الحسين بحماني
الحوار المتمدن-العدد: 3085 - 2010 / 8 / 5 - 23:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ينهي الشهيد معتوب لوناس أغنيته الشهيرة "Monsieur le président" الصادرة عام 1984 (أي بعد أقل من أربع سنوات على أحداث الربيع الأمازيغي)، بخطاب إلى رئيس الجمهورية يلخص فيه فهمه للدولة بشكل عام حيث يقول، ناقلا عن ا لفيلسوف الروسي "ميشيل باكونين"، أن "الدولة لم تكن قطٌ هي الوطن". وهو ما كتبه بالفعل "باكونين" في أحد أعماله متحدثا عن الفرق بين الدولة والوطن منذ مائة عام تقريبا:
" الدولة ليست هي الوطن؛ إنها التجريد، الخيال الميتافيزيقي، الغامض، السياسي والقانوني للوطن. الجماهير الشعبية لكل البلدان تحب وطنها بعمق؛ ولكنه حب طبيعي وحقيقي؛ وطنية الشعب ليست فكرة، بل حقيقة؛ والوطنية السياسية، حب الدولة، ليست التعبير فقط عن هذه الحقيقة، ولكن تعبير مصطنع عن طريق تجريد زائف دائما ما يكون لفائدة أقلية مستغِلة"1.
ولكن هل يكفي هذا التحديد لمفهوم الدولة، علما أنه من المفاهيم التي لا ترتبط بظرفية معينة بل تؤسس لنفسها في علاقة جدلية بالتاريخ، بالسياسة وكذا بالثقافة؟ يصعب بذلك تحديد مفهوم معين للدولة خارج منطق التاريخ، مثله مثل مفهوم الإيديولوجيا ومفهوم التاريخ نفسه (كما يؤكد عبد الله العروي).
هنا سيتم الاقتصار فقط على بعض التصورات لهذا المفهوم، قد تكون مختلفة ولكن قد تكون صائبة في مقاربة ما يسمى ب"جهاز الدولة".
يرى "باكونين" أن حب الشعب للوطن حب حقيقي ثابت على الأرض، والتعبير عن هذا الحب تعبير صادق. بعكس التعبير عن حب الدولة (الوطنية السياسية) الذي وإن كان يؤكد تلك الحقيقة، فإنه نابع من شيء مجرد لا وجود له، عن طريق التجريد السياسي والقانوني للوطن تستغله أقلية للاستئثار بالسلطة.
مفهوم الدولة كما شرحه الأمريكي "مور٘اي روتبارد" لا يختلف عن التصور الأول في جوهره، رغم أن المنطلقات الفكرية تختلف. فكل منهما يطرح شكلا جديدا متجاوزا الشكل التقليدي للدولة، يدخل في إطار ما يسمى بالفوضوية Anarchisme من منظور اشتراكي "تحرري" عند "باكونين" ومنظور ليبرالي عند "روتبارد". هذا الأخير يطرح السؤال "ما هي الدولة؟"، فيقتبس من كلام عالم الاجتماع الألماني "أوبنهايمر" أن الدولة هي " تنظيم الوسائل السياسية "2 الذي يقصد به تمليك ثمرة جهد الناس للأقلية الحاكمة بشكل غير شرعي وبدون مقابل، وهذا في مقابل "الوسائل الاقتصادية" التي هي مجموع العمل والجهد المبذول من أجل الحصول على الملكية الخاصة وكذا التبادل الاقتصادي الذي يحصل بين الناس في هذا الشأن3.
يرى "روتبارد" أن الدولة لم بسبق لها أن أنشئت عن طريق "عقد اجتماعي" وإنما كانت تولد دائما من الغزو والاستغلال. إنها "توفر [لنفسها] على نحو نظامي قناة مشروعة للاستيلاء على الملكية الخاصة، إنها تجعل طريق الحياة للطبقة الطفيلية في المجتمع مؤكدا وآمنا، و"هادئا " بشكل نسبي"4.
يعتبر "روتبارد" أن هذا الجهاز عبارة عن تجمع لمجموعة من الأفراد اختاروا أن يسمٌوا أنفسهم الدولة، فوضعوا لأنفسهم هدف الاحتكار القانوني لممارسة العنف ونهب الأموال بالابتزاز. وهي حسب رأيه تنظيم إجرامي أكثر فعالية من أي مافيا شهدها التاريخ. لذلك تراه يعارض بشدة كل أشكال تنظيم الدولة، فيعتبر الضرائب سرقة ما أن تُزال إجبارية دفعها حتى يحجم الناس عن دفعها، مشيرا إلى أن "مالكي" هذه الدولة هم الوحيدون الذين يجنون مداخيلهم غصبا. وهنا ينتقد منظري الديموقراطية في مسألة كون الضرائب تعاقدا بين الشعب والدولة وكذا في طواعية أدائها، ويشير إلى أن الديموقراطية لا تبرر سرقة ولا جريمة الدولة حتى ولو اتفقت الأغلبية على تسميتها غير ذلك 5.
"أوبنهايمر" يجعل أساس وجود الدولة هو ما سماه سالفا ب"الوسائل الاقتصادية"، التي بدونها لا يمكن لأي دولة أن تؤس٘س ل"الوسائل السياسية" (جمع الغنائم) التي عن طريقها يقوم الاستغلال. هنا بالتحديد يطرح إشكال السيطرة؛ أي كيف يمكن لهذا الجهاز أن يبقي على سيادته؟ فتأتي القوة كإجراء عادي في الأول، ويبقى احتماله واردا دائما. إلا أن ما أجمع عليه الكل تقريبا هو توظيف الإيديولوجيا لتوجيه وعي الناس وإضفاء المشروعية على وجود الجهاز نفسه، ثم على كل ما تقوم به الدولة فيما بعد.
الإيديولوجيا حسب تعبير "روتبارد" ضرورية لاستمرار وجود الدولة، وهو ما أثبته تاريخ الإمبراطوريات الشرقية القديمة، فقد كان الإمبراطور في الاستبداد الشرقي يستعين بالكنيسة ليجعل من نفسه مقدسا فيحكم باسم الدين، أما في العصور العلمانية الحديثة فيُحكم أكثر باسم المصلحة العامة وباسم الديموقراطية. ولكن الهدف بين هذا وذاك هو دائما نفسه: إقناع العامة بأن ما تقوم به الدولة شيء ضروري ومهم يجب دعمه والخضوع له 6.
نفس الشيء يعبر عنه "باكونين" ب"التجريد السياسي والقانوني للوطن". أما الفيلسوف الإنجليزي "دافيد هيوم" فيجعل المسألة محط استغراب فيقول: " لا شيء يبدو أكثر مفاجأة لهؤلاء الذين ينظرون إلى الشؤون الإنسانية بعين فلسفية، من [تلك] السهولة التي تُحكَم بها الأغلبية من قبل الأقلية؛ وكذا الاستسلام الضمني الذي به يكسب الحك٘ام مشاعر وعواطف الناس"7.
من هنا تتضح فعالية الإيديولوجيا وقدرتها على جعل الناس يعانقون هموم الدولة ويجعلون من أولى أولوياتهم ما تنشغل به الدولة نفسُها، فيكون بذلك همها هما وطنيا لأنها تسخر كل وسائلها تقريبا لتقنع الشعب أن الدولة هي الوطن، والوطن هو الدولة؛ ولا أدل على ذلك من الأثر النفسي الذي يتركه الحديث عن الدولة لدى البعض والذي يحملهم حتى يهبوا للدفاع عن حرمتها التي تعني في وعيهم حرمة الوطن.
يسهل القول أن آلية العنف لن تؤتي الأكل الذي قد تؤتيه الإيديولوجيا، ما لم تكن هناك إيديولوجيا منازعة. ولكن في كل الأحوال، لدى الدولة من الوسائل، التي تحتكرها، ما يجعلها تقنع الناس ب"دينهم الجديد" الذي سيترسخ على مراحل حسب درجة تحرر وعيهم. وارتباطا بهذا، فإن شعار الدولة يترجم كل ما يمكن للإيديولوجيا أن تؤديه؛ فيجعل الحاكم في نفس الدرجة من القدسية مع الله، ويكون مثلث الله والوطن والحاكم/الدولة (حالة "المغرب" كدولة) مثلثا مقدسا يشد بعضه بعضا، ما أن يُمس أحد أضلاعه حتى يكون البناء الإيديولوجي كله في خطر ومن ثم تزول هالة التقديس التي قد تكون مشكلة حوله.
تؤسس الدولة لتاريخها إيديولوجيًا عبر تغيير الواقع وتزييف التاريخ، أو على الأقل إغفال تفاصيل مهمة قد يقرأ بها التاريخ قراءة مغايرة. والأدهى أنها ترسخ هذا و"توثقه" ليصبح شيئا يُتناقل ويدر٘س ويذاع عن طريق الوسائل الإيديولوجية وما أكثرها. وتخدم الدولة إيديولوجياها عبر خلق منطق وقراءة يصبان في التوجه الذي تتبناه، لتصبح متماسكة في انتظار أن تتولى هي خدمة الدولة لأنها آنذاك الإيديولوجيا التي تحكم تصور الناس.
(1) Michel Bakounine, Œuvres Tome VI, PARIS –Ier, P.V. Stock, 1895-1913, p.383.
(2) Murray Gothbard, The Anatomy of the state, p.3 (see http://www.libertarian-alliance.org.uk)
(3) (4) Ibid., p. 3
(5) Murray Gothbard, see http://www.philo5.com/Les%20vrais%20penseurs/20%20-%20Murray%20Rothbard.htm
(6) See Murray Gothbard, New York University, Library of Congress Cataloging-in-Publication Data, 1998, pp. 203-204.
(7) David Hume, “Essays, Literary, Moral, and Political”, London: Ward, Lock, and Co., Warwick House, 1882, p. 23
#الحسين_بحماني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟