|
رسالة من الماضي
بلقيس الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 3082 - 2010 / 8 / 2 - 12:25
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة :
في صباح مبكر من سبتمبر ، وكل ما حولها هاديء والمطر ينقر بخفة على شباك النافذة ، جلست امل امام صورته وجالستها الذكرى … فراحت تستردها كشريط سينمائي ، وأجهشت بالبكاء ،بكاءً مُراً يفصح عن الم عميق . امس كانت تتحدث عنه في البالتوك في ذكرى إستشهاده الخامسة والعشرين .
صور الماضي والذكريات الجميلة إتخذت من ذاكرتها بيتاً لها ، ولو أرادت ان تتخلص من هذه الذكريات ، عليها أن تهدم هذا البيت ، وهدمه يعني هدم ذاكرتها وهذا الشيء مستحيل طالما هي على قيد الحياة . تلفتت حولها فلم تجد من تحدثه عن ذكرياتها التي لاتزال خضراء في ذهنها . يقولون ” الله وهب البشر القدرة على النسيان ،أراه لم يهبني هذه القدرة !“ راحت تحدًث نفسها . قامت لتعد لها فنجان قهوة رغم انها لا تحب شرب القهوة ، لكنها لجأت اليها عسى أن تسعفها في نسيان ما هي عاجزة عن نسيانه . لم تزد القهوة إلا في يقظة أعصابها ، وتعود تفكر بالماضي . إتصال هاتفي من احد الأصدقاء إنتشلها من وحدتها الرتيبة وأعاد عجلة ايامها الى الوراء . ـ الو الأخت امل ؟ ــ نعم .امل معك . ــ امس وبعد أن تركتِ البالتوك ، تحدث شخص يُدعى ابو امير عن احمد و قال بأنه يحتفظ برسالة من احمد لطفليه ويود ان يوصلها لكِ . ـ قلت لي رسالة من احمد ؟ اتمزح معي ام تلعب على اعصابي ؟ احمد استشهد منذ اكثر من ربع قرن ! ـ عفوا ، أنا آسف ان كنت قد سببت لك بعض الضيق ولكن هذا ما سمعته ... اجل رسالة من احمد حسبما سمعته يقول . ــ وهل ترك عنواناً له أو رقم تلفون ؟ ـ لا . ولكن احدى معارفكِ طلبت منه ان يرسلها لها وهي، بدورها ستقوم بايصالها لكِ ـ من تكون..من هي..ما اسمها...؟؟؟!!! ـ للاسف لا اعرف..ولكني اعرف انها تعرفكِ وستوصل الرسالة لكِ ـ شكراً لك , حتما سأحصل عليها . . مع السلامة . أغلقت التلفون . وطافت برأسها المتعب المشوش اسئلة كثيرة لا تجد لها جواباً. “ رسالة من احمد ؟ أهي حقيقة أم وهم ؟ إنه ليس الأول من نيسان و أقول كذبة نيسان … اجل انه ليس نيسان.. نيسان...نيسان.. إنه شهر سبتمبر …نعم سبتمبر “ . راحت تعيد ما سمعته في التلفون. كلمة كلمة.. تعيد تركيب الاحداث ، ولا نتيجة ..لقد قرأت مثل هذه القصص في حرب الأنصار السوفيتية. اما ان تحصل معها فهو شيء... راحت تتصل بجميع من تعرفهم لتصل الى ابو امير. وبعد جهود مضنية ، إستطاعت..
ـ ألو ، انا امل . عرفتُ أنك تحتفظ برسالة من احمد لطفليه . ـ اجل . ـ من اين أرسَلها ؟ متى وكيف ؟ ـ عام 1983 كتب احمد رسالة الى طفليه وطلب مني ان ارسلها لهما وانا في طريقي الى طهران ، لكن الرسالة عادت لي ، لخطأ في العنوان . اردت ان اعيد الرسالة الى احمد حين عدتُ الى الجبهة ثانية ، لكني صدمتُ بخبر إستشهاده . إحتفظت بالرسالة لعلي أهتدي الى عنوان عائلته لاعيدها لها .ومنذ ذلك الوقت والرسالة تطوف معي في المنافي حتى إستقرت في صقيع القطب . وامس وحين سمعتك تتحدثين في البالتوك في ذكرى إستشهاد احمد ، اردتُ أن احصل على عنوانك لإعيد لك الرسالة ، لكنك غادرت. إتصلت بي إحدى صديقاتك واعطتني عنوانها البريدي لأرسل الرسالة لها وهي ستوصلها لكِ . وها انا قد وضعتها في ظرف لارسلها اليوم . ــ لا ، لا يا ابو امير ! اخرجها من الظرف ...لا ترسلها ، قد يطول الوقت حتى وصولها لي … هل لديك إيميل ؟ اعطني إياه وسأرسل لك عنواني البريدي لترسلها لي مباشرة . ياليت لو تصلني الرسالة الأصلية وليس صورة لها . صدقني يا ابا امير أني عاجزة عن التعبير لك عن امتناني وشكري لك لإمانتك بالحفاظ على الرسالة لإكثر من ربع قرن .
ــ طيب سأرسلها الآن واكيد تصلكِ غداً . ـ شكرا لك . و أغلقت سماعة التلفون . ” اين انت يا ماركيز لتضع هذه الحادثة في روايتك “ حب في زمن الكوليرا ؟ “ لاتعرف لماذا تذكرت في تلك اللحظة هذه الرواية، أ لأن ماركيز قدَّم فيها قصة الحب الطويلة مثلما عاشت هي واحمد قصة حب سرمدي . ” إنسان يحتفظ برسالة لأكثر من ربع قرن ! يا لِأمانته ووفاءه .. امانة ووفاء اختفيتا من قاموس علاقتنا التي تنهار كل يوم ! ما احوجنا الى العلاقةالصادقة والطيبة في زمن تتبعثر فيه الكلمات وتتناثر أشلاء ولا تجد من يلمها ويبعثها حية الى كل قلب ينبض بالحياة والحب ويرنو الى الصدق في المشاعر الإنسانية … نحن نعيش في زمن رديء ، حتى العلاقات بين الناس أصابتها الضبابية … “ راحت تحدث نفسها . لاتتذكر كيف قضت ليلتها وهي تنتظر الصباح ، ، فتمددت على سريرها تتصفح رسائل احمد بشوق وحنان وتتلمس من خلال هذه الرسائل كل شيء يشدًها الى ماضٍ عزيز وجميل يربطها بأحمد . ما يهوًن عليها في غربتها ويطمأنها ، قلبها الصافي وحبها لإبنتها وابنها وكأنهم طيور تحط على نوافذها التي هجرتها حتى خيوط من أشعة شمس تداعي الروح بالدفيء والطيبة … غفت وهي تردد خاطرة تعبِّر عما يجول في خاطرها كتبها طارق سعيد ، رفيق احمد في الجبهة تقول : لا وقت عندي للرحيل ... لاوقت عندي للبراري والجنون لا وقت عندي للحديث عن السماء المستحيلة فأنا يظللني الغمام وانت اقرب لي من هاجسي. السماوات البعيدة تبتكر حلمي اليك فاجدك في صوت الطفولة عبر لَمَّة شَملنا متعطرا بغلال عشق الاغنيات لتضيء عتمة خاطري برسالة فيها كنوزحليبنا الصخري والمجهول من اوراقنا. فتعال يا موج البهاء اكشف سرك غموضك الابهى بما يُخفي إلهُ المستحيل: رسالة موقد السفر البعيد وسنابل التأويل والضوء الذي انخرط الجميع بجمعه
وما أن أرسلت الشمس خيوط اشعتها الأولى ، قفزت امل من سريرها ، إرتدت ملابسها ، تناولت كوباً من الحليب ،وجلست على مقعد في الصالة تنتظر الرسالة … رسالة ليست ككل الرسائل . الساعات بدت لها بطيئة ، كأنما أصيبت بالكساح . أسندت خدها الى راحة يدها وعيناها على الباب ، وبين فترة واخرى تهرع لتنظر من العين السحرية علَّ ساعي البريد يصل ويأتيها بالرسالة .أغمضت عينيها مستسلمة لذكرياتها الجميلة ، وظلَّت صور الماضي البعيد القريب تتوالى على خاطرها . أول كارت ارسله بعد أن غادر الوطن كان الى إبنتها سمر ، يوم كان عمرها لايتجاوز الخمس سنوات يقول لها فيه : ” إبتسمي للحياة دائماً وعندما يسألونكِ عن ابوكِ قولي لهم ابي من أبناءه كل أطفال العالم … “ وراحت تردد الأغنية التي كان احمد يرددها مع سمر :
“ ليلم ليلم ليلم لاد ما أحلى أعياد الميلاد كلما يولد طفل جديد تطلع شميسة ببغداد “
إنتصف النهار و امل تترقب وصول ساعي البريد بلهفة .راحت تذرع الصالة جيئة وذهاباً ، ثم تهرع الى شباك المطبخ المطل على الشارع تترقب ساعي البريد و ما أن لمحته على دراجته الهوائية متجهاً صوب العمارة التي تسكنها ، ركضت وراحت تهرول على السلم لتتلقف منه الرسالة قبل ان يرميها في صندوق بريدها .. اخذت منه الرسالة وراحت تقلِّبها… الفرحة لا تسع صدرها وكأن الرسالة مرسلة قبل أيام ... لم تفتحها ، بل اسرعت بها الى إبنتها ،التي تسكن مسافة اكثر من ساعة عنها . ــ سمر ! ها انا قد جلبتُ لكِ الرسالة التي كلمتكِ عنها امس .
أطرقت قليلاً وغالبت دمعة أوشكت أن تنزلق من عينيها .. ــ ماما ما بكِ ؟ ــ لا شيء حبيبتي .سأقرأهاعليكِ . ــ أتصدقين انها من ابي بعد كل هذه السنين ؟ ــ سأفتحها ، فأنا اعرف افكاره وخط يده . وبيد مرتجفة فضًت امل الرسالة . ــ إنها منه ! أنظري فقد كتب رسالته لكما بنفس التاريخ الذي كتب فيه لي رسالة عام 1983 وعلى نفس نوعية الورق ، وغداً سأريكِ رسالته لي .
راحت تقرأ الرسالة بصوت عالٍ ، لكنها لم تستطع أن تحبس دموعها … اعماقها ترتجف ألماً وحسرة .. غصة تكاد تخنقها . إرتمت وبنتها في احضان بعضهما البعض، واجهشتا بالبكاء . …
بلقيس الربيعي
#بلقيس_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلادمير ماياكوفسكي .... في الذكرى الثمانين لرحيله
-
ابا ظفر ... في عيد ميلادك لك الحب والوفاء
-
اجمل الكلمات في عيد الأم
-
تنسيق الأزهار
-
ما اشبه اليوم بالبارحة
-
ورحلت المناضلة زكية خليفة
-
كلمات جميلة
-
الشهادة والشهيد يبقيان الى الأبد
-
في عيد الحب
-
إنتخب النزيه والكفوء
-
في الذكرى 150 لميلاده ...انطون تشيخوف الكاتب الأنساني العظيم
-
في الذكرى 150 لميلاده ....انطون تشيخوف الكاتب الإنساني العظي
...
-
الحوار المتمدن لؤلؤةً بين المواقع
-
هدية لأمي
-
الفنان السينمائي والفوتوغرافي اليمني العالمي ناجي مصلح نعمان
-
في اليوبيل الفضي لإستشهادك سماوتك لن تنساك
-
أبا ظفر ... الغائب .. الحاضر
-
أبا ظفر ... اقسم بالله العظيم إننا لم ننساكم
-
في الذكرى الخامسة والعشرين لإستشهاده الأنصار يتحدثون
-
قصيدة الى زوجة الشهيد
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|