نجيب الخنيزي
الحوار المتمدن-العدد: 3084 - 2010 / 8 / 4 - 08:43
المحور:
سيرة ذاتية
ظهيرة يوم لافح الحرارة، كسائر أيامنا المترعة بالقحط اليباب، والأوهام والإحباط، من كل نوع وفج عميق، جاءنا الخبر المفجع والمزلزل.. ڤالا الفتاة الشابة الجميلة والمرحة، التي عاشت معنا وألفنا وجودها البهي معنا، وهي تتدرج بيننا طفلة، فتاة، طالبة جامعية، شابة عاملة، على مدى ثلاثة عقود قد اختطفها الموت، وفارقت الحياة على الفور، اثر حادث مروع. تراجيديا الحدث إن والدها ووالدتها وشقيقاتها، كانوا يمرون في تلك اللحظة بنفس منطقة الحادث وشهدوا الفاجعة. كان وقع الحادث المأساوي صاعقا، ليس لدى الأسرة والأقارب والأصدقاء والمعارف فقط، بل ولدى شرائح واسعة ومتنوعة من المجتمع، وهو ما تمثل في الحضور والمشاركة الكثيفة التي قدرت بالآلاف من الناس في مراسم التشيع والعزاء.
الشارع الذي وقع فيه الحادث أصبح يسمى طريق الموت ، من كثرة ما شهده من حوادث مروعة، واستذكر هنا الشاب المبدع، والمليء حيوية ونشاط، محمد نجل الصديق الشاعر والصحافي عبدالوهاب العريض، الذي قد قضى في حادث مروع (في شهر ابريل/نيسان الماضي) مماثل في نفس الشارع. اسم ڤالا (مواليد 1978) هو تصغير لاسم ڤالانتينا تيروشكوفا أول امرأة رائدة فضاء في العالم، أطلق عليها هذا الاسم حين كنا ضمن جيلنا نشكل طيفا من المثقفين والعمال والطلاب المسكونين بالهم الوطني والإنساني والحماس الثوري (الرومانسي) نحو تحقيق الأحلام الكبيرة في الحرية والعدالة والمساواة. كان التطلع نحو التغيير المنشود يتعدى حدود الوطن ليشمل العالم بأسره. ذلك العالم الذي كان يمور بالتغيرات والصراعات والتبدلات الباعثة على التفاؤل والثقة بالمستقبل. غير إن صدمة الواقع الموضوعي المتسم بالتخلف البنيوي، الركود الاجتماعي، والتكور الثقافي، والتكلس الفكري، والاقتصاد الريعي، والتسلط الأمني والجمود السياسي، والتبعية من جهة، وعدم استيعاب طبيعة المرحلة وسماتها، خصائصها، احتياجاتها، ومتطلباتها من جهة أخرى، أوصل الجميع (دولا ومجتمعات ونخب) إلى طريق مسدود، مما مهد الطريق أمام صعود التيارات الإسلامية بمختلف عناوينها في عموم المنطقة، وخصوصاً إثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
وفي السعودية رغم القضاء على التمرد السلفي المتزمت (نوفمبر/ تشرين الثاني 1979) الذي قاده جهيمان العتيبي في مكة، غير إن أجندته السلفية المتشددة، وخصوصا في المجالات الأيديولوجية والفكرية والاجتماعية، جرى تبنيها وفرضها بالكامل، وهو ما مهد الطريق لاحقا لظهور وصعود تيار ما سمي بـ الصحوة ، الذي سعى لاختطاف ومصادرة المجتمع، وفرض الرعب في أوصاله، من خلال إحكام هيمنته (بدعم رسمي) على كافة المناشط والمنابر والمرافق الدعوية والأجتماعية والتعليمية والإعلامية، ناهيك عن وجود الشرطة الدينية (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) التي باتت تتحكم في عقول ورقاب الناس. في مثل تلك الأجواء الداكنة، ذهبت ڤالا إلى الرياض للدراسة في جامعة الملك سعود في عام ,1990 غير إنها لم تستطع التكيف والتأقلم بحكم تربيتها وعقليتها الذهنية والاجتماعية المتفتحة مع ذلك الجو الخانق، وخصوصا في ظل المضايقات المستمرة التي تعرضت لها وزميلاتها من قبل أفراد الهيئة، والتي حولت حياتهن إلى جحيم. ووصل الأمر إلى محاصرة سكن الطالبات (عمائر الملكة) حيث كانت تقيم للتأكد من التزامهن بالحجاب الشرعي أو بمعنى آخر تحويلهم إلى كيس فحم متحرك، وفقا للمقاييس والمواصفات السلفية المتشددة، وهو ما حدا بها الى رفض الاستمرار في الدراسة في الرياض. وكان الخيار البديل والوحيد المتاح أمامها هي جامعة البحرين. في البحرين التي تقع على بعد ساعة من منزلها، شعرت ڤالا لأول مرة في حياتها أنها إنسانة (وليست عورة) في الجامعة والمجتمع على حد سواء، ومع أن الشعب البحريني كان يعاني في تلك الفترة من كبت وقمع للحريات السياسية وتقنين لحرية الصحافة والكتابة والنشر، لكن الحريات الشخصية والفردية والاجتماعية كانت مكفولة إلى حد كبير. تسنى لها في المجتمع الجديد اكتشاف وممارسة كينونتها وذاتها الإنسانية المطمورة خلف ركام كثيف من حجب التقاليد والعادات الاجتماعية المتخلفة والبالية، التي تعتبر المرأة عورة ومخلوقاً ضعيفاً وبمثابة شيء ملحق بالرجل (الأب، الزوج) أو أداة للمتع، وهي أفكار وممارسات نابعة من التركيبة القبلية/الريفية المتخلفة، ليس لها علاقة بجوهر الإسلام الصحيح. الفقيدة الراحلة استطاعت، بحكم شخصيتها القوية والمتفتحة، نسج علاقات زمالة وتفاعل حضاري مع الوسط الطلابي البحريني، تحولت في ما بعد إلى صداقات قوية مع مجموعة من زميلاتها البحرينيات، استمرت إلى ما بعد تخرجها وحتى رحيلها. في البحرين تعلمت قيادة السيارة وامتلكت مركبتها الخاصة،
واكتشفت عوالم وأنماط حياة جديدة، كانت مجهولة لديها، ومحاربة في مجتمعها، مثل ارتياد دور السينما، والمسرح، والمكتبات، وصالات الفنون الراقية، كما مارست متعة السفر إلى البلدان العربية والغربية مع عائلتها، وصديقاتها وزميلاتها في الدراسة، وبكلمة كانت تمارس (ضمن المتاح) حقها الإنساني في التفكير المستقل، واختيار أسلوب وطريقة حياتها، بعيدا عن سيطرة المجتمع الذكوري/الأبوي، ومن هنا فقد رفضت أن تختار مهنة والدتها وخالاتها (التدريس) والعمل في القطاع الحكومي، مفضلة علوم الحاسب الآلي، والعمل في القطاع (الحديث) الخاص، وترقت في عملها، إلى أن وصلت إلى منصب مديرة القسم النسائي في البنك البريطاني. ومع أن العديد من الشباب قد تقدم لخطبتها (نظرا لجمالها وتعليمها ومكانة عائلتها)، غير أنها رفضت الزواج بالأسلوب التقليدي، أومن شخص مجهول، قد يكبلها بالقيود، ويحولها إلى مجرد جارية، وشيء مهمل أو أداة للإمتاع الشخصي. لقد عاشت ڤالا حياة قصيرة في عمر الزمن، لكنها حافلة وغنية من حيث المعنى والمضمون، لقد كانت فتاة عصرية وتقدمية، دافئة المشاعر الإنسانية، ولم تتردد يوما في تقديم العون والمساعدة (حيث يمكنها) للآخرين، لذا فقد أحس الجميع بفداحة رحيلها. ليس المهم هو كم يعيش الإنسان من السنوات، الأهم هو كيف عاش وقضى تلك السنوات طالت أم قصرت. ڤالا مع غيابك الجسدي، فإن روحك الطاهرة، وابتسامتك المشرقة، ووجهك الطويل الجميل، سيظل راسخا في وجدان وذاكرة أسرتك، وأصدقائك، وكل من عرفوك وأحبوك وتمثل، نموذجا لفتاة المستقبل، الفتاة العصرية المتفاعلة مع الحياة والحداثة ومتطلباتها، الفتاة التي قد توجد بعد كذا سنة ضوئية في بلادنا، خصوصا في ظل استمرار ثقافة الاستبداد والجمود وهيمنة الفكر الأحادي/ الإقصائي المتزمت من جهة ورسوخ الثقافة الدينية (العامية) الشفاهية، وما يتصل بها من غيبيات وطقوس أسطورية. تلك الثقافة الدينية الشفاهية/ العامية المخاتلة والمعتمة، تسعى على الدوام في تدوير وإعادة إنتاج نفسها من جديد، من خلال استغلال مشاعر الحزن وحالات الضعف الإنساني من جهة أخرى. ما طرح وما فبرك في أماكن التعزية (الحسينيات) من أقوال وأفعال منسوبة للفقيدة، على غرار الأحلام والنذور والتعاويذ وغيرها، هو محاولة مفضوحة من ممثلي تلك الثقافة الدينية الشوهاء، لبث وترسيخ نزعات الهلوسة والخرافة والجهل في المجتمع، متوهمين أنهم قادرون إلى ما لانهاية، على الاستمرار في اللعب على مشاعر الناس، والاستخفاف بعقولهم، واستغفال وتزيف وعيهم، من خلال طرح خزعبلات وخرافات (ستسخر ڤالا منها لو سمعتها) على طريقة إيمان العجائز.
أختم بتقديم خالص العزاء لوالد (ابنتنا جميعا) ڤالا، الأستاذ عبدالله أبو السعود ووالدتها الأستاذة صباح أبو السعود ولجدها وجدتيها، وشقيقاتها ولجميع أفراد عائلتها، ولصديقاتها وزميلات الدراسة والعمل في السعودية والبحرين. بالرغم من الليل المخيم الحالك السواد سنظل محكومين بالأمل، في حياة جديدة ومغايرة للمجتمع، تصبح فيه المرأة في بلادنا كائنا إنسانيا حقيقيا. آنذاك، ستكون ڤالا سعيدة في رقدتها الأبدية، وستكون روحها حاضرة، ترفرف بفرح طفولي بيننا.
بمناسبة مرور الذكرى الثانية لرحيل ڤالا أبوالسعود
#نجيب_الخنيزي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟