحكم سلوكه وتصرفه مع محيطه فيكون شاذاً عنه وغالباً ما يصاب به العلماء والفلاسفة فيكون نتاجهم خارق يفوق بإبداعه مرات كثيرة ما ينتجه الفرد المنصاع إلى العقل الجمعي للمحيط. هذا الجنون الإرادي ليس إرادياً محضاً لكنه حالة جذب مغناطيسي للذات إلى عالم مجهول ينساق إليه من دون وعي لأنه يبحث عن عالم مغاير أفضل بأنظمته وآلياته ونسقه الفكري والعلمي والفلسفي من عالم المحيط الذي يسوقه العقل الجمعي غير المستجيب للقوى الذاتية الخفية الكامنة في الفرد الرافض له. يعتقد (( ميشيل فوكو )) " أن الجنون شكلاً من أشكال العقل، إنه يندمج معه ليشكلا إما قوى خفية وأما لحظة من لحظات التجلي وأما شكلاً مخالفاً يعي ذاته بذاته، وفي جميع الحالات فإن الجنون ليس له معنى ولا قيمة إلا داخل إطار العقل ". إن الجنون الإرادي عقلاً خفياً في دهاليز اللاواعي بعدّه جزءاً من العقل الواعي، فالجنون حالة كامنة في العقل تحفزه قوى خفية وراثية أو مرضة أو نفسية مشخصة الأسباب في حالتها المرضية وقد تكون غير مشخصة الأسباب في حالتها غير المرضية لارتباطها بقوى خفية تنقل الذات على نحو إرادي إلى عالم آخر يستمد الفرد منه مستلزماته الفكرية التي لا يمكن أن تكون متاحة في عالم العقل الجمعي للمحيط. الموقع الشخصي للكاتب : http://www.watersexpert.se/
#صاحب_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العقل والتفكير
-
موجبات الانصياع للعقل
-
العقل والفكرة العقلانية
-
آلية عمل العقل
-
قصور منظومة العقل
-
ماهية العقل
-
سلطة الدين في الخير والشر
-
دور قيم الفضيلة والرذيلة في تعزيز النظام الاجتماعي
-
اكتساب قيم الفضيلة والرذيلة من المجتمع
-
معيار الفضيلة والرذيلة في المجتمع
-
القيم الأخلاقية في المجتمع
-
التعامل مع الأشرار
-
كتاب جديد صدر في دمشق للكاتب صاحب الربيعي
-
كتاب جديد للكاتب صاحب الربيعي
-
ثنائية الخير والشر الكامنة في الذات
-
ضرورة الشر
-
صدر كتاب جديد للباحث صاحب الربيعي
-
رحل شيخ المنافي إلى منفاه الأخير ( رحيل الشاعر كاظم السماوي
...
-
آلية صناعة وإتخاذ القرار السياسي
-
ديمقراطية الاحتلال والدفاع عن الوطن
المزيد.....
-
إليك ما نعرفه عن اصطدام طائرة الركاب ومروحية بلاك هوك وسقوطه
...
-
معلومات سريعة عن نهر بوتوماك لفهم مدى تعقيد البحث عن حطام ال
...
-
أول تعليق من ترامب على حادثة اصطدام طائرة ركاب ومروحية عسكري
...
-
حوافه حادة..مغامر إماراتي يوثق تجربة مساره بوادي خطير في قير
...
-
كيف نجا قائد الطائرة إف-35 -الأكثر فتكا في العالم- بعد تحطمه
...
-
إيطاليا تعيد كنوزا عراقية منهوبة.. قطع خلدت ذكرى من شيدوا ال
...
-
FBI يستبعد العمل الإرهابي في حادث اصطدام طائرة الركاب بمروحي
...
-
بعد كارثة مطار ريغان.. الإعلام الأمريكي يستحضر آخر حادث كبي
...
-
جورجيا تنسحب من الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا بعد مطالباته
...
-
الائتلاف الوطني السوري يهنئ الشرع بتنصيبه رئيسا للجمهورية
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|