أحمد جميل حمودي
الحوار المتمدن-العدد: 3091 - 2010 / 8 / 11 - 10:21
المحور:
المجتمع المدني
المناقشة الدولية الحالية تكشف عن الاتجاه العالمي واسع النطاق للتحول من المركزية إلى نظم اللامركزية، أي التحول من الرقابة الحكومية Government Control المباشرة إلى مزيد من الحوكمة. ففي العديد من البلدان، تتجه نحو مزيد من استقلال Autonomy المؤسسات من حيث الحوكمة، والإدارة، والاستراتيجية، بدافع عدة عوامل، أي خفض التمويل الأساسي Core Funding، وزيادة ضغوط السوق، ودور أوسع للمؤسسات. أيضاً المحاسبية وتأسيس آليات لضمانها، أثرت في زيادة استقلال المؤسسات. إنه من الواضح أنه بينما العلاقات المؤسسية في الماضي موجهة نحو الحكومة المركزية، فإن أصحاب المصلحة في الوقت الحاضر يوضحون اهتماماتهم ومطالبهم، والذي ينتج في عمليات الإدارة وصنع القرار الداخلي المعقد. وهذا يجعل الإدارة المؤسسية الفعالة ضرورية.(1)
والسؤال الذي يطرح نفسه ما هو وضع الحرية الأكاديمية في ظل هذه التغيرات الجذرية ؟
فمن خلال مطالعة الاتجاهات العالمية ورديفها من التطبيقات القومية يتضح أن هناك تأثيرات متعددة على الحرية الأكاديمية. فالجامعات كانت وستظل أهم الحقول المتنازع عليها، حيث من المتوقع أن النزاع الاجتماعي Contestation سينتشر في كل مكان. كما لاحظ مكانديوايري Mkandawire ، أن الحرية الأكاديمية هي واحدة من بين العديد من مواقع النضال من أجل الديمقراطية.(2)
لذا فإن سياسات التعليم العالي عليها أن تقدم بوضوح كيفية تطبيق هذه الاتجاهات- آنفة الذكر- متفقة مع الحرية الأكاديمية. بحيث تتم حماية أعضاء هيئة التدريس والطلاب في سعيهم من أجل الحقيقة.(3)
ومن المعروف أن الحرية الأكاديمية من التقاليد الأكاديمية الراسخة في الدول الديمقراطية، ففي إحدى نتائج التقارير الدولية لنظم التعليم العالي ، بناء على الدراسات الاستقصائية لحوالي 1،000 عضو هيئة تدريس في كل من الدول التالية : الولايات المتحدة وألمانيا وهولندا وروسيا والسويد والمملكة المتحدة وهونغ كونغ واليابان وكوريا والبرازيل وشيلي والمكسيك واسرائيل واستراليا. رأى أعضاء هيئة التدريس أن الحرية الأكاديمية كانت محمية على الصعيد الوطني، لكن في بعض الأحيان غير مدعومة من قبل المسؤولين في الحرم الجامعي.(4)
لذا فإن إحدى أكثر المسائل جدلاً هي كيف نحصل على ضمان الجودة والاعتماد الجامعي، والذي يتطلب معايير دقيقة خطية متطلبة من أعضاء هيئة التدريس والمجتمع الجامعي ككل، في حين أن الحرية الاكاديمية تقوم على أساس حرية البحث العلمي والتدريس؟ فحسب فكرة هومبولدتين Humboldtian ، في أوائل القرن التاسع عشر، إن الحرية الأكاديمية تعني: حرية التعليم والتعلم، فالحرية الأكاديمية تعطي الأساتذة والأوساط الأكاديمية حماية خاصة وحقوقاً خاصة بسبب تفانيهم في متابعة المعرفة والحقيقة. ومع ذلك، فإن الحرية الأكاديمية كانت ولعدة أسباب غير مشروطة أبداً.(5)
من هنا فإن توصية اليونسكو (2005) المتعلقة بوضع القائمين بتدريس التعليم العالي، تؤكد أنه يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، من قبل جميع المؤسسات ومقدمي الخدمات التعليمية، دعم شروط العمل الأكاديمي الجيد، والحرية الأكاديمية والحوكمة الجماعيةCollective Govrenance. (6)
ووفقاً لذلك فإن مؤسسات الدول التزمت علناً بالحرية الأكاديمية لأعضاء هيئة التدريس، والموظفين، والطلاب ، والعمل طبقاً لذلك. وهذا الالتزام يؤكد أن هؤلاء في العمل الأكاديمي لهم الحرية في تبادل قناعاتهم ومسؤولية الاستنتاجات مع زملائهم وطلابهم في تدريسهم وكتاباتهم. (7)
لكن هذا لا يعني ان الحرية الأكاديمية في وضعية صحية من حيث الفلسفة التي تقوم عليها أو من خلال السياسات والقوانين الانتهاكية التي تمارسها معظم الدول، على اختلاف في حدة هذه الانتهاكات. حيث ترى إحدى الدراسات أن الحرية الأكاديمية، في أجزاء كثيرة من العالم ، تتعرض للانتهاك. فعالم الاجتماع المصري اعتقل بتهمة "تشويه" Defaming سمعة مصر (سعد الدين إبراهيم)، وفي هونغ كونغ حُذر خبير الاستطلاعات الأكاديمي، من قبل نائب رئيس جامعة بلاده، من نشر استطلاعات الرأي المحرجة للرئيس التنفيذي في المنطقة، والأكاديميون في صربيا قد ألقي القبض عليهم بشكل روتيني بسبب معارضتهم للنظام. والأكاديميون في اندونيسيا الذين شاركوا في الحراك الديمقراطي، الذين نجحوا اخيراً في اسقاط نظام سوهارتو، في بعض الأحيان سجنوا أو اطلق سراحهم من قبل حكومة سوهارتو، الذين لم يرتكبو جريمة سوى حرية التعبير. وفي ماليزيا وسنغافورة، بعض المواضيع هي من المحرمات في البحث أو النشر بسبب ضغط الحكومة. أي إن الحرية الأكاديمية ليست بأي حال آمنة في جميع أنحاء العالم، حسب رأي الدراسة. (8)
اما على مستوى ممارسة الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية فإنها، حسب دراسات حديثة، تعاني من ضعف واضح، وفي بعض الحالات من انتهاك صارخ، وفي حالات دول عربية أخرى فإن مسألة الحريات الأكاديمية غير مطروحة على مستوى السياسات والخطط، أي هي من المحرمات (التابو).
فقد توصلت إحدى الدراسات العربية (2003) إلى أن واقع ممارسة الحرية الأكاديمية لـدى أعضاء هيئة التدريس بكليات التربية الرياضية (مصر) قيد البحث كان ضعيفًا بنسبة 41,7 % فقط.(9)
كما توصلت دراسة عربية أخرى (2005) إلى أن محور التدريس يأتى فى المرتبة الأولى بين المحأور الأربعة فى علاقته بمستوى الرضا الوظيفى لأعضاء هيئات التدريس التربويين، يليه محورالإنتاج العلمى ثم محور النشاط العلمى، وأخيرًا الحرية الأكاديمية. (10)
أيضاً توصلت بعض الدراسات الحديثة (2008)، من خلال تحليل نتائج الاستبيان، إلى ارتفاع درجة الشعور بمعوقات الحرية الاكاديمية لدى عينة الدراسة، مما يعطي مؤشراً سالباً عن مناخ العمل الأكاديمي في الجامعات المصرية. (11)
ومما أوقعني بالصدمة ما توصلت إليه نتائج إحدى الدراسات العربية- مصر (2008) من أن درجة ممارسة الحرية الأكاديمية والاستقلال الجامعي كانت في فترة الاحتلال أكبر منها في فترة الاستقلال الوطني بعد ثورة يوليو 1952!.(12)
ورغم أن إحدى الدراسات الفلسطينية (2008) توصلت إلى أن درجة واقع الحرية الأكاديمية لدى أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات الفلسطينية كانت متوسطة حيث وصلت النسبة المئوية للاستجابة للدراسة الكلية إلى 67,6%.(13)، فإن هذا التحسن النسبي يعود إلى طبيعة الوضع الفلسطيني والذي يعود إلى جملة من العوامل، أهمها وقوعه تحت الاحتلال، بحيث إن الضغوط الدولية على اسرائيل يسمح بنوع من التعبير عن معاناة المجتمع الفلسطيني، كذلك عامل التنوع الحزبي والفصائلي يضفي ضرورة وجود قدر من ممارسات الحرية الأكاديمية في الجامعات الفلسطينية على المستوى الطلابي والتدريسي، وإن هناك ما يشير إلى تراجع هذه الحريات أكثر فأكثر بعد النزاع الداخلي بين فتح وحماس وتكتلات باقي الفصائل والأحزاب حول هذين المحورين أي حماس وفتح.
لكن سؤالاً آخر يطرح نفسه ما هي الأسباب التي أدت بتراجع الحريات الأكاديمية على مستوى الدول المتقدمة أو النامية؟
لا أستطيع الإدعاء إن مقالاً كهذا يجيب على هذا السؤال، فالجواب عنه يحتاج إلى دراسة تنظيرية وميدانية تدعم هذا الإطار النظري أو التأصيلي، لكن يمكن إجمال بعض عوامل تراجع الحرية الأكاديمية في العالم، مستقاة من نتائج بعض الدراسات، من أهمها:
[1] القيود الإدارية والقانونية التي فرضتها قوانين تنظيم الجامعات المتعاقبة على ممارسة أعضاء هيئة التدريس لحريتهم الأكاديمية.(14) وهذا المعوق إنما يعود بشكل طبيعي إلى بنية النظام السياسي والاجتماعي في البلاد العربية حيث الحكومات الأوتوقراطية والأنظمة الاجتماعية بالغة التعقيد.
[2] عدم توفر تشجيع التفكير النقدي على مستوى التعليم العربي، وربما العالمي. لذا ترى إحدى الدراسات (2006) أن التفكير الناقد Critical Thinking يحظى بتأييد يكاد يكون عالميا إلا عندما يطبق على المواضيع المثيرة للجدل Controversial Topics. فتجنبا للجدل يبدو أن السياسة السائدة في المؤسسات تجنب الخوض في هذه المسائل خوفاً من الدعاوى القضائية المكلفة أو إلحاق الضرر بالعلاقات العامة. وهناك عدة اتجاهات لتخفيض احتمال أن يتم تطبيق التفكير النقدي في الفصول الدراسية على المواضيع الصعبة : المطالبة بزيادة المساءلة في المجالس التشريعية Legislatures، التدقيق في معايير المحتوى المعتمدة؛ الرقابة على الإنترنت Oversight of Internet وغيرها من الأعمال الفكرية لأساتذة للجامعات؛ تعليمات لأعضاء هيئة التدريس، والمحاولات للحد من التنوع الايديولوجيIdeological Diversity.(15)
[3] تغيرات مشهد الحرية الأكاديمية بعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر، والجبهة Frontier الجديدة من المدونات، وفي إحدى الدراسات شديدة النقد اللاذع، يرى روبرت أونيل Robert O Neil أن هناك توتراً بين المصالح المؤسسية والفردية. حيث تختزل الكثير من الحالات حول سؤال يشهد تنافسا شديدا : من له الحق في أن يقرر ما يتم تدريسه في الفصل الدراسي؟
و يدلل أونيل على مدى تقييد المحاكم على نحو متزايد لأساتذة الجامعات، وكيفية ضعف حماية ما هو موقع/مكتوب على شبكة الإنترنت وما يكتب في البريد الإلكتروني، الذي يجعل الأكاديميين أكثر ضعفا من أي وقت مضى. والأكثر استفزازا، كما يقول أونيل، أن أحدث التهديدات التي تتعرض لها الحرية الأكاديمية لا تأتي من الحكومة، ولكن من القطاع الخاص. فالشركات بشكل متزايد أصبحت هي الراعية والمسيطرة على البحث الجامعي، في حين عين الرقيب يضايق المعلمين بطريقة منهجية على المواقع والمدونات. والأكثر إثارة للقلق، أن هذه التهديدات التي تتعرض لها الحرية الأكاديمية ليست محصنة تقريبا من أجل اللجوء إلى القضاء. (16)
ورغم هذا الواقع الذي يشير إلى تأرجح وضع الحرية الأكاديمية على مستوى الجامعات، فإن هناك تفاؤلا من بعض الباحثين لحالة الحرية الأكاديمية في الجامعات مقارنة بما قبل الحرب الباردة. حيث يزعم العديد من الباحثين، حسب إحدى الدراسات، أنه في بداية القرن 21، هناك سبب كبير للتفاؤل بشأن الحرية الأكاديمية. فالدول التي كانت سابقاً جزءا من الاتحاد السوفياتي، وكذلك بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، حققت مستويات معقولة من الحرية الاكاديمية، على الرغم من أنها لم تكن دائما على انتظام كامل من الحرية الأكاديمية. ومعظم البلدان والنظم الأكاديمية على الأقل تعترف بعض الشيء بما يسمى الحرية الأكاديمية وتعبر عن الالتزام به. لكن الدراسة أكدت أنه ،حتى الآن، الحرية الأكاديمية بعيدة كل البعد عن الأمان، والجهات المعنية بالقيم الاساسية للجامعة تحتاج إلى اليقظة أكثر من أي وقت مضى. وبكلمة واحدة هناك حاجة لإعادة التقييم العالمي للحرية الاكاديمية.(17)
ويلاحظ أن أياً من مؤشرات التحسن في الحريات الأكاديمية السابق ذكرها، يغيب عنها العالم العربي!. حتى في دول افريقيا هناك تحسن في ممارسة هذه الحرية، والتي تسير طردا مع تحسن الحريات السياسية والمشاركة في الانتخابات. ما يؤكد إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين التنمية والحريات السياسية ومدى حجم هذه العلاقة الجدلية، والتي لا يتسع المقام للنظر فيها ونقدها، ولعل خير الأعمال في هذا المجال أعمال المفكر الاقتصادي الهندي، الحائز على جائزة نوبل، أمارتيا صن.
في نهاية المطاف، إذا كانت استقلالية الجامعات تعني أن الجامعات يجب أن تكون متحررة من ضغوط المصالح الخارجية في الميادين المختلفة، سواء كانت اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو ثقافية، فإنه في نفس الوقت لا ينبغي ان يكون دعم الجامعات بالموارد المالية من قبل الدولة ومؤسسات الاعمال يؤثر سلبا على استقلالية الجامعات. ومن المهم جدا ان يكون المثقفون في حالة تأهب ضد أي جهود رامية إلى خفض استقلالية الجامعات، وأن يتعأون المجتمع العلمي في العالم لتعزيز استقلالية الجامعات. (18)
الهوامش:
1- Evanthia Kalpazidou Schmidt & Kamma Langberg: Academic autonomy in a rapidly changing higher education framework, European Education, vol. 39, no. 4, Winter 2007–8, pp. 80-83.
2- Chachage Seithy L. Chachage: Academic Freedom and the Social Responsibilities of Academics in Tanzania, African Books Collective, 2008.
3- Accrediting Commission for Senior Colleges and Universities: Handbook of Accreditation, Western Association of Schools and Colleges,2008, p12.
4- Boyer Ernest L.et.al: The Academic Profession: An International Perspective. A Special Report, Carnegie Foundation for the Advancement of Teaching, California/Princeton Fulfillment Services, 1994.
5- Evanthia Kalpazidou Schmidt & Kamma Langberg: Academic Autonomy in a Rapidly Changing Higher Education Framework, op.cit, p 86
6- UNESCO: Guidelines for Quality Provision in Cross-border Higher Education, Published by the United Nations Educational, Scientifi c and Cultural Organization2005,P 15.
7- Accrediting Commission for Senior Colleges and Universities: Handbook of Accreditation, Western Association of Schools and Colleges,2008, p12
8- Joseph Ben-David and Randall Collins: A comparative Study of Academic freedom and student politics, in " State and society: a reader in comparative political sociology", University of California Press, 1973, p 402.
9- عمرو حسن أحمد بدران واقع ممارسة الحرية الأكاديمية لأعضاء هيئة التدريس بكليات التربية الرياضية، كلية التربية الرياضية، جامعة المنصورة، 2003
10 - سناء أحمد كمال عبد السلام: العوامل الأكاديمية المرتبطة بالرضا الوظيفى لأستاذ الجامعة- دراسة ميدانية على كلية التربية، رسالة ماجستير غير منشورة، قسم أصول التربية، كلية التربية، جامعة عين شمس، 2005.
11 - محمد عبد الرؤوف علي: دراسة تقويمية للحرية الاكاديمية في الجامعات المصرية، مرجع سابق، 2008.
12 - محمد عبد الرؤوف علي: دراسة تقويمية للحرية الاكاديمية في الجامعات المصرية، مرجع سابق، 2008.
13- دانا لطفي حمدان: العلاقة بين الحرية الأكاديمية والولاء التنظيمي كما يراها أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات الفلسطينية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة النجاح الوطنية، نابلس، فلسطين، 2008.
14 - محمد عبد الرؤوف علي: دراسة تقويمية للحرية الاكاديمية في الجامعات المصرية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة عين شمس، 2008.
15- Shirley Fessel, MA, Med: The Impact of Academic Freedom Policies on Critical Thinking Instruction, Park University, 2006.
16-Robert M. O Neil: Academic freedom in the wired world: political extremism, corporate power, and the university, Harvard University Press, 2008.
17- Joseph Ben-David and Randall Collins: A comparative Study of Academic freedom and student politics, in " State and society: a reader in comparative political sociology", University of California Press, 1973, p 402.
18- Ingemund Hägg: Academic freedom and university autonomy necessary in the liberal open society Liberal International Congress, 2009.
#أحمد_جميل_حمودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟