جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3085 - 2010 / 8 / 5 - 08:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لو كانت هناك طريقة علمية لقراءة أدمغة الزعماء من أجل معرفة أسرارهم الكبرى, وذلك عن طريق فك جماجمهم بعد الموت, والتفتيش في ردهاتها عما يساعد على القراءات المطلوبة, لكانت جمجمة صدام أول من إشتغل عليها المفك, ولكانت قصة غزو الكويت أول القصص التي سيجري التفتيش عن دوافعها وأسبابها.
نحن جميعا نحتاج إلى ذلك, وحتى اؤلئك الذين يفخرون بقدراتهم الفذة على القراءات السياسية الصعبة سوف يتمنون الانضمام إلى رحلة قد تكون الأهم في حياتهم السياسية أو الفكرية, فأمام القصص المتناقضة والمتهافتة ستظل عملية غزو الكويت بحاجة إلى فهم أكثر وأوسع وأدق.
إن صدام لم يكن ذا خبرة سياسية دولية تجعله قادرا على التسابق مع الخبرة والدهاء الأمريكي وبراعة المؤسسات الإستراتيجية لوضع خطط اصطياد الخصوم, لكنه من ناحية أخرى لم يكن بالجهالة التي تجعله يعتقد بسهولة مغامرة من هذا النوع أو بالإمكانات المفتوحة لنجاحها فيما بعد .
لقد اعتبر كثيرون دخول صدام إلى الكويت تعبيرا عن جهل حقيقي بقوانين اللعبة الدولية, فالولايات المتحدة الأمريكية الخارجة من نصرها التاريخي على عدوها المركزي الإتحاد السوفيتي خلال معركة استمرت لأكثر من نصف قرن ما كانت تسمح لكائن من كان مشاركتها كعكة ذلك النصر.
في مقابل ذلك أكد فريق آخر على عكس ذلك, أي إن صدام كان اعتمد على قراءة متوازنة لموازين القوى الدولية, فرغم غياب الإتحاد السوفيتي عن خارطة التأثير السياسي والعسكري إلا إن صداما كان مؤمنا بقوة إن قرار أمريكا دخول حرب خارجية سيبقى معطلا بفعل عقدة فيتنام التي أدت إلى دخولها مرة أخرى في عصر الانكماش والعزلة خلف المحيطات الموحشة.
ولعل قراءة من هذا النوع كانت استندت إلى معاينة حقيقية لطبيعة الخيارات الأمريكية للتعامل مع الأحداث الساخنة خلف المحيطات, وبخاصة في مناطق ملتهبة بناسها وبنفطها كما هي منطقة الخليج, ولدى صدام من التجارب ما كان أغراه على اعتماد نظرية الانكماش الأمريكي التي رجحت أن تفضل أمريكا الحروب بالنيابة كما في أفغانستان وقتها أو عن طريق الاحتواء المزدوج كما حصل في الحرب العراقية الإيرانية.
وفي التعامل مع أزمة الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران فإن أمريكا اختارت التعامل مع تلك الأزمة بالطرق الدبلوماسية, وحتى حينما أرسل كارتر طائرته العسكرية التي هوت في الصحراء فإن تلك العملية جاءت وكأنها ذر للرماد في عيون العسكريين الذين كانوا يطالبون باستعادة أمريكا لسياسة الضربات العسكرية لردع الخصوم.
وبالوقوف أمام طموحاته لاحتلال موقع تاريخي مساو لمواقع القادة التاريخين الكبار يرى آخرون إن اتخاذ صدام لذلك القرار, وإن راعى وجود احتمال التدخل العسكري الأمريكي, لكنه على الطرف الآخر كان يقوم على مفهوم الإمساك باللحظة التاريخية الفاعلة التي تجد لها مكانا أساسيا في أدبيات البعث السياسية وأيضا في أدب المغامرة الذاتية لصدام نفسه.
وسيكون من الحق تأشير كل تلك الأسباب لتفسير عملية الغزو, لكن ليس من الحق القول إن احتلال الكويت جاء تلبية لمطالب وطنية وقومية ضاغطة, لأن صدام كان قد عاد لتوه من رحلة التبرع بنصف شط العرب وبجميع الأراضي التي تقع شرقه بما فيها المحمرة وبما يجعل الشعارات الوطنية التي تم رفعها كغطاء للاحتلال مجرد شعارات إستخدامية.
أما محاولته ( القومية ) لربط إنسحابه من الكويت بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي التي احتلتها بعد الخامس من حزيران فقد ساوت بين العراقيين ( المحررين ) والإسرائيليين ( المحتلين ), وجعلت العراق يبدو قانونيا أيضا كدولة محتلة كما هي إسرائيل, أو إنها جعلت إسرائيل تبدو كصاحبة حق مشروع في فلسطين.
وسيكون بإمكاننا العودة مرة ثانية إلى صلب الموضوع من خلال الإشارة إلى أن الدوائر الأمريكية التي عملت جهدها على أن تنتهي الحرب العراقية الإيرانية بلا غالب ولا مغلوب, كان يهمها أن يعاد ترتيب المعادلات السياسية والعسكرية للطرفين بشكل ينسجم مع ذلك الشعار.
بالنسبة لإيران كان قائدها قد أعلن من جانبه إنه كمن يتجرع السم وهو يوقع على قرار وقف إطلاق النار, وكان ذلك إعلان صريح بالهزيمة مثلما هو إعلان رسمي بإيقاف تصدير الثورة إلى منطقة الخليج وسيكون الخطر الإيراني الحقيقي قد إنتهى بعد أن تم نقل الثورة الإيرانية من حالة الهجوم إلى حالة الدفاع عن النفس.
بالنسبة إلى صدام فقد شعر أن أمريكا بدأت تسرق نصره على إيران كاملا وبدأ يشعر إنه بات مطالب بالتنازل عن مردودات نصره العسكري والسياسي وكأنه كان يقاتل لحساب الآخرين, وبدأ الكويتيون يشككون بجدوى بقاء أكثر من مليون جندي عراقي بعد أن إنتهى الخطر الإيراني ثم يعرضون خططا ومقترحات لجعل ذلك الجيش بربع عدده وعدته,وقد أدت سياستهم النفطية إلى إلحاق الضرر الكبير بالاقتصاد العراقي الذي كانت الحرب مع إيران قد استنزفته, إضافة إلى إنه بات مطالبا أيضا بتلبية الأموال التي قدمت لدعمه في أثناء حربه ضد إيران.
.لذلك لم يكن من الغرابة أن يشعر صدام أن نظامه أصبح في مواجهة أخطار جدية بعد وقف تلك الحرب.
إن ما حدث في الكويت لا يمكن تفسيره بغير ذلك, وليس من الممكن أن يحسب على طريقة ( قطع الأعناق وليس قطع الأرزاق ) لأن مباحثات عزت الدوري مع الملك فهد كانت قد بدأت بالإعلان عن استعداد سعودي لتعويض الخسائر العراقية من النفط المسروق ومنح العراق مبالغ مضافة كمساعدات والعمل على إعفائه من الديون الخليجية, والسعودية بهذا لم تكن تكذب على صدام كما لم يكن في نيتها تقديم ذلك المبلغ كعربون محبة للتحقيق مصالحة عمادها الرشوة, لكنها كانت تتصرف بمقدار غير قليل من الحسابات السياسية, وكانت ترى إن تعقيدات الموقف ستؤدي إلى دخول الجيوش الأمريكية إلى منطقة الخليج وسيؤسس ذلك لإحتقانات وأضرار لا داعي لها, ولم تكن تعوز السعودية الخبرة ولا الحكمة ولا المعلومات الإستخبارية التي تقول إن كل شيء قد يكون في مهب الريح في الأيام القادمة.
وصدام من ناحيته لم تكن لديه مشكلة مع السعودية, كما لم يكن باعتقاده أن بإمكان السعودية تقديم حل شاف للأزمة, وكان يعتقد إن هناك اختلافا حقيقيا بين ما تراه السعودية وما تريده الكويت, مؤمنا إن الكويت تقوم بتنفيذ خطة أمريكية معدة سلفا, وهي بالتالي ليست على استعداد للتخلي عن دورها في تلك الخطة ليس لأنها لا تريد ولكن لأنها لا تستطيع.
ولهذا فإن النوايا السعودية لم تكن كافية لإيقاف التدهور, وعلى صعيد الداخل كان البعض قد علم بوقوع أكثر من ثلاثة محاولات انقلابية منذ أن توقفت الحرب مع إيران, وحسب الكثيرون أيضا أن مقتل عدنان خيرا لله وزير دفاع صدام حسين والبطل الحقيقي لقادسيته كان جرى كجزء من خطة القضاء على البدلاء المقترحين لاحتلال مقعده الرئاسي وحل أزمة الثقة التي كانت مرشحة لأن تبقى بوجوده.
ما الذي حدث إذن ...
الذي حدث إن صدام كان يعرف إن حربه مع أمريكا ستكون صعبة حالما تبدأ, وإنه ليس بإمكانه الانتصار عليها بالحسابات التقليدية, لكنه حسب أيضا إنه لن يخوض باحتلاله الكويت حربا تقليدية فلقد كان احتلاله لها أشبه باختطاف طائرة وسوف لن تستطيع أمريكا أن تنهي الاختطاف دون أن تعرض الركاب جميعا لأخطار القتل ودون أن تشعل الحرائق التي سوف لن تنطفئ أبدا, فقام إذن باختطاف طائرة اسمها الكويت لكي يتفاوض مع صاحبة الحل والربط أمريكا, وليس مع السعودية أو غيرها , وذلك للاتفاق على صيغ تكفل بقائه ونظامه, مع إيجاد ترتيبات من شأنها أن تمنح له بعض دور وتحفظ له ما حققته حربه مع إيران من مكاسب سياسية.
لقد كانت حرب الكويت حربا من أجل البقاء أكثر منها حربا للبطولات الوطنية والقومية, وكان صدام يعتقد إن أمريكا ستقبل التفاوض معه حفاظا على أرواح ركاب الطائرة. لكن أمريكا لم تفعل, ليس لنية التضحية بحياة أولئك الركاب وإنما لمعرفتها أنها ستجبره بالنهاية على إطلاق سراحهم بأقل الخسائر الممكنة, إضافة إلى أنها أرادت أن تستمر الأزمة طويلا لغرض أن تقوم من خلالها بترتيب العالم الذي غاب عنه الإتحاد السوفيتي والذي بات عليه الآن أن يدخل تحت هيمنة القطب الواحد.
بالنسبة لصدام كانت الكويت طائرة اختطفها لكنه لم يستطع الاحتفاظ بها في الأعالي, ولم يجد لها مطارا يؤويها قبل نفاذ الوقود, وفي عودته القسرية إلى الأرض أخذوا منه الطائرة والركاب, لكنهم أطلقوا سراحه ومعاونيه و سراح حراسه الجمهوريين.
غير إن ذلك كان لفترة سنين فقط, وحتى تينع الرؤوس ويحين قطافها.
وفي أكثر معاركها, لم تكن أمريكا على استعجال.
وفي أكثر حالاتها كانت أمريكا تفضل طبخ أعدائها على نار هادئة, ومعنا فإن أمريكا كانت تطبخ العراق وليس صدام وحده. ولذلك ظلَمنا صدام بأمريكا وظلمتنا أمريكا بصدام.
لكن, ومع كل ذلك, ستبقى الحاجة إلى قراءة جمجمة صدام ضرورية جدا, وذلك لمعرفة أسرار ذلك اليوم الذي هز العالم.. والذي ما زال يهز العراق.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟