|
الفصل السادس : مَجمر 11
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3088 - 2010 / 8 / 8 - 19:36
المحور:
الادب والفن
إنّ عبد اللطيف أفندي، الرجل الحكيم والعلامة، كانَ عليه أن يُداوي كلومي الجسَدية والنفسانية على حدّ سواء. فمذ لحظة وصولي إلى مَدخل بيته العامر، مُحمّلاً في كرّوسَة تابعَة لأهل القلعة، والرجلُ قائمٌ بهمّة على إعانتي والتخفيف من كربتي: استهلّ ذلكَ، بأن أمَرَ الخدَم بنقلي إلى الحمّام وعلى جناح العجلة. ثمّ ما لبثَ أن حَضرَ بنفسه مع كيس خشن، لكي يَهرُش به جلدي فيزيل الأوساخ المُتراكمَة في مَسامه. " إنّ ذلك الزورباشي، علاوة على رعونته ووحشيّته، يَتسمُ أيضاً بخصال الطمع والطموح "، بدأتُ أقول للمُضيف. هزّ هوَ رأسَهُ علامة على التفهّم، فأضفتُ من فوري " إنّ إطلاقه سراحي، أخيراً، كانَ بمُقابل شرط عليّ الالتزامَ به وإلا أعادَني إلى القلعة ". فما كانَ من الأفندي، على دهشتي، سوى الانتفاض من مَقعده الدقيق هاتفا بحنق: " يا له من مُخادع ومأفون. لقد اُخرجتَ من سجنكَ بفضل كلمة الأعيان، الموحّدة والحاسمَة، التي وصلتْ للقبجي على لسان صديقنا آغا يقيني. فليبتلع ذلكَ الوحشُ شرطه، إذاً " " ولكنكَ، يا سيّدي، لم تسألني عن ماهيّة الشرط؟ " " لا يُمكن إلا أن يكونَ شيئاً، مُتعلقا بكنز الكنج "، أجابني الأفندي ببساطة. وكانَ على دَهشتي أن تتفاقمَ، إزاءَ ذكاء الرّجل وفطنته. وكنتُ أهمّ بتأكيد حَدَسه، وإذا بكبير الخدَم يستأذن في الإفضاء لمَخدومه بأمر ما. من بعد رأيتني وحيداً، أغوص رويداً في الحوض المُثمّن الشكل، المُلبّس الحجر بالموزاييك الزاهي. وكانَ الحمّامُ، الساغبُ، مُدبّجاً بمُختلف أنواع التلبيس الأخرى، الخشبية والجصية والمرمرية؛ من السقف إلى الجدران وحتى الأرضيّة. إنّ مَدخلَ مقصورة الحوض، هيَ لوحدَها تحفة فنيّة، فاتنة. إنها على صورة المحراب، يَعلوها قبّة دقيقة، مَحاريّة الشكل، سقفها يقومُ بدَوره على صفوف ثلاث من المُقرنصات. وكانت جدران المَقصورة، من جهتها، ذاخرة بتوريقات السًعًف والأزهار، المُذهّبة. " لقد انتقلتَ، ولا رَيب، من مَجمر جهنميّ إلى مَزهر فردوسيّ "، خاطبتُ نفسي بصوت مَسموع. ولكنني، إذ كنتُ أتشاغلُ بتقليب صفحات كتاب هذا المكان البديع، الرائع، فإنّ مَشاهدَ المكان الآخر، الجهنميّ، كانت ما تفتأ تداهمُ ذاكرتي بقوّة وإصرار. إذاك، أجزتْ لتلك المشاهد بالتمادي في الحضور، صورة وراء صورة، مغمضاً عينيّ عن المناظر الآنيّة، اليانعة والمونقة.
" وإذاً، ستجلب لي في ليلة الغدّ أوراقَ الكناش تلك ، فتحصل على حريّتكَ كاملة " توجّه نحوي زينيل آغا، مُختتماً كلامه. ومُبتدأ خبرَ حديثه، ولا غرو، كانَ يَمتّ لوقت أسبق بكثير؛ وتحديداً، منذ اليوم التالي لحلولي في ضيافته، الكريمة. ويبدو أنّ المَملوك الصقليّ، المَنحوس، كانَ قبلاً قد اضطرّ تحت سَوْط الكاشات إلى الإفضاء ببعض ما يَعرفه عن حكايَة الكناش. عندئذ شاءَ الزورباشي، الجشع، أن ينتقلَ بالقضيّة إلى مَسار آخر لا يَمتّ بحال إلى جوهرها؛ أي مَوضوع الجرائم، المَعلومة. وبحَسب ما أوهمَه به المَملوك، فإنّ شخصاً آخرَ غيرَه كانَ عليماً بمكمن الكناش، الكائن لدى البك المصريّ. وبما أنني كنتُ ذلك الشخص ـ بحَسَب إفادة الصقليّ ـ فقد بادرَ الزورباشي إلى التحرّك من فوره. والظاهر أنه كانَ يأملُ أولاً باستجواب القاروط في القلعة، بُغيَة ابتزازه ومحاولة الحصول على غرضه بالتهديد والوَعيد. إلا أنّ موقفَ الدالي باش، الصارم، كانَ قد فوّتَ تلك الفرصة على الآمر. فإنّ آغا يقيني، الشهم، لم يَكتف بإجبار مرؤوسه، السابق، على ترك البك المصري وشأنه، حَسْب؛ بل وجَعَلَه يَتعهّد بمعاملتي بكلّ احترام وإعادتي إلى القصر، سريعاً. " لتحاذرنّ، يا هذا، أنّ يَلمّ أحدٌ غيرنا بمَوضوع الكناش "، قالًَ لي الآمرُ في حينه. ولما سألته حينئذ، ما إذا كانَ القبجي على علم بالأمر، فإنّ الأرعنَ استشاط غضباً وكادَ أن يَخرج عن طوره. عدا عن هذا الموقف، المَوصوف، فإنّ زينيل آغا، للحق، كانَ قد أحسَنَ التعامل معي. وحتى ما رأيتُ فيه خرقا للتعهّد ذاك، المَوسوم، الذي أخذه الآمرُ على ذاته قدّام آغا يقيني؛ فإنه شاءَ أن يُفسّره على طريقته: " لقد جنبتكَ، يا آغا، أدوات العذاب الرهيبة، المنذورة لكلّ من يحلّ هنا في ضيافتنا. كما أنكَ قضيتَ في الحجز مدّة قصيرة جداً، قياساً للمحابيس الآخرين؛ الذين مضى على بعضهم عقود من السنين "، قالَها بنبرَة رصينة. " لقد مَيّزتَ ظلماً، يا سيّدي، بيني وبينَ ذينكَ المَملوكيْن، التعسَيْن. وقد آنَ أوانُ الشفاعَة والرّحمة. فلتدَعهما يذهبان في حال سبيلهما، طالما أنهما طفقا على إنكارهما التورّط في تلك الجرائم، التي اتهما بها "، توجّهتُ نحو الآمر بنبرَة رجاء. بدَوره، تطلّع الرجلُ فيّ بتمعّن قبلَ أن يُجيب طلبي: " وهوَ كذلك. سأفاتحُ سعادة القبجي بشأنهما، وأتمنى أن تفلحَ مُحاولتي ". حينما أنهى نطقَ جملته، تهيأ لي أنّ تكشيرة فمه، المألوفة، قد انقلبَتْ إلى ما يُشبه البسمَة المُتهكّمَة.
استيقظتُ مُتأخراً على جلبَة داهمَة، شاءتْ أن تخلط أوهام المَنام بمَقام الواقع. كانَ دويّ المدافع، البعيد الوَقع، يَصدى في سَمعي بشكل مُتواتر. ولكن، لم يَنتبني أيّ هاجس بشأن مَصدر القنابر هذه؛ ما دامَ المُضيف قد سبقَ وأفادَني باحتمال وصول والي الشام، الجديد، بين فينة وأخرى. إذاك، كانَ الوقتُ على مَشارف الظهيرَة، مثلما باحَ بذلكَ حضورُ الشمس، المائلة أشعتها على جانب نافذة حجرة النوم. من جهة أخرى، كنتُ أشعرني على مزاج طيّب للغايَة، موفوراً بالحيويَة والعافيَة. وبلغ من نسياني آلام شهر الاعتقال، المُنقضي، أني رحتُ أستحضرُ سعيداً صورة نرجس، البهيّة. بيْدَ أنني، بالمقابل، كنتُ أتساءلُ عندئذ بكرَب عما جعلها تحتجبُ عن ناظري يومَ أمس، مُهملة ً شأنَ مُشاركة أهل البيت في استقبالي. للمرّة الأولى، ربما، أستعيدُ الصورة تلك، المَوْسومة، وهيَ مُتماهيَة بظلال الريبَة والظنون: وكانَ على المَشهدَ الموجع، الفاجع، الذي سيجَمَعُ لاحقا كلاً من المَملوكيْن، المبخوسَيْ الفأل، أن يُضافرَ من أمر تلك الظلال، المُتراميَة على الصورة الحبيبَة. على أنني كنتُ، ولا غرو، خالياً من أيّ فكرة سيئة، حينما وَجدتني أمضي إلى مَقصورة الحمّام، الصغيرة، المُلحقة بحجرَة نومي، لكي أغتسل وأغيّر ملابسي. فما أن اجتزتُ رواقَ الدور الثاني، المسقوف، حتى أحسّ أحدُ الخدَم بحرَكتي. فما عتمَ أن أبدى استعداداً لمُساعدتي في النزول عبرَ الدرَج المؤدي للدور الأرضيّ. ولكنني طلبتُ منه بلطف أن يًجلبَ لي قهوتي إلى قاعة الصالون، التي كنتُ في طريقي نحوها. هذا الخادمُ، اليافع، عليه كانَ أن يُرفقَ القهوة، المُرّة، بخبر أكثر مرارة. " هل علمتَ، يا سيّدي، بأمر مَملوكيْ الزعيم؟ "، خاطبني الفتى بصوت خفيض، فيما كانَ ينحني وبيده الفنجان المُتصاعد منه البخار العَطر. ثمّ أعقبَ القولَ على الأثر " لقد شنقا فجراً، معاً. إنّ جثتيْهما، المُعلقتيْن بالحبل، مَعروضتان الآن أمامَ مَدخل القلعة ـ كما هيَ العادَة ". وكنتُ أدركُ أنه يَعني ذلكَ التقليد، التليد، في تنفيذ حكم الإعدام بسجينيْن أو أكثر، حينما يَحضرُ أحدُ الولاة، الجُدد. وعلى أيّ حال، فما أن عَلمتُ بخبر المَملوكيْن، حتى انكفأتُ على نفسي في صمت مُطبق. وكنتُ مُطرقاً طوال الوقت، أحدّقُ في الأشكال الجميلة، المُتنوّعة، المرسومة على سجادَة الأرضيّة، حتى أنني لم أشعر بما كانَ يَدور حولي. ولما أبدَيتُ للخادم رغبتي بأن يُرافقني إلى مَدخل القلعة، لكي أعاينُ منظر المَشنوقيْن، إذا بصوت نرجس يتناهى عن قرب، فيجعلني أرفع رأسي.
" بل أنا ، يا آغا، من سيَقوم بمُرافقتكَ. ومن بعد إذنكَ، طبعاً " قالت لي ابنة الشاملي بلهجة الأمر، المُنطبعَة في نطقها والموروثة عن أبيها. غائباً بعدُ عما يُحيطني من كائنات وموجودات، مكثتُ هنيهة أخرى غير قادر على الكلام. عندئذ مَدّتْ الفتاة إليّ فنجان القهوة، الموضوع أمامي على الطاولة، مُردفة ً بنبرَة أكثر رقة: " أرجو أن تكونَ على ما يُرام، يا سيّدي ". تناولتُ الفنجانَ تلقائياً، ثمّ تمتمتُ عبارَة شكري. وإذ شعرتُ ببعض الانتعاش إثر رشفي القليل من القهوة، فإني أطلقتُ العنانَ لعينيّ لكي تتمليا الحُسنَ الفاتن، المَبذول لهما. نعم. لقد كانت نرجس، وعلى الرغم من خمار الحداد المُنسدل على ملامحها، تنطقُ بالملاحة والرَوعة والتألق. كذلكَ الأمر بالنسبة لبريق عينيها، الفاتك، الذي كانَ عليه أيضاً أن يخمدَ آثار الأسى في نفسي وقسماتي على السواء. " سأكونُ مَحظوظاً، بطبيعة الحال، لو تكرّمت بمُرافقتي في الكرّوسة "، خاطبتها بدَوري. بيْدَ أني أضفتُ بسرعة " ولكن عليّ القول، بأنّه ليسَ من الحكمة أن تتواجد النساءُ خارج منازلهنّ في مثل هذا اليوم، تحديداً. فإنّ أصنافَ الجند، الغرباء، القادمين من الأناضول، مَشهورون بفساد أخلاقهم كما وقلة اكتراثهم بأوامر رؤسائهم " " إنّ زمن الإنكشاريّة قد انتهى، يا آغا "، أجابتني نرجس بقوّة وتشفّ في آن. ولم أدر وقتئذ، ما إذا كانت تلكَ الكلمة، التي فاهتْ بها الفتاة، هيَ بمثابَة نبوءة ما؛ أم إشارة لما سيَحدُث في مساء اليوم نفسه. " هلا تشاورت، أولاً، مع أبيك فيما إذا كانَ راضياً على أمر ذهابك؟ "، توجّهتُ لنرجس بسؤالي. فما كانَ منها إلا إجابتي باقتضاب، قائلة: " إنّ عبد اللطيف أفندي، لعلمكَ يا آغا، لا يَهتمّ بالتدخل في شؤون أهل بيته ". عند ذلك، حقّ لي أن أستعيدَ ما سبق وعلمته عن سيرة " ماريا "ـ أمّ الفتاة هذه: شخصيّتها القويّة، المُتفرّدة؛ عنادها وجسارتها اللذيْن أديا بها إلى المُخاطرة بالذهاب لوحدها إلى المدينة القديمة، وما نتج عنه من تغيير مسار حياتها، أبداً: أيمكن أن يكون مفتاحُ باب الجرائم تلك، المَعلومة، مَخفياً طيّ هذه السيرة؟
" سامحني، يا ولدي.. " هكذا كان داخلي يردد باستمرار، موافقا مشهد المَملوك الروميّ، البائس، المَعروض على الملأ. كنتُ أردّدُ جُملة القادين الكبيرة، التي قالتها يوماً حينما كانَ الروميّ في سنيّ حداثته: كانَ قد صدَمها، يومئذ، مشهدُ ركله من لدُن وصيف زوجها، والمُتبدّي لعينيها من نافذة حجرة الحريم. وها هوَ الروميّ هنا، على سدّة المشنقة، جنباً لجنب مع رفيقه، الصقليّ. هذا الأخير، كانَ على قسماته تعبيرٌ غامض، مُلغز، يَجمعُ بينَ القسوَة والتعالي. أما رفيقه، المَلول، فإنّ رقته وضعفه كانا مُرتسَمَيْن بوضوح في ملامحه، كما وفي عينيْه المفتوحتيْن على الفراغ والعدَم. ولو قدّر لأحد رسّامي الإفرنج، أن يُجسّدَ وجه المسيح عليه السلام وهوَ على الصليب ـ غفرانكَ يا ربّ ـ فلن يَحظى أبداً بما يُماثل التعبير المُفصح عنه الآنَ وجهُ مَملوكنا الروميّ، التعس؛ التعبير، المُتماهي فيه الألم والشكوى.. وربما الحنين أيضاً؛ الحنين إلى حضن الأمّ، التي سبقته بعقد من الزمن إلى حفرة القبر، المَجهول. وبالرغم من الجوّ البارد، المُتجهّم، لمُفتتح أربعينيّة الشتاء، فإنّ جموع العامّة كانت مُتجمهرة بكثرَة تحتَ وإزاء أسوار القلعة. كان الناسُ إذاك يظهرون الغبطة والرّضا، لأنّ المُجرمَيْن ـ كذا، قد نالا الجزاء المُعادل لآثامهما. وكانت هذه، أيضاً، سانحًة للخلق كيما يُعبّروا عن ترحيبهم بالوالي الجديد؛ الذي حَمَلَ لهم فرَمان الأمان: " ليحيا مولانا السلطان، ملكُ العرب والعجم وقاهرُ عبَدَة الصليب "، كانَ يصرخ هذا بحماس فيجابُ بصراخ آخر مُماثل " الموتُ للمارق، المصريّ؛ عدوّ مولانا السلطان ". جند القلعة، في إطلالتهم من فوق الأسوار أو رواشنها، كانوا بمعظمهم من أهل البلد؛ من الدالاتية واليرلية، خصوصاً. فتأكدتُ عندئذ من أنّ قلة الجند، الأناضولي، المُرافق للوالي الجديد، هيَ حقيقة لا مُجرّد أقاويل. من ناحيَة أخرى، لم يُفاجئني منظرُ أبواب المدينة القديمة، المَفتوح كلّ منها على مصراعَيْه، والشاهد على مرور الناس من خللها طوال الوقت. فإنّ الأفندي سبقَ له، منذ مساء أمس، أن حدّثني بالتفصيل عما جرى من أمور خلال فترة حجزي. فالإنكشاريين ، وقد خدَعتهم قلة عدد الجند المُسيّر للشام، وافقوا أخيراً على تسليم المدينة القديمة لإمرة القبجي، مُشترطين إشرافهم على أحيائها وأسواقها مع أفراد الأورطات وحرس العموميّة: " وغداً مساءً سيَحضر إلى منزلي آغاوات الإنكشارية والأورطات، لكي يتسلموا مرسومَ الفرمان، العليّ، من يَد القبجي بالنيابة عن الوالي، وبوجود الأعيان الآخرين "، أضافَ المُضيفُ عندئذ وهوَ يتبسّمُ بشيء من الغموض. " لقد فقدتُ اليوم شقيقيَّ، الوحيدَيْن " قالت لي نرجس والدموع ما تفتأ تملأ عينيْها الحزينتيْن، الآسرتيْن. ويا له من اتفاق غريب هذا؛ حينما وافق قولها ما كنتُ قد عقدته، قبلاً، من مُقارنة بين الروميّ والمسيح: أليَست أمّ نرجس تدعى " ماريا "، في آخر المطاف؟ حينما نطقتْ الفتاة كلمتها، كانت كروستنا قد وطأتْ أرضيّة مدخل منزل الأفندي، المَفروشة بالرمل الأحمر، الخشن. فكم كنتُ سعيداً، لما وقع بصري على هيئة ميخائيل، حتى أنني لم أعبأ بالتعليق على قول نرجس. إلا أنّ احترامي لمشاعرها، أوحى إليّ بمسلك التحفظ عندما هممتُ بمصافحة صديقي. " يَسرّني أن أراك بخير، يا عزيزي "، خاطبني ميخائيل وهوَ مُكبّ على عنقي. وكنتُ قد ترجلتُ عندئذ من العربَة، ساهياً حتى عن مُساعدة رفيقتي في النزول منها. ولكنّ نرجس، على مألوف طبعها، ما لبثتْ أن رَمَتْ الخمارَ داخل الكرّوسة، ثمّ غادرتها متوجّهة إلى المنزل دونما أن تلوي على شيء. " أرجو ألا تكون صحّتكَ، العليلة أصلاً، قد تأثرَتْ بالبرد؟ "، عادَ صديقي إلى مُخاطبتي. فقلتُ مُجيباً: " أعتقدُ أنّ صحتي، الآنَ، على ما يُرام. اللهمّ إلا إذا شاءَ لها آمرُ القلعة أمراً آخر، غداً ". وبمثل هذا المزاج الرائق، المَرح، وَلجنا معاً قاعة الصالون. ثمة، عليّ كانَ أن أفاجأ كذلك بلقاء كلّ من القاروط والعريان وآغا يقيني. وما هيَ إلا هنيهة أخرى، وكانَ مَجلسنا قد إكتملَ بحضور المُضيف وصهره، الزعيم. هذا الأخير، كانَ يوم أمس في استقبالي لدى حضوري إلى المنزل، ولكننا لم نتبادلَ وقتذاك سوى عبارات المُجاملة، المُعتادة. إذا كانت السماءُ، أحياناً، مرآة مُشاكلة لحال أهل الأرض؛ فإنّ سحنة الزعيم، بدَورها، كانت في هذه اللحظة على المنوال نفسه: كانت ذاته تتجلى، خصوصاً، في حركة العينيْن، العصبيّة، اللتيْن ترمشان طوال الوقت تعبيراً عن قلق صاحبهما وهواجسه. " كانَ وصولكَ بالسلامة، في وقته المُناسب "، قالَ لي القاروط من مكانه على إحدى الأرائك الفارهة. ثمّ أضافَ مُوضحاً ما يَعنيه " أجل، يا آغا. إننا نعوّل اليومَ، كما في كلّ مرّة، على رأيكَ الصائب وذكائك اللامع. ففي المساء، سيجتمعُ أعيانُ الشام وأشرافها مع سعادة ممثل مولانا السلطان، نصره الله، لكي يكونوا شهوداً على تسليمه فرمان الأمان لآغاوات الوجاقات والأورطات " " الشكرُ لكلماتكَ اللطيفة، يا بك. ولكنني، مُعتذراً بقلة حيلة صحتي، أجدني غير قادر على مشاركتم مسرّة هذا المَحضر، الكريم ". وحينما همّ القاروط بالكلام ثانيَة ً، إذا بالمُضيف يَقطع عليه ذلك بالقول: " لنعف صديقنا، الآغا العطار، من مشقة حضور اجتماعنا المُقرّر. ولنأمل بأن يَهبه الله ما فقدَهُ من عافيَة، خلال فترة حجزه ". إنّ الأفندي، الثاقب النظرة، كانَ ولا شكّ قد تكهّنَ عندئذ بأنّ أمراً ما، مُستطيراً، هوَ ما جعلني استنكفُ عن المُشاركة في اجتماع على جانب كبير من الخطورة. نعم. كنتُ قد خططتُ في سرّي، فعلاً، أن أنتهزَ انشغال أهل المنزل في أمر الضيوف مساءً؛ بُغيَة سَبر حجرَة المَرحوم، المَملوك الصقليّ، بَحثاً عن ورقة الكنز تلك .
> ويليه الفصل السابع، الأخير، من الرواية ؛ وهوَ بعنوان " مَزهر "..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل السادس : مَجمر 10
-
الفصل السادس : مَجمر 9
-
الفصل السادس : مَجمر 8
-
الفصل السادس : مَجمر 7
-
الفصل السادس : مَجمر 6
-
الفصل السادس : مَجمر 5
-
الفصل السادس : مَجمر 4
-
الفصل السادس : مَجمر 3
-
الفصل السادس : مَجمر 2
-
الفصل السادس : مَجمر
-
الرواية : مَطهر 9
-
الرواية : مَطهر 8
-
الرواية : مَطهر 7
-
الرواية : مَطهر 6
-
الرواية : مَطهر 5
-
الرواية : مَطهر 4
-
الرواية : مَطهر 3
-
الرواية : مَطهر 2
-
الرواية : مَطهر
-
الأولى والآخرة : صراط 7
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|