|
دمار الروضة - فصل من سيرة ذاتية
اقبال العثيمين
الحوار المتمدن-العدد: 3077 - 2010 / 7 / 28 - 14:07
المحور:
الادب والفن
الصدمة
الكويت، 2 أغسطس، 1990
"رن...رن " هكذا سمعت رنين الهاتف ، وأنا بين اليقظة والنوم وصلني من بعيد صوت الخادمة الفلبينية " بروكسي"، ثم سمعت وقع أقدامها قرب باب غرفة نومي ، وقلت في نفسي " إنها الكارثة تريد إيقاظي " " مدام، أخوك سليمان على التلفون". قالت بروكسي وأعربت عن استغرابي من حماقة تصرفها ، وقد سبق أن حذرتها من عدم إيقاظي يوم الخميس من كل أسبوع، ورحت أؤكد لها من جديد تحذيري قائلة لها كم مرة نبهتك بعدم إيقاظي يوم الخميس ، مهما كان السبب ورغم محاولتي بتجاهلها ، إلا أنها عادت تقول بتماسك مدام ، أخوك سليمان سليمان يصر على محادثتك ثم أضافت: إنه يؤكد أن الأمر هام جدا وبطريقة لا تخلو من الانزعاج ، صرخت في وجهها قائلة لا أريد الحديث معه ثم نهرتها بغضب طالبة منها أن تغادر غرفتي وحسبت أن الأمر مزحة من سليمان ، وقلت لنفسي ، وكأني أعاتبه "ما هذا الهزار السخيف يا سليمان؟ أعرف أنك الآن في المطار لتتوجه إلى فلندا ، لتكون مع زوجتك وأولادك. إذن لماذا هذه الأفعال المغيظة؟.وأدرك أنك سوف تستمتع بالبحيرات وبالهواء العليل. وأما أنا سأكون هنا أسيرة الحر ، والرطوبة الخانقة." ومرة ثانية ، عاودت أقدام بروكسي من الإقتراب إلى غرفتي ، وقلت لنفسي ، وكلي غيظ "يا إلهي التلفون إنه التليفون مرة أخرى ، سوف أقتلها أن دخلت غرفتي مرة ثانية " ودون أن تطلب الأذن مني ، كانت بروكسي داخل الغرفة ، وهي تردد بارتباك: مدام هناك مشكلة، أسمعي الأصوات في الخارج ثم تابعت بنفس الوتيرة ، كأنها تحاول أن تبعد شبح وقوع كارثة ، وهي تأمرني بالقول إنهضى وإسمعي صوت القنابل! هذا ما يقوله سليمان تناولت منها الهاتف بعصبية ، ثم صرخت: سليمان، ما هذا المزاح....؟ ولم يدع لي فرصة استكمال جملتي ، ثم قاطعني بصوته الواضح عبر الهاتف الأمر ليس مزاحا ، لقد دخل العراقيون الكويت وتابع يؤكد لي خبرا بدا لي غير سار على الإطلاق قائلا " لقد ألغيت السفر ، وأنا في طريقي إلى محطة الزور ثم أضاف: تعالي حالا إلى الروضة ، يلا باي تبدد النوم مني ، وشعرت باليقظة ، وأنا غير مصدقة ، من ما سمعت ، ثم بسرعة توجهت نحو النافذة ، فتحتها ، وكأني في كابوس ، ثم وصلني صوت القذائف والقنابل ، قادم من منطقة الشعب. وقلت مخاطبة نفسي " يا إلهي ماذا يحصل ؟ ". شعرت بالحاجة إلى مزيد من المعلومات ، فاتصلت بصديقتى إيمان ، وجدتها جاهلة بالحدث ، وأعربت هي الأخرى عن دهشتها غير مصدقة بما أخبرتها لبست ملابسي بسرعة ، وهاتفت رجاء صديقتي المصرية ، كي ألحق بها قبل أن تغادر إلى مستشفى الجهراء مكان عملها. وجاءني صوتها عبر الهاتف " ايه يا حبيبتي اللى صحاك في الوقت ده؟ " . دى حتى ما جتسش سبعة؟؟؟ ثم أجبتها دون أن أخبرها بما حدث ألبسي حالا، وانزلي تحت ، أنا جاية دلوقت أخدك بسرعة بسرعة فردت بدهشة ، تحاول أن تستوعب طلبي الذي بدا لها غريبا: ليه في ايه يا إقبال ؟ مافيش وقت رجاء ، لقد دخل العراقيون البلد. ده غزو وفيه ضرب قنابل. أنتي مش سامعة بره؟ أنا جيالك دلوقت حأخذك نروح إلى الروضة عند بدرية رجاء: طيب أنا جاهزة.وأنا بروب المستشفي حستنياكي تحت غادرت البيت مسرعة ، وتوجهت مع بروكسي نحو السيارة ، وأنطلقت نحو بيت رجاء ، الذي لا يبعد كثيرا عن بيتي. وجدتها تنتظرني أمام البيت ، وعندما نظرت اليها ، تلبسها ا الخوف والرعب ، ولم تخف دهشتها واستغرابها عندما رآتني . في الطريق إلى منطقة الروضه لم نلاحظ شيئا غريبا ،ولم نلمس أي شئ ينم عن الفوضى ، سوى صوت القنابل والمتفجرات، القادم من بعيد وصلت منزل أختي بدرية، وجدتها في حالة من الذعر والرهبه ، حاولت أن أستفسر من زوجها ، عن ما جرى . بدا الجميع مندهشا ، والكل يريد أن يستوعب الحدث ، وكانت أذانهم في حالة تأهب ، وعيونهم متوجهة نحو جهاز الراديو ، فالتلفزيون لا يبث شيئا . فجأة شعرت بأهمية الراديو ، هذا الجهاز الذي حسبنا ، أننا قد تخلينا عنه بعد ظهور وسيطرة التليفزيون في صالات البيوت وفي المقاهي . هاهو هذا الراديو ، الجهاز العجيب ، الصغير بحجمه يعاود الظهور ، مرة أخرى ، ليمارس دوره عبر الأثير ، وعبر شخصياته غير المرئية . فكان رفيقا لنا ومصدر معلوماتنا على مدى سبعة أشهر سمعنا صوت هدير طائرة قريبة ، كان مدويا ، فخرجنا جميعا نحو فناء الدار ، وبدت لنا قريبة جدا منا ، وكأنها على وشك أن تنهال على رؤوسنا. وارتفعت أيادينا نلوح لها ، أملين معرفة ما يجري في البلد، وكنا نصرخ جميعا ، كي نوصل أصواتنا إلى أفراد طاقمها. ثم هبطت الطائرة فى فناء المدرسة التي تقع قبالة بيت أختي . وما أن استقرت الطائرة على الأرض ، حتى هرع الأولاد والرجال باتجاه فناء المدرسة ، وكان من بينهم وليد ابن أختى ، لمعرفة ما يحصل في ذلك الصباح ( اليوم الثاني من أوغسطس). وهم زوج اختى بتغيير دشداشته للخروج ، وقبل القيام بتغيير دشداشته ، عاد وليد، وعلى وجهه إمارات اليأس والقلق ثم قال: هذوله مو جيش كويتي. هذوله جنود عراقيين. الطيارة عراقية عليها شعار عراقى وبعد أن استرد انفاسه ، صوب نظراته نحوي ، ليسجل احتجاجه على تصرف الجنود العراقيين وقال:
خالتي هذوله راحوا لفرع الجمعية واشتروا بيبسي وشربوه وما دفعوا فلوس وبدون وعي ، صرخت على زوج أختي ، وكأنه هو المسؤول عن ما يحدث ، ورحت أردد بصوت عال طالب هذوله جنود عراقيين مو جيش كويتي. فوقف طالب مذهولا ، ولم يتفوه بأية كلمة وبقي صامتا دون أن يستجيب لصراخي. رحت وتناولت سماعة الهاتف ، وأتصلت بصديقتى فريال ، لمعرفتي بزوجها رجل السياسة ، والنائب الذي كان يشغل مقعدا في مجلس الأمة ، عسى أن أجد لديها تفسيرا عن ما يحصل . وسردت لها ما شاهدناه عن هبوط الطائرة في فناء مدرسة الروضة .بدت لي أنها عارفة بدخول القوات العراقية ، لكن صوتها الذي وصلني عبر سماعة الهاتف امتزج بالدهشة وبنوع من الحيرة ، وهي تقول: ليش إنزال بالروضة ؟ لقد دخلوا الشيراتون واحتلوه. لكن مدرسة فى وسط البلد؟ ليش؟ حقا لا أعرف بما أجيبها وأكتفيت مرددة " لا أدري " " نتصل بمن؟" هذا هو السؤال الذي تردد صداه في ذلك الصباح في بيت بدرية ، ويكاد أن يكون هو السؤال الوحيد التي تفوهت به كل شفاه الموجودين . وأثناء تلك الحيرة ، وصلت أختي الأخرى نوال برفقة زوجها ، وأولادها ، وكانت هي وأولادها لا يكفون عن البكاء . وذكرت إنهم أثناء مرورهم بسيارتهم من أمام معسكر ( جيوان ) ، قد شاهدوا أولى مظاهر الإحتلال العراقي للكويت . شاهدوا الجنود العراقيين يطلقون النار على المعسكر بهدف السيطرة عليه . وربما كان الأمر الفظيع ، هو مشاهدة الجنود الكويتيين ، وهم يهربون وقد تخلوا عن عن زيهم العسكري ، رامين ملابسهم في الشوارع خوف الإعتقال .قد أذهلتهم وروعتهم تلك المشاهد ، التي جرت أمام أعينهم ، وقد كانوا شهودا على الطريقة التي تمت بها قصف المعسكر بالقنابل ، حتى تم تدميره بالكامل .وبما أن عائلة أختي نوال تقيم في منطقة الأندلس الواقعة عند الحدود الشمالية من الكويت ، فلا بد من المرور من أمام معسكر (جيوان) وهم في طريقهم إلى منطقة الروضة عبر الطريق الدائري الرابع. لا زالت الهواتف الخارجية في ذلك اليوم شغالة ، وما أن أنتهينا من سماع رواية نوال، حتى رن الهاتف ، فكانت على الخط نادية زوجة أخي سليمان ، وهي تسأل عنه لتطمئن عليه . أحبرناها بأنه ذهب لتفقد أحوال زملاءه في محطة الزور . وطلبنا منها البقاء مع أمها الفلندية حتى تسمع منا أو من زوجها . ثم تواصل رنين الهاتف دون انقطاع ، وكانت أمي من بين من اتصل ، ولم تفارق الدهشة لسانها ، وبدت في حالة ذهول وهي لا تصدق ما يجري في البلد . امي ذات الهوى الصدامي ، وهي واحدة من الشخصيات المعجبة بحامي البوابة الشرقية ، أثناء الحرب الإيرانية – العراقية ، مثل أغلبية الطائفة السنية في الكويت . وهي تكاد لا تكف عن السؤال والحيرة عن ما أقدم عليه حامي البوابة الشرقية!!
#اقبال_العثيمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|